تدبير الخلاص الإلهي عند القديس يوحنا ذهبي الفم

1 ـ تدبير الخلاص بين علم اللاهوت والتدبير والروحيات:
لابد من الإشارة إلى حقيقة هامة في خدمة ذهبى الفم،
 وهى أنه لا يخلط فكره اللاهوتى بالفلسفة، وذلك رغم تتلمذه على ألمع فلاسفة عصره ليبانيوس الذي درس الفلسفة والبلاغة والخطابة في أثينا، وأسس مدرسة في إنطاكية وتهافت عليها الطلاب، ومن بينهم يوحنا ذهبى الفم وكان ذلك حوالى سنة 354. 
كان القديس باسيليوس من أشد المعجبين بفصاحة ليبانيوس، وهكذا تتلمذ ذهبى الفم لذلك الخطيب المفوه والعلامة المحيط بثقافة عصره، وقد فضّل يوحنا جهالة الصليب على فلسفة الأوثان، ومع ذلك احتفظ بمنهج الخطابة والوضوح في عرض الأفكار والدراية بقضايا الإنسان، فجاء لاهوته متجذرًا في قضايا الأرض وهموم الإنسان.
 ويلاحظ الباحث أن أغلب مشاكل قديسنا كانت نتيجة تدخله في قضايا الحياة اليومية، ومقاومة الظلم وتبكيت المفسدين في الأرض وانحيازه للإنسان. ومن بين أعمق العظات التي ألقاها القديس يوحنا ذهبى الفم، نجد مجموعة العظات الخمس التي ألقاها في إنطاكية (380ـ387م)، وفيها يرد على بقايا الآريوسية المتطرفة؛ وهم الأقنوميون.
 وخطورة هذه البدع أنها تفصل الله عن الناس وتحاول تفسير جوهره فلسفيًا، والفارق الكبير بين الاقتراب الفلسفى من قضية الله والاقتراب اللاهوتى، هو أن الفلسفة تفحص جوهر الله بدون أى صلة بالإنسان، وبدون الاهتمام بالخلاص والتجسد، لأن الهدف منصب أكثر على تفسير جوهر الله منه على اتصاله بالعالم.
 فالفيلسوف لا يسأل التاريخ عن معانى اللاهوت، والأكثر من ذلك فهو لا يصلى؛ أى لا يُخضع العقل للروح. ولهذا يأخذ هذه العظات وأهميتها، من أنها يعتبر المدخل اللاهوتى الصحيح للحديث عن الخلاص. والقديس يوحنا لا يخلط اللاهوت بالفلسفة كما سبق وأكدنا، ولعله من الآباء القليلين الذين لا يخلطون اللاهوت بالفلسفة.
ونود الإشارة إلى أن العلماء درجوا في الحديث عن سر التدبير، على الحديث عن الثيؤلوجيا (علم اللاهوت) والإيكونوميا (التدبير) فقط، بينما كل شئ بالثالوث يكمل، فلابد من إضافة البنفماتولوجيا (أي الروحانية).
 فالثيؤلوجيا تخص الله في جوهره أى اللاهوت، والإيكونوميا تتعلّق بالابن الوحيد في تجسده، والبنفماتولوجيا هى الروح القدس؛ في أنه ناقل بركات الخلاص وصانع اللاهوت. وهذا البعد الثالوثى للتدبير واضح عند ذهبى الفم، وهو يؤكد ذلك انطلاقًا من شرحه لعمل الروح القدس في الكنيسة، وذلك في شرحه لإنجيل الحبيب يوحنا والإصحاح السادس عشر ويقول
 [ إذا كان الروح القدس سيعلم عن الناموس وبطلانه، فهذا علم به الأنبياء، وإذا كان سيتكلم عن لاهوت المسيح (الثيؤلوجيا) وتدبيره (الايكونوميا)، فهذه الأمور سمعنا عنها الكثير، ولكن الروح القدس (البنفماتولوجيا) سيعلن لنا الأمور الآتية][1].
وهنا تتكامل الثيؤلوجيا أى اللاهوت فيما يخص الآب وجوهره وطبيعته مع التدبير، أي التجسد والفداء ومسيرة شعب الله التاريخية، والبنفماتولوجيا أى عمل الله في المسيح بالروح القدس في الكنيسة والإنسان والكون، ويؤكد على الإرادة الواحدة في الثالوث.
 ونص "أن الله لا يمكن إدراكه" من النصوص الهامة في هذا الصدد؛ أولاً لأنه كُتب في فترة عصيبة من تاريخ الكنيسة، ثانيًا: لأن الذي كتبه كتبه بحس الراعى والخادم، وهذا يشكل أعمق ملامح تدبير الخلاص عند ذهبى الفم أنه يقدم سر الله بشكل رعوى عميق وسلس، ولا ينسى الهدف الأساسى وهو خلاص النفوس، وهذا يعود إلى أنه خادم اختلط بالناس وعاش همومهم ورفع عنهم الصلوات... نحن أمام نموذج لما أسميه (لاهوت الواقع، لاهوت المبادرات).
 وهذا الجانب العملى والحياتى، يؤكده اليوم أكثر علماء اللاهوت عقلانية؛ العالِم الألمانى باسيل شتودير في مؤلفه العلمى الضخم[2]. يؤكد على أن البحث النظرى وحده لا يكفى لمعرفة إيمان الكنيسة الأولى بالمسيح (الذي يريد أن يُكوّن فكرة حقيقية على فكر المسيحيين في الكنيسة الأولى وعلاقتهم بيسوع وتسليمهم حياتهم له، لابد أن لا يكتفى بإعلان الإيمان، وما يرتبط به من فكر لاهوتى، ولكن يجب أيضًا أن يضع في اعتباره هذا المجال الحياتى الذي نسميه الروحانية والتقوى المسيحية، ويجب أن نعى موقف هؤلاء المسيحيين من قضايا الوجود الإنسانى). 
وهذا معناه أن البنفماتولوجيا صارت في خدمة الإيكونوميا التي تعلن لنا مقاصد الثيؤلوجيا، وهذا يعنى ببساطة أن الروح القدس مازال عاملاً في الابداعات اللاهوتية التي تلتقى وهموم الإنسان المعاصر، ولا تتعارض مع العمق اللاهوتى والقصد التدبيرى، [ولا يخفى على الدارس المدقق، أن الفكر المسيحى لم يكن دائمًا ثالوثيًا بسبب التركيز على شخصية الابن في وسط يذكرنا دائمًا بآريوس وأنصاره][3]
ونعود إلى رؤية ذهبى الفم للاهوت[4]. ويستهل قديسنا عظاته بالحديث عن سمو المحبة وبطلان العلم [ بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذى. بحقك، بماذا يعرف الجميع أنكم تلاميذى؟ قل لى، بماذا؟ أبسلطان إحياء الموتى، أم بسلطان تطهير البرص، أم بسلطان طرد الشياطين؟ كلا، فقد قال المسيح معرضًا عن ذلك كله: " بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذى، إذا ما أحببتم بعضكم بعضًا…" فإن تزول موهبة النبوة، وتضمحل موهبة الألسنة، فهذا أمر لا يثير أى مشكلة، لأن هذه النعم قد وضعت تحت تصرفنا لفترة ما، ويمكن أن تتوقف دون إلحاق أى ضرر بالكرازة. فاليوم لا تقع على أثر لموهبة النبوة والألسنة، ومع ذلك لم توقف الكلمة المقدسة ][5].
 ويُتهم بالحماقة من يدعى أنه يمتلك العلم كله[6]. ثم يصل إلى هدفه الأساسي وهو معرفة جوهر الله [ أن الإصرار على معرفة الله في جوهره هو قمة الجنون ][7].
 ويستشهد بالأنبياء (إش8:53) وحتى الملائكة لا يمكنها إدراك جوهر الله، ويؤكد حقيقة لاهوتية ورعوية هامة جدًا وهى [ أننا لا نملك في الحديث عن الله سوى تعابير بشرية ][8].
 وهنا نصل إلى البداية الصحيحة لتدبير الخلاص، وهى أن تتحول لغتنا وأعمالنا ومواقفنا الحياتية اليومية إلى تدبير بالروح القدس، أى بالابنفماتولوجيا "دبر حياتنا كما يليق"، كما تصلى الكنيسة في الأواشى، ونستطيع أن نفسر الصلاة تفسيرًا صحيحًا وليس فقط ماديًا (دبر حياتنا بكل تفاصيلها الأرضية كما يليق بلاهوتك وبإعلاناتك السماوية،) ونشير هنا إلى أن العلم اللاهوتى الآبائى لا يبحث في جوهر الله، بل يبحث في تدبير الله وعمله في تاريخ الناس (الإيكونوميا)[9].

2 ـ التجسد والصليب والقيامة والصعود كأساس للإيكونوميا:

يظن بعض الباحثين في كتابات وفكر ذهبى الفم بأنه (لاهوتى الأخلاقيات)؛ بمعنى أن اهتمامه كان متجهًا بالأكثر نحو الوصايا السلوكية أكثر من تركيزه على جوهر التعليم الروحى[10].
 وفي الحقيقة لا يستطيع الباحث المطلع على فكر ذهبى الفم أن يقبل هذا الرأى، وذلك لأن يوحنا مثل شفيعه بولس يخلط بمهارة روحية كبيرة، بين التعليم العقائدى واللاهوتى وبين السلوك بالروح، وسنرى أنه لا يطلب من الناس تطبيق وصية، قبل أن يقدم النعمة الساندة (ويسمى الوصايا ...... أى الوصايا المخلّصة أو الحاملة قوة الخلاص)
 لها من حياة المسيح وأسرار الكنيسة، ولعل الرأى السابق يعود إلى المدرسة الغربية في التفسير، والتي انفصل فيها التعليم عن الثالوث عن الحياة الكنسية، وانفصلت التعاليم اللاهوتية عن السلوك والحياة اليومية، والنعمة عن الأخلاق، والروح القدس عن حياة المؤمنين، ورسالة رومية في التبرير بالإيمان انفصلت عن رسالة يعقوب في أهمية الأعمال.
مع أن بولس لا يمل من الدعوة إلى السلوك بالروح والعبادة الروحية ومحبة الاخوة (انظر رو12) ويعقوب لا يكل من الإشارة إلى الإيمان وكلمة الحق والنعمة والكلمة القادرة أن تخلّص نفوسكم (يع8:1، 6).
 والدارس للآباء من خلال كتاباتهم ورؤيتهم من خلال مسيرة الكنيسة الشرقية واللاهوت الأرثوذكسى، لن يجد عندهم هذا الفصام بين التعاليم اللاهوتية والسلوك الذي هو نتيجة الصراعات الغربية بين الكنيسة والواقع اليومى إبان عصر النهضة، والذي اكتشف فيه الإنسان نفسه، وأمسك زمام أموره بيده، ووقف وقفة حاسمة ضد الخرافات غير اللاهوتية، وهذا ما أدى بالثورة الفرنسية إلى (العلمانية أو الدنيوية أو العولمة) في فهم الأمور. 
ومن أهم مبادئ الثورة الفرنسية، فصل الدين عن الحياة، وتحول التعليم المسيحى إلى تعليم عن الأخلاق. وأما الآباء فقد نجحوا في تحاشى هذه الثنائية بين تراث العبادة والحياة الشاهدة والفكر؛ وفي هذا يقول المطران جورج خضر[11] (ما توخاه الآباء من الفكر هو القربى فما كان الفكر (اللاهوتى) هذا سوى التعبير عن السفر في الله والإقامة فيه. فالعلاقات القائمة بين الأقانيم؛ هى علاقة محبة، وهنا أتجاسر على طرح هذا، أن يوحنا الحبيب في رسالته الأولى الجامعة، لما قال (الله محبة) (8:4) إنما أراد أن يجعل المحبة الاسم الحقيقى لله. فالله تسمية مأخوذة من اللغات السامية، ومرتبطة بتصور للألوهية، قائم في حضارات الشرق الأدنى لكن المضمون التوراتى للكلمة هو أن طبيعة الله أو وحدته هى المحبة. هذا ما رآه القديس كيرلس قديمًا.
 فالكلام عن الله ليس مبحثًا نظريًا ولا هو ترجمة فلسفية للوحى ولكنه رؤية. الآباء اللاهوتيون في تعليمهم عن السلوك، تكلموا في الإلهيات، والإلهيات تقودهم إلى التأمل في الجماليات الإنسانية أينما وجدت، وهذا نجده واضحًا وسلسًا وجليًا عند يوحنا ذهبى الفم الذي يكتب تعاليم لاهوتية للجميع، والذي بحنكة ومعاناة وضع لهذه التعاليم أرجلاً تسير عليها على الأرض، فلم تعد التعاليم هى البحث عن قطة سوداء في حجرة مظلمة، بل هي شركة النور الإلهى الذي لا يدنى منه! وهكذا أسس قديسنا الإيمان العامل بالمحبة، ولهذا لا يطالب قديسنا الناس بشىء، بل يكشف لهم واقعهم المهلهل من خلال الكشف عن عمل الله وعطاياه.
 وفي عظة له عن "يوم ميلاد مخلّصنا يسوع المسيح"[12]، يرد ذهبى الفم على الوثنيين الذين يحتقرون التجسد متهكمًا (هل سكن الله في جسد بشرى إهانة أم سكنه في الحجارة والخشب. ولعل أصحاب هذا الرأى يرون الإنسان أقل وأحط من الحجر والخشب، ونحن نعترف بأن المسيح أخذ جسدًا مقدسًا ونقيًا من رحم عذراوى، وهذا الجسد طاهر من كل خطية. وهذا لكى يعيد الإنسان مخلوقه إلى رتبته الأولى ويشترك مع هؤلاء المانويين غير الأتقياء الذين يرون أن جوهر الله موجود في الحيوان والخشب).
 ويكرر في موضع آخر (نحن نتمسك بالرأى القائل أن الله اتخذ لنفسه هيكلاً بشريًا، وبهذا الشكل صارت حياتنا مدينة سماوية، ويسمى كل هذا "إيكونوميا" (إنه من الأقدس والأكرم أن يسكن الله جسد مقدس، وهذا يجلس الآن عن يمين عرش الآب المهيب. 
والسؤال هل في هذا التدبير ما يحط من كرامة الله في شئ) الدليل على أن التجسد عند الآباء هو منهج حياة لاهوتية متاحة للجميع، وليس نظريات أكاديمية ينفرد بها القلة، نقول أن هذا الدليل نجده في نفس العظة، حينما ينتقل بسلاسة وبدون تكلف من الحديث عن التجسد إلى الحديث عن الإفخارستيا وضرورة التناول من جسد الرب ودمه، ويسميها المائدة المقدسة والميستاجوجية (السرية)[13] التي للإفخارستيا المقدسة، وكيف أنه يجب أن نتقدم إليها بخوف ورعدة وصوم وصلاة وضمير نظيف[14]. ويسمى الإفخارستيا (دواء يخلّص من الأوجاع).
 وبخصوص الإفخارستيا وعلاقتها بالعقائد الخلاصية، يقول ذهبى الفم في تفسيره للإصحاح السادس من إنجيل يوحنا الحبيب [ مَن يأكل هذا الخبز يحيا إلى الأبد]. والخبز هنا يشمل العقائد الخلاصية. وعن الأثر الروحى الذي يحدث في المتناولين [ نحن نخرج من المائدة المقدسة كالأسود][15].

وينتقل من التجسد والافخارستيا إلى الحياة العملية والسلوكية، وذلك في نهاية العظة: [ ويجب أن تفعلوا كل شئ بخوف الله سواء سماع العظات أو الصلاة أو الاقتراب من الشركة الإلهية أو عمل أى شئ، وذلك حتى لا تجلبوا على أنفسكم بسبب عدم مبالاتكم غضب الله ].
 وفي عظة أخرى عن ميلاد المخلّص يقول في بدايتها: [ إن القوات السمائية تتهلل لأنهم يرون الله على الأرض والإنسان في السماء. ويرون ذاك الساكن في أعلى السموات يسير على الأرض، وذلك بسبب (الإيكونوميا) تدبيره من أجل الإنسان، لكى يرفعه من الأرض ويضعه عاليًا في السماء، وذلك بسبب أنه محب البشر. واليوم صارت بيت لحم مساوية للسماء.
ويرد قديسنا على العقلانيين الذين يسألون عن كيفية حدوث ذلك: [ ولا تسأل كيف حدث ذلك، لأنه حيث تُعلن مشيئة الله تُهزم القوانين الطبيعية ][16].
 ويحاول بكل تقوى وإخلاص عقلى وروحى أن يقترب من سر التدبير الإلهى: [ يجب علينا أن نبحث الظواهر الطبيعية، وأن نحترم بصمت الظاهر فوق الطبيعة، وذلك ليس لأنها ممنوعة على البحث، ولكن لأنها تشكل سرًا، وهو ما نقدم له الاحترام الواجب بالصمت اللائق ].
وهذا يذكرنا بموقف القديس كيرلس الكبير في بداية تفسيره لإنجيل يوحنا حينما يقول أن خير ما نواجه به هذا السر هو الصمت، ويقول اللاهوتى المعاصر قسطنطينوس باباتروس في دراسته الهامة عن تفسير القديس كيرلس الكبير لإنجيل يوحنا الحبيب[17] [ إن الموقف الإنسانى الصحيح أمام السر الإلهى هو موقف الصمت والتمجيد]، ويذكر أن كلمة أرثوذكسية معناها (التمجيد الصحيح)؛ أى أن التمجيد الصحيح يسبق الرأى السديد، والعبادة والسجود بالروح تمهد الطريق لرؤية سديدة، والصمت أمام السر الإلهى عند الآباء ليس هو حالة نفسية من البلاهة العقلية، بل هو عمل دؤوب وتوبة قلبية، وتقديم الجسد في عبادة عقلية (انظر رو12).
 وينتقد ذهبى الفم طريقة البحث العقلانية والحرفية التي تعيق انطلاق الروح حينما يقول: [ بينما يفحص اليهود حرفية الكتاب تستمتع الأمم بثمر الروح ]. ويستمر في التمعن في السر ليقربه من أذهان السامعين فيقارن مقارنة رائعة بين آدم والعذراء:
 [ فكما صار لآدم امرأة بدون امرأة (أم) هكذا العذراء اليوم ولدت رجلاً بدون رجل (أب)][18].
وعن الصليب ونزول الرب إلى الجحيم يستمر واعظ إنطاكية المفوه في التعمق في فهم سر التدبير [ اليوم الرب افتقد الذين في الجحيم وكسر مصاريع النحاس (مز16:106) ولنلاحظ أن المرنم لم يقل (فتح الأبواب النحاسية)، بل (كسر) فهو لا يرفع الآلام بل يسحقها!] ويقارن مرة أخرى بين سبب هزيمة آدم وانتصار المسيح! [ إن أسباب هزيمتنا كانت ثلاثة: عذراء، وخشبة، وموت. العذراء كانت حواء لأنها لم تكن بعد قد عرفت زوجها. والخشبة هى شجرة. والموت هو عقاب آدم. ومرة أخرى صارت الثلاث رموز للانتصار، فبدلاً من حواء عندنا العذراء مريم، وعوضًا عن شجرة أو خشبة معرفة الخير والشر نجد خشبة الصليب، وبدلاً من موت آدم نلتقى بموت المسيح على خشبة الصليب. وهكذا هزم الشيطان بنفس أسلحته وفي عقر داره ][19]. ويقدم لنا خادم الصليب أنشودة رائعة في الصليب:

[ الصليب رمز النصرة على الشياطين
الصليب سيف حاد ضد الخطية
الصليب هو الحربة التي طعن بها المسيح الحية
الصليب هو إرادة الله الآب
الصليب هو مجد الابن الوحيد
الصليب هو فرح الروح القدس
الصليب هو زينة الملائكة
الصليب هو أمان الكنيسة
الصليب هو فخر بولس الرسول
الصليب هو ملجأ القديسين
الصليب هو نور المسكونة ][20]
ويختم العظة بنصائح عن كيفية التقدم إلى الأسرار المقدسة. وكما طالب بالصمت أمام سر التدبير في الميلاد والصليب، يدعو بالصمت نفسه أمام الجسد والدم الأقدسين. وفي عظة أخرى عن الصليب واللص اليمين، يعتبر أن الصليب هو الذبح، والمسيح هو الكاهن الأعظم (قارن مع الرسالة إلى العبرانيين)، وهو الذبيحة في الوقت نفسه[21]. ويتأمل في سبب صلب المسيح خارج المحلة، أو خارج المدينة، بأن ذلك يعنى أن ذبيحة المسيح لها مدلول كونى وليس فقط محلى. وينهى عظة الصليب الرائعة بأننا يجب أن نقتدى بالرب ونسامح أعداءنا بل ونصلى من أجل خيرهم[22].
وفي عظة أخرى عن القيامة يقارن بين موت آدم وموت المسيح وقيامة آدم وقيامة المسيح فيقول: [ هل ترى إنجازات قيامة المسيح؟ المسيح مات مرة واحدة وقام مرة واحدة، بينما آدم مات مرتين وسيقوم مرتين. كيف؟ سوف أشرح لك... آدم مات نفسيًا وجسديًا (تك17:2) وفي يوم الأكل من الشجرة لم يعرف آدم الموت الجسدى، ولكن موت الخطية الذي نسميه الموت النفسى وبعدها مات جسديًا. وحينما أقول ماتت نفسه، لا تظن أن النفس تموت فالنفس خالدة ولكن موت النفس هو الخطية والعقاب الأبدى][23].
 وهذه الرؤية الرائعة لفعل القيامة تعيشها كنيستنا القبطية في اللحن الرائع، الذي ترتله الكنيسة ليلة القيامة، وطوال الخماسين المقدسة، وهى تعطى المجد للقيامة ولسر التدبير. هذا اللحن معروف باسم (توليثوس To liqoue) [ إن الصخر لما ختم من اليهود وجسدك الطاهر حفظ من الجند. قمت في اليوم الثالث أيها المخلّص مانحًا العالم الحياة، لأجل هذا قوات السموات هتفوا لك يا واهب الحياة. المجد لقيامتك أيها المسيح. المجد لملكك. المجد لتدبيرك يا محب البشر]، فالتسبيح والشكر والتمجيد يشكل وسائط للاقتراب من سر التدبير الإلهى.
3 ـ المعمودية وتدبير الخلاص بين النعمة والجهاد الروحى:
الخلاص عند الآباء ليس هو نظريات غنوسية، بل هو تدبير متجسد في الكنيسة، ومتجذر في الأرض وقضاياها!. ولهذا يجد الآباء أن الكنيسة جسد المسيح وجماعة المؤمنين، هى حاملة لسر التدبير الإلهى. ولا نتكلم عن أى كنيسة، بل كنيسة الإنجيل والآباء والتاريخ والمجامع، والكنيسة التي تسعى لتكمل نقائص شدائد المسيح في جهادها وتوبتها ومحبتها وإبداعاتها اللاهوتية التي تناسب كل إنسان وكل الإنسان في كل زمان وكل مكان.
 ولكى يظهر عالِم إنطاكية الجليل قوة المعمودية، لا يلجأ لمفاهيم نظرية ورمزية تفرغ السر من زخمه التاريخى، بل يذهب مباشرةً إلى التاريخ، تاريخ الخلاص، إلى كلمة الله، إلى العهد القديم، لا ليفسره رمزيًا بشكل يفرغه من معناه التاريخى، بل ليستند إلى الحقائق التاريخية ليخرج منها معانى روحية وخلاصية.
ويقارن ذهبى الفم بين معمودية اليهود ومعمودية المسيح قائلاً:
 [ كان عند اليهود قديمًا معمودية أو جرن معمودية، اسمع إذن ما هى قوة هذه المعمودية لتفهم مدى فقر اليهود، وتتعلم ما هو غنى الكنيسة؛ كنيسة المسيح. كان عندهم بركة من الماء وكان ينزل ملاكًا ليحرك الماء، وبعد هياج الماء كان ينزل إنسانًا مريضًا وينال الشفاء، إنسان واحد ينال الشفاء طوال العام وتتوقف النعمة عند هذا الحد، ليس لأن الذي قدمها فقير حاشا، بل لأن الذين يأخذونها فقراء وضعفاء. لكن الرب نزل إلى الأردن وحرك المياه وقدم الشفاء لكل المسكونة والماء في البركة الأولى يتلوث بوساخة الأجساد، لأنه يؤدى فقط إلى نظافة الجسد والماء في الثانية ازداد طهارة لأنه يؤدى إلى طهارة النفس][24].
 ويربط الجهاد الروحى والنمو في القداسة بالاستثمار الجيد لنعمة المعمودية، وهنا أساس الجهاد الروحى لاقتناء نعم وبركات التدبير فنحن لا نجاهد من فراغ، بل نجاهد لاكتشاف الطاقات الروحية التي أخذتها طبيعتنا بفضل اتحادنا بالمسيح في سر المعمودية. وهذه هى ديناميكية النعمة الساكنة فينا، ولهذا لابد وأن نعى قول قديسنا حينما يؤكد:
 [ ونستطيع نحن إذا أردنا أن نصير عظماء ونزيد في النعمة التي أعطاها لنا الرب حينما اعتمدنا ][25].
 وهذا معناه أن الجهاد الروحى الصادق، يستطيع أن يزيد النعمة، فليس القصد من الجهاد الروحى أن نمجد في العظماء ونحن صغار، بل أن ننمو إلى قامة ذاك الذي فيه كل الملء، أى المسيح، وهو هنا يلتقى تمامًا مع مثل الوزنات. ويشير ذهبى الفم إلى أن المعمودية كانت تتم ليلة عيد القيامة[26]، ويؤكد معنى لاهوتى وآبائى هام، وهو أن المعمودية شفاء لكل المسكونة[27] وهذا معناه أن الخلاص ليس فقط مجرد غفران للخطايا، بل هو جهاد حتى الدم لاقتناء الشفاء من الأوجاع كما يسميها آباء البرية.
4 ـ عيد البنطقستى وتدبير الخلاص والابنفماتولوجيا:
يوحنا ذهبى الفم في عظته عن يوم العنصرة[28]، يتساءل ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن الروح القدس لم يأتِ ولم يوجد في الكنيسة وحياة المؤمنين. ويبدأ عظته وهو حسب تعبير كواستين "طبيب النفوس"، بعرض من العهد القديم للتدليل على أن غياب الروح القدس والنبوة؛ هو دليل غضب الله (1مل1:3، دا38:3)، ويعتبر أن الروح القدس هو ثمر المصالحة مع الله.
ومن ثم يبدأ في ذكر نتائج غياب الروح القدس:
أ ـ لو أن الروح القدس لا يوجد، لما استطعنا أن نتوجه إلى المسيح كرب (1كو3:12).
ب ـ لو لم يوجد الروح القدس، لما استطعنا أن ننادى الله (أبانا) (مت9:6، غلا6:4).
ج ـ لو لم يوجد الروح القدس، لخلت الكنيسة من الحكمة والمعرفة (1كو8:12).
د ـ لو لم يكن الروح القدس قريبًا منا، لما وجدنا في الكنيسة رعاة ومعلمين (أع28:20) وهذا يؤكده القديس يوحنا في تفسيره للإصحاح السادس من إنجيل يوحنا، والآية 41 (أن الفارق بين التعليم في العهد القديم والتعليم في العهد الجديد، يكمن في أن التعليم في العهد الأول كان بشريًا يعلمه الناس، بينما التعليم في العهد الثانى كان من ابن الله وروح الله). وعن دور الخدام في توصيل رسالة الخلاص فيقول: [ إن دورنا نحن هو دور الخدمة، وأما الذي يقدس ويحول فهو الروح القدس ].
هـ - لو لم يوجد الروح القدس، لما استطعنا أن نجيب على هذا الآب الوقور (يقصد أسقف إنطاكية فلافيانوس الذي كان يصلى القداس ويوحنا يعظ) ونقول (ومع روحك أيضًا). وبهذه الصلاة نثق أن كل شئ يحدث حول المائدة المقدسة هو من الروح القدس.
و ـ بدون الروح القدس لا توجد الكنيسة، وهو هنا يلتقى مع الفكر الآبائى القديم على لسان إيريناؤس: [ حيث الكنيسة فهناك الروح القدس، وحيث الروح فهناك الكنيسة ] ونذكر أن القديس غريغوريوس النيسى قد ذكر أن الآية (ليأتِ ملكوتك) في الصلاة الربانية قد وردت في أحد النصوص (ليأت الروح القدس علينا ويطهرنا).
ويختم ذهبى الفم العظة بالحديث عن المجىء الثانى والدينونة، حين يجىء الرب بمجد عظيم. وهكذا نرى أن التدبير الإلهى للخلاص عند ذهبى الفم، هو رؤية شاملة لعمل الله في المسيح بالروح القدس.
 والثالوث هنا كما عند الآباء الكبار ليس هو مناقشة نظرية عقيمة[29]. وقد ورد في إحدى أقوال الآباء الشيوخ المعروفة بالأبوفثجماتا أن أفاغريوس البنطى قد سأل شيخًا من شيوخ البرية في مصر:
 [ لماذا لا نرى هذا النسك والتجرد والاعتكاف عند اليونانيين؟. فرد عليه الشيخ: لأن اليونانيين يضيعون كل وقتهم في حب المعارك الكلامية ].
 والتعاليم اللاهوتية هى واقع حى، وتاريخ خلاص، وسعادة الإنسان وبنيان الكنيسة واكتشاف للمواهب. وفي عظة أخرى على سفر أيوب يعتبر أن التدبير فضيلة، ومن أهم استعمالات بطريرك القسطنطينية لتعبير (الإيكونوميا)، جاء في العظة الأربعة والأربعين على إنجيل معلمنا متى[30] وفي تفسيره لمثل الزارع فيقول: [ خرج الزارع. من أين خرج الكائن في كل مكان، والمالئ الكل وكيف خرج؟ لم يخرج بالطبع بشكل مادى أو مكانى. ولكن خرج في علاقته بنا وبسر تدبيره من أجلنا ومن أجل خلاصنا، وذلك بأن جاء بالقرب منا بالجسد، ولذلك لأننا لم نستطع أن نذهب إليه بسبب خطايانا فجاء هو، وما هو هدف مجيئه؟ وهل جاء ليدمر الأرض أو ليعاقب الزارع. بالتأكيد لا، لكنه جاء لكى يفلح النفوس ويغرس فيها كلام التقوى والبذار هنا يسميها الرب التعليم والأرض هى النفوس والزارع هو هو نفسه رب المجد ].
 وهنا نحن أمام بركة من بركات الخلاص وهى أن الرب يلقى كلمته في تربة نفوسنا، ومتى كانت التربة مستعدة، فإن الثمر هو التعمق أكثر في سر انتعاش النفس بالكلمة، وهنا درس عملى في كيفية اكتشاف الغنى الروحى والكيانى لكلمة الله وذلك أن الكلمة تسقط على تربة المعمد، فتجد صدى لها في الداخل، ولهذا لا يصح لاهوتيًا أن نضع المعمد على نفس الدرجة من انتعاش النفس بالكلمة. وهنا درس عملى في كيفية اكتشاف الغنى الروحى والكيانى لكلمة الله. ذلك أن الكلمة تسقط على تربة المعمد فتجد صدى لها في الداخل، ولهذا لا يصح لاهوتيًا أن نضع المعمد على نفس الدرجة من جهة احتياجه للتبشير مع غير المؤمن، كما تفعل بعض الطوائف، وذلك لأنه لا يملك إلاّ بركة الخلق، بينما المعمد حصل على طاقات الخلاص حتى ولو يجهلها أولاً يستثمرها وهذه الطاقات هى نعمة المعمودية، وهنا يحدث اختبار روحى عميق وفرح قلبى أكيد، ويستعمل الإيكونوميا أيضًا في الدلالة على الحكمة والوضوح في معالجة الأمور: [ ليس بالنفاق بل بالتدبير الحسن ]، وهذا التدبير الحسن يقودنا إلى أن نعترف برؤية ذهبى الفم للتدبير اليومى لحياة المؤمن من جهة علاقته بالكتب المقدسة والكنيسة والإفخارستيا والآخرين، ومكانة العمل في الحياة والتعامل مع السلطات، وكل هذه تشكل التجسيد الفعلى للتدبير الخلاصى في حياة المؤمن الساجد والتائب.

الاب الدكتور / اثناسيوس اسحق حنين 
patristiccenter.org
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- أنظر سلسلة الآباء الناطقين باليونانية ج14 والعظة 56 والفقرة 3 على يو13:16.
2- الله مخلّص، الفداء في إيمان الكنيسة الأولى، وقد صدر في باريس في ترجمة فرنسية عام 1989 من دار سيرف للنشر.
3- المرجع السابق.
4 -ونلفت النظر إلى أن هذا النص الهام "أن الله لا يمكن إدراكه" قد صدر في طبعة موثقة في السلسلة الآبائية المعروفة والتي تصدر في مدينة ليون بفرنسا وتسمى المصادر المسيحية، باريس، سيرف 1970) وهى تصدر النص اليونانى مع ترجمة فرنسية وقد قام بترجمة النص إلى اللغة العربية الأب جورج خوام البولسى وأصدرته منشورات المكتبة البولسية ببيروت لبنان بالتعاون مع رابطة معاهد اللاهوت في الشرق الأوسط عام 1992.
5- المرجع السابق ص 56.
6 -المرجع السابق ص 59.
7- المرجع السابق ص 60.
8- المرجع السابق ص 64.
9- أنظر البحث لثمين الذي كتبه البروفيسور بابابترو (هل اللاهوت علم؟ أثينا بدون تاريخ إصدار) وفي هذا الكتاب ينتقد بشدة اللاهوت المدرسى الذي لا يخشع أمام السر الإلهى ويقول (أن بداية العلم اللاهوتى الصحيح هو انتقال الإنسان من الرؤية الخرافية للاهوت إلى الرؤية العلمية للتدبير الإلهى وهنا تصير كل رؤية علمية حقيقية لاهوتًا. 
10-  أنظر: دراسات في آباء الكنيسة إعداد أحد رهبان برية القديس مكاريوس، الناشر مجلة مرقس عام 1999 ص 410.
11-  أنظر كتاب " الروح القدس في التراث الأرثوذكسى ص 8.
12- قام بإلقائها في إنطاكية في 25 ديسمبر عام 386م. وردت هذه العظة في كتاب صدر في أثينا في سلسلة صوت آبائنا ويضم الكتاب عظات لذهبى الفم على حقائق التدبير الإلهى إصدار الأبوستوليكى دياكونيا 1997 ص 25، ويجب ملاحظة أن عنوان الكتاب هو من وضع الناشر للعظات ايفانجيلوس كاراكوفونيس.
13- أى التجلى الروحى من خلال التناول.
14- نفس المرجع السابق، ص27.
15- الآباء الناطقون باليونانية ج13 عظة 47.
16- نفس المرجع، ص33.
17- ماهية اللاهوت، أثينا بدون تاريخ نشر.
18- المرجع السابق، ص40.
19- المرجع السابق، ص96.
20- المرجع السابق، ص97.
21 -المرجع السابق، ص105.
22- المرجع السابق، ص116.
23 -المرجع السابق، ص134.
24- المرجع السابق، ص136.
25- المرجع السابق، ص139.
26- المرجع السابق، ص152.
27- المرجع السابق، ص152.
28- نشرت في الباترولوجيا مينى (مجلد 50 ص453ـ470) ونشرت ترجمتها لليونانية الحديثة في ضمن مجموعة عظات التدبير الإلهى في المرجع السابق ذكره.
29- وإيفاغريوس البنطى والفيلسوف حينما جاء إلى البرية القبطية وخالط التراث القبطى قال: (الفهم موقعه القلب والفكر موقعه الرأس).
30- مجلد 10 من نفس السلسلة ص768.