معموديّة المعرفة

هناك معرفة ومعرفة. هناك معرفة في شأن ملكوت السّموات وهناك معرفة لملكوت السّموات. هناك معرفة بشأن الله وهناك معرفة لله.
المعرفة الأولى مقدّمة للمعرفة الثّانية. 
المعرفة الأولى هي الخارطة إلى الله، والمعرفة الثّانية هي السّلوك وفق الخارطة لبلوغ وجه الله. 
الخارطة نستمددها من التّراث، والتّراث، بالمعنى الصّارم للكلمة، هو عمل روح الرّبّ القدّوس في القدّيسين جيلاً بعد جيل.

الخارطة هي سيرة هؤلاء القدّيسين، في معرفتهم، في عشرتهم، في توحّدهم بالله، وهي، أيضًا، تعليمهم، أي نقلهم لما عرفوه واختبروه وعاينوه في خطّ ما عبّر عنه يوحنّا الحبيب، في رسالته الأولى، لمّا استهلّ كلامه بالقول: "الّذي كان من البدء، الّذي سمعناه، الّذي رأيناه بعيوننا، الّذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة... نخبركم به... لكي يكون لكم، أيضًا، شركة معنا. وأمّا شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً" (1 يو 1: 1، 3 – 4).
المعرفة الأولى لازمة وإلاّ لا نبلغ المعرفة الثّانية. من دون خارطة لا نعرف الطّريق إلى الكنز.
المعرفة الأولى نقتنيها بالعقل، بما نقرأ، بما نسمع... ولكن هناك معرفة بالعقل ذات قيمة، في هذا السّياق، وهناك معرفة لا قيمة لها. أساس القول، في معرفة الإلهيّات بالعقل، أن يكون قطب الاهتمام الأوّل والأخير فيها الخلاص، الحياة الأبديّة، وجه الله، ملكوت السّموات، وإلاّ تكون زوائد على الخارطة لا تنفع شيئًا. طبعًا بإمكان الإنسان أن يدّعي أنّ كلّ سعي لديه إلى أبواب من معرفة الإلهيّات بالعقل يرتبط، بصورة غير مباشرة، بمشروع الخلاص.
 بناء عليه قد يبذل جهودًا أكبر ممّا يلزم وقد يصرف وقتًا أطول ممّا يحتاج إليه على ما يزعم أنّه مساعد في مشروع الخلاص، وبذا يكون قد بدّد جهدًا وأضاع وقتًا كان خيرًا له أن يوظّفهما في سلوك درب المعرفة الخبريّة الرّوحيّة إلى القداسة.
عندما ترى، اليوم، العديدين مستغرقين في الأبحاث الإلهيّة والدّراسات بشأنها، ولا يولون حفظ الوصيّة والصّوم والصّلاة والتّوبة وتنقية القلب أيّ أهمّيّة تذكر، أو اهتمامًا سطحيًّا محدودًا، فلا يسعك إلاّ أن تقول إنّ هؤلاء القوم يستعينون ببوصلة خربة في سفرهم في بحر العقل والعلوم العقليّة نحو أرض الميعاد، أورشليم السّماويّة.
 ولا أُجانب الحقّ إذا قلتُ إنّ نسبة كبيرة من هؤلاء تظنّ أنّ المعرفة العقليّة للإلهيّات كافية لتحقيق الخلاص ومعرفة الله. فإن كانت لديهم مثل هذه القناعة فإنّهم يقعون، من حيث لا يدرون، في الصنميّة الفكريّة إذ يُسقطون عبادتهم لأنفسهم، من خلال العقل، من حيث إنّ العقل هو القوّة الكبرى للنّفس في الإنسان، أقول يُسقطون عقلانيّتهم على الله، فيعتبرونه عقلاً، أو قل "العقل الكلّيّ" ويلتمسونه كمعطى عقلانيّ، ويعبدونه على هذا النّحو بالتّأمّل العقليّ، أو قل يعبدون أنفسهم وجهدهم العقليّ فيه. يخلقونه بعقولهم، على صورة عقولهم، ثمّ يعبدون ما خلقوا، وهذه، بالذّات، هي عبادة الأوثان. يعبدونه وثنيًّا! المهمّ أن نعرف، في هذا الشّأن، أنّ الله ليس عقلاً ولا يُدرَك بالعقل.
 الله روح ولا يُعرف إلاّ بروح الله! لذلك ليست المعرفة الأولى غاية في ذاتها، بل الغرض منها أن تعين على رسم الخارطة إلى الله، في وجدان الإنسان، بالغَرف من التّراث، من حيث إنّ للإنسان عقلاً، وعقله هو القوّة الأولى الّتي تساعد على تبيّن طريقه إلى ربّه. ثمّ ينكبّ الإنسان، بكلّ قواه، على طلب المعرفة الثّانية
بالنّسك وقطع المشيئة والأمانة والثّبات في حفظ الوصيّة والصّوم والصّلاة التماسًا لنقاوة القلب، ومن ثمّ لروح الله. طبعًا، إذا تكلّمنا على معرفة "أولى" ومعرفة "ثانية" فليس ذلك بقصد الفصل بينهما بحيث تأتي المعرفة الأولى أولى في الزّمن، ثمّ تكون المعرفة الثّانية، بل بقصد تبيان دور العقل، من حيث هو أداة المعرفة الأولى، كمميَّز عن دور القلب والذّهن(1) والكيان، من حيث هو أداة المعرفة الثّانية. خِبريًّا،
 القلب يحرِّك العقل ليستطلع ويرصد ما يقع ضمن قواه الإدراكيّة نحو ما يُغني خارطة الحياة الرّوحيّة، ثمّ يزوِّد القلب بها، والقلب، بدوره، يوظّف ما يكون العقل قد بلغه، في هذا الاتّجاه، تعميقًا للجهاد النّسكيّ وحياة الصّلاة نحو معاينة وجه الله، إلى أن يبلغ الإنسان حالاً من النّضج يأخذ روحُ الرّبّ معها في تعليمه أسرار الحياة الإلهيّة مباشرة!
      زيادة في توضيح الصّورة أقول إنّ القلب ينبغي أن يكون كلّه متّجهًا إلى فوق. القلب، بإزاء الإلهيّات، لا يقبل القِسمة. إمّا أن يكون كلّه لله أو لا يكون لله بالمرّة.
فإذا كان القلب لله كاملاً، فإنّه، كسيّد على العقل، يوجّهه في هذا الاتّجاه أو ذاك، ويمدّه بالمقاييس والمعايير الّتي تجعله يلتقط رحيق المعارف وينزلها إلى القلب، كما يلتقط النحل رحيق الأزاهير، دون سائر خَبَثِ الطّبيعة، ويحملها إلى القفير. هناك تتمّ صناعة العسل الإلهيّ والهُلام الملكوتيّ وما إليهما.
 القلب هو المنحل. فيه يتحوّل الرّحيق إلى عسل، بالسّلوك في الإلهيّات ونعمة الله، فيقتني طيبًا ولا أطيب! حلاوات الحبّ الإلهيّ تأخذ بمجامع القلب! "حبّك أطيب من الخمر". بوصلة العقل قائمة في القلب. فإذا ما تاه العقل وصار يجمع الغثّ إلى الثّمين لا فرق، فإنّ هذا يكون بسبب عدم استقامة القلب، من جهة الله.
من هنا، كان استغراق اللاّهوتيّين العقلانيّين في المباحث الفكريّة، دونما تمحور في حياة الصّلاة، مؤشِّرًا على مشكلة روحيّة إيمانيّة عميقة أصابت القلب والكيان لديهم. العمل العقليّ، في هذا السّياق، يكون له مفعول تمويهيّ، إذ يبدو الإنسان كأنّه عامر بالمفاعيل الإلهيّة، فيما يكون القلب خَرِبًا، معتِمًا، معيقًا لعمل الله، مقفَلاً دون نعمته. العقل، في هذه الحال، يصبح أداة، لا بل الأداة الأولى، لجهالة المعرفة الحق، الّتي هي معاينة الله كما هو. فلا غرو إن قال بولس المصطفى إنّ الله جهّل حكمة هذا العالم واختار الجهّال ليُخزي الحكماء (1 كو 1: 20، 27).
انطلاقًا من هذه المسلّمة، لا كثرة العِلم العقليّ، في الإلهيّات، تزيد الإنسان قربى من الرّبّ يسوع ولا قِلّته تباعد ما بينه وبين ربّه. الموضوع موضوع أمانة كاملة في التّوق إلى الله في القلب. فإذا ما كان قلب الإنسان إلى ربّه بلا تثريب فإنّ وصيّة، ولو واحدة، تكون كافية لتبلِّغ الإنسان إلى الله إذا ما سلك فيها بأمانة كاملة! أقول هذا وأنا واع أنّ قولي ليس معناه، بالضّرورة، الاكتفاء من العِلم العقليّ، في الإلهيّات، بأقله،
 بل معناه أنّ حالة القلب هي الّتي تجعل المعرفة الإلهيّة العقليّة ذات قيمة، قليلة كانت أم كثيرة. ثمّ لا بدّ من التّأكيد أنّ في الكنيسة مواهب مختلفة تتكامل لمجد الله وبناء المؤمنين، كما أنّ هناك حاجات مختلفة ضمن الكنيسة، وفي مواجهتها للعالم وروح العالم وفلسفات العالم وهرطقات العالم، تجعل أبوابًا من العِلم العقليّ في الإلهيّات، إذا استزاد منها بعض المؤمنين، مفيدةً. لهذا عندنا أمثال القدّيس باسيليوس الكبير وعندنا أمثال العديد من نسّاك مصر وسوريا وفلسطين الّذين كانوا أميّين في القراءة والكتابة ولكنْ عارفين، تمامًا، بأبجديّة روح الله، في إطار جامعة البرّيّة. المهمّ أن نعرف أنّ الجامع بين هؤلاء وأولئك هو أنّهم طلبوا معرفة وجه ربّهم وجدّوا في ذلك من كلّ القلب ومن كلّ النّفس ومن كلّ القدرة. الفضل هنا ليس لعمل العقل، بالدّرجة الأولى، هذا عملٌ آليٌّ بمعنى، بل لنعمة الله وحركة القلب!
 أمّا بعد فإنّ الرّبّ يسوع، في زمن غرور البشريّة بإنجازاتها الفكريّة والعلميّة، لا فرق أكان في الإلهيّات أم في علوم الدّنيا، هو المجهول الأكبر. اليوم بلغنا أرهف العبادة الوثنيّة وأكثرها تطوّرًا باسم الله: عبادة الذّات بفذلكات العقل بامتياز! ولا يشاء أكثر النّاس أن يغادروا مواقعهم لأنّهم صدّقوا الكذب، بتخلّي الرّبّ الإله عنهم، لعدم استقامة قلوبهم، وظنّوه حقًّا.
 أمّا المجانين الّذين لا زالوا، بعد، يؤمنون بأنّ معرفة الله تنزل من فوق، كنعمة، وأنّ الإنسان غبيّ ولا معرفة عنده، ويطلبون هذه المعرفة بتواضع قلب وثبات، فهؤلاء هم الّذين اعتمدوا (have been baptized) للمعرفة الحقّ.
معموديّة المعرفة هي الّتي تفعّل معموديّة الماء والرّوح نحو الحياة الأبديّة. هؤلاء هم الّذين تلقاهم مع الرّسول بولس، في الخفاء الإلهيّ، "ناظرين مجد الرّبّ بوجه مكشوف كما في مرآة [يتغيّرون] إلى تلك الصّورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرّبّ الرّوح" (2 كو 3: 18)!

 31 تشرين الأوّل 2010
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما

 نقلا عن holytrinityfamily.org
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الذّهن هو Nous (نوس) باليونانيّة. الذهن هو عمق القلب (القدّيس ديادوخوس الفوتيكي). هذا غير العقل أو diania (ذيانيا) باليونانيّة الّتي تشير إلى القوى الإدراكيّة المنطقيّة المفاهيميّة غير الحدسيّة، وصولاً إلى التأمّل والتفكير الواعيّين.