قوة سر الصليب والنار الالهية

السر الذي في الصليب
1- أولئك الذين كتب في داخلهم الناموس الالهي، ليس بحبر وحروف بل هو مطبوع في قلوب لحمية، فهؤلاء اذ قد استنارت عيون أذهانهم ويتطلعون إلى الرجاء الذي لا يلمس ولا يرى بل هو غير منظور وغير مادي فهؤلاء يملكون القوة أن يغلبوا عثرات الشرير وذلك بقدرة لا يمكن أن تقهر. 
أما أولئك الذين لم يكرموا ويتشرفوا بكلمة الله ولم يتهذبوا بالشريعة الالهية فانهم "ينتفخون باطلاً" (كو 2 : 8) وهم يظنون انهم بارادتهم الحرة يستطيعون أن يقطعوا أسباب الخطية التي يحكم عليها فقط بواسطة السر الذي في مقاومة الشيطان، ولكنها لا تمتد إلى السيادة المطلقة على الشهوات. "فان لم يبني الرب البيت كما يقول الكتاب، وان لم يحفظ المدينة فباطلاً يسهر الحارس، وباطلاً يتعب الباني" (مز 127 : 1). 
2- لأنه لا يستطيع أحد أن يطأ على "الأفعى والحية" ويدوس الأسد والتنين (مز 91 : 13) أن لم يطهر نفسه أولاً - بأقصى ما في طاقة الإنسان - وان يتأيد بقوة ذلك الذي قال لرسله: "ها أنا أعطيكم السلطان لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو" (لو 10 : 19)
حاجتنا للروح القدس للغلبة والتبني
فلو كانت طبيعة الإنسان لها القدرة بدون سلاح الروح القدس الكامل أن "تقف ضد مكايد ابليس" (أف 6 : 11)، لما كان الرسول قد قال بتأكيد: "اله السلام سيسحق الشيطان تحت ارجلكم سريعاً" (رو 16 : 20). وايضاً "الذي سيبيده الرب بنفخة فمه" (2تس 2 : 8)لهذا السبب ايضاً قد أوصانا الرب أن نصلي ونطلب قائلين "ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير" (مت 6 : 13).
فان لم تخلصنا معونة القوة العليا من "سهام الشرير الملتهبة"، وان لم نحسب أهلاً أن نكون ابناء بالتبني، فان حياتنا على هذه الأرض تكون حينئذ باطلة وبلا هدف، اذ نوجد بعيدين عن قوة الله. 
3- لذلك فمن يريد ويشتهي أن يصير شريكاً في المجد الالهي، وان يرى كما في مرآة صورة المسيح في داخل عقله، فينبغي أن يطلب معونة الله التي تتدفق منه بقوة - يطلبها بحب مشتعل لا ينطفئ وبرغبة حارة من كل قلبه وكل قدرته، ليلاً ونهاراً هذه المعونة الالهية التي لا يمكن نوالها، كما قلت سابقاً أن لم يتخل الإنسان عن لذة العالم وعن شهوات ورغبات القوة المعادية، والتي هي اجنبية عن النور ومخالفة له وهي من نشاط وعمل الشرير، وليس لها أي قرابة أو مشابهة لعمل الصلاح بل هي غريبة تماماً عنه. 
حالتنا في الإنسان العتيق
لذلك، فاذا أردنا أن نعرف لماذا نحن الذين قد خلقنا في كرامة ووضعنا لنحيا في الفردوس، صرنا بعد ذلك "مثل البهائم التي لا تفهم وشبهنا بها" (مز 49 : 12 و20)، اذ قد سقطنا من المجد الأصلي، فأعرف اننا بواسطة التعدي، صرنا عبيداً للأهواء الجسدية. 
لقد أخرجنا انفسنا من "أرض الأحياء المغبوطة" (مز 116 : 9) وسرنا إلى الأسر حيث لا نزال "جالسين على أنهار بابل" (مز 137 : 1)
ولأننا لا نزال محبوسين في "مصر"، لذلك فاننا لم نرث بعد أرض المواعد، "التي تفيض لبناً وعسلاً" (خر 3 : 8). اننا لم نتخمر بعد "بخمير الاخلاص" (1كو 5 : 8)، ولكننا لا نزال في "خميرة الشر". أن قلبنا لم يرش بعد بدم الله، لأن "فخ جهنم" (أم 9 : 18 السبعينية)، وصنارة الخطية لا تزال منصوبة فيه. 
4- اننا إلى الآن لم نقبل بهجة خلاص المسيح، لأن "شوكة الموت" (كو 15 : 55) لا تزال جذورها فينا. اننا لم نلبس بعد "الانسان الجديد، المخلوق بحسب الله في القداسة" (أف 5 : 24)، لأننا لم نخلع بعد "الانسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الخطية" (أف 4 : 22).
اننا لم نحمل بعد "صورة السماوي" (1كو 15 : 49). ولم نصر "مشابهين لصورة مجده" (في 3 : 21). اننا لم نعبد الله "بالروح والحق" (يو 4 : 24) لأن "الخطية تملك في جسدنا المائت" (رو 6 : 12). 
اننا لم نر بعد "مجد الله الذي لا يفنى" (رو 1 : 23) لأننا لا نزال تحت سطوة "الليل المظلم" (مز 2 : 11). والى الآن لم "نلبس أسلحة النور" (رو 13 : 12) لأننا لم نلق عنا سلاح الظلمة وسهامها وأعمالها.
نحن " لم نتغير بعد عن شكلنا بتجديد اذهاننا "، لأننا لا نزال "مشاكلين ومطابقين لهذا العالم" (رو 12 : 2)، "في الذهن الباطل" (أف 4 : 17). اننا لم "نتمجد بعد مع المسيح"، لأننا لم نتألم بعد معه" (رو 8 : 17). اننا لا "نحمل سماته بعد في جسدنا" (غل 6 : 17) لأننا لا نحيا في سر صليب المسيح، لأننا لا نزال في "أهواء وشهوات الجسد" (غل 5 : 24). اننا لم نصر بعد "ورثة الله ووارثون مع المسيح" (رو 8 : 7)، لأن "روح العبودية" لا يزال فينا وليس "روح التبني" (رو 8 : 8-15)، وحتى الآن لم "نصر هيكل الله ومسكناً للروح القدس" (1كو 3 : 16)، لأننا لا نزال هيكلاً للأصنام ومستودعاً لأرواح الشر بسبب تعلقنا بالشهوات. 
5- وفي الحقيقة اننا إلى الآن لم نحصل على بساطة السيرة واستنارة العقل. والى الآن لم نحسب أهلاً لنوال "اللبن العقلي العديم الغش" (1بط 2 : 2)، والنمو الروحي غير المنظور. 
والى الآن لم ينفجر النهار ولم يطلع كوكب الصبح في قلوبنا" (2بط 1 : 19). "اننا لم نمتزج بشمس البر" (ملا 4 : 2) ولا ابتدأنا أن نضيء بأشعته. اننا لم نقبل بعد "شبه الرب" (تك 1 : 26)، ولا صرنا "مشاركين للطبيعة الالهية" (2بط 1 : 4). والى الآن لم نصر ذلك الأرجوان الملوكي الحقيقي، ولا صرنا صورة الله الحقيقية.
اننا لم نسبي بعد بالحب الالهي ولا أنجرحنا بمحبة العريس الروحانية. اننا لم نعرف بعد تلك الشركة السرية التي تفوق الوصف ولم نعرف القوة والسلام الموجودان في القداسة. وبكلمة واحدة فاننا لسنا بعد "جنساً مختاراً، كهنوتاً ملوكياً، أمة مقدسة، شعب اقتناء" (1بط 2 : 9) لأننا لا نزال إلى الآن "حيات وأولاد أفاعي" (مت 23 : 33)
أنوح وأبكي امام الله على شقاوتنا
6- وكيف نكون سوى حيات، ونحن لا نطيع الله بل نعيش في العصيان الذي دخل الينا بواسطة الحية. وأنا لا استطيع أن أعرف كيف أبكي وأنوح على شقاوتنا هذه كما تستحق ولا أعرف كيف أصرخ بصوت عال باكياً أمام الله الذي يستطيع وحده أن ينزع مني الخطأ المزروع فيَّ.
"كيف أنوح على اورشليم؟ وكيف أهرب من عبودية فرعون القاسية؟ وكيف أهجر مكان الإقامة الدنس؟ وكيف استطيع أن أنكر أو أجمد الطغيان المر؟ وكيف استطيع أن أخرج من أرض مصر؟ وكيف استطيع أن اعبر البحر الأحمر؟ وأسير في وسط البرية الكبرى؟ وكيف أنجو من الهلاك بلدغة الحيات؟ وكيف أهزم الغرباء؟ وكيف أحكم الأمم الذين في داخلي تماماً (الشعوب الوثنية أي عبادة الأصنام - يقصد الأهواء الشريرة) وكيف أتقبل أقوال الشريعة الالهية على ألواح قلبي؟ وكيف أرى عمود النور الحقيقي والسحاب الناشئ من الروح القدس؟ وكيف أتنعم بمن البهجة الأبدية؟ وكيف أشرب الماء من الصخرة المعطية الحياة؟ كيف أعبر الأردن وادخل إلى أرض الموعد الجيدة؟ وكيف أعاين رئيس جند الرب الذي حينما رآه يشوع بن نون، خر في الحال ساجداً؟ 
ضرورة العبور والدخول إلى الراحة
7- لأنني أن لم أعبر بكل هذه وأحطم الأمم الذين يعيشون في داخلي فانني لن استطيع أن أدخل إلى "أقداس الله" واستريح (مز 73 : 17). "ولا أن اصير شريكاً في مجد الملك". 
لذلك اسع بكل اجتهاد لتكون ابناً لله بلا لوم، وان "تدخل إلى تلك الراحة" (عب 4 : 11)، حيث "دخل المسيح كسابق لأجلنا" (عب 6 : 20)
اجتهد أن يكون اسمك مكتوباً في "الكنيسة التي في السماء مع الأبكار" (عب 12 : 23)، لكي توجد عن "يمين العظمة في الأعالي" (عب 1 : 3). اسع أن تدخل إلى المدينة المقدسة، اورشليم مدينة السلام، التي هي فوق، فوق الكل، حيث يوجد الفردوس. فلا يوجد أمامك طريق آخر للدخول إلى هذه الأحوال العجيبة السعيدة سوى أن تسكب الدموع نهاراً وليلاً مثل ذلك الذي قال "كل ليلة أعوم سريري وبدموعي ابل فراشي" (مز 6 : 6). وأنت تعرف جيداً أن الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج" (مز 126 : 6). لهذا السبب فان النبي يقول بكل صراحة "لا تسكت عن دموعي" (مز 39 : 12). وايضاً "اجعل دموعي امام عينك كما وعدت" (مز 56 : 8). وايضاً دموعي صارت لي خبزاً نهاراً وليلاً" (مز 42 : 3). وفي مزمور آخر "مزجت شرابي بدموعي" (مز 102 : 9)
قوة الدموع
8- لأن الدموع التي تسكب حقاً من حزن كثير وكآبة قلب وبمعرفة للحق واحتراق في الداخل، انما هي طعام للنفس يأتيها من الخبز السماوي الذي سبقت مريم وأخذت منه حينما جلست عند قدمي الرب وبكت بحسب ما شهد لها المخلص نفسه. فانه قال: لقد اختارت مريم النصيب الصالح الذي لن ينزع منها" (لو 10 : 42). 
فما أثمن تلك الدرر، التي تتساقط مع انسكاب وفيض الدموع المغبوطة! ويالتلك الاستجابة الفورية والانصات المستمر!، واي عقل قوي حكيم!، ويا لشدة روح الرب، التي تتحرك بقوة نحو العريس الذي بلا عيب!، وأي رغبة شديدة وشوق في النفس إلى الله الكلمة!، وأي شركة حميمة للعروس مع العريس السماوي!. 
النار الالهية
9- فتمثل بها اذن يا ابني، اقتد بتلك التي ثبتت عينيها عليه وحده، ذلك الذي قال "جئت لألقي ناراً على الأرض ولا أريد الا اضطرامها" (لو 12 : 49)
فهناك اشتعال للروح، هو الذي يشعل القلوب ناراً. فان النار الالهية غير المادية لها فاعلية لإنارة النفوس وتمحيصها كما يمتحن الذهب النقي بنار البوتقة. ولكنها (النار الالهية) تحرق كل شر مثل الأشواك والقيود "لأن الهنا ناراً آكلة" (عب 12 : 29) "معطياً نقمة للذين لا يعرفون الله، في نار لهيب، وللذين لا يطيعون انجيله" (2تس 1 : 8)
وهذه النار هي التي عملت في الرسل حينما تكلموا بألسنة نارية (أع 2 : 25). هذه النار هي التي أحاطت ببولس بالصوت الذي أنار عقله ولكنها أعمت بصره (أع 9 : 3). فلم تكن رؤيته لقوة ذلك النور بدون الجسد. هذه النار ظهرت لموسى في العليقة، وهذه النار، في شكل مركبة هي التي اختطفت ايليا من الأرض (2مل 4 : 11). وداود المبارك كان يطلب فاعلية هذه النار حينما قال "امتحني يارب، وجربني محص كليتي وقلبي" (مز 26 : 2). 
10- هذه النار هي التي الهبت قلب كليوباس ورفيقه حينما تكلم المخلص معهما بعد القيامة. والملائكة والأرواح الخادمة تأخذ من لمعان هذه النار كما هو مكتوب "الصانع ملائكته أرواحاً وخدامه ناراً ملتهبة" (عب 1 : 7). وهذه النار هي التي تحرق الخشبة التي في العين الداخلية، لتجعل العقل نقياً، حتى إذا استرد قوة رؤيته الطبيعية، يمكنه أن يتفرس بلا انقطاع في عجائب الله كما هو مكتوب "افتح عيني، لكي ابصر عجائب من شريعتك" (مز 119 : 18)
هذه النار ايضاً تطرد الشياطين، وتنزع الخطايا، ولها قوة القيامة، وفاعلية قوة الخلود، وهي نور النفوس المقدسة، وسند القوات العاقلة. 
فلنصل ولنتوسل أن تأتي الينا ايضاً هذه النار، حتى يسيرنا دائماً في النور، فاننا، لا تعثر بحجر اقدامنا" (مز 91 : 12) ولا إلى لحظة واحدة، بل "نضيء كأنوار في العالم" "ممسكين بكلمة الحياة الأبدية" (في 2 : 15)، حتى إذا تنعمنا بخيرات الله بين قديسيه، فاننا نجد راحة مع الرب في الحياة، ممجدين الآب والابن والروح القدس الذي له المجد إلى الأبد آمين. 

القديس مقاريوس المصرى 
العظة ال25 
ترجمة الدكتور نصحى عبد الشهيد 
المركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية 
بالقاهرة 

هذه العظة تعلم انه لا يستطيع انسان، بدون أن يتأيد بالمسيح، أن يغلب عثرات الشرير، وما ينبغي أن يفعله اولئك الذين يطلبون المجد الالهي باشتياق. وتعلم ايضاً انه بواسطة عصيان آدم قد نزلنا جميعاً إلى عبودية الشهوات اللحمية، والتي انقذنا منها بالسر المختفي في الصليب، وتعلم العظة ايضاً أن قوة الدموع والنار الالهية هي قوة عظيمة