الأرثوذكسيّة أرسخ من العالم ... !

"... فغضب التّنّين على المرأة وذهب ليصنع حربًا مع باقي نسلها الّذين يحفظون وصايا الله وعندهم شهادة يسوع المسيح" (رؤ 12: 17).

التّنّين هو الشّيطان. والمرأة هي الكنيسة المقدّسة، وأيضًا والدة الإله، المعيّنة، من الرّبّ يسوع، أمًّا للمؤمنين به، في شخص التّلميذ الّذي كان يسوع يحبّه (يو 19: 26 – 27).
 والحرب هي حرب الشّيطان على مسيح الرّبّ، في نسل محبّته، امتدادًا لساعةِ الّذين صلبوه وسلطانِ الظّلمة (لو 22: 53) إلى قيام السّاعة.
عنصران مضادان أحدهما للآخر، يكمنان وراء كلّ ما يجري في تاريخ البشريّة من صراع، بعدما تجسّد ابن الله:
 الشّهادة ليسوع المسيح، أو، بكلام آخر، تلمذة جميع الأمم من الّذين هُم ليسوع؛ في مقابل التّصدّي لهذه الشّهادة وتعطيلها، من الخارج، وإفسادها، من الدّاخل، من الّذين هم للتّنّين، من أعداء لله والرّسل الكذبة (2 كو 11: 13).
في هذا الصّراع الكونيّ،
 تتمثّل الشّهادة لمسيح الرّبّ في طلب ملكوت السّموات، فيما تتمثّل العداوة في ترسيخ الرّوح المناهضة له، والمساوية لعبادة الإنسان نفسَه وتقديم ما له، في ما يُعبَّر عنه بلفظة "العالم"، في خطّ قولة رسالة يعقوب: "محبّة العالم عداوة لله. فمَن أراد أن يكون محبًّا للعالم فقد صار عدوًّا لله" (يع 4: 4).
المرأة المتسربلة "بالشّمس والقمرُ تحت رجليها" (رؤ 12: 1)، أو قل "كنيسة المسيح" الّتي حفظت تعليم الرّسل والآباء القدّيسين وسيرتهم سليمَين قويمَين، هي، عندنا، بلا عِقَد، المسيحيّة الأرثوذكسيّة.
 وحدها حافظتْ على الوجدان الرّسوليّ الآبائيّ، جيلاً بعد جيل، غير منثلم. لا نقول هذا من باب الادّعاء ولا التّبجّح. فقط نستعير هذا التّعبير، عن إيمان راسخ، من أحد أبرز وأنقى وأعلم لاهوتيّي الأرثوذكسيّة، في القرن العشرين، الأب جورج فلوروفسكي (+ 1979 م). عنده – والكلام له –
 أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة هي "الكنيسة الحقّ والكنيسة الحقيقيّة الوحيدة".
كلّ الكنائس المسيحيّة الأخرى تعتورها العيوب. لذا يؤكّد، وبثقة تامّة، أنّ بإمكانه "في حالات عديدة تحديد هذه العيوب بالدّقّة الكافية". كما يرفض الأب فلوروفسكي الكلام على "انشقاق في وحدة الكنيسة". الموضوع، بالنّسبة إليه، هو موضوع "افتراق عن الكنيسة".
ويضيف أنّ اشتراك الكنيسة الأرثوذكسيّة في الحركة المسكونيّة هو عمل رسوليّ، الغرض منه مساعدة غير الأرثوذكس على "استعادة الوجدان المشترك للكنيسة العريقة".
على هذا، إذا ما شئنا أن نقرأ ما يجري في العالم، اليوم، قراءة روحيّة، فإنّنا نقول :- 
إنّ ما يجري، في المناخات غير الأرثوذكسيّة، هنا وثمّة، في عالمنا، هو شحن النّفوس بالرّوح الدّهريّة، أي بروح عبادة الذّات مترجَمة بإطلاق العنان لأهواء النّفس والجسد، بحيث تشتدّ، في قلوب النّاس، النّزعة المعادية، أو الرّافضة، أو اللاّمبالية بكلّ ما له علاقة بالله، لا سيّما في مستوى الإلحاد (atheism) واللاإدريّة (agnosticism)، حتّى لا يطلب النّاسُ الله ولا يقبلوا أن يُبشَّروا به. هذا على صعيد المناخات غير الأرثوذكسيّة.
 أما على صعيد المناخات المعتبَرَة على الأرثوذكسيّة، فإنّ ما يجري فيها هو بمثابة سعي عالميّ حثيث لإغراق النّفوس في الفكر والممارسة الدّهريَّين حتّى تُشوَّه مَن تُشوَّهُ فيهم الأرثوذكسيّة، بنسبة الأصوليّة إليها، أو حتّى تتراخى النّفوس وتخورَ بتأثير التّلفيق، تلفيق الحياة الرّوحيّة، في النّفوس، بالرّوح الدّهريّة.
صراع الأرثوذكسيّة والرّوح الدّهريّة، أو قل "العالم"،
في روسيّا ورومانيا وصربيا الأرثوذكسيّة، بخاصّة،
أبان أنّ "الأرثوذكسيّة أرسخ من "العالم"، وأبواب الجحيم لا تَقْوَى عليها! ما سعت الشّيوعيّة البولشفيّة إلى فعله سحقًا للكنيسة، هناك، فاق، بخبثه وإصراره وعنفه، ما يفوق التّصوّر! الذّئاب في مواجهة الحملان! بشريًّا، المعركة كانت محسومة! ولكنْ، انتصرت الأرثوذكسيّة وتكسّرت قيود "بابل" الدّهريّة!
 ما كان يمكن لهذا العَجَب أن يحدث لو لم يكن روح الرّبّ هو الفاعل في الكنيسة بقوّة! وانتفض "طائر الفينيق" مشحونًا، بقوّة، بروح الرّبّ، أكثر ممّا كان، في أيّ وقت من الأوقات في تاريخه. وفيما بدت المسيحيّة الغربيّة في تراجع مطّرد، كأنها عائدة من الحرب ضدّ قوى هذا الدّهر، وتكاد تكون أعجز من أن تحافظ على بقيّة مواقعها، وبتعب كبير،
 ترى أرثوذكسيّة روسيّا ورومانيا وصربيا، بخاصّة، كأنّها ذاهبة، في روح الله، إلى الحرب ضدّ روح هذا الدّهر بقوّة عزم وتجدّد وتقوى وصحو ويقظة مدهشة، لمجد الله والشّهادة ليسوع المسيح! "جُزنا بالنّار والماء. لكنّك أخرجتنا إلى منتجع راحة" (مز 65: 11 – 12)!
الأرثوذكسيّة صارعت، أبدًا، عبر التّاريخ، لتحفظ الإيمان الرّسوليّ القويم المسلَّم مرّة للقدّيسين. في مطلع مسيرها، زمن الرّومان، كانت عرضةً لأن تبتلعها العرفانيّة (gnosticism)، الّتي هي جملة تيّارات فلسفيّة عقلانيّة ذات مسحة طقوسيّة دينيّة أسراريّة. لكن روح الرّب حفظها، وحفظها، بخاصّة، بشهادة الدّم.
 ثمّ بعد مرحلة شهادة الدّم هذه، بدءًا من القرن الرّابع الميلاديّ، حفظها بالشّهادة البيضاء، فكانت، بخاصّة، الرّهبانيّة. وصارعت الرّهبانيّة لتحفظ الإيمان حتّى استبانت الأرثوذكسيّة بوضوح ذات طابع رهبانيّ. شهدت الرّهبانيّة بالنّسك والصّلاة التماس القداسة واقتناء روح الرّبّ ومعاينة النّور الإلهيّ وشركة الحياة الأبديّة، وشهدت بالدّم أيضًا.
الرّهبانيّة، كحياة جديدة، كسلوك في الإلهيّات على الأرض، كانت، ولا زالت، هي الأرثوذكسيّة، هي الإنجيل معيشًا إلى ملكوت السّموات!
ثمّ تعرّضت الأرثوذكسيّة لتجربة الزّهو والفتور، بعدما صارت للأمبراطوريّة الرّوميّة البيزنطيّة صفة المسيحيّة، فانقسم العالم المسيحيّ على نفسه! ثمّ كان الإسلام مؤدِّبًا في القرن السّابع.
 وكان لا بدّ للأمبراطوريّة البيزنطيّة أن تزول لأنّها كانت تشكِّل خطرًا دائمًا على الأرثوذكسيّة بتسخيرها إيّاها لمراميها في هذا الدّهر. الامتحان جاء قبل سقوط القسطنطينيّة، رمز الأمبراطوريّة البيزنطيّة، بقليل، سنة 1453 م. لكن الأرثوذكسيّة ثبتت واستمرّت. 
فبين العامَين 1437 م و 1439 م جرى إعداد اتّفاق، في ما يُعرَف بمجمع .. فلورنسا، تحت شعار توحيد المسيحيّة الغربيّة والشّرقيّة، أقول جرى إعداد اتّفاق شبه تجاريّ لمحو الأرثوذكسيّة وتجييرها للكثلكة مقابل مساعدة الغرب الكاثوليكيّ في ردّ الخطر عمّا تبقّى من الأمبراطوريّة البيزنطيّة.
 الشّعب الأرثوذكسيّ، وفي مقدَّمه القدّيس مرقص أسقف أفسس، رفض العرض! الأرثوذكسيّة أثمن من الأمبراطوريّة! فبقيت الأرثوذكسيّة وزالت بيزنطية! هذا حتّى لا ننسى قولة السّيّد: "مملكتي ليست من هذا العالم"!
وكانت الأرثوذكسيّة، قبل ذلك بقرن، قد تعرّضت لامتحان ولا أقسى، ولكن من نوع آخر. الامتحان كان:
 اضرِبْ الرّهبانيّة تضرب الأرثوذكسيّة!
 فكانت هجمة العرفانيّة الجديدة المتمثّلة في محاولة اجتياح الكثلكة السكولاستيكيّة، ذات الطّابع الفلسفي العقلانيّ، في شخص الفيلسوف السكولاستيكيّ برلعام الكالابري، ومَن شايعه، للأرثوذكسيّة بتسفيه الرّهبانيّة الهدوئيّة، الّتي هي وريثة الرّهبانيّة الأرثوذكسيّة التّراثيّة. لو نجح المسعى الكاثوليكيّ هذا لفَسُدتِ الأرثوذكسيّة ووجدنا أنفسنا، اليوم، حيث الكثلكة، في الغرب!
 لكن روح الرّبّ حفظ الأرثوذكسيّة برهبانيّتها، لا سيّما من خلال قدّيسين، في مقدّمهم القدّيس غريغوريوس بالاماس الّذي دافع عن القدّيسين الهدوئيّين. وقد استجاب الشّعب المؤمن وثَبّتت الكنيسة في سلسلة من المجامع (خاصّة مجمع 1351 م) ما علّمه القدّيس غريغوريوس أنّه هو الأرثوذكسيّة المسلَّمة مرّة للقدّيسين!
ثمّ كانت محاولة طمس الأرثوذكسيّة من جديد، في غزو الحضارة الغربيّة، لا سيّما لروسيّا، منذ بطرس الأكبر (1672 – 1725 م) وإلى القرن التّاسع عشر.
وكادت الأرثوذكسيّة تتغيّر ملامحها وتبتلعها الفلسفة والفئات الفكريّة الكاثوليكيّة، وتفتر التّقوى. لكنّ الرّبّ الإله حفظها.
حفظها بشهادة الدّم والفقر!
وحفظها، من حيث لا يدري الّذين لا يفقهون مقاصد العليّ، بالثّورة البولشفيّة بالذّات! بشهادة الدّم والقهر، الّذي لم يكن له مثيل في التّاريخ المسيحيّ، نُثِر، في الأرثوذكسيّة، بذار روحيّ جديد للكنيسة. تنقّت وانحفظت واحتشد الرّوح القدس فيها بقوّة وروعةٍ ما بعدها روعة! فلمّا اكتمل زمان السّبي المصريّ البابليّ الجديد، انحلّت القيود من ذاتها!
 أوليس أنّ السّيّد الرّبّ الإله سيّد التّاريخ؟
فخرجت الأرثوذكسيّة في أكباد الملقَين في الظّلمة وظلال الموت إلى النّور مضيئة كالطّالعةَ من الخدر الإلهيّ!
وها نحن اليوم نشهد، لا سيّما في روسيّا ورومانيا وصربيا، نهضة أرثوذكسيّة روحيّة عامرة وغامرة، تتفجّر عبادةً وتقوى وإلهيّاتٍ معيشةً على الأرض، على أبهى ما يكون البهاء!
 الدّم بُذِلَ مرارًا على مدى عقود والآن روح الرّبّ يدفق، عسى النّيام، في كلّ مكان، يستفيقوا، وعسانا إذا ما تأدّبنا، نواجه روح ضدّ المسيح المتفشّي، في العالم أجمع، دهريّةً خانقةً!

ماذا ينتظرنا بعد إلى الأمام؟ إمّا الشّهادة البيضاء وإمّا الشّهادة البيضاء والحمراء معًا! أعطِ دمًا وخذ روحًا!
 لا أثمن من الأرثوذكسيّة! الأرثوذكسيّة قائمة إلى قيام السّاعة! "أنت الصّخرة وعلى هذه الصّخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لا تقوى عليها"!


الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
.holytrinityfamily.org