متى تكون الرسالة الدينية سبباً لتقدم ورُقي الشعوب ؟

السؤال الذي يفرض نفسه بعيدًا عن توصيف الدولة المدنية أو الدينية, أي بغض النظر عن التسميات ، هو : هل يمكن للرسالة الدينية أن تكون قاطرة التقدم والرُقي للمجتمع أم لا؟
والإجابة لو كانت نعم, فالسؤال: كيف؟
كيف للرسالة الدينية تدفع الإنسان لكي يصنع حضارة ويتقدم ويتحقق مجتمع حديث فيه تُصان كرامة الإنسان ويتحقق العدل والرُقي والحياة الكريمة؟
الإجابة علي السؤال يأتي من محتوي الرسالة الدينية فمن المعروف أن الرسالة الدينية تنظم علاقة الإنسان بالله وبأخية في الإنسانية وبالكون فالمثلث الذي أمام الرسالة الدينية هو: الله ـ الإنسان ـ الكون، حين تدعو الرسالة الدينية الإنسان ليتصالح مع الله أي تكون له علاقة مع الله وتواصل ، طبعًا بحسب تسمية الدين الذي ينتمي إليه الإنسان, فنحن نتحدث عن الرسالة الروحية التي يتميز بها أي مذهب ، وهذا يتطلب :
1-أن يتطهرالإنسان داخليًا من كل ما يلوث فكره وقلبه
قد تنادي رسالة دينية بأن هذا يحدث بالتوبة والإستغفار وممارسة أركان العبادة, وقد تنادي رسالة أخرى بولادة ثانية يتم فيها تغيير الإنسان جذريًا. أيًا كانت الوسيلة, وبغض النظر عن تمسك كل دين بحلوله والمناداة بأنها الوسيلة الوحيدة لصُنع علاقة حيَّة مع الله, إلا أن التحدي الحقيقي لإثبات صحة الرسالة هو المجال العملي التطبيقي وليس التنظير والمجادلات النظرية في إثبات صحة الرسالة كما يحدث عبر النت والفضائيات .
نقصد هنا المعاملة الحسنة والأعمال الصالحة التي تُعلن ـ بدون ثرثرة كلامية ـ عن النور الموجود بداخل كل إنسان. فالممارسة العملية للدين لابد أن يكون لها مردود عملي في الحياة اليومية. 
فعندما تكتظ شوارعنا بالزبالة والأوساخ وترتاح عيوننا بالنظر إليها دون فعل أي شيء,
عندما نخالف كل ما يمليه علينا ضميرنا وبصيرتنا وإيماننا الديني ونسعى للكسب ببناء عمارات شاهقة دون عمل حساب للشوارع ولا لراحة البشر ولا للصرف الصحي ولا مكان لجراج للسيارات, عندما لا نتعامل بلطف مع بعضنا البعض, عندما نعطل في مصالحنا الإدارية شغل الناس ونطلب رشاوي ولا نؤدي عملنا كما يجب, عندما لا نراعي حق الطريق والجار , عندما تحدث مثل هذه الأمور وأكثر من ذلك من غش وخداع ومنتجات بنوعية رديئة لا يحترمها الناس داخليًا وخارجيًا,
 ثم بعد كل هذا نتشدق بإيماننا ونفتخر به ونموت لأجله ، فنحن نخدع انفسنا ، إذ تحوَّل الايمان علي أيدينا لبنود نظرية نرددها. ونريد من الآخرين إحترام إيماننا ورموزنا وعقيدتنا ونحن أول مَنْ يهين إيماننا. 
هل الإيمان هو الذي دفعنا لكي نخنق أنفسنا ونتزاحم في مساحة صغيرة من الأرض ولدينا مُدن جديدة تحولتبالنسبة لقِلة من الأثرياءإلي منتجعات وأماكن لقضاء فترات ترفهيه ثم الرجوع إلي الزحام مرة أخري.
هل الإيمان هو الذي يدفعنا للجشع والكسب غير المشروع وإكتناز الأموال.
هل الإيمان هو الذي دفعنا كى يكون حال الأغلبية من شعبنا في المناطق العشوائية لا يحصلون علي الحد الأدني من الحياة: مسكن ـ وماء ـ وطعام ـ ولبُاس.
هل الإيمان هو الذي يدفعنا لكي نغش كل شيء: أدوية, أطعمة, ملابس, أجهزة,...الخ.
هل الإيمان هو الذي دفعنا لأن نطبق نظام اقتصاد بهذه القسوة دون مراعاة حقوق شعوبنا الفقيرة.
إذن الخطوة الأولي ليكون الدين أو الرسالة الدينية هي قاطرة التقدم والرُقي هي تحقيق الرسالة الروحية التي تغير الإنسان داخليًا للأفضل بطريقة عملية يراها الجميع في الحياة اليومية وليصبح رموز هذه الرسالة قدوة عملية في حياتنا ليكونوا أول الناس الذين نرى فيهم تجسيد لهذه الرسالة الروحية والتغيير الداخلي.
هنا المنافسة الحقيقية في الميدان العملي, أنت تنادي بصحة مذهبك, دعني أراك في حياتك وتصرفاتك, دع هذا هو الدليل وليس النقاش النظري والجدلي وعلو الصوت والكذب الشرعي والبلطجة وتبني مبدأ الغاية تبرر الوسيلة.
2- التحرر من السُكنى فى كهوف الماضي
طرحنا سؤالاً في غاية من الاهمية : متى تصبح الرسالة الدينية قاطرة للتقدم والرقي ؟
لقد استعرضنا العامل الاول الذي يجعل الدين وسيلة فعَّالة للتقدم والرقي : التغيير الداخلي والجذري للإنسان بحيث يتطهر هذا الانسان من الأطماع والشهوات والسلوكيات المنحرفة ، الأمر الذي يجعلنا نؤكد على ان التحدي الحقيقي لإثبات صحة مذهب أي أحد هو الواقع العملي والممارسة اليومية والتعامل مع الآخرين وليست المجادلات النظرية التي تغذي الفرقة والتباعد والكُره والمقت والخصام والعداوة .....الخ.
العامل الثاني : هو التحرر من السُكنى فى كهوف الماضي والإقامة في الأطر الفكرية القديمة.
إن الخطاب الديني الأصولي المتطرف – على سبيل المثال - بعد ثورة 25 يناير ( فى مصر )  مملوء بكلمات ومصطلحات وأفكار تنتمى إلى الماضي السحيق :
غزوات – جواري – أهل ذمة – أسيرات - ....الخ لدرجة ان أحد الشيوخ [1] دعا المجتمع إلى الرق والجواري والجهاد لحل أزمة الفقر ، ويقترح أن نغزو مرتين او ثلاثة فى السنة لنحل أزمتنا من الفقر .
الغريب كل الغرابة انه توَّحد مع الماضي ونسى انه توجد مواثيق دولية وحدود رسمية للبلاد وتخيل أن الدول ( الكافرة ) التى سوف يغزوها ما زالت تستخدم فى حروبها الجياد والسيوف والرماح وتناسى مدى تقدمهم في كل المجالات ومنها الاسلحة والعتاد والطيران والتخطيط وأننا نقترض ونشترى منهم الاسلحة وهم يدربوننا عليها.
هكذا عجز هذا الخطاب الماضيوي على التواصل مع العالم المحيط الذى يتبنى بنية فكرية حديثة مثل : المواطنة ، قبول الآخر ، الحرية والعدالة بمفهومهما المتقدم والحديث ، والمواثيق الدولية ، والتعاون المشترك في كل المجالات ، على سبيل المثال :
 مجال الطب، فهذة البلاد متقدمة فى هذا المجال وهذا واضح من الأجهزة الطبية التي تكتظ بها مستشفياتنا والواردة من هذة البلاد التي يطالبنا هذا الشيخ بغزوها ناهيك عن الأدوية وطرق العلاج والابحاث المستمرة للقضاء على الأمراض ونحن نكتفي بالأنتظار والمشاهدة والعودة إلى كهوفنا القابعة في هوة الماضي السحيق .
المجتمع المتقدم لا يُبنى بالعودة إلى الماضي . طبعاً هناك فرق بين ثوابت الخطاب الديني التى يجب ان يحترمها كل إنسان والمتغيرات التي تحدث بفعل الزمن والتطور وتغير الظروف والأفكار والمفاهيم ، فالزمن ليس ساكن بل متحرك ويحمل معه المتغيرات والرؤى ومفاهيم مغايره . الأمر الهام هو ان لا نجعل كل ما في الماضي الديني ثوابت ونحاول ان نجمد الزمن ونوقف حركة التاريخ . هذا انتحار للمجتمع الذي يُلقي نفسه في هوة الماضي السحيق، مثل أهل الكهف الذين ناموا ازمنة عديدة ثم استيقظوا لكى يتعاملوا مع الناس بنفس العملات القديمة التي دُفنت معهم ونفس الأفكار القديمة البالية ثم يتسائلون متحيرين لماذا لا يفهمهم الناس؟
التسلح بالأطر الفكرية القديمة هى أحد الأسباب القوية لعودة المجتمع إلى الخلف وإنغماسه في مآزق لا يستطيع فيها ان يواجه المجتمع الدولي بكل تقدمه وحداثته ورُقيه ، مما يجعله ينحاز للأقصاء والقتل والتهديد والمقاطعات وغيره.
الواقع يُثبت فشل المجتمع المقيم فى كهوف الماضي فى مسايرة التقدم العلمي والتكنولوجي وحركة التغير الثقافي والإجتماعي التي نشاهدها فى العالم المتقدم.
إذن لكي تتقدم شعوبنا لا بُد من التدين المستنير الذي يدفع أفراد المجتمع الذين نالوا تغيراً جذرياً وتطهيراً داخلياً إلى المحبة وقبول الآخر وتفعيل قدرات أفراد المجتمع للبناء والبحث والعمل والابتكار والابداع . هذا هو التحدي الحقيقي لكل مذهب لكي يُثبت مدى أصالته وفاعليته وجدارته بعيداً عن الثرثرة الكلامية . 
3-التحرر من الصراع الحادث بين السماوي والأرضي
مازلنا أمام السؤال الذي طرحناه من قبل : متى أو كيف تصير الرسالة الدينية قاطرة للتقدم والرقي للشعوب والمجتمعات ؟ وتحدثنا عن عنصرين هما :
-  أن تُحدِث الرسالة الدينية التغيير الجذري الداخلي في الانسان ليصبح إنسان جديد يتمتع بسلوكيات جديدة تبني ولا تهدم ، تصنع سلاما ولا تتبنى العنف مسلكاً ، ترى في العلم والابداع البشري تجليات الخالق في الانسان .
- سلوكيات تظهر في الحياة اليومية ، ومن ثم فإن الدعوة الدينية ليست دعوة نظرية جدلية بل هي دعوة عملية تظهر بكل تجلياتها في سلوك الانسان اليومية أي في الواقع المعاش.
- علينا ان نميز بين ثوابت الرسالة الدينية التي نحترمها والمتغيرات التي هي رهن تغير الظروف والبيئة والثقافة . والرسالة الدينية ليست هي دعوة للرجوع إلى الماضي والبقاء هناك حيث الثقافة التي عفى عليها الزمن والمفاهيم التي طرأ عليها تغير ونمو واتساع عبر مسيرة البشرية .
- أما العنصر الثالث الذي يجعل الرسالة الدينية قاطرة التقدم والرقي هو : التحرر من الصراع الحادث بين السماوي والأرضي .
التدين الزائف يجد صراعاً بين كل ما ينتمي للدين من كتب مقدسة بها تعاليم سماوية وبين كل ما ينتمي للإنسان من علم وقيم وأفكار ومواثيق وبنود حقوقية وغيرها من نتاج الإنسان ، اي ما ينتمي للأرضي .
إنها ثنائية ظهرت في الغرب في العصور الوسطى بين ( الطبيعي – غير الطبيعي ) . لقد أقامت هذة الثنائية عداوة بين ما هو " فوق " وما هو "تحت" ، ولذا انفصلت الحياة الدنيوية عن الإيمان الذي ينتمي إلى ما هو " فوق " .
وأصبحت هناك مكابرة دينية ، فالرسالة الدينية وحدها عند المتدين المتطرف تحتوي على سر تقدم الشعوب والامم ، وأي شيىء ينتمي إلى ما هو " تحت " مثل القيم الاخلاقية الانسانية والفلسفة والتقدم العلمي وغيره هو لا شيىء أمام التعاليم السماوية التي تنتمي إلى ما هو " فوق " . وهذا يفسر الانحياز التام للمتدين تجاه الشريعة الدينية .
لأن لديه قناعة بأن الشريعة الالهية تختلف تماماً وتضاد تماماً القوانين التي من صُنع البشر والمواثيق الدولية ودساتير حقوق الانسان والحق في الحياة وحقوق الطفل والمعاق والمريض وحقوق المرأة والمعاهدات الدولية التي تنظم علاقات الدول وخصوصياتها الحدودية وغيرها من قضايا الكفاح من اجل العدل والمساواة والحرية ، تلك القضايا التي جاهد الانسان لاجل تحقيقها .
المشكلة تكمن في قناعة المتدين المتطرف بأن التقدم والرقي منحصر فقط في التعاليم الالهية وليس في كل ما ينتمي لمجهودات الانسان الأرضي الذي ينتمي إلى ما هو " تحت " . وهنا نتذكر فلسفة قديمة كانت قبل المسيحية واستمرت بعد ذلك تُدعى الفلسفة الغنوسية التي كانت ترى ان الله متعالٍ جداً ولا يمكن ان يصنع تواصل مع الكون ولا سيما مع المخلوقات المادية ، وهكذا افترضت الغنوسية وجود " هوة " ساحقة لا يمكن عبورها بين الله والكون . 
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو : من أين أتت هذة القناعة بالصراع الحادث بين السماوي والارضي ؟ أتت هذة القناعة من الاعتقاد بأن الانسان الذي خلقة الله لا يوجد فيه – بلغة الكمبيوتر – اي برنامج بواسطتة يتعرف على خالقه ، وكأن الله خلق الانسان مثله مثل الكائنات غير العاقلة . وكأن الانسان ليس هو المخلوق الوحيد الذي يستطيع ان يتواصل مع الله ويتحدث اليه حتى لو كان ملحدا .
الانسان هو بمثابة مخلوق عاقل وواعي به ميل طبيعي تجاه الله خالقه . وبعيدا عن المصطلحات الدينية ، الانسان مخلوق وبه جهاز استقبال وارسال بينه وبين الله . صحيح حين ابتعد الانسان عن الله حدث تشويش لهذا الجهاز حتى ان الانسان في معظم فترات حياته تصرف تصرفات غير انسانية تفتقر للتواصل الالهي ، الا انه لم يحدث تدمير لهذا الجهاز تماماً في الانسان فمازال الانسان اي انسان يحمل البصمات الالهية حتى لو كانت هذة البصمات مطموسة وغير واضحة . والتحدي الحقيقي للرسالة الدينية هي اعادة جهاز التواصل ليعمل بكفاءة عالية ليظهر في تعاملات ورؤى الانسان اليومية.
هكذا الانسان في تكوينه ليس ارضي محض ولا سماوي محض بل هو مخلوق ارضي سماوي ، وهذا ما يميز الانسان عن بقية خليقة الله .
ولا يُستثنى في هذا الانسان الملحد او المعتنق لأي مذهب ديني او فلسفي . الانسان خُلِقَ وفي داخله منظومة القيم والاخلاق التي انطمست وتشوهت جراء ابتعاده عن خالقه وانغماسه في شهواته واطماعه . لذلك مهمة الرسالة الدينية ان توقظه وتنيره على الكنز الداخلي المدفون في داخله .
وليست الرسالة الدينية فقط هي التي اخذت على عاتقها القيام بهذة المهمة بل والرسالة الادبية والفلسفية والفنية وكل ابداعات الانسان الصادقة والاصيلة والتي هي من نتاج تشغيل البرنامج او الجهاز المغروس في داخل الانسان حتى ولو بكفاءة منخفضة ، وإلا ما تفسير وجود قيم التذوق الفني والجمالي للحضارات الانسانية قبل الرسالة الدينية مثل الآثار القديمة المصرية او تماثيل بوذا التي دمرتها الاصولية الدينية .
الخلاصة ان اي إبداع انساني أصيل حظى بقبول المجتمع البشري – حتى لو كان ظاهرياً بلا مرجعية دينية –ليس هو نتاج بشري بحت بل هو نتاج بشري الهي ، لان هذا الابداع صادر من بشر هم في الاساس مخلوقات إلهية اي خلقهم الله الخالق وأودع فيهم امكانيات الابداع وقيم الجمال والصلاح والرقي ومحبة الخير....الخ.
بالتالي لا نجد صراع بين القوانين والقيم الوضعية التي هي من نتاج البشر وبين الشرائع الالهية ، إلا اذا كانت هذة القوانين والقيم تضاد ما هو انساني او لا تضع مصالح البشر وكرامتهم في المرتبة الاولى . وأظن انه لا يوجد قانون وضعي إتفق عليه المجتمع البشري ينادي بإبادة الانسان او بالتمييز بين البشر وفقاَ للدين او العرق او المذهب او اللون ، وحتى لو هذا موجود ، علينا ان نجاهد لتعديله بالحوار وبالاقناع وبكافة الطرق السلمية لان المجتمع البشري لن يتحول في الحاضر إلى مجتمع ملائكة وإلا ما فائدة كل الرسالات التي تهدف للرقي والتقدم ؟ ...


د. جورج عوض إبراهيم
دكتوراة فى العلوم اللاهوتية 
باحث بالمركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية بالقاهرة 
مدرس بالكليات اللاهوتية 



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الجدير بالذكر أن هذا المقال كُتب منذ سنتين تقريباً أي قبل ظهور(  داعش ) .