كتاب تجسد الكلمة


تَجَسُّد الكَلِمَة 

للقديس البابا أثناسيوس الرسوليّ 
بطريرك الإسكندرية العشرين
ترجمه عن اليونانية وتعليقات 
الاستاذ الدكتور/  جوزيف موريس فلتس 

مقدمة 

الآباء هم أعضاء حيّة في الكنيسة جسد المسيح. والكنيسة عاشت وتعيش تعاليمهم الأرثوذكسية الأصيلة مقتفية آثار تقواهم، إذ أنها رأت فيهم ـ بوعيها العميق ـ استمرارًا وامتدادًا للرسل. فقد سلّم الرسل الاثنا عشر خدمتهم الشخصية ـ وهي التعليم ـ لآباء الكنيسة، كما يقول القديس إيريناؤس. وهذا ما دعا كنيستنا المُلْهَمَة بالروح أن تُلَقِّب أبًا ومعلّمًا عظيمًا فيها، وهو القديس أثناسيوس، بلقب "الرسولي"، أي أنه امتداد للرسل في القول والفعل، فترتل له قائلة: " أيها الراعى الأمين الذي لقطيع المسيح، البطريرك المُكَرَّم أثناسيوس رئيس الكهنة، الذي بتعاليمه المقدسة مَلأْت العالم كله، الذي صار رسولاً مثل التلاميذ في القول والفعل". 

ولقد تنبهت الكنيسة كلها ـ ومنذ وقت مبكر جدًا ـ لقيمة إسهامات القديس أثناسيوس اللاهوتية بكتاباته وتعاليمه، في تحديد وصياغة مضمون الإيمان والمحافظة على ذلك التقليد الرسولى الذي استلمته الكنيسة من تلاميذ الرب نفسه، بل ولترتيبه " للمعرفة الإلهية " كما يذكر القديس كيرلس عنه. فلهذا دعته بلسان القديس غريغوريوس اللاهوتي "بعمود الكنيسة". 

لقد كانت محبة القديس أثناسيوس للسيد المسيح، ويقينه من صلاح الله ومحبته للبشر، هما المفتاح ليس لكل حياة هذا الأب والمعلّم فقط، بل لكل كتاباته. ولهذا نجد أن شخص السيد المسيح الكلمة المتجسد، يحتل مكان الصدارة في كل تعاليمه، ومعرفته والإيمان به هو " أسمى من أى شئ آخر على الاطلاق ". 

فالواقع كان هدف كتابات القديس أثناسيوس إثبات ألوهية السيد المسيح، الكلمة المتجسد. فهو الذي خُلق به العالم وبه جُددت الخليقة كلها " وهكذا يستطيع المرء أن يدرك أن تجديد الخليقة قد تم بواسطة الكلمة الذي هو خالق الخليقة في البدء"
. وفي إيضاحه لهذه الحقيقة، يشرح لماذا اتخذ الكلمة الأزلى طبيعتنا البشرية، ثم أخذ يعدّد أهداف التجسد شارحًا إياها بأسلوب أخضع فيه العقل للإيمان. فقد كان اهتمامه الأساسى هو التعبير عن التقليد الكنسى الذي استلمه، وليس الخوض في أمور ميتافيزيقية افتراضية. لقد كان شاغله الأول هو النمو الروحى للإنسان المسيحى، وتوضيح أن معرفة الله، تأتى فقط من خلال الإيمان بالمسيح، لهذا كان يركّز في تعاليمه على عقيدة تجسد ابن الله والفداء الذي قدّمه للبشرية، وهذا ـ حسب تعاليم القديس أثناسيوس ـ يستلزم الإيمان السليم بألوهية السيد المسيح وإنسانيته معًا، وذلك في مقابل الفكر الآريوسى الخاطئ الذي كان يحاول أن يلغى حقيقة الفداء وأهميته. فلو لم يكن السيد المسيح هو الله بالحقيقة ـ كما أن الآب هو الله بالحقيقة (بسبب وحدتهما في الجوهر ÑmooÚsioj) ـ لما كان في الإمكان أن يفدى البشرية من الموت والفساد. ولو لم يكن الابن هو الإله الذي تجسد، لما كان ممكنًا أن يؤلّهنا نحن عندما اتحد بطبيعتنا، كما يقول القديس أثناسيوس " لأن كلمة الله صار إنسانًا لكى يؤلّهنا نحن". 
ومن الجدير بالذكر، أن مقالة " تجسد الكلمة " تقدم ردًا حاسمًا في مواجهة الهرطقة الآريوسية، بل نستطيع أن نقول إن القديس أثناسيوس لم يُعطِ جوابًا أكثر وضوحًا ضد الآريوسية مثلما أعطى في هذا المقال. 
فالقديس أثناسيوس يعلّم عن كلمة الله (LÒgoj) في ملء لاهوته، وأيضًا يقدمه كمخلّص العالم، وذلك فقط وحصرًا لأنه الله، أى أنه هو مخلّص العالم بسبب ألوهيته. بينما علّم آريوس بأن الآب هو مصدر وجود الابن، ولذلك فهو سابق عليه، وأن الابن له بداية زمنية والآب وحده هو بلا بداية. لقد وصل آريوس بتعاليمه الخاطئة إلى القول، بأن الابن من طبيعة مختلفة عن طبيعة الآب، وبالتالى قال إن الابن مخلوق وذلك لأنه فهم آية سفر الأمثال " الرب خلقنى أول أعماله " (22:8)، فهمًا خاطئًا. 

تُقدّم مقالة " تَجَسُّد الكَلِمَة " في مواجهة مثل هذه البدعة شرحًا واضحًا لتعاليم الكنيسة اللاهوتية، فأولاً يأتى الإعلان الإلهى بتجسُّد الله الكَلِمَة، وفقط بعد ذلك يمكننا أن نحاول صياغة إيماننا بالله مثلث الأقانيم أو إيماننا بالله في ذاته. فليست هناك تعاليم مسيحية عن الله، لا تبدأ بالتعليمٌ عن المسيح يسوع حسب الإنجيل وخبرة الكنيسة، وإلاّ سيكون لدينا مناقشات وتعاليمًا عن الله مثل تعاليم الفلاسفة أو غير المسيحيين. 

فمَن يُقدّم تعاليم مسيحية لاهوتية وكنسيّة، ينبغى أن يبدأ بالحديث عن تَجَسُّد الكَلِمَة الابن الوحيد، قبل الخوض في الحديث عن ميلاد الابن أزليًا من الآب. 

وبفضل القديس أثناسيوس، أصبح هذا التعليم، هو منهج الكنيسة وتقليدها من القرن الرابع فصاعدًا. فالتجسد الإلهى بالنسبة للقديس أثناسيوس يعنى ـ وقبل كل شئ ـ أن الله قد أتى بذاته إلى عالمنا، كى يعلّمنا كل ما يمكن أن نفهمه عنه وعن خلاصه الإلهى. وليس العقل هو الذي يجعل الكلام عن الله (qeologˆa) أو ما يُسمى علم اللاهوت المسيحى، أمرًا ممكنًا، بل الذي يجعل هذا ممكنًا هو إعلان الله عن نفسه. 

فيذكر ق. أثناسيوس: " لهذا فإن محب البشر ومخلّص الجميع كلمة الله أخذ لنفسه جسدًا ومشى بين الناس، وجذب أحاسيس كل البشر نحو نفسه". ثم يتابع الشرح فيقول: " فطالما إن فكر البشر قد انحط كليةً إلى الأمور الحسيّة فالكلمة أيضًا تنازل وأخفى نفسه بظهوره في الجسد، لكى يجذب البشر إلى نفسه، كإنسان ويوجّه إحساساتهم نحوه ". 

وهكذا فإن التجسد الإلهى يعنى بالنسبة للقديس أثناسيوس إعلانًا جديدًا عن الله، واختبارًا حسيًا لكل المؤمنين به. ومن خلال روايات الإنجيل يمكن أن نبصر كيف يتصرف الكلمة المتجسد، فيمكن للإنسان أن يلمسه، أى يلمس جسده، ويمكن أن يسمع صوت الحق الأبدى، ويمكن أن ينجذب إليه المرء عندما يراه، ويتعامل معه، فينصت إلى رسالته وبالإيمان يقبله ربًا ومخلّصًا، إذ هو الإله المتجسد. وحقيقة التجسد تُعاش في الكنيسة، فالكنيسة تتيح مجالاً أمام المؤمنين، ليعيشوا حقيقة الإله المتجسد، كما هى معلنة وواضحة في الإنجيل. لهذا فإن القديس أثناسيوس هو أب ليس للتعليم عن ماهية سرّ التجسد الإلهى فقط، بل أيضًا للتعليم عن ماهية الكنيسة إذ أن التعليم عن سرّ التجسُّد الإلهى هو في الوقت نفسه تعليم عن الكنيسة. فالكنيسة بالنسبة له تحقق في كل الأوقات وكل الأزمنة، الإعلان العملى والحسى، إعلان الكلمة المتجسد. 

كما أن مقالة " تَجَسُّد الكَلِمَة " تشهد بأن القديس أثناسيوس قد واصل بحق، تقليد الكنيسة الذي استلمه وأيضًا تعاليمها الآبائية، عن خلاص الإنسان. فعندما يتحدّث عن سقوط الإنسان وفدائه، فإنه يتبع تعاليم القديس بولس الرسول بخصوص هذا الموضوع، وأيضًا ما علّم به الآباء الذين سبقوه، وعلى الأخص القديس ايريناؤس. فبداية المقالة ونهايتها تشهدان أن القديس أثناسيوس كان لا يُعلّم إلاّ ما تَعلّمه من الآباء، وأن تعليم الآباء نفسه يفسر الكتاب المقدس بدرجة واضحة للغاية، تجعل أى تفسير آخر هو تفسير غريب ليس له أية أهمية. 
تحمل هذه المقالة في بعض المخطوطات عنوان " عن تَجَسُّد الرّب"، أو " عن تَجَسُّد كَلِمَة الله ". وبالتالى فهى تتحدّث عمّا يدعوه القديس أثناسيوس نفسه " ظهوره الإلهى بيننا " ذلك الذي " يَسخَر منه اليهود ويهزأ به الأمم ". 
وتوضح المقالة ما علّم به القديس أثناسيوس عن الحقائق الإيمانية التالية: 

الخلق: 

الله خالق وصالح، وبكلمته يسوع المسيح ربنا، خَلَق الخليقة كلها من العدم. ولأنه بالحرى هو مصدر الصلاح، خلق الإنسان معطيًا إياه نعمة خلقته على صورة الله ومثاله، مانحًا إياه الحياة الأبدية، إن أبقى الله في معرفته ولم يخالف الوصية. 

السقوط ونتائجه: 

السقوط هو نتيجة فعل حُرّ للإنسان ـ دون سائر الخليقة ـ عندما خالف الوصية، ومن عواقبه الموت والفساد الذي عمّ البشرية كلها وساد عليها سيادة شرعية. فمع أن البشر قد خُلقوا ليحيوا في سعادة، إلاّ أنهم انتهوا إلى حالة التعاسة، لأنهم أهملوا كل ما هو صالح وانجذبوا إلى كل ما هو مادى. وتنكروا لله ولمحبته، وأسلموا أنفسهم لشهواتهم الذاتية. وهكذا فبابتعادهم عن الله وصلوا إلى الفناء، إذ أن غياب الشركة مع الله تعنى الموت المطلق. 

ويصف القديس أثناسيوس الحالة التي وصلت إليها البشرية بعد السقوط، والتي من أجلها نزل كلمة الله إلى عالمنا فيقول: إن الكلمة " إذ رأى الجنس (البشري) العاقل يهلك، وأن الموت يملك عليهم بالفناء، وإذ رأى أيضًا أن عقوبة التعدي (الموت) قد خلّدت الفناء فينا، وأنه من غير اللائق أن يُبطل الناموس قبل أن ينفذ، وإذ رأى أيضًا عدم اللياقة فيما هو حادث بالفعل؛ وهو أن الخليقة التي خلقها هو بنفسه، قد صارت في طريقها إلى الفناء، وإذ رأى في الوقت نفسه شر البشر المفرط، وأنهم يتزايدون فيه شيئًا فشيئًا إلى درجة لا تطاق وضد أنفسهم، وإذ رأى أن كل البشر تحت سلطان الموت، فإنه رحم جنسنا وأشفق على ضعفنا وتراءف على فسادنا". 

الخلق والتَجَسُّد: 

لقد كان في علم الله السابق إمكانية سقوط الإنسان ونتائجه، كذلك أيضًا عملية التَجَسُّد وحتميتها. فلقد خلق الله العالم بالكلمة وأيضًا لابد أن يخلّصه بالكلمة، الذي به خلق العالم أولاً، وذلك لأن صفات الله التي لا يمكن أن تتغير أو تتبدل، لا تسمح بأن يؤخذ قرار التَجَسُّد والخلاص بعد أن يكون الإنسان قد سقط. 

التَجَسُّد والتدبير الإلهى للخلاص: 

إن نتائج السقوط هى موت الإنسان الذي ابتعد عن الله مصدر الحياة، وفقده لكل معرفة عن الله. لهذا كان لائقًا بصلاح الله أن يتدّخل لإصلاح ما أفسده الإنسان " فلأجل قضيتنا تَجَسَد كي يخلّصنا، وبسبب محبته للبشر قَبِل أن يتأنس ويظهر في جسد بشرى ". 

لقد صار الموت حتمية والتجسد ضرورة: 

فلم يكن ممكنًا لله أن يتراجع عن حُكمِه على الإنسان بالموت إن أخطأ، ولم يكن أيضًا ممكنًا أن يُهمِل الله ولا يبالى بهلاك البشرية وفنائها. فعدم الاهتمام كان سيُظهر الله وكأنه ليس صالحًا، والتراجع كان سَيُبيّن وكأن طبيعة الله غير ثابتة. 

فإن كان الأمر هكذا، فقد صار الموت حتميًا، وتجسد كلمة الله وحده ضرورة. 

وهنا يوضح القديس أثناسيوس لماذا كان لائقًا أن يتخذ الكلمة جسدًا بشريًا كأداة ليخلّص بها الإنسان، ويستبعد أى وسيلة أو طريق آخر، يمكن أن تكون وسيلة لفداء الإنسان وخلاصه: 

فأولاً: يوضح عدم كفاية التوبة كى يعود الإنسان إلى عدم الفساد والخلود فيقول: " التوبة تعجز عن حفظ أمانة الله، لأنه لن يكون الله صادقًا إن لم يظل الإنسان في قبضة الموت، (لأنه تَعَدى فحُكم عليه بالموت كقول الله الصادق). ولا تَقْدِر التوبة أن تُغَيّر طبيعة الإنسان، بل كل ما تستطيعه هو أن تمنعهم عن أعمال الخطية ". 

إن مأساة سقوط الإنسان تَكْمُن في أن ما فعله لم يكن مجرّد عمل خاطئ، بل كان بالحرى عملاً خاطئًا تبعه الموت والفساد، لأنه وكما يقول القديس أثناسيوس: " لو كان تعدى الإنسان مجرد عمل خاطئ ولم يتبعه فساد؛ لكانت التوبة كافية ". إن ما جعل التَجَسُّد ضرورة؛ هو أنه بعدما حدث التعدى على وصية الله " تورط البشر في ذلك الفساد الذي هو طبيعتهم، ونُزِعَت منهم نعمة مماثلة صورة الله ". هذه النعمة التي كانت تمكنهم من أن يَبْقوا في شركة الحياة وعدم الفساد. 

ثانيًا: في موضع آخر يُجيب القديس أثناسيوس على الذين لا يرون ضرورة لتَجَسُّد الله الكلمة، بل ويهزأون من ظهوره الإلهى بيننا، ويقولون: لماذا لم يُتمم الله أمر خلاص البشرية بإصدار أمر بدون أن يتخذ كلمته جسدًا، أى بنفس الطريقة التي أَوجَدَ بها البشرية؟ على هؤلاء يَرُّد القديس أثناسيوس قائلاً: " في البدء لم يكن شئ موجودًا بالمرّة، فكل ما كان مطلوبًا هو مجرّد نطق مع إرادة (إلهية) لإتمام الخلق، ولكن بعد أن خلق الإنسان وصار موجودًا استدعت الضرورة علاج مـا هو موجود، وليس مـا هو غيــر موجود ". ثم يستطرد قائلاً: " لأن الأشياء غير الموجودة لم تكن هى المحتاجة للخلاص (للتجسد)، بل كان يكفيها مجرد كلمة أو صدور أمر، ولكن الإنسان (المخلوق) الموجود فعلاً والمنحدر إلى الفساد، والهلاك هو المحتاج إلى أن يأتى الكلمة ". 

ثالثًا: يشير القديس أثناسيوس إلى أن لا البشر ولا الملائكة، كانوا قادرين على تجديد خلقة الإنسان على مثال الصورة، وذلك لأن الإنسان هو مجرد مخلوق على مثال تلك الصورة، وليس هو الصورة نفسها، كما أن الملائكة ليسوا هم صورة الله. 

رابعًا: وأخيرًا يوضّح القديس أثناسيوس أنه كى يصير كلمة الله معروفًا مرة أخرى بين البشر وبه يُعرف الآب، لم يكن التناسق بين أعمال الخليقة كافيًا، ولم تَعُد الخليقة وسيلة مضمونة بعد فيقول: " لو كانت الخليقة كافية، لما حدثت كل هذه الشرور الفظيعة، لأن الخليقة كانت موجودة بالفعل، ومع ذلك كان البشر يسقطون في نفس الضلالة عن الله ". لقد سبق وأن أعطى الله البشر إمكانية أن يعرفوه عن طريق أعمال الخليقة. أما الآن وبعد السقوط، فإن " هذه الوسيلة لم تَعُد مضمونة وبالتأكيد هى غير مضمونة لأن البشر أهملوها سابقًا، بل إنهم ما عادوا يرفعون أعينهم إلى فوق بل صاروا يشخصون إلى أسفل ". 

وبعد أن أوضح القديس أثناسيوس عجز كل من هذه الوسائل عن تحقيق الخلاص للبشرية، يكشف عن قدرة الكلمة وحده ـ الذي ظهر في الجسد ـ على إتمام هذا الفداء العظيم فيقول: " إنه لم يكن ممكنًا أن يُحوَّل الفاسد إلى عدم فساد إلاّ المخلّص نفسه، الذي خلق منذ البدء كل شئ من العدم، ولم يكن ممكنًا أن يعيد خَلقْ البشر، ليكونوا على صورة الله إلاّ الذي هو صورة الآب، ولم يكن ممكنًا أن يجعل الإنسانَ المائت غير مائت إلاّ ربنا يسوع المسيح الذي هو الحياة ذاتها. ولم يكن ممكنًا أن يُعلّم البشر عن الآب، ويقضى على عبادة الأوثان إلاّ الكلمة الذي يضبط الأشياء، وهو وحده الابن الوحيد الحقيقى ". 

وفي عبارات رائعة يعطى مفهوم الفداء المعنى العميق حسب ما تُعلّم به الكنيسة الشرقية فيقول: " ولما كان من الواجب وفاء الدين المستحق على الجميع، إذ كان الجميع مستحقين الموت فلأجل هذا الغرض جاء المسيح بيننا. وبعدما قدّم براهين كثيرة على ألوهيته بواسطة أعماله في الجسد، فإنه قدّم ذبيحته عن الجميع، فأسلَم هيكله للموت عوضًا عن الجميع، أولاً: لكى يبرّرهم ويحرّرهم من المعصية الأولى، ثانيًا: لكى يثبت أنه أقوى من الموت، مُظهرًا جَسَدَه الخاص أنه عديم الفساد، وأنه باكورة لقيامة الجميع". 

لمَن كتب القديس أثناسيوس مقالة تجسد الكلمة؟ 

مقالة " تَجَسُّد الكَلِمَة " هى الجزء الثانى من كتاب كتبه القديس أثناسيوس ليكمل به الجزء الأول الذي يحمل عنوان " ضد الوثنيين ". المقالتان دفاعيتان كبيرتان ورد ذكرهما معًا في الكتابات الآبائية، فعلى سبيل المثــال يذكر القديس جيروم (ق4) أنهما كتاب واحد من فصلين“ Adversus genetes Libri dou “ 

وفي الواقع، أنه رغم أن كلتا المقالتين تحمل عنوانًا مختلفًا، إلاّ أنه توجد علاقة بين محتوى هاتين المقالتين. ويشير القديس أثناسيوس نفسه إلى هذه العلاقة في بداية هذه المقالة الثانية عندما يقول " اكتفينا بما أوضحناه في بحثنا السابق مع أنه قليل من كثير، ببيان ضلال الأمم في عبادة الأوثان وخرافاتها ... وأيضًا بعد أن أشرنا قليلاً لبعض الأمور عن ألوهية كلمة الآب وتدبيره لكل الأشياء "، كما يقول أيضًا لمَن يكتب له: " يلزم أن تستحضر للذاكرة كل ما سبق أن قيل (يقصد المقالة ضد الوثنيين)، حتى تستطيع أن تدرك سبب ظهور كلمة الآب، كُلىَّ العظمة والرفعة في الجسد ". 

يُوجّه القديس أثناسيوس كلامه في مقالة " تَجَسُّد الكَلِمَة " لقارئ ما لا يذكر اسمه بالتحديد بل يدعوه " بالطوباوى "، و " بالمحّب للمسيح " ويصفه بأن لديه غِيرة للدراسة والتعلّم. ويخصه بالتعاليم التي تضمنتها الفصول من (1ـ32)، لذا يدعوه في بداية الفصل الأول قائلاً:" تعال ـ أيها الطوباوى ـ يا محبًا للمسيح بالحقيقة، لنتتبع الإيمان الحقيقى، ونتحدّث عن كل ما يتعلّق بتأنس الكلمة، ونبيّن كل ما يختص بظهوره الإلهى بيننا". غير أن الظهور الإلهى أو التَجَسُّد الإلهى كان موضوع سخرية واستهزاء لكل من اليهود واليونانيين (الأمميين)، لذا نجد أن القديس أثناسيوس يخصص الفصول (33ـ40) لدحض عدم إيمان اليهود بالمسيح كلمة الله الذي قد جاء في الجسد. والفصول (41ـ55) للرد على دعاوى اليونانيين ـ وهم مَن كان يدعوهم القديس أثناسيوس " غير المؤمنين "ـ بعدم إمكانية تَجَسُّد كلمة الله باعتباره عملاً غير لائق بالله. 

وربما توقع القديس أثناسيوس أن يقرأ كتابه هذا ليس غير المسيحيين فقط، بل والمسيحيون أيضًا، إذ يقول في مطلع الفصل25 [ وهذا يكفى للرّد على الذين هم من خارج الذين يحشدون المجادلات ضدنا، ولكن لو أراد أحد من شعبنا أن يسأل، لا حبًا في الجدل، بل حبًا في التعليم..إلخ ]. 

لذلك يمكننا القول إن هذا العمل لم يوجهه القديس أثناسيوس لأحد بالتحديد، مثلما فعل في رسائله اللاحقة الموجهة إلى أشخاص بعينهم مثل سرابيون ومكسيموس وابكتيتوس وأدلفيوس وغيرهم، بل كان موجهًا لجمهور من الشعب داخل الكنيسة وخارجها. وفي توجيه مقاله إلى كل من المسيحيين واليهود والوثنيين، لم يكن القديس أثناسيوس هو أول مَن وسّع نطاق الدفاع المسيحى التقليدى وتفنيد الوثنية، إذ إنه بعد مرسوم التسامح الصادر عام 313م والمعروف بمرسوم ميلانو، كانت الغالبية العظمى من شعب الإمبراطورية الرومانية مازالت تنتمى للوثنية. فكتب أوسابيوس أسقف قيصرية (260ـ339م) العديد من الكتب، بهدف أن يربح هذا الشعب. ومن أشهر هذه الكتب " التمهيد للإنجيل " و " برهان الإنجيل "، وكان الغرض من هذه الأعمال أن يقرأها مَن قد اعتنق المسيحية. وكان تأثير أوسابيوس على القديس أثناسيوس واضحًا وذلك في تفاصيل معينة، وأيضًا في طريقة مناقشة وعرض الأفكار. لكن الاختلاف في الرأى بينهما كان عنيفًا حول المسائل المتعلّقة بدور الإمبراطور في الكنيسة وأيضًا استقامة آراء آريوس، وتعاليم وقرارات مجمع نيقية. فلقد كان يوسابيوس صديقًا للامبراطور ومؤيدًا لتدخله في الأمور الكنسية ومناصرًا لآريوس في تعاليمه، ورفضه لتعبير هوموسيوس. بل إنه لم يوقع على قرارات مجمع نيقية إلاّ بأمر الإمبراطور نفسه. 

لذلك يرى بعض المهتمين بالدراسات الآبائية أن القديس أثناسيوس قد تَعَمَّد محاكاة أسلوب كتابات يوسابيوس الواسعة الانتشار، وخصوصًا كتاب " الظهور الإلهى "الذي عرض فيه يوسابيوس ـ وبشكل دفاعى ـ عمل كلمة الله قبل التَجَسُّد حسب فكره وتعاليمه. ولهذا أراد القديس أثناسيوس من خلال مقاله هذا عرض التعليم الأرثوذكسى عن شخص السيد المسيح ومفهوم الفداء. 

متى كتب القديس أثناسيوس مقاله تَجَسُّد الكَلِمَة؟ 

يعتبر معظم العلماء تقريبًا أن كتاب " ضد الوثنيين " و " تجسد الكلمة " هو أول ما كتبه القديس أثناسيوس، غير أن الآراء تختلف حول زمن كتابته. فبسبب عدم وجود أى ذكر فيه للهرطقة الآريوسية تلك التي دحضها البابا أثناسيوس الرسولى بكل قوة في كتاباته العقيدية الأخرى، فقد افترض الكثيرون أن هذا الكتاب قد كُتب قبل عام 323م. غير أنه توجد شواهد كثيرة تناهض هذا الرأى منها: 

أولاً: أن القديس أثناسيوس يشير في كتابه هذا إلى " أولئك الذين يريدون أن يُقسَّموا الكنيسة ". وقد تشير هذه العبارة إلى الانشقاق الذي حدث قبل مجمع نيقية والذي تَزَعّمه ميليتوس مطران أسيوط، إلاّ أن القديس أثناسيوس كان يستخدم هذه العبارة دائمًا في كتاباته الأخرى مشيرًا بها إلى الآريوسية. وترتبط هذه العبارة في مقالة " تَجَسُّد الكَلِمَة " بمفهوم جسد المسيح غير المنقسم، وهو موضوع نجده فقط في الرسائل الفصحيّة التي كتبت قبل وبعد نفى البابا أثناسيــوس لأول مــرّة وذلك في عـام (335م). 

ثانيًا: لقد قَصَدَ القديس أثناسيوس أن تكون طريقة الكتابة ومناقشة الأفكار في كتابه " ضد الوثنيين " و " تَجَسُّد الكَلِمَة "، مشابه لكتاب الثيوفانيا الذي كتبه يوسابيوس أسقف قيصرية، كما سبق القول. وكان يوسابيوس قد كتب كتابه هذا قبل عام 335م، وبعد أن كان الإمبراطور قسطنطين قد انفرد بالامبراطورية في عام 323م. 

وأخيرًا فهناك عبارة ذكرها القديس أثناسيوس في كتابه " ضد الوثنيين " و " تَجَسُّد الكَلِمَة "، تدل على أن هذه المقالة قد كُتِبَت قبل وفاة قسطنطين في عام 337م، وكان قسطنطين هو آخر إمبراطور صدر الحكم رسميًا باعتباره إلهًا. 

ثالثًا: يَذْكُر القديس أثناسيوس في بداية الجزء الأول من كتابه هذا، أنه لم يكن بين يديه " في الوقت الحاضر مؤلفات معلّمينا لنبعث إليك كتابة ما تعلّمناه منهم عن الإيمان "[. يقود هذا القول إلى التساؤل: إن كان القديس أثناسيوس قد كَتَبَ هذه المقالة وهو شماس للبابا الكسندروس، فكيف لم يكن متاحًا له إمكانية الوصول لمثل هذه الكتب الهامة وهو الشماس الواعد في الكنيسة؟ 

الأرجح أنه يكون قد كَتَبَ هذه المقالة وهو بطريرك وفي فترة نفيه الأول ما بين عامى 335 إلى 337م، وكان النفى هو السبب في عدم توافر هذه المؤلفات بين يديه عند كتابته لهذه المقالة وهو في المنفى. وهذا الرأى يؤيده ليس العالِم Tillemont في القرن 18، بل أيضًا كثيرون من العلماء المحدثين مثل  Schwartz ، Ch. Kannengiesser      . 

النص اليونانى في المخطوطات: 

بعد انتقال القديس أثناسيوس، حاول الكثيرون من أتباع الهراطقة استغلال اسمه وكتاباته لترويج أفكارهم المضلّلة. لهذا تداولت بعضًا من كتابات هذا الأب المعلّم في نسختين. النسخة الأصليّة التي تعكس فكره وتعاليمه السليمة، ونسخة أخرى أجريت عليها تعديلات بالزيادة أو الحذف لخدمة أفكار وتعاليم معيّنة. فبالإضافة إلى رسالته إلى ابكتيتوس، والتي تداولت منها نسخة أخرى محرّفة بواسطة الأبوليناريين. نجد أيضًا أن المخطوطات العديدة قد احتفظت لنا بنصين لمقاله عن " تَجَسُّد الكَلِمَة ". نص مطول وهو المشهور والثابت نَسَبُه للقديس أثناسيوس والذي أجريت عليه دراسات نقدية عديدة، وتمّ نَشرُه وترجمته لكثير من اللغات، ونص آخر مختصر وقصير، بَيّنتْ الأبحاث عدم أصالته، وأنه قد أضيفت له بعض الكلمات والعبارات، وحذفت الأخرى لتعضيد تعاليم لم يعلّم بها القديس أثناسيوس. 

النص اليونانى المنشور 

تمّ نشر النص المطوّل لمقالة " تَجَسُّد الكَلِمَة " في عدة طبعات نقدية، وأيضًا تم نشر دراسات وترجمات لها بعدة لغات منها اليونانية الحديثة والإنجليزية والفرنسية والألمانية؛ وذلك بالإضافة إلى النص المنشور في مجموعة باترولوجيا مينى مجلد 25، باللغة اليونانية. 

عن هذه الترجمة: 

دَبَرَ الله في صلاحه أن يكون عنوان الرسالة التي قدّمتُها وحصلتُ بها على درجة الدكتوراه من كلية اللاهوت بجامعة أثينا عام 1994، هو: 

القديس أثناسيـوس الرسولى 
مصـدر التعاليـم اللاهوتيـة للأسقف بولس البوشى أسقف مصر (ق13) (عن التَجَسُّد)

تطلّب الإعداد لهذه الدراسة القراءة الدقيقة لكتابات القديس أثناسيوس باللغة اليونانية، وخصوصًا ما كَتَبَه عن تَجَسُّد الكلمة، بالإضافة إلى الدراسات التي تمّت على هذه النصوص، وحول هذا الموضوع العميق سواء ما جاء باللغة اليونانية أو بلغات أخرى. 

ولأن الدراسة اعتمدت في ـ الجزء الثانى منها ـ على مقارنة النصوص وتحليلها لاهوتيًا ولغويًا، لإيضاح تأثير تعاليم القديس أثناسيوس اللاهوتية على تعاليم الأسقف بولس البوشى. فقد كان لزامًا علىَّ أن أنقل إلى اليونانية كل ما كَتَبهُ البوشى باللغة العربية عن التجسد. وهكذا انشغلت لفترة كافية بنص مقالة " تَجَسُّد الكلمة " للقديس أثناسيوس ومقالة " التَجَسُّد " للبوشى. 

كانت الترجمة التي قام بها الأب الموقر المتنيح القمص مرقس داود لمقالة " تَجَسُّد الكلمة " للقديس أثناسيوس عن الإنجليزية من ضمن النصوص التي قرأتها أثناء الدراسة. وكان قد سبق لى قراءتها قبل ذلك بسنوات عديدة، غير أن القراءة هذه المرّة كانت مختلفة، فقد كان أمامى النص الأصلى باللغة اليونانية، وليس النص الإنجليزى الذي صدر عام 1891م والذي تَرجَم عنه ـ وبكل إتقانٍ ودقة ـ المتنيح القمص مرقس داود هذه المقالة. 

والترجمة التي بين أيدينا هى محاولة أمينة لنقل النص اليونانى المحقق لهذه المقالة الهامة،إلى اللغة العربية. وقد دعّمنا الترجمة بهوامش وتعليقات على النص كنا قد سجلناها أثناء إعداد الرسالة. وقد احتفظنا بمقدّمات الفصول التي جاءت في ترجمة القمص مرقس داود، إذ هى ملخصات جيّدة لفصول المقالة، كما أبقينا أيضًا على تقسيم وترقيم الفقرات بدون تغيير. 


الفصل الأول 

مقدمة: موضوع هذه المقالة: اتضاع وتجسد الكلمة. التعليم عن الخلق بواسطة الكلمة. إتمام الآب خلاص العالم بواسطة ذاك (بالكلمة) الذي به خلقه أولاً. 

1ـ اكتفينا بما أوضحناه في بحثنا السابق، مع أنه قليل من كثير، ببيان ضلال الأمم في عبادة الأوثان وخرافاتها، وكيف كانت هذه الأوثان من البدء من اختراعات البشر، وكيف كانت شرور البشر هى الدافع لابتكارهم عبادة الأوثان. والآن، بعد أن أشرنا قليلاً لبعض الأمور عن ألوهية كلمة الآب وتدبيره لكل الأشياء وسلطانه، وكيف أن الآب الصالح يضبط كل الأشياء بالكلمة، وأن كل شيء به وفيه يحيا ويتحرك، تعال ـ أيها الطوباوي ـ يا محبًا للمسيح بالحقيقة ـ لنتتبع الإيمان الحقيقي ونتحدّث عن كل ما يتعلّق بتأنس الكلمة ونبيّن كل ما يختص بظهوره الإلهي بيننا، ذلك الذي يسخر منه اليهود ويهزأ به اليونانيون، أما نحن فنسجد له رغم ضعفه الظاهري وذلك حتى تتقوى وتزداد تقواك به (أى بالكلمة). 

2 ـ فكلما ازداد الاستهزاء من غير المؤمنين، بالكلمة، يُعطي هو شهادة أعظم عن ألوهيته، وكل ما يَظْن البشر أنه مستحيل، فإن الله يثبت أنه ممكن، وكل ما يسخر منه البشر، كأمر غير لائق، هذا يجعله بصلاحه لائقًا. وكل ما يهزأون به ـ وهم يدّعون الحكمة ـ على أنه أعمال بشريّة فهذا كله يُظهره بقوته أنه أعمال إلهية. وهكذا، فمن ناحية يُحَطِّم عن طريق الصليب ـ الذي يُظَن أنه ضعف ـ كل ضلالات عبادة الأوثان، ومن ناحية أخرى يُقنع بطريقة خفيّة أولئك الهازئين وغير المؤمنين، حتى يدركوا ألوهيته وسلطانه. 

3ـ ولإيضاح هذه الأمور فإنه يلزم أن تستحضر للذاكرة كل ما سبق أن قيل (في المقالة ضد الوثنيين) حتى تستطيع أن تدرك سبب ظهور كلمة الآب، كلّي العظمة والرفعة، في الجسد، ولكي لا تظن أن مخلّصنا كان محتاجًا بطبيعته أن يلبس جسدًا. بل لكونه بلا جسد بطبيعته، ولكونه هو الكلمة، فإنه بسبب صلاح أبيه ومحبته للبشر، ظهر لنا في جسد بشري لأجل خلاصنا. 

4ـ والآن إذ نشرح هذا الأمر، فإنه يليق بنا أن نبدأ أولاً بالحديث عن خلقة الكون كله وعن الله خالقه، وهكذا يستطيع المرء أن يُدرك أن تجديد الخليقة تمّ بواسطة الكلمة الذي هو خالق الخليقة في البدء. وهكذا يَتْضِح أنه ليس هناك تناقض في أن يتمم الآب خلاص العالم بالكلمة، الذي به خُلِقَ العالم. 

الفصل الثانى 

دحض بعض الآراء الخاطئة عن الخلق: (1) (مذهب الأبيكوريين) وهو القائل بأن الخلق تم مصادفة. لكن تعدد الأجسام والأجزاء يستلزم وجود قوة خالقة. (2) (مذهب الأفلاطونيين) وهو القائل بوجود المادة من قبل. وهذا يُخضع الله للحدود البشرية ويجعله لا خالقًا بل صانعًا ميكانيكيًا. (3) (مذهب الغنوسيين) وهو القائل بوجود خالق آخر، وهذا يشجبه الكتاب المقدس. 

1ـ لقد فهم الكثيرون موضوع خَلْق الكون وجميع الموجودات بطرق مختلفة، وعبّر كل منهم عن رأيه كما يحلو له، فقال بعضهم إن الأشياء كلها قد وُجِدَتْ من تلقاء ذاتها وبمجرد الصدفة، كالأبيكوريين، الذين في اعتمادهم على الأساطير يجزمون بأنه لا يوجد تدبير إلهي لكل الأشياء، وهم بهذا يناقضون ما هو واضح كل الوضوح. 

2ـ فلو أن كل الأشياء قد وُجدت من نفسها وبدون تدبير ـ حسب اعتقادهم ـ لكان معنى ذلك أن هذه الأشياء قد وُجدت في بساطة وتشابه وبدون اختلافات فيما بينها، وبالتالي كان يجب أن كل الأشياء تُمثَّل جسمًا واحدًا شمسًا أو قمرًا، وفي حالة البشر كان يجب أن يكون الجسم كله عينًا أو يدًا أو رجلاً، ولكن الواقع غير ذلك فنرى الشمس شيئًا والقمر شيئًا آخر والأرض شيئًا مختلفًا، وفي الأجساد البشرية نرى الرِجل شيئًا واليد شيئًا آخر والرأس شيئًا مختلفًا، فهذا الترتيب إذن يؤكد لنا أن هذه الأشياء لم توجد من نفسها بل يدل على أن هناك علّة سابقة عليها، ومن هذا الترتيب نستطيع أن ندرك الله الذي خلق كل الأشياء ودبّرها. 

3ـ آخرون أيضًا من بينهم مثلاً العظيم عند اليونانيين "أفلاطون"، علّموا أن الله خَلَقَ الكون من مادة موجودة سابقًا وغير مخلوقة، وكأن الله لم يكن يقدر أن يصنع شيئًا ما لم تكن مادته موجودة بالفعل، كالنجار ـ مثلاً ـ الذي يجب أن يتوافر لديه الخشب لكي يستطيع أن يعمل.. لكنهم لا يدركون أنهم بقولهم هذا ينسبون الضعف لله. لأنه إن لم يكن هو سبب وجود المادة، بل يصنع الموجودات من مادة موجودة سابقًا، فهذا معناه أنه ضعيف، طالما أنه لا يقدر أن يصنع شيئًا من المصنوعات بدون (توفّر) المادة. تمامًا مثل النجار فإنه يُعْتَبَر ضعيفًا لأنه لا يستطيع أن يصنع شيئًا من احتياجاته بدون توفر الأخشاب لديه. 

4ـ وطبقًا لهذا الافتراض فإن الله لم يكن يستطيع أن يصنع شيئًا (قط) لو لم تكن المادة موجودة سابقًا. وكيف يمكن أن يُسَمَّى بارئًا وخالقًا لو أنه كان يستمد قدرته على الخلق من مصدر آخر، وأعني بذلك من المادة ؟ فلو كان الأمر هكذا، لكان الله ـ حسب فكرهم ـ مجرّد عامل فني يُصَنِّع المادة الموجودة لديه دون أن يكون هو سبب وجودها ولا يكون خالقًا للأشياء من العدم. وما كان يمكن أن يُسَمَّى الله خالقًا بالمرة، ما لم يكن قد خلق المادة نفسها التي منها خُلقت المخلوقات. 

5ـ وهناك هراطقة  أيضًا يتوهّمون لأنفسهم خالقًا آخر لكل الأشياء غير أبا ربنا يسوع المسيح وهم بهذا يبرهنون على منتهى العمى. لأن الرب كان يقول لليهود: " أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثى وقال: من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسدًا واحدًا" .. وبعد ذلك يقول مشيرًا إلى الخالق " فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان" فكيف يَدَّعي هؤلاء بأن الخليقة غريبة عن الآب؟ أو عندما يقول يوحنا في اختصار شديد إن " كل شئ به كان وبغيره لم يكن شئٌ مما كان" فكيف يمكن أن يكون خالق آخر سوى الله أبي المسيح؟ 


الفصل الثالث 

العقيدة السليمة: خِلْقَة الكائنات من العدم بسبب فرط جود الله وكرمه. خِلْقَة الإنسان في مرتبة أسمى من سائر الكائنات ولكن دون أن تكون له المقدرة على الاستمرار حيًا بدون الله. العطية السامية الممتازة التى منحت له أن يكون على صورة الله ومثاله مع وعد الله له بالسعادة بشرط احتفاظه بالنعمة. 

1ـ هذه إذن هي أساطيرهم. أما التعليم الإلهي والإيمان بالمسيح فإنهما يُظهران هذه الأساطير أنها كُفْر؛ فالكائنات لم توجد من تلقاء نفسها لأن هناك تدبيرًا سابقًا على وجودها. كما أنها لم تُخلق من مادة موجودة سابقًا، لأن الله ليس ضعيفًا. لكن الله خلق كل شيء، بالكلمة، من العدم وبدون مادة موجودة سابقًا، كما يقول على لسان موسى " في البدء خلق الله السموات والأرض"، وأيضًا في كتاب "الراعي" الكثير النفع " قبل كل شيء آمِن بالله الواحد الذي خَلَقَ ورَتَّبَ كل الكائنات وأحضرها من العدم إلى الوجود ". 

2ـ وهذا ما يشير إليه بولس قائلاً: " بالإيمان ندرك أن العاَلمِين أُنْشِئتْ بكلمة الله حتى لم يتكون ما يُرى مما هو ظاهر". 

3ـ الله صالح بل هو بالأحرى مصدر الصلاح. والصالح لا يمكن أن يبخل بأى شيء وهو لا يحسد أحدًا حتى على الوجود، ولذلك خلق كل الأشياء من العَدَم بكلمته يسوع المسيح ربنا، وبنوع خاص تحنن على جنس البشر. ولأنه رأى عدم قدرة الإنسان أن يبقى دائمًا على الحالة التي خُلق فيها، أعطاه نعمة إضافية، فلم يكتف بخلق البشر مثل باقي الكائنات غير العاقلة على الأرض، بل خلقهم على صورته وأعطاهم شركة في قوة كلمته حتى يستطيعوا بطريقة ما، ولهم بعض من ظل (الكلمة) وقد صاروا عقلاء، أن يبقوا في سعادة ويحيوا الحياة الحقيقية، حياة القديسين في الفردوس. 

4ـ ولكن لِعِلمِه أيضًا أن إرادة البشر يمكن أن تميل إلى أحد الاتجاهين (الخير أوالشر)، سبق فأمّن النعمة المعطاة لهم بوصية ومكان، فأدخلهم في فردوسه وأعطاهم وصية حتى إذا حفظوا النعمة واستمروا صالحين فإنهم سيعيشوا في الفردوس بغير حزن ولا ألم ولا هَمّ، بالإضافة إلى وعدٍ بالخلود في السماء. أما إذا تَعَدّوا الوصية وارتَدّوا (عن الخير) وصاروا أشرارًا فلَيعْلَموا أنهم سيجلبون الموت على أنفسهم حسب طبيعتهم، ولن يحيوا بعد في الفردوس، بل يموتون خارجه عنه ويبقون إلى الأبد في الفساد والموت. 

5ـ وهذا ما سبق أن حَذَّرنا منه الكتاب المقدس بفم الله قائلاً: «من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت» . "وموتًا تموت" لا تعني بالقطع مجرد الموت فقط، بل البقاء في فساد الموت إلى الأبد. 

الفصل الرابع 

مقدمة الفصلين الرابع والخامس: إنَّ خِلْقَتْنا والتجسد الإلهي متصلان أحدهما بالآخر اتصالاً وثيقًا. وكما أنه بكلمة الله خُلِق الإنسان من العدم إلى الوجود ثم نال نعمة الحياة الإلهية، كذلك بخطية واحدة خسر الإنسان تلك الحياة، وجلب على نفسه الفساد، وامتلأ العالم بالخطية والشقاء. 



1ـ وربما تتساءل، لماذا بينما نقصد أن نتحدّث عن تجسد الكلمة، فإننا نتحدّث الآن عن بداية خلق البشرية؟ لكن اِعْلَم أن هذا الحديث أيضًا يتصل بهدف هذا المقال. 

2ـ لأنه من الضروري عندما نتحدّث عن ظهور المخلّص بيننا، أن نتحدّث عن بداية خلق البشر، ولكي تَعْلَم أنَّ نزوله إلينا كان بسببنا، وأن تعدِّينا استدعى تَعَطُّف الكلمة، لكي يأتي الرب مسرعًا لمعونتنا، ويظهر بين البشر. 

3ـ فلأجل قضيتنا تَجَسَّد لكي يُخَلِّصنا، وبسبب محبته للبشر قَبِلَ أن يتأنس ويظهر في جسد بشري. 

4ـ وهكذا خلق الله الإنسان وكان قصده أن يبقى في غير فساد. أما البشر فإذ احتقروا التفكير في الله ورفضوه، وفكروا في الشر وابتدعوه لأنفسهم كما أشرنا أولاً، فقد حُكِمَ عليهم بحُكْم الموت الذي سبق إنذارهم به، ومن ذلك الحين لم يبقوا بعد كما خُلقوا، بل إن أفكارهم قادتهم إلى الفساد ومَلَك عليهم الموت. لأن تعدي الوصية أعادهم إلى حالتهم الطبيعية، حتى أنهم كما وُجِدوا من العدم هكذا أيضًا بالضرورة يلحقهم الفناء بمرور الزمن. 

5ـ فإن كانوا وَهُم في الحالة الطبيعية ـ حالة عدم الوجود، قد دُعوا إلى الوجود بقوة الكلمة وتحننه، كان طبيعيًا أن يرجعوا إلى ما هو غير موجود (أى العدم) عندما فقدوا كل معرفة بالله؛ لأن كل ما هو شر فهو عَدَم، وكل ما هو خير فهو موجود. ولأنهم حصلوا على وجودهم من الله الكائن، لذلك كان لابد أن يُحرموا، إلى الأبد، من الوجود. وهذا يعني انحلالهم وبقائهم في الموت والفساد (الفناء). 

6ـ فالإنسان فانٍ بطبيعته لأنه خُلق من العدم إلا أنه بسبب خلقته على صورة الله الكائن كان ممكنًا أن يقاوم قوة الفناء الطبيعي ويبقى في عدم فناء لو أنه أبقى الله في معرفته كما تقول الحكمة "حِفْظ الشرائع تُحققِّ عدم البَلَى"، و بوجوده في حالة عدم الفساد (الخلود) كان ممكنًا أن يعيش منذ ذلك الحين كالله كما يشير الكتاب المقدس إلى ذلك حينما يقول " أنا قلت إنكم آلهة وبنو العليّ كلكم، لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون". 

الفصل الخامس

1ـ فالله لم يَكْتَفِ بأن يَخْلقنا من العَدَم، ولكنه وهبنا أيضًا بنعمة الكلمة إمكانية أن نعيش حسب الله، ولكن البشر حَوَّلوا وجوههم عن الأمور الأبدية، وبمشورة الشيطان تحولوا إلى أعمال الفساد الطبيعي وصاروا هم أنفسهم السبب فيما حدث لهم من فساد بالموت. لأنهم كانوا ـ كما ذكرت سابقًا ـ بالطبيعة فاسدين لكنهم بنعمة اشتراكهم في الكلمة كان يمكنهم أن يفلتوا من الفساد الطبيعي لو أنهم بقوا صالحين. 

2ـ وبسبب أن الكلمة سكن فيهم، فإن فسادهم الطبيعى لم يَمَسَّهم كما يقول سفر الحكمة " الله خلق الإنسان لعدم الفساد وجعله على صورة أزليته لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم". وبعدما حدث هذا بدأ البشر يموتون هذا من جهة، ومن جهة أخرى فَمِن ذلك الوقت فصاعدًا بدأ الفساد يَسود عليهم، بل صار له سيادة على كل البشر أقوى من سيادته الطبيعية، وذلك لأنه حدث نتيجة عصيان الوصية التى حذرهم أن لا يخالفوها. 

3ـ فالبشر لم يقفوا عند حد معيّن في خطاياهم بل تمادوا في الشر حتى أنهم شيئًا فشيئًا تجاوزوا كل الحدود، وصاروا يخترعون الشر حتى جلبوا على أنفسهم الموت والفساد، ثم توغلوا في الظلم والمخالفة ولم يتوقفوا عند شر واحد، بل كان كل شر يقودهم إلى شر جديد حتى أصبحوا نهمين في فعل الشر (لا يشبعون من فعل الشر). 

4ـ ففي كل مكان انتشر الزنى والسرقة وامتلأت الأرض كلها بالقتل والنَهْب. ولم يرعوا حُرْمَة أي قانون بل كانوا يسلكون في الفساد والظلم بل صاروا يمارسون الشرور بكل أنواعها ـ أفرادًا وجماعات. فَنَشَبَتْ الحروب بين المُدُن، وقامت أمم ضد أمم، وتمزقت المسكونة كلها بالثورات والحروب، وصار كل واحد يتنافس مع الآخر في الأعمال الشريرة. 

5 ـ كما أَنَّهم لم يكونوا بعيدين عن الخطايا، التي هي ضد الطبيعة، كما قال الرسول الشاهد للمسيح: «لأن إناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعي، بالذي على خلاف الطبيعة وكذلك الذكور أيضًا تاركين استعمال الأنثى الطبيعي، اشتعلوا بشهوتهم بعضهم بعضًا، فاعلين الفحشاء ذكورًا بذكور، ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المُحِقّ». 

الفصل السادس 

كان الجنس البشرى سائرًا إلى الفناء وكانت صورة الله فيه سائرة إلى الاضمحلال والتلاشى. لهذا كان أمام الله أحد أمرين: إما أن يتنازل عن كلمته التى تعدى عليها الإنسان فجلب على نفسه الخراب؛ أو أن يهلك الإنسان الذى كان له شركة في الكلمة. وفي هذه الحالة يفشل قصد الله. فماذا إذن؟ أيحتمل هذا صلاح الله؟ وإن كان الأمر كذلك فلماذا خلق الإنسان؟ لو أن هذا حصل لدل على ضعف الله لا على صلاحه. 

1ـ لأجل هذا إذن ساد الموت أكثر وعَمّ الفساد على البشر، وبالتالى كان الجنس البشرى سائرًا نحو الهلاك، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان الإنسان العاقل المخلوق على صورة الله آخذًا في التلاشى، وكانت خليقة الله آخذةً في الانحلال. 

2ـ لأن الموت أيضًا، وكما قلت سابقًا، صارت له سيادة شرعية علينا (بسبب التَّعَدِّى)، منذ ذلك الوقت فصاعدًا، وكان من المستحيل التهرب من حكم الناموس، لأن الله هو الذى وضعه بسبب التعدى، فلو حدث هذا لأصبحت النتيجة مرعبة حقًا وغير لائقة في نفس الوقت. 

3ـ لأنه (أولاً) من غير اللائق طبعًا أن الله بعدما تكلَّم بشيء مَرَّة يتضح أنه فيما بعد كاذب، أي أن الله بعد أن أمر أنَّ الإنسان يموت موتًا، أن يتعدى الوصية ولا يموت، بل تُبْطَل كلمة الله، وسيكون الله غير صادق إن كان الإنسان لا يموت بعد أن قال الله إنه سيموت. 
4 ـ ثانيًا، كان سيصبح من غير اللائق أن تَهْلَك الخليقة وترجع إلى العدم بالفساد تلك الخليقة التى خُلِقّتْ عاقلة، وكان لها شركة في الكلمة. 

5 ـ وأيضًا لأنه سيكون من غير اللائق بصلاح الله أن تَفَنَى خليقته بسبب غواية الشيطان للبشر. 

6 ـ ومن ناحية أخرى كان سيصبح من غير اللائق على الإطلاق أن تتلاشى صنعة الله بيد البشر إما بسبب إهمالهم أو بسبب غواية الشياطين. 

7 ـ فطالما طال الفساد الخليقة العاقلة، وكانت صنعة الله في طريقها إلى الفناء، فما الذى كان يجب على الله الصالح أن يفعله؟ أيترك الفساد يسيطر على البشر، والموت ليسود عليهم؟ وما المنفعة إذن من خلقتهم منذ البدء؟ لأنه كان أفضل بالحرى ألاّ يُخلقوا بالمرة من أن يُخلقوا وبعد ذلك يُهملوا ويفنوا. 

8 ـ فلو أن الله أهمل ولم يبال بهلاك صنعته، لأظهر إهماله هذا ضعفه وليس صلاحه. ولو أن الله خلق الإنسان ثم أهمله لكان هذا ضعفًا أكثر مما لو أنه لم يخلقه أصلاً. 

9 ـ لأنه لو لم يكن قد خَلَقَ الإنسان لما تجرأ أحد أن ينسب إليه الضعف. أما وقد خلقه وأتى به من العدم إلى الوجود فقد كان سيصبح من غير اللائق بالمرة أن تفنى المخلوقات أمام عينى الخالق. 

10 ـ كان يجب إذن أن لا يُترك البشر لينقادوا للفساد لأن هذا يُعتبر عملاً غير لائق ويتعارض مع صلاح الله. 


الفصل السابع 

على إننا من الجهة الأخرى نَعْلَم أن طبيعة الله ثابتة ولا يمكن أن تتغير. أيدعى البشر إذن للتوبة؟ لكن التوبة لا تستطيع أن تَحُولْ دون تنفيذ الحكم كما أنها لا تستطيع أن تشفى الطبيعة البشرية الساقطة. فنحن قد جلبنا الفساد على أنفسنا ونحتاج لإعادتنا إلى نعمة مماثلة صورة الله. ولا يستطيع أحد أن يجدد الخليقة إلاّ الخالق، فهو وحده الذى يستطيع (1) أن يخلق الجميع من جديد (2) أن يتألم من أجل الجميع (3) أن يُقَدِّم الجميع إلى الآب. 

1ـ لكن إن كان هذا هو ما يجب أن يحدث، فمن الناحية الأخرى نجد أنه لا يتفق مع صدق الله الذى يقتضى أن يكون الله أمينًا من جهة حكم الموت الذى وضعه، لأنه كان من غير اللائق أن يظهر الله أبو الحق كاذبًا من أجلنا. 

2ـ إذن، ماذا كان يجب أن يُفْعَل حيال هذا؟ أو ما الذي كان يجب على الله أن يعمله؟ أيطلب من البشر التوبة عن تعدياتهم؟ ويمكن أن يرى المرء أن هذا يليق بالله ويقول: كما أن البشر صاروا إلى الفساد بسبب التعدي، فإنهم بسبب التوبة يمكن أن يعودوا إلى عدم الفساد وللخلود. 

3ـ لكن التوبة تَعْجَز عن حفظ أمانة الله لأنه لن يكون الله صادقًا إن لم يَظَلْ الإنسان في قبضة الموت (لأنه تَعَدّى فحُكم عليه بالموت كقول الله الصادق). ولا تَقْدِر التوبة أن تُغَيِّر طبيعة الإنسان، بل كل ما تستطيعه هو أن تمنعهم عن أعمال الخطية. 

4ـ فلو كان تَعِدِّي الإنسان مجرد عمل خاطئ ولم يتبعه فساد، لكانت التوبة كافية. أما الآن بعد أن حدث التَعَدِّي، فقد تورّط البشر في ذلك الفساد الذى كان هو طبيعتهم ونُزِعَتْ منهم نعمة مُمَاثَلَة صورة الله، فما هى الخطوة التى يحتاجها الأمر بعد ذلك؟ أو مَن ذا الذي يستطيع أن يُعيد للإنسان تلك النعمة ويَرُدّه إلى حالته الأولى إلا كلمة الله الذي خَلَقَ ـ في البدء ـ كل شئ من العدم؟

5ـ لأنه كان هو وحده القادر أن يأتي بالفاسد إلى عدم الفساد وأيضًا أن يصون صِدق الآب من جهة الجميع. وحيث إنه هو كلمة الآب ويفوق الكل، كان هو وحده القادر أن يُعيد خلق كل شيء وأن يتألم عوض الجميع وأن يكون شفيعًا عن الكُل لدى الآب.


الفصل الثامن 

إذ رأى كلمة الله كل هذه الشرور لهذا نَزَلَ إلى الأرض، آخذًا جسدًا من طبيعتنا، من عذراء طاهرة عفيفة إذ حل في أحشائها، وذلك لكى يعلن نفسه فيه، ويقهر الموت، ويعيد الحياة. 

1ـ لأجل ذلك إذن نزل إلى عالمنا كلمة الله الذى بلا جسد، عديم الفناء وغير المادي مع أنه لم يكن ببعيد عنا من قبل. لأنه لم يترك جزءًا من الخليقة خاليًا منه إذ هو يملأ الكل، وفي نفس الوقت هو كائن مع أبيه. لكنه أتى إلينا في تنازله، ليُظهر محبته لنا ويفتقدنا. 

2ـ وإذ رَأى الجنس (البشري) العاقل يهلك وأن الموت يملك عليهم بالفناء، وإذ رأى أيضًا أن عقوبة التعدّي (الموت) قد خَلَّدت الفناء فينا وأنه من غير اللائق أن يُبْطِل الناموس قبل أن يُنَفّذ، وإذ رأى أيضًا عدم اللياقة فيما هو حادث بالفعل، وهو أن الخليقة التي خلقها هو نفسه قد صارت في طريقها إلى الفناء،وإذ رأى في الوقت نفسه شر البشر المُفْرِط، وأنهم يتزايدون فيه شيئًا فشيئًا إلى درجة لا تطاق وضد أنفسهم، وإذ رأى أن كل البشر تحت سلطان الموت، فإنه رحم جنسنا وأشفق على ضعفنا وتراءف على فسادنا. وإذ لم يحتمل أن يرى الموت وقد صارت له السيادة علينا، لئلا تفنى الخليقة ويتلاشى عمل الله، فقد أخذ لنفسه جسدًا لا يختلف عن جسدنا. 

3ـ لأنه لم يقصد أن يَتَجسَّد أو أن يظهر فقط، وإلاّ لو أنه أراد مجرّد الظهور لأمكنه أن يتمم ظهوره الإلهي بطريقة أخرى اسمى وأفضل. 

لكنه أخذ جسدًا من جنسنا، وليس ذلك فحسب، بل أخذه من عذراء طاهرة نقية لم تعرف رجلاً، جسدًا طاهرًا وبدون زرع بشر. لأنه وهو الكائن الكلّى القدرة وبارئ كل شئ، أعد الجسد في العذراء ليكون هيكلاً له وجعله جسده الخاص متخذًا إياه أداة ليسكن فيه ويُظهر ذاته به. 

4ـ وهكذا إذ اتخذ جسدًا مماثلاً لطبيعة أجسادنا، وإذ كان الجميع خاضعين للموت والفساد، فقد بذل جسده للموت عوضًا عن الجميع، وقدّمه للآب. كل هذا فعله من أجل محبته للبشر أولاً: لكى إذ كان الجميع قد ماتوا فيه، فإنه يُبطل عن البشر ناموس الموت والفناء، ذلك لأن سلطان الموت قد استُنفَذ في جسد الرب، فلا يعود للموت سلطان على أجساد البشر (المماثلة لجسد الرب). ثانيًا: وأيضًا فإن البشر الذين رجعوا إلى الفساد بالمعصية يعيدهم إلى عدم الفساد ويحييهم من الموت بالجسد، الذي جعله جسده الخاص، وبنعمة القيامة يبيد الموت منهم كما تُبيد النار القش. 

الفصل التاسع 

وإذا لم يكن ممكنًا أن يوقف الفساد إلاّ بالموت، أخذ الكلمة جسدًا قابلاً للموت. وإذ اتحد الكلمة بالجسد أصبح نائبًا عن الكل، وباشتراك الجسد في عدم موت الكلمة أُوقف فساد الجنس البشرى. ولكونه فوق الجميع فقد جعل جسده ذبيحة لأجل الجميع ولكونه واحدًا معنا ألبسنا عدم الموت. تشبيه لإيضاح هذا. 

1ـ فلقد أدرك الكلمة جيدًا أنه لم يكن ممكنًا أن يُقضى على فساد البشرية بأى طريقة أخرى سوى الموت نيابة عن الجميع. ومن غير الممكن أن يموت الكلمة لأنه غير مائت بسبب أنه هو ابن الآب غير المائت. ولهذا اتخذ لنفسه جسدًا قابلاً للموت حتى إنه عندما يتحد هذا الجسد بالكلمة الذي هو فوق الجميع، يصبح جديرًا ليس فقط أن يموت نيابة عن الجميع، بل ويبقى في عدم فساد بسبب اتحاد الكلمة به. ومن ذلك الحين فصاعدًا يُمنع الفساد من أن يسرى في جميع البشر بنعمة القيامة من الأموات. لذلك قَدّم للموت ذلك الجسد الذي اتخذه لنفسه كتقدمة مقدّسة وذبيحة خالية من كل عيب. وببذله لهذا الجسد كتقدمة مناسبة، فإنه رفع الموت فورًا عن جميع نظرائه البشر. 

2ـ ولأن كلمة الله هو فوق الجميع فقد كان لائقًا أن يُقدّم هيكله الخاص وأداته البشرية فدية ...عن حياة الجميع موفيًا دين الجميع بموته. وهكذا باتخاذه جسدًا مماثلاً لجسد جميع البشر وباتحاده بهم، فإن ابن الله عديم الفساد ألبس الجميع عدم الفساد بوعد القيامة من الأموات. ولم يعد الفساد الفعلى بالموت له أى سلطان على البشر بسبب الكلمة الذي جاء وسكن بينهم بواسطة جسده. 

3ـ وكما أنه عندما يدخل أحد الملوك العظام إلى مدينة عظيمة، ويسكن في أحد بيوتها فإن المدينة كلها تكرّمه أعظم تكريم ولا يجرؤ أي عدو أو عصابة أن تدخل إليها أو تحطمها، بل على العكس تكون جديرة بكل عناية واهتمام بسبب سكنى الملك في أحد من بيوتها، هكذا كان الحال مع ملك الكل. 

4ـ والآن، لأنه قد جاء إلى عالمنا وسكن في جسد مماثل لأجسادنا، فقد بطلت منذ ذلك الحين كل مؤامرة العدو ضد البشر وأُبطل فساد الموت الذي كان سائدًا عليهم من قبل. لأن الجنس البشري كان سيهلك بالتمام لو لم يكن رب الكل ومخلّص الجميع ابن الله قد جاء ليضع حدًا للموت. 

الفصل العاشر 

تشبيه آخر يوضح معقولية عمل الفداء. كيف أن المسيح أزال عنا هلاكنا، وقَدَمَ لنا في تعاليمه الدواء الشافي من الهلاك. البراهين الكتابية على تجسد الكلمة والذبيحة التى قدمها. 

1ـ وفى الحقيقة، إن هذا العمل العظيم هو لائق بدرجة فائقة بصلاح الله. لأنه إذا أسس مَلِك منزلاً أو مدينة ثم بسبب إهمال سكانها حاربها اللصوص، فإنه لا يهملها قط، بل ينتقم من اللصوص ويخلّصها لأنها صنعة يديه وهو غير ناظر إلى إهمال سكانها، بل إلى مايليق به هو ذاته. هكذا وبالأكثر جدًا فإن كلمة الآب كلّي الصلاح، لم يَتَخَل عن الجنس البشري الذي خُلق بواسطته، ولم يتركه ينحدر إلى الفناء. بل أبطل الموت الذي حدث نتيجة التعدي، بتقديم جسده الخاص. ثم قوّم إهمالهم بتعاليمه، وبقوته الخاصة أصلح كل أحوال البشر . 

2ـ وهذه كلها يمكن للمرء أن يتحققها مما قاله الكُتّاب الموحى إليهم عن المخلّص إذا قرأ أحد ما كُتب بواسطتهم حيث يقولون لأن محبة المسيح تحصرنا إذ نحن نحسب هذا إنه إن كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع إذًا ماتوا. وهو مات لأجل الجميع كى لا نعيش فيما بعد لأنفسنا، بل للذي مات لأجلنا وقام ربنا يسوع المسيح. وأيضًا " لكن الذي وُضع قليلاً عن الملائكة نراه مكللاً بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت لكى يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد". 

3ـ وبعد ذلك يوضّح السبب الذي من أجله كان ضروريًا أن الله الكلمة نفسه وليس آخر سواه هو الذى يتجسد فيقول " لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكّلُ وبه الكل وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد أن يُكمّلَ رئيس خلاصهم بالآلام" وهو بهذا يقصد أن يوضح أنه لم يكن أحد آخر يستطيع أن يسترد البشر من الفساد الذي حدث (نتيجة السقوط) غير كلمة الله الذي خلقهم في البداية. 

4ـ وأيضًا أشار الرسول إلى أن الكلمة بذاته اتخذ لنفسه جسدًا ليقدمه ذبيحة عن الأجساد المماثلة قائلاً " فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضًا فيهما لكى يبيد بالموت ذلك الذي له سلطان الموت أى إبليس ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية"

5ـ لأنه بذبيحة جسده الذاتي وضع نهاية لناموس الموت الذي كان قائمًا ضدنا. وصنع لنا بداية جديدة للحياة برجاء القيامة الذى أعطاه لنا. لأنه إن كان بإنسان واحد قد ساد الموت على البشر، ولهذا أيضًا فبسبب تأنس كلمة الله فقد حدثت إبادة للموت وتمّت قيامة الحياة كما يقول لابس المسيح بولس: "فإنه إذ الموت بإنسان، بإنسان أيضًا قيامة الأموات لأنه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيُحيا الجميع" وبالتالي فنحن الآن لا نموت بعد كمدانين، بل كأناس يقومون من الموت ننتظر القيامة العامة للجميع والتي سيبيّنها في أوقاتها التي يحددها الله الذي أتمها والذى وهبنا إياها. 

6ـ فهذا إذن، هو السبب الأول لتَجَسُّد المخلّص، ومما يلي سنعرف أسبابًا أخرى لضرورة ولياقة ظهوره المبارك بيننا. 

الفصل الحادى عشر 

سبب آخر للتجسد: أن الله إذ عرف أن الإنسان بطبيعته لم يكن في مقدوره معرفته، وهبه معرفته لكى يستطيع أن يجد فائدة من وجوده في الحياة. لقد خلقه على صورة الكلمة حتى يستطيع بذلك أن يعرف الكلمة وبه يعرف الآب. أما هو فإذ احتقر هذه المعرفة هوى إلى العبادة الوثنية تاركًا الله غير المنظور واتبع السحر والشعوذة، وذلك كله رغمًا عن إعلانات الله المتعددة عن نفسه. 

1ـ عندما خلق الله ضابط الكل الجنس البشري، بواسطة كلمته الذاتى، لأنه يعرف جيدًا ضعف طبيعة البشر وعجزها عن أن تعرف الخالق من نفسها ، ولا تستطيع أن تكوّن أية فكرة عن الله على الإطلاق، وذلك بسبب أنه "غير المخلوق"، أما الكائنات فهى مخلوقة من العدم. وبينما هو روح لا جسد له فإن البشر قد خُلِقوا في جسد أرضي من أسفل. وبصفة عامة فهناك عجز كبير في قدرة المخلوقات على أن تُدرك وتَعرِف خالقها ولهذا فإن الله بسبب صلاحه، تحنن على الجنس البشرى ولم يتركهم بعيدًا عن معرفته لئلا يكون وجودهم فى الحياة بلا أية منفعة. 

2ـ لأنه أيّة منفعة للمخلوقات لو أنها لم تعرف خالقها؟ أو كيف يمكن أن تكون (مخلوقات) عاقلة لو لم تعرف كلمة الآب، الذى به خلقوا؟ لأنهم لن يتميزوا بالمرة عن المخلوقات غير العاقلة (الحيوانات) لو أنهم انحصروا فقط فى معرفة الأمور الأرضية. ولماذا خلقهم الله طالما أنه لم يكن يريد لهم أن يعرفوه؟

3ـ ولكى لا يحدث هذا، ولأنه صالح فى ذاته، فقد جعل لهم نصيبًا فى صورته الذاتى (الذى هو) ربنا يسوع المسيح، وخلقهم على صورته ومثاله حتى أنه ـ بسبب تلك النعمة ـ فإنهم عندما يرون تلك الصورة أى كلمة الآب، يمكنهم عن طريقه أن يصلوا إلى معرفة الآب، وإذ يعرفون خالقهم فإنهم يحيون حياة حقيقية سعيدة مغبوطة. 

4 ـ غير أن البشر ـ رغم كل هذا ـ بسبب تمردهم، لم يكترثوا بتلك النعمة المعطاة لهم، وهكذا رفضوا الله كلية وأصبحت نفوسهم مظلمة حتى أنهم لم ينسوا فكرتهم عن الله فقط، بل وأيضًا اخترعوا لأنفسهم اختراعات كثيرة واحدًا تلو آخر. لأنهم لم يكتفوا بأن يصنعوا لأنفسهم أوثانًا بدلاً عن عبادة الحق، فاكرموا الكائنات المخلوقة من العدم  دون الله الحى " وعبدوا المخلوق دون الخالق". بل والأسوأ من الكل أنهم حوّلوا الكرامة التى تحق لله إلى الأخشاب والأحجار، وإلى كل الأشياء المادية، وإلى البشر، بل ذهبوا إلى أبعد من هذا كله كما ذكرنا سابقًا. 

5 ـ بل بلغ بهم الجحود إلى أنهم عبدوا الشياطين مُنادين بها كآلهة مُشبعين بذلك شهواتهم. ذلك لأنهم قدموا محرقات من الحيوانات غير العاقلة وذبائح من البشر كما ذكرنا سابقًا، متممين بذلك فرائض تلك العبادات، منحدرين بأكثر سرعة وراء نزعاتهم الجنونية. 

6 ـ ولهذا أيضًا تعلّموا أعمال السحر وأضلّت العِرافة البشر في أماكن عديدة، وصار جميع الناس ينسبون سبب ميلادهم ووجودهم إلى النجوم والأجرام السماوية، إذ لم يفكروا في أى شيء آخر إلاّ فيما كانوا ينظرونه بعيونهم. 

7 ـ وعلى وجه العموم، صار كل شئ مشبّعًا (بروح) الكفر والعصيان وأصبح الله وحده وكلمته غير معروفين للبشر، رغم أن الله لم يُخفِ نفسه عن البشر، وهو لم يُعلن نفسه بطريقة واحدة فقط، بل أعطاهم معرفته بأشكال متعددة وطُرق كثيرة.


الفصل الثانى عشر 

ومع أن الإنسان خُلِقَ على صورة الله، إلاّ أن الله إذ سبق فعلم ميله إلى النسيان أعد أعمال الخليقة لتذكّره بشخصه. والأكثر من ذلك أنه أعد الناموس والأنبياء الذين قصد أن تكون خدمتهم لكل العالم. ولكن البشر لم يلتفتوا إلاّ لشهواتهم. 

1 ـ إن نعمة مماثلة الصورة الإلهية كانت كافية في حد ذاتها لكي تجعلنا نعرف الله الكلمة، ونعرف الآب بواسطته. غير أن الله إذ كان يعرف ضعف البشر، وضع في اعتباره أيضًا إهمالهم لمعرفة الله حتى اذا لم يهتّموا أن يعرفوا الله من تلقاء أنفسهم استطاعوا بواسطة المخلوقات أن يتجنبوا الجهل بخالقها. 

2 ـ ولأن إهمال البشر انحدر قليلاً قليلاً نحو السُفليات فقد أعدّ الله مرة أخرى علاجًا لضعفهم هذا، فأرسل لهم ناموسًا وأنبياءً معروفين لديهم، حتى أنهم إذا لم يرفعوا عيونهم إلى السماء ليعرفوا الخالق استطاعوا أن يتعلّموا (عن الله) ممّن يعيشون بينهم، وذلك لأن البشر يستطيعون أن يتعلموا من البشر أمثالهم عن الأمور العليا بطريقة مباشرة. 

3 ـ وهكذا كان متاحًا لهم إذا رفعوا عيونهم إلى عظمة السماء وأدركوا تناسق الخليقة أن يعرفوا مدبرها كلمة الآب، الذي بتدبيره لكل الأشياء يعرِّف الآب للجميع، وهو الذى يحرِّك كل الأشياء لهذه الغاية عينها حتى يستطيع الجميع أن يعرفوا الله بواسطته. 

4 ـ أو لو صعب عليهم هذا لكان في مقدورهم على الأقل أن يلتقوا بالرجال القديسين، وبواسطتهم أن يعرفوا الله خالق الكل، أبا المسيح، وأن عبادة الأوثان هي كفر بالله ومملوءة بكل جحود وفساد. 

5 ـ أو كان متيسرًا لهم بمعرفتهم للناموس أن يكّفوا عن كل تعدٍ. وأن يعيشوا حياة الفضيلة لأن الناموس لم يكن فقط لليهود، ولا أُرسِل الأنبياء إلى اليهود فقط. ولكن، وإن كانوا قد أُرسِلوا لليهود ومن اليهود اضطهدوا إلاّ أنهم كانوا معلّمين مقدسين للمسكونة كلها، يُعلّمون عن معرفة الله وعن سلوك النفس. 

6 ـ وبالرغم من عِظمْ صلاح الله ومحبته للبشر فإن البشر إذ انغلبوا من شهواتهم الزائلة ومن الضلالات والغوايات التى أرسلتها الشياطين فإنهم لم يقبلوا الحق بل ثقّلوا أنفسهم بالشرور والخطايا إلى الحد الذي يجعلهم لا يظهرون بعد كخلائق عاقلة، بل من طريقة تصرفاتهم يُحسبون مجردين من العقل. 


الفصل الثالث عشر 

وهنا أيضًا: أكان ممكنًا لله أن يسكت، وأن يترك للآلهة الكاذبة أن تكون هى المعبودة بدلاً من الله؟ إن الملك إذا عصته الرعية يذهب إليهم بنفسه بعد أن يرسل إليهم الرسائل. فكم بالأحرى يعيد إلينا الله نعمة مماثلة صورته. هذا مالم يستطع البشر أن يتمموه لأنهم ليسوا هم صورة الله. لهذا كان لزامًا أن يأتى الكلمة نفسه ليجدّد الخلقة وليبيد الموت في الجسد. 

1ـ وإذ صار البشر هكذا كالحيوانات غير العاقلة، وسادت غواية الشيطان فى كل مكان حتى حُجِبت معرفة الإله الحقيقي، فما الذى كان على الله أن يفعله؟ أيصمت أمام هذا الضلال العظيم ويَدَع البشر يضلون بتأثير الشيطان ولا يعرفون الله؟

2ـ وما هي الفائدة من خلق الإنسان أصلاً على صورة الله؟ كان من الأفضل له لو أنه خُلق مثل مخلوق غير عاقل من أن يُخلق عاقلاً ثم يعيش كالحيوانات غير العاقلة. 

3ـ أو هل كانت هناك ضرورة على الإطلاق أن يُعطَى فكرة عن الله منذ البداية؟ لأنه إن كان حتى الآن هو غير جدير أن ينالها، فكان الأولى ألاّ تُعطى له من البداية. 

4ـ وما الفائدة التى تعود على الله الذي خلقهم وكيف يتمجّد إن كان البشر الذين خلقهم لا يعبدونه بل يظنون أن آلهة أخرى هي التي خلقتهم؟ لأنه بهذا يظهر أن الله قد خَلَقَهم (أي خَلَقَ البشر) لا لنفسه بل للآخرين. 

5ـ ومرة أخرى نقول: أي ملك، وهو مجرد إنسان بشري، إذا امتلك لنفسه بلادًا يترك مواطنيه لآخرين يستعبدونهم؟ وهو لا يدعهم يلتجئون لغيره، لكنه ينذرهم برسائله ثم يُرسل إليهم أصدقاءه مرارًا، وإن اقتضى الأمر يذهب اليهم بشخصه، لكى يوبخهم بحضوره، كآخر وسيلة يلجأ إليها. وكل ذلك لكى لا يصيروا خدامًا لغيره فيذهب عمله هباءً. 

6ـ أفلا يشفق الله بالأولى على خليقته كى لا تضل عنه وتعبد الأشياء التي لا وجود لها، وبالأكثر عندما يظهر أن هذه الضلالة هي سبب هلاكهم وخرابهم؟ وليس لائقًا أن يهلك هؤلاء الذين قد كانوا مرّة شركاء في صورة الله. 

7ـ إذن فما هو الذى كان ممكنًا أن يفعله الله؟ وماذا كان يمكن أن يتم سوى تجديد الخليقة التي وُجدت على صورة الله، مرّة أخرى، ولكي يستطيع البشر أن يعرفوه مرّة أخرى؟ ولكن كيف كان ممكنًا لهذا الأمر أن يحدث إلاّ بحضور نفس صورة الله ـ مخلّصنا يسوع المسيح؟ كان ذلك الأمر مستحيلاً أن يتم بواسطة البشر لأنهم هم أيضًا خُلِقوا على مثال تلك الصورة.(وليس هم الصورة نفسها)، ولا أيضًا بواسطة الملائكة لأنهم ليسوا صورًا (لله) ولهذا أتى كلمة الله بذاته لكي يستطيع ـ وهو صورة الآب ـ أن يجدّد خلقة الإنسان، على مثال الصورة. 

8 ـ وإضافة إلى ذلك فهذا لم يكن ممكنًا أن يتم أيضًا دون أن يُباد الموت والفساد. 

9ـ ولهذا فقد كان من اللائق أن يأخذ جسدًا قابلاً للموت حتى يمكن أن يُبيد فيه الموت ويجدّد خلقة البشر الذي خلقوا على صورته. إذن فلم يكن كفؤًا لسد هذه الحاجة سوى صورة الآب. 

الفصل الرابع عشر 

إن فسد الرسم وجبت إعادته من الصورة الأصلية. وهكذا أتى ابن الآب لكى يطلب ويخلص ويجدد الحياة. ولم تكن هنالك طريقة أخرى ممكنة. لأن الإنسان إذ طمس بصيرته بنفسه لم يستطع أن يبصر لكى يشفى. ولم تعد شهادة الخليقة لخالقها ذات نفع له. أما الكلمة فهو وحده الذى استطاع أن يتمم هذا. ولكن كيف؟ ليس إلاّ بأن يأتي إلينا كإنسان. 

1ـ وكما أنه لو كانت هناك صورة لشخص مرسومة على قماش مثبّت على لوحة خشبية وتلطّخت هذه الصورة من الخارج بالأقذار، مما أدى إلى اختفاء ملامحها، ففي هذه الحالة لابد من حضور صاحب الصورة نفسه ثانية لكي يمكن إعادة تجديد الصورة على نفس قماش اللوحة، فلا يلقى بالقماش، لأن صورته رسمت عليه ، بل يُجدِّد الرسم عليه مرّة أخرى. 

2ـ وعلى هذا النحو، فقد أتى إلى عالمنا كلّي القداسة ابن الآب، إذ هو صورة الآب، لكى يجدّد الإنسان الذي خُلِق مرة على صورته، ويخلّص ما قد هلك بمغفرة الخطايا، كما يقول هو في الأناجيل "جئت لكي أطلب وأخلّص ما قد هلك". ولأجل هذا أيضًا قال لليهود " إن كان أحد لا يولد ثانية" وهو لا يقصد بهذا ـ كما ظنوا ـ الولادة من امرأة، بل قصد التحدث عن إعادة ميلاد النفس وتجديد خلقتها بحسب الصورة . 

3ـ ولكن إن كانت العبادات الوثنية والمعتقدات الإلحادية قد سيطرت على المسكونة، وإن كانت معرفة الله قد أُخفيت، فمن ذا الذي كان قادرًا أن يقوم بتعليم المسكونة عن الآب؟ وإن قال أحد إن هذه هى مهمة إنسان أجبناه أنه لم يكن في استطاعة إنسان أن يطوف المسكونة كلها وليس من طبيعته أن تكون لديه القدرة على الركض لمثل هذه المسافات الشاسعة، ولا هو يستطيع أن يدّعي القدرة على القيام بهذا العمل. كما أن البشر لا يستطيعون من تلقاء أنفسهم أن يقاوموا غواية الأرواح الشريرة وحيلها. 

4ـ لأنه طالما أن الجميع ضلوا واضطربت نفوسهم بسبب غواية الأرواح الشريرة وأباطيل الأوثان فكيف كان ممكنًا لهم أن يغيّروا نفوس البشر (الآخرين) وعقولهم وهم أنفسهم عاجزون عن رؤية النفس والعقل؟ وكيف يمكن لأى كائن أن يغيّر النفس وهو لا يراها أو يعرفها؟ 

5ـ وقد يقول أحد إن الخليقة كانت كافية. لكن لو كانت الخليقة كافية لما حدثت كل هذه الشرور الفظيعة، لأن الخليقة كانت موجودة بالفعل ومع ذلك كان البشر يسقطون في نفس الضلال عن الله. 

6ـ فإلى مَنْ إذن كانت الحاجة الاّ إلى كلمة الله الذي يبصر (ويعرف) النفس والعقل، وهو المحرك لكل ما في الخليقة، والتي من خلالها يجعل الآب معروفًا؟ لأن ذلك الذى ـ بأعمال عنايته وتدبيره لكل الأشياء ـ يعلّم عن الآب هو الذى يستطيع أيضًا أن يجدّد ذلك التعليم عينه. 

7ـ وكيف كان ممكنًا أن يحدث هذا؟ ربما قال امرء إن هذا كان ممكنًا أن يحدث بنفس الطريقة السابقة، حتى أنه مرة أخرى ـ عن طريق أعمال الخليقة ـ يمكن أن يعلن معرفة الآب. لكن هذه الوسيلة لم تَعُد مضمونة، وبالتأكيد هى غير مضمونة، لأن البشر قد أهملوها سابقًا، بل أنهم لم يعودوا يرفعون أعينهم إلى فوق بل صاروا يشخصون إلى أسفل. 

8 ـ ولهذا كان من الصواب، إذ أراد منفعة البشر، أن يأتى الينا كإنسان آخذًا لنفسه جسدًا شبيهًا بجسدهم من أسفل. حتى يستطيع الذين لا يريدون أن يعترفوا به، من خلال أعمال عنايته وسلطانه على كل الأشياء، أن يبصروا الأعمال التي عملها بجسده ـ هنا على الأرض ـ ويعرفوا كلمة الله الحال في الجسد ومن خلال الكلمة المتجسد يعرفون الآب. 

الفصل الخامس عشر 

وإذ رأى الكلمة أن البشر حصروا أفكارهم في الأمور الجسدية تنازل إلى مستوى تفكيرهم وأخذ جسدًا. والتقى بإحساساتهم في منتصف الطريق. وسواء اتجهت ميولهم إلى عبادة الطبيعة، أو البشر، أو الأرواح الشريرة، أو الموتى، فقد أظهر نفسه ربًا على كل هؤلاء. 

1ـ وكما أن المعلّم الصالح، الذي يعتني بتلاميذه، إذ يرى أن بعضًا منهم لا يستفيد من العلوم التي تَسموا فوق إدراكهم، فإنه يتنازل إلى مستواهم ويعلّمهم أمورًا أبسط، هكذا فعل كلمة الله كما يقول بولس " إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة استحسن الله أن يُخلّص المؤمنين بجهالة الكرازة". 

2ـ ولأن البشر قد تركوا التأمل في الله وانحطت نظراتهم إلى أسفل كأنهم قد غاصوا في الأعماق باحثين عن الله في عالم الحسيّات، صانعين لأنفسهم آلهة من البشر المائتين ومن الشياطين، لهذا فإن مُحّب البشر ومخلّص الجميع كلمة الله أخذ لنفسه جسدًا ومشى كإنسان بين البشر، وجذب أحاسيس كل البشر نحو نفسه، لكي يستطيع أولئك الذين يظنون أن الله له جسد مادى، أن يدركوا الحق عن طريق الأفعال التي يعملها الرب بواسطة جسده، وعن طريقه يعرفون الآب. 

3ـ ولأنهم بشر، ويفهمون كل شيء بطريقة بشرية، فعندما يستخدمون إحساساتهم الجسدية لتفسير هذه الأفعال ويحاولون فهمها بدقة فإنهم يرون أنفسهم قد قوبلوا في منتصف الطريق، وهكذا يتعلمون الحق من كل ناحية. 

4ـ فإن نظروا إلى الخليقة وعبدوها عن خوف فإنهم يرون مع ذلك أنها تعترف بالمسيح ربًا. وإن اتجهوا بأفكارهم إلى البشر، ظانين أنهم آلهة وجدوا ـ رغم ذلك ـ أن أعمال المخلّص إن قورنت بأعمال البشر فإنها تُظهره هو وحده أنه ابن الله دون سائر البشر، لأنه لم يقم بينهم قط مَنْ استطاع أن يعمل الأعمال التي عملها كلمة الله. 

5 ـ أو إن انحرفوا وراء الأرواح الشريرة، فعندما يرون الكلمة يطردها يجب أن يدركوا أن كلمة الله وحده هو الله وأن تلك الأرواح ليست آلهة. 

6ـ أو إن كانت عقولهم قد هبطت إلى الأموات، فعبدوا الأبطال والآلهة التى تحدّث عنها شعراؤهم، فإنهم بعد أن رأوا قيامة المخلّص فيجب عليهم أن يعترفوا أن تلك الآلهة كاذبة، وأن الرب وحده هو الإله الحق، كلمة الآب، وهو الذي يسود على الموت أيضًا. 

7ـ ولأجل هذا السبب وُلِد وظهر كإنسان، ومات، وقام. وهو قد أظهر بأعماله التي غطّت على أعمال كل من سبقوه من البشر، أن أعمالهم ضعيفة. وحتى إذا انحرفوا إلى أية ناحية فإنه يستردهم من هناك ويعلّمهم عن أبيه الحقيقي، كما يقول عن نفسه: " أنا قد جئت لكى أطلب وأخلّص ما قد هلك". 

الفصل السادس عشر 

إذًا فقد جاء لكى يجذب أنظار البشر الحسيّة إليه كإنسان وبذلك يقودهم لكى يعرفوه كإله. 

1ـ فطالما أن فكر البشر قد انحط كليَّة إلى الأمور الحسيّة، فالكلمة أيضًا تنازل وأخفى نفسه بظهوره في جسد، لكى يجذب البشر إلى نفسه كإنسان، ويوجّه إحساساتهم نحوه، ومن ثم إذ يتطلّع إليه البشر كإنسان فإنهم بالأعمال التي يعملها يقتنعون إنه ليس مجرد إنسان بل هو إله أيضًا، وكلمة الإله الحقيقي وحكمته. 

2ـ وهذا أيضًا هو ما قَصَدَه بولس الرسول عندما يقول: "وأنتم متأصلون ومتأسسون في المحبة حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو الطول والعرض والعمق والعلو وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله". 

3ـ فلقد امتلأت كل الأشياء من معرفة الله بإعلان الكلمة نفسه في كل مكان: فوق وتحت، في العمق وفي العرض، أما "فوق" ففي الخليقة، و"تحت" بصيرورته إنسانًا، وفي "العمق" بنزوله إلى الجحيم، وفي "العرض" أى في كل المسكونة. لقد امتلأ الكل من معرفة الله. 

4ـ ولهذا السبب أيضًا فإنه لم يتمّم ذبيحته عن الكل بمجرّد مجيئه مباشرة، بتقديم جسده للموت ثم إقامته ثانية. لأنه لو فعل ذلك لجعل ذاته غير ظاهر، ولكنه صيّر نفسه ظاهرًا جدًا بتلك الأعمال التي عملها وهو في الجسد والمعجزات التي أظهرها، وبذلك صار معروفًا أنه ليس بعد مجرّد إنسان فقط بل أنه هو الله الكلمة. 

5ـ لأن المخلّص تمّم بتأنسه عمليتى المحبة: (أولاً): أنه أباد الموت من داخلنا وجدّدنا ثانية. (ثانيًا): أنه إذ هو غير ظاهر ولا منظور، فقد أعلن نفسه وعرّف ذاته بأعماله في الجسد، أنه كلمة الآب، ومدّبر وملك الكون.

الفصل السابع عشر 

كيف أن التجسد لم يحدّ من وجود الكلمة في كل مكان ولم ينقص من نقاوته. (تشبيه الشمس). 

1ـ لأنه لم يكن محصورًا في الجسد ـ كما قد يتوهم البعض ـ أو أنه بسبب وجوده في الجسد كان كل مكان آخر خاليًا منه، أو أنه بينما كان يحرّك الجسد كان العالم محرومًا من أفعال قدراته وعنايته. غير أن الأمر العجيب والمدهش جدًا هو أنه مع كونه هو الكلمة الذي لا يحويه شئ فإنه هو نفسه يحوي كل الأشياء. وبينما هو موجود في كل الخليقة فإنه بحسب جوهره هو متميّز عن كل الخليقة. فهو حاضر في كل الأشياء بقدرته فقط (وليس بجوهره)، ضابطًا كل الأشياء ومُظهرًا سيادته على كل شئ، وعنايته بكل شئ، وواهبًا الحياة لكل شئ. ومع أنه يحوي كل الأشياء ولا يحتويه شئ، إلاّ أنه كائن كلية في أبيه وحده. 

2ـ وهكذا حتى مع وجوده في جسد بشري معطيًا الحياة له، فقد كان من الطبيعي أن يمنح الحياة للكون كله في الوقت نفسه. ومع كونه حاضرًا في كل جزء (من الخليقة بقدرته) فهو خارج كل شئ (بجوهره). وبينما صار معروفًا بأعماله التي عملها في الجسد فإنه كان في الوقت نفسه ظاهرًا أيضًا بواسطة أعماله في الكون كله. 

3ـ إن عمل النفس أن تُدرِك الأشياء الخارجة عن جسدها بأفكارها ولكنها لا تستطيع أن تعمل خارج نطاق جسدها أو أن تُحرّك الأشياء البعيدة عن الجسد. ولن يستطيع أى إنسان أن يحرك الأشياء البعيدة أو ينقلها بمجرّد التفكير فيها. وأيضًا فأى إنسان لا يستطيع وهو جالس في بيته، بمجرّد التفكير في الأجرام السماوية، أن يحرك الشمس أو يجعل السماء تدور، لكنه يرى أنها تتحرك وأنها قد وجدت، دون أن يكون له أى قدرة للتأثير عليها. 

4ـ أما كلمة الله فلم يكن كذلك في جسده (البشري)، إذ لم يكن مقيدًا بسبب الجسد، بل بالحرى كان يستخدم جسده، ولذلك فهو لم يوجد في الجسد فقط بل كان موجودًا بالفعل في كل شئ. وبينما كان خارج الكائنات فقد كان في أبيه وحده مستقرًا. 

5 ـ وهذا هو الأمر العجيب، أنه بينما كان يتصرّف كإنسان كان ككلمة الله يُحيي كل الأشياء وكابن كان كائنًا مع أبيه. ولذلك عندما ولَدَته العذراء لم يعتريه أي تغيّر (من جهة طبيعته الإلهية)، ولا تدّنس بحلوله في الجسد، بل بالعكس فهو قد قدّس الجسد أيضًا. 

6ـ ورغم وجوده في كل الأشياء إلاّ أنه لم يستمد منها شيئًا، بل العكس فإن كل الأشياء تستمد منه الحياة وتعتمد عليه في بقائها. 

7ـ لأنه إن كانت الشمس ـ التي خَلَقها هو والتي نراها وهى تدور في السماء ـ لا تتدّنس عندما تلمس أشعتها الأجسام الأرضية، ولا تفقد نورها بسبب ظلمة هذه الأجسام، لكنها بالعكس تنيرها وتطهّرها أيضًا؛ فبالأولى جدًا كلمة الله كليّ القداسة، خالق الشمس وربها، لا يتدنس بمجيئه في الجسد، بل بالعكس، فلكونه عديم الفساد، فقد أحيا الجسد المائت وطهّره، فهو الذى كُتب عنه " الذي لم يفعل خطية و لا وُجدَ في فمه مكر". 


الفصل الثامن عشر 

أعمال المسيح بالجسد تظهر قوة كلمة الله وقدرته: بإخراجه الشياطين، وبالمعجزات، وبميلاده من العذراء. 

1ـ عندما يتحدّث الكتّاب الموحى إليهم عنه أنه يأكل ويشرب وأنه وُلِد، فإنهم يقصدون أن الجسد كجسد وُلِد واقتات بالطعام المناسب لطبيعته. أما الله الكلمة نفسه الذى كان متحدًا بالجسد، فإنه يضبط كل الأشياء. وكل أعماله التي عملها وهو في الجسد تظهر أنه لم يكن إنسانًا بل كان الله الكلمة. وأما هذه الأمور فإنها تُذكَرعنه لأن الجسد الذي أكل ووُلِد وتألم لم يكن جسد أحد آخر، بل كان جسد الرب نفسه. ولأنه صار إنسانًا كان من المناسب أن تقال عنه هذه الأمور كإنسان حتى يتبيّن أنه أخذ جسدًا حقيقيًا لا خياليًا. 

2ـ وكما أنه بواسطة هذه الأمور عُرِفَ حضوره جسديًا كذلك بواسطة الأعمال التي عملها في الجسد أعلن نفسه أنه ابن الله. لهذا نراه ينادى اليهود غير المؤمنين قائلاً: " إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي، ولكن إن كنت أعمل فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيّ وأنا فيه". 

3ـ وكما أنه ـ بينما هو غير منظور ـ يمكن أن يُعرَف من أعماله في الخليقة، هكذا أيضًا عندما تأنس. فبينما هو غير منظور (بلاهوته) إلاّ أنه يمكن أن يُعرَف من أعماله التى عملها في الجسد أن مَن يستطيع أن يعمل هذه الأعمال لا يمكن أن يكون إنسانًا بل هو قوة الله وكلمته. 

4ـ فأمرُه للأرواح الشريرة (بالخروج) وخروجها في الحال لا يمكن أن يكون عمل إنسان بل عمل الله. ومَنْ ذا الذي يراه وهو يشفي الأمراض التي يخضع لها الجنس البشري ويستمر في ظنه عنه أنه إنسان وليس إلهًا؟ فقد طهّر البرّص، وجعل العُرْج يمشون، والصُم يسمعون، والعُمي يبصرون، وبالإجمال طردَ من البشر كل مرضٍ وكل ضعف. من هذه الأعمال كلها كان ممكنًا لأي إنسان بسيط أن يعرف ألوهيته. وأيضًا مَنْ ذا الذي يراه يَرُد للإنسان ما كان ينقصه منذ ولادته مثلما فتح عيني الأعمى منذ ولادته، ولا يدرك أن طبيعة البشر خاضعة له، وأنه هو خالقها وصانعها؟ لأن مَنْ يَرُد للإنسان ما كان ينقصه منذ ولادته لابد أن يكون هو رب وسيد تكوين البشر. 

5ـ ولهذا فإنه وهو نازل إلينا كوّن لنفسه جسدًا من عذراء لكي يقدّم للجميع دليلاً قويًا على ألوهيته حيث إن الذي صوّر هذا الجسد هو صانع جميع الأشياء. لأن مَنْ ذا الذي يرى جسدًا يأتي من عذراء وحدها بدون رجل ولا يدرك أن مَنْ ظهر في هذا الجسد لابد أن يكون هو صانع ورب باقي الأجساد أيضًا؟

6ـ أو مَنْ ذا الذي يرى تغيير طبيعة المياه وتحولها إلى خمر ولا يدرك أن مَنْ فعل هذا هو سيد طبيعة هذه المياه وخالقها؟ ولأجل هذا دخل إلى البحر كسيّد له ومشى عليه كما على أرض يابسة لكى يقدّم لكل مَنْ يراه برهانًا على سلطانه على كل الأشياء. وعندما أشبع جمعًا غفيرًا من طعام قليل، وقدّم لهم الكثير من لا شئ، فأطعم خمسة آلاف نفس من خمسة أرغفة وشبعوا وفضل عنهم الكثير، ألم يُظِهر ذاته أنه لم يكن آخر سوى الرب نفسه المعتني بالجميع؟ 

الفصل التاسع عشر 

وإذ لم يقتنع الإنسان بطبيعته، فإنه كان يجب أن يتعلّم معرفة الله من أعمال المسيح في الجسد حيث اعترفت كل الطبيعة بلاهوته، خصوصًا عند موته. 

1 ـ لقد رأى المخلّص أنه حسن أن يفعل كل هذا، حتى بعدما عجز البشر أن يدركوه في عنايته بالكون ولم يفهموا أنه الإله من خلال أعماله في الخليقة فإنهم على الأقل يستطيعون ـ بمشاهدتهم أعماله في الجسد ـ أن يستردوا بصيرتهم ويعرفوا الآب عن طريقه. ومن عنايته بأبسط الأمور يتبيّنوا بالقياس عنايته بكل الأشياء كما سبق القول. 

2 ـ فمَنْ ذا الذي يرى سلطانه على الأرواح النجسة، أو مَنْ ذا الذي يرى الأرواح النجسة تعترف بأنه هو سيدها، ويساوره الشك بعد ذلك في أنه هو ابن الله وحكمته وقوته ؟ 

3 ـ لأنه جعل حتى الخليقة نفسها تخرج عن صمتها، فالأمر العجيب أنه في موته، أو بالحرى في انتصاره على الموت وهو على الصليب، اعترفت كل الخليقة أن مَنْ ظهر وتألم في الجسد لم يكن مجرّد إنسان بل ابن الله ومخلّص الجميع. فالشمس توارت، والأرض تزلزلت، والجبال تشققت، وارتعب كل البشر. جميع هذه الأمور أوضحت أن المسيح الذي على الصليب هو الله، وأن الخليقة كلها خاضعة كعبد له، وأنها شهدت برعبها لحضور سيدها. وهكذا أظهر الله الكلمة نفسه للبشر بأعماله . 

4 ـ على أنه لابد بعد ذلك أن نروي ونتحدّث عن الهدف الذي من أجله جاء وعاش فيما بيننا بالجسد، وعن كيفية موت جسده، حيث إن هذا الأمر هو أساس إيماننا، وهو يشغل أذهان جميع الناس حتى تعرف ويتضّح لك يقينًا، بواسطة ما نقدمه، أن المسيح هو الله وابن الله. 

الفصل العشرون 

إذن فلن يستطيع أحد أن يهب عدم الفساد إلاّ الخالق، ولن يستطيع أحد أن يعيد مماثلة صورة الله إلاّ صورة الآب، ولن يستطيع أحد أن يحيي إلاّ رب الحياة، ولن يستطيع أحد أن يعرّف الآب للبشر إلاّ الكلمة. وهو ـ لكى يفى الدين الذى علينا وهو الموت ـ لابد أن يموت عنا أيضًا ويقوم ثانية كباكورة لنا من بين الأموات. إذن كان يجب أن يكون جسده قابلاً للموت، وأن يصير غير فاسد باتحاده بالكلمة. 

1ـ لقد تحدّثنا إذن، وباختصار على قدر المستطاع وبقدر ما أمكننا فهمه، عن سبب ظهوره فى الجسد، وأنه لم يكن ممكنًا أن يحوّل الفاسد إلى عدم الفساد إلا المخلّص نفسه، الذى خَلَقَ منذ البدء كل شئ من العدم. ولم يكن ممكنًا أن يعيد خَلقْ البشر ليكونوا على صورة الله إلاّ الذى هو صورة الآب. ولم يكن ممكنًا أن يجعل الإنسان المائت غير مائت إلاّ ربنا يسوع المسيح الذى هو الحياة ذاتها. 

ولم يكن ممكنًا أن يُعلّم البشرعن الآب ويقضى على عبادة الأوثان إلاّ الكلمة الذى يضبط كل الأشياء، وهو وحده الابن الوحيد الحقيقي. 

2 ـ ولما كان من الواجب وفاء الدين المستحق على الجميع، إذ ـ كما بيّنا سابقًا ـ كان الجميع مستحقين الموت، فلأجل هذا الغرض جاء المسيح بيننا. وبعدما قدّم براهين كثيرة على ألوهيته بواسطة أعماله فى الجسد فإنه قدّم ذبيحته عن الجميع، فأسلم هيكله للموت عوضًا عن الجميع، أولاً: لكى يبرّرهم ويحرّرهم من المعصية الأولى، وثانيًا: لكي يثبت أنه أقوى من الموت، مظهرًا جسده الخاص أنه عديم الفساد، وأنه باكورة لقيامة الجميع. 

3 ـ ولا تتساءل إن كنا نكرر ما نقوله عند الحديث عن نفس الموضوعات، فطالما نحن نتحدّث عن مشورة الله الصالحة من جهتنا فيجب علينا أن نشرح المعنى الواحد بطرق عديدة، حتى لا يبدو كأننا تركنا أى شئ بدون تفسير، فنُتهم بالتقصير أو بالعجز في معالجتنا لأمور هامة كهذه. لأنه من الأفضل لنا أن نُتهم ونُنتقد بسبب التكرار من أن نترك أى شئ كان يجب أن نعرضه بوضوح. 

4 ـ فالجسد (جسد الكلمة) لكونه من طبيعة البشر ذاتها لأنه كان جسدًا بشريًا ـ حتى إن كان قد أُخذ من عذراء فقط بمعجزة فريدة ـ لكن لأنه كان قابلاً للموت لذلك كان لابد أن يموت كسائر البشر نظرائه. غير أنه بفضل اتحاده بالكلمة فإنه لم يعد خاضعًا للفساد الذى بحسب طبيعته، بل بسبب كلمة الله الذى حلّ فيه فإن الفساد لم يلحق به. 

5 ـ وهكذا تمّ ( فى جسد المسيح ) فعلان متناقضان فى نفس الوقت: الأول هو: أن موت الجميع قد تمّ فى جسد الرب ( على الصليب ) والثانى: هو أن الموت والفساد قد أبيدا من الجسد بفضل اتحاد الكلمة به. فلقد كان الموت حتميًا، وكان لابد أن يتم الموت نيابة عن الجميع لكى يوفى الدين المستحق على الجميع. 

6 ـ ولهذا ـ كما ذكرتُ سابقًا ـ طالما أن الكلمة كان من غير الممكن أن يموت، إذ أنه غير مائت، فقد أخذ لنفسه جسدًا قابلاً للموت حتى يمكن أن يقدمه، كجسده الخاص نيابة عن الجميع، حتى إذا ما تألم عن الكل باتحاده بالجسد، فإنه "يبيد بالموت ذاك الذى له سلطان الموت أى إبليس ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية". 

الفصل الحادى والعشرون 

لقد أبيد الموت بموت المسيح. ولكن لماذا لم يمت المسيح سرًا، أو بكيفية أكثر وقارًا واحترامًا؟ إنه لم يكن خاضعًا للموت الطبيعى، بل كان لابد أن يموت بأيدى الآخرين. لماذا مات إذن؟ مات لأنه لأجل هذا قد أتى، ولأجل هذا وحده. وإلاّ كيف كان ممكنًا أن تكون هناك قيامة بدون موت؟ 

1 ـ والآن إذ قد مات مخلّص الجميع نيابة عنا فإننا نحن الذين نؤمن بالمسيح لن نموت (بحكم) الموت الذى كان سابقًا حسب وعيد الناموس لأن هذا الحكم قد أُبطل؛ وبما أن الفساد قد بَطُل وأُبيدَ بنعمة القيامة فإننا من ذلك الوقت وبحسب طبيعة أجسادنا المائتة ننحل فى الوقت الذى حدده الله لكل واحد، حتى يمكن أن ننال قيامة أفضل . 

2 ـ لأننا ـ كالبذور التى تُلقى فى الأرض ـ فهكذا نحن لا نفنى عندما ننحلّ بالموت، بل نُزرَع فى الأرض لنقوم ثانية، بما أن الموت قد أُبيد بنعمة قيامة المخلّص. لهذا إذن أخذ المغبوط بولس على عاتقه تأكيد القيامة للجميع إذ يقول " لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت. ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد ولبس هذا المائت عدم موت فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة اْبتُلِعَ الموت إلى غلبة. أين ذَنبُك (شوكتك) يا موت … أين غلبتك يا هاوية ". 

3 ـ وربما تساءل أحد إن كان لابد أن يُسلِّم جسده للموت نيابة عن الجميع، فلماذا لم يضع هذا الجسد (على فراش للموت وفى موضع خاص) كأى إنسان عادى بدلاً من أن يأتى به إلى موت الصليب علنًا؟ فقد كان أكثر لياقة له أن يُسلِّم جسده بكرامة بدلا من أن يحتمل موتًا مشينًا كهذا. 

4 ـ ولكن لابد أن نتنبه، أن هذه الاعتراضات هى اعتراضات بشريّة أما ما فعله المخلّص فهو حقًا عمل إلهي ولائق بلاهوته لأسباب كثيرة. أولاً : إن الموت الذى يصيب البشر عادة يأتيهم بسبب ضعف طبيعتهم وإذ هم لا يستطيعون البقاء لزمن طويل فإنهم ينحلّون في الزمن (المحدد). وبسبب هذا أيضًا تنتابهم الأسقام فيمرضون ويموتون. أما الرب فإنه ليس ضعيفًا بل هو قوة الله، وكلمة الله، وهو الحياة عينها. 

5 ـ ولو أنه وَضَعَ جسده (للموت) فى مكان خاص وعلى فراش كما يموت البشر عادة، لكان الناس قد ظنوا أنه ذاق ذلك (الموت) بسبب ضعف طبيعته، ولظنوا أيضًا أنه لم يكن فيه ما يميّزه عن سائر البشر. أما وأنه هو الحياة وكلمة الله، وكان من المحتم أن يتم الموت نيابة عن الجميع، لهذا ولأنه هو الحياة والقوة فقد نال الجسد منه قوة. 

6 ـ هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى فما دام الموت لابد أن يتم فإنه لم يَسعَ بنفسه إلى الفرصة التى بها يتمم ذبيحته. لأنه لم يكن لائقًا أن يمرض الرب وهو الذى يُشفى أمراض الآخرين. ولم يكن لائقًا أيضًا أن يضعف ذلك الجسد الذى به قَوّى ضعفات الآخرين. 

7 ـ ولماذا إذن لم يمنع حدوث الموت كما منع المرض من أن يسيطر (على الجسد)؟ ذلك لأنه لأجل هذا (الموت) اتخذ الجسد، ولم يكن لائقاً أن يمنع الموت لئلا تتعطل القيامة أيضاً. ولم يكن لائقًا أيضًا أن يسبق المرض موته لئلا يُظن أن ذاك الذى كان في الجسد كان ضعيفًا. ألم يعان الجوع إذن؟ نعم إنه جاع بسبب أن (الجوع) هو من خواص جسده، على أن (هذا الجسد) لم يهلك من الجوع لأن الرب لبس هذا الجسد. لهذا فإنه وإن كان قد مات لأجل فداء الجميع، لكنه لم ير فسادًا. فقد قام جسده سليمًا تمامًا إذ لم يكن سوى جسد ذاك الذي هو الحياة عينها. 

الفصل الثانى والعشرون 

ولماذا لم يحفظ جسده من اليهود فيمنع عنه الموت: (1) لأنه لم يكن يليق به أن يوقع الموت على نفسه أو أن يتجنبه. (2) لأنه أتى ليقبل الموت المستحق على الآخرين ويموت لينتصر على الموت مُقدمًا قيامته دليلاً على انتصاره الأكيد على الموت. وأيضًا لأنه لم يكن ممكنًا أن يموت من الضعف وهو الذي يشفى الآخرين. 

1ـ وقد يقول أحد: كان من الأفضل أن يختفي من مؤامرات اليهود لكى يحفظ جسده كلية من الموت. فليسمع مثل هذا أن ذلك الأمر أيضًا لم يكن لائقًا بالرب. لأنه كما لم يكن لائقًا بكلمة الله وهو الحياة أن يُوقِع الموت على جسده بنفسه، كذلك لم يكن لائقًا أن يهرب من الموت الذى يوقعه الآخرون عليه، بل بالحرى أن يتعقّبه حتى يقضى عليه. ولهذا السبب فإنه بطبيعة الحال لم يُسلّم جسده من تلقاء نفسه، كما أنه لم يتهرب من مؤامرات اليهود ضده. 

2ـ وهذا لم يُظهِر أن الكلمة ضعيف، بل بالحرى بيّن أنه هو المخلّص وهو الحياة، إذ إنه أولاً: انتظر إلى أن يأتيه الموت ليبيده وثانيًا: عندما قُدِّمَ إليه الموت فإنه عجّل بإتمامه لأجل خلاص الجميع. 

3ـ وفضلاً عن ذلك فإن المخلّص لم يأتِ لكى يتمم موته هو بل موت البشر، لذلك لم يضع جسده ليموت بموت خاص به (إذ أنه هو الحياة وليس فيه موت)، بل قَبِل في الجسد ذلك الموت الذى أتاه من البشر لكى يبيد ذلك الموت تمامًا عندما يلتقى به في جسده. 

4 ـ وهناك اعتبارات أخرى تجعل المرء يدرك لماذا كان يليق بجسد الرب أن يتمّم هذه الغاية. لأن الرب كان مهتمًا بصفة خاصة بقيامة الجسد التى كان مزمعًا أن يتممها، إذ أنها دليل أمام الجميع على انتصاره على الموت، ولكى يؤكد للكل أنه أزال الفساد، وأنه منح أجسادهم عدم الفساد من ذلك الحين فصاعدًا. وكضمان وبرهان على القيامة المُعَدّة للجميع فقد حفظ جسده بغير فساد. 

5 ـ ومرة أخرى نقول لو أن جسده كان قد مات نتيجة تعرضه للمرض وانفصل عنه الكلمة أمام نظر الجميع لكان غير لائق بمن شفى أمراض آخرين أن يترك أداته الخاصة (جسده) يموت بسبب المرض. فكيف يُصدّق المرء أنه كان يشفى أمراض الآخرين إن كان هيكله الخاص قد تعرّض للمرض؟ لأنه إما أن يُهزَأ به كأنه غير قادر على شفاء الأمراض، أو إن كان قادرًا ولم يفعل شيئًا (لحفظ جسده) فيُظن أنه عديم الشفقة على الآخرين أيضًا.

الفصل الثالث والعشرون 

ضرورة الموت علانية لأجل الإيمان بحقيقة القيامة. 

1 ـ وحتى ولو لم يكن به أي مرض أو وجع، وافترضنا أنه هو نفسه قام بإخفاء جسده "فى زاوية" أو فى صحراء أو منزل، أو أي مكان آخر، ثم بعد ذلك ظهر فجأة قائلاً أنه قام من بين الأموات، وتراءى للجميع أنه يتكلّم بكلام هذيان ولَمَا صدقوا ما قاله عن القيامة، لأنه لم يكن هناك أي شاهد على موته. 

فالموت لابد أن يسبق القيامة، لأنه لا يمكن أن تكون هناك قيامة ما لم يسبقها موت. فلو أن موت جسده كان قد حَدَثَ سرًا في أى مكان ولم يكن الموت ظاهرًا، ولم يحدث أمام شهود، لكانت قيامته أيضًا مخفيّة ولا يوجد دليل عليها. 

2 ـ ولماذا يجعل موته سرًا إن كان، بعد ما قام، أعلن قيامته جهارًا؟ أو إن كان قد طَرَدَ الشياطين أمام الجميع، وجعل الأعمى منذ ولادته يستعيد بصره، وحوّل الماء إلى خمر، حتى بواسطة هذه الآيات يؤمن الجميع أنه كلمة الله؛ فلماذا لا يُظهِر أمام الجميع عدم فساد جسده الذى كان قابلاً للموت، لكى يؤمن الجميع أنه هو "الحياة" ؟

3ـ وكيف يكون لتلاميذه الجسارة على أن يتكلّموا عن القيامة إن كانوا لا يستطيعون أن يقولوا إنه مات أولاً؟ أو كيف يمكن أن يُصدِّق أحد قولهم إن الموت حدث أولاً ثم بعد ذلك القيامة لو لم يكن هناك شهود على موته من بين الذين يكلّمونهم؟ 

4ـ لأنه رغم أن موته وقيامته قد حدثا أمام الجميع فإن الفريسيين حينئذ لم يؤمنوا، بل أجبروا حتى أولئك الذين رأوا القيامة أن ينكروها. فلو أن هذه الأمور حدثت سرًا فما أكثر الحجج التى كانوا سيخترعونها ليبرّروا بها عدم إيمانهم! 

5ـ وكيف كان يمكن تقديم البرهان على إبطال الموت والانتصار عليه لو لم يكن قد واجه الموت أمام أعين الجميع وأظهر أنه ميت، وأنه سيتلاشى كلية في المستقبل، وذلك بواسطة عدم فساد جسده؟ 

الفصل الرابع والعشرون 

الرد على بعض اعتراضات أخرى. المسيح لم يختر طريقة موته لأنه كان يجب أن يبرهن على أنه قاهر للموت في كل صوره وأشكاله، مثل المصارع القوى. طريقة الموت التي اختاروها للإمعان في تحقيره برهن بها نصرته على الموت . وفوق ذلك حفظ جسده سليمًا غير منقسم. 

1 ـ ومن الضروري أن نرّد مقدّمًا على ما يمكن أن يعترض به الآخرون. فقد يقول قائل ما يلي: لو كان لابد أن يحدث موته أمام أعين الجميع وبشهادة شهود، لكى يُصدَّق خبر قيامته، لكان من الأفضل على أي حال أن يخطّط لنفسه موتًا مجيدًا، لكى يهرب على الأقل من عار الصليب. 

2 ـ ولكن حتى لو فعل هذا لأعطى فرصة للتشكك فى شخصه، وكأنه لا يقوى على كل أشكال الموت بل فقط على الموت الذى اختاره بنفسه، ولكان هذا حجة لعدم الإيمان بالقيامة أيضًا. وهكذا أتى الموت إلى جسده، ليس بتدبيره هو بل بمشورة أعدائه، حتى أن أى شكل من أشكال الموت يأتون به إلى المخلّص يستطيع هو أن يبيده كلية. 

3 ـ وكما أن المصارع النبيل، العظيم فى المهارة والشجاعة، لا يختار خصومه بنفسه، لئلا يُشك أنه يخشى مواجهة بعضٍ منهم، بل يترك الأمر لاختيار المشرفين على المباراة لاسيما لو كانوا أعداءً له، حتى إن أي مصارع يضعونه هم أمامه ينتصر هو عليه؛ وبهذا يؤمنون أنه فاق الجميع. هكذا الحال أيضاً مع ربنا ومخلّصنا المسيح، حياة الكل، فإنه لم يختر لجسده موتًا معينًا، لكى لا يبدو وكأنه يخشى شكلاً آخر للموت؛ فالموت الذى قَبِلَه واحتمله على الصليب قد أوقعه عليه آخرون، هم أعداؤه، ظانين أن هذا الموت مرعب ومهين ولا يمكن احتماله ـ لكن المسيح أباد هذا الموت، فآمن الجميع أنه هو الحياة، الذي به تتم إبادة سلطان الموت كلية. 

4 ـ وهكذا حدث أمر عجيب ومذهل لأن الموت الذى أوقعوه عليه ظانين أنه موت مهين حوّله هو إلى علامة للنصرة على الموت ذاته. 

ولهذا فإنه لم يَمُتْ موت يوحنا بقطع الرأس، ولا مات موت إشعياء بنشر الجسد، وذلك لكى يحفظ جسده غير منقسم وصحيحًا تمامًا حتى فى موته، وحتى لا تكون هناك حجة لأولئك الذين يريدون أن يقسّموا الكنيسة. 

الفصل الخامس والعشرون 

ولماذا تم الموت بالصليب من بين كل أنواع الموت؟ لأنه كان يجب أن يحمل عنا اللعنة. هو بسط يديه على الصليب لكى يوحد الجميع ـ اليهود والأمم ـ في شخصه لأنه انتصر على "رئيس سلطان الهواء" في منطقته، مخليًا الطريق إلى السماء وفاتحًا لنا الأبواب الدهرية. 

1ـ وهذا يكفى للرّد على الذين هم من خارج الذين يحشدون المجادلات ضدنا. ولكن لو أراد أحد من شعبنا أن يسأل ـ لا حبًا فى الجدل بل حبًا فى التعلّم ـ لماذا لم يَمُتْ بأى شكل آخر غير الصليب، فهذا أيضًا نخبره أنه لم تكن هناك طريقة أخرى نافعة لنا سوى هذه، وأنه كان أمرًا حسنًا أن يحتمل الرب هذا الموت من أجلنا. 

2 ـ لأنه إن كان قد جاء ليحمل اللعنة الموضوعة علينا، فكيف كان ممكنًا أن (يصير لعنة) بأى طريقة أخرى ما لم يكن قد قَبِلَ موت اللعنة الذى هو (موت) الصليب؟لأن هذا هو المكتوب: " ملعون كل من علق على خشبة". 

3 ـ وإضافة إلى ذلك، إن كان موت الرب هو فدية  عن الجميع وبواسطة موته هذا نقض "حائط السياج المتوسط" وصارت الدعوة لجميع الأمم، فكيف كان ممكنًا أن يدعونا إليه لو لم يكن قد صُلِبَ؟ لأنه على الصليب وحده يمكن أن يموت إنسان باسطًا ذراعيه. لهذا كان لائقا بالرب أن يحتمل هذا الموت ويبسط ذراعيه، لكى بأحدهما يجتذب الشعب القديم وبالذراع الآخر يجتذب الذين هم من الأمم، ويوّحد الاثنين فى شخصه. 

4 ـ لأن هذا ما قاله هو نفسه عندما كان يشير إلى المِيتَة التى كان مزمعًا أن يفدى بها الجميع إذ قال " وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلى الجميع ". 

5 ـ وأيضًا، إن كان الشيطان عدو جنسنا إذ قد سقط من السماء يجول فى أجوائنا السفلية ويتسلط فيها على الأرواح الأخرى المماثلة له فى المعصية، ويحاول أن يخدع الذين تغويهم هذه الأرواح كما أنه يعوق الذين يرتفعون إلى فوق، وعن هذا يقول الرسول " حسب رئيس سلطان الهواء، الروح الذى يعمل الآن فى أبناء المعصية " ، فإن الرب قد جاء ليطرح الشيطان إلى أسفل، ويطهّر الهواء ويُعِدّ لنا الطريق الصاعد إلى السماء كما يقول الرسول " بالحجاب أى جسده "، وهذا يلزم أن يتم بالموت. فبأى نوع آخر من الموت كان ممكنًا أن يتم هذا، إلاّ بالموت الذى تم فى الهواء، أى (موت) الصليب؟ فإن الذى يموت بالصليب هو وحده الذى يموت (معلقًا) فى الهواء. ولذلك كان لائقًا جدًا بالرب أن يموت بهذه الطريقة. 

6 ـ لأنه إذ رُفع هكذا فقد طهّر الهواء من كل خبث الشيطان وكل الأرواح النجسة  كما يقول: "رأيت الشيطان ساقطا مثل البرق من السماء" وافتتح طريقًا جديدًا للصعود إلى السماء كما هو مكتوب " ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم وارتفعي أيتها الأبواب الدهرية " 
فلم يكن الكلمة نفسه هو المحتاج لانفتاح الأبواب إذ هو رب الكل ـ فلم تكن مخلوقاته مغلقة في وجهه، فهو الذي خلقها ـ بل نحن الذين كنا فى احتياج إلى ذلك (أى إلى انفتاح الأبواب)، نحن الذين حملَنا فى جسده الخاص. لأنه كما قدّم جسده للموت عن الجميع، هكذا أيضًا بهذا الجسد عينه، أعدّ الطريق للصعود إلى السموات. 

الفصل السادس والعشرون 

أسباب قيامته في اليوم الثالث. لم تتم قبل ذلك لئلا يشك في أنه مات موتًا حقيقيًا، ولا بعد ذلك (أولاً) لكى يحتفظ بسلامة جسده، (ثانيًا) لكى لا يعلق نفوس التلاميذ طويلاً، (ثالثًا) لكى لا ينتظر حتى يتشتت الذين شهدوا موته أو تتلاشى من الذاكرة حادثة الموت. 

1 ـ إذًا فقد كان الموت من أجلنا على الصليب لائقًا وملائمًا. وقد اتضح أن سببه كان معقولاً من جميع الوجوه، ومن الحق أن يقال إنه لم تكن هناك طريقة أخرى يتحقق بها خلاص الجميع سوى الصليب. لأنه حتى على الصليب فإنه لم يجعل نفسه مختفيًا بل بالحرى فإنه جعل الطبيعة تشهد لحضور خالقها، وبعد ذلك لم يَدَع هيكل جسده يظل وقتًا طويلا ميتًا، إلاّ بالقدر الذى أظهر فيه أن الجسد مات باحتكاك الموت به، ثم أقامه حالا فى اليوم الثالث، حاملا عدم الفساد وعدم التألم اللذين حصلا لجسده، كعلامة للظفر والانتصار على الموت. 

2 ـ ولقد كان يستطيع أن يقيم جسده بعد الموت مباشرة، ويظهره حيًا، ولكن المخلّص بحِكمَة وبُعد نظر لم يفعل ذلك لأنه لو كان قد أظهر القيامة فى الحال لكان من المحتمل أن يقول أحدهم إنه لم يَمُتْ بالمرة أو إن الموت لم يلمسه بشكل كامل. 

3 ـ وربما لو حدثت القيامة فى اليوم التالي للموت مباشرة لما ظهر مجد عدم فساد جسده. ولذلك فلكي يتأكد موت الجسد فإن الكلمة أبقاه يومًا آخر، وفى اليوم الثالث أظهره عديمَ الفساد أمام الجميع. 

4 ـ إذًا فلكى يتأكد موت الجسد لذلك أقامه في اليوم الثالث. 

5 ـ ولكن لو أنه أقام الجسد بعد أن بقى فترة طويلة، وبعد أن فسد تمامًا، فقد يُشَك فيه كأنه قد استبدل جسده بجسد آخر. لأن الإنسان بمرور الزمن قد يشك فيما سبق أن رآه، وينسى ما قد حدث فعلاً. لهذا السبب فإن الرب لم ينتظر أكثر من ثلاثة أيام، كما أنه لم يترك الذين سبق فأخبرهم عن القيامة معلقين لفترة طويلة. 

6 ـ ولكن بينما أقواله لا تزال تَرِنْ فى آذانهم، وعيونهم لا تزال في حالة توقع وعقولهم معلّقة حائرة، وإذ الذين قتلوه لا يزالون أحياءً على الأرض وفى المكان نفسه، ويمكن أن يشهدوا بموت جسد الرب؛ فإن ابن الله نفسه ـ بعد فترة ثلاثة أيام ـ أظهر جسده الذى قد مات غير مائت وعديم الفساد. وقد اتضح للجميع أن الجسد قد مات ليس بسبب أي ضعف فى طبيعة الكلمة الذى اتحد بالجسد، بل لكى يُباد الموت فيه (في الجسد) بقوة المخلّص.


الفصل السابع والعشرون 

التغيير الذى أتمه الصليب في علاقة الإنسان بالموت. 

1 ـ إن كان كل تلاميذ المسيح يزدرون بالموت وجميعهم يواجهونه بقوة، ولم يعودوا بعد يخشونه، بل بعلامة الصليب وبالإيمان بالمسيح يطأونه كميت، فإن هذا برهان غير قليل، بل بالحرى دليل واضح على أن الموت قد أُبيد وأن الصليب قد صار هو الغلبة عليه، وأن الموت لم يَعُد له سلطان بالمرة بل قد مات حقًا. 

2 ـ فقديما، قبل المجىء الإلهي للمخلّص، كان الموت مرعبًا حتى بالنسبة للقديسين، وكان الجميع ينوحون على الأموات كأنهم هلكوا. أما الآن، بعد أن أقام المخلّص جسده، لم يَعُد الموت مخيفًا لأن جميع الذين يؤمنون بالمسيح يدوسونه كأنه لا شئ، بل بالحرى يُفضّلون أن يموتوا على أن ينكروا إيمانهم بالمسيح، لأنهم يعرفون بكل يقين أنهم حينما يموتون فهم لا يفنون بل بالحرى يحيون عن طريق القيامة ويصيرون عديمي فساد. 

3 ـ أما ذلك الشيطان الذى بخبثه فرح قديمًا بموت الإنسان فإنه الآن وقد نُقِضت أوجاع الموت ، فالوحيد الذى يبقى ميتًا حقًا هو الشيطان، والبرهان على هذا هو أن الناس ـ قبل أن يؤمنوا بالمسيح ـ كانوا يرون الموت مفزعًا ويجبنون أمامه، ولكنهم حينما انتقلوا إلى إيمان المسيح وتعاليمه فإنهم صاروا يحتقرون الموت احتقارًا عظيمًا لدرجة أنهم يندفعون نحوه بحماسة ويصبحون شهودًا للقيامة التى انتصر بها المخلّص عليه. إذ بينما لا يزالون صغار السن فإنهم يدرّبون أنفسهم بجهادات ضد الموت، مسارعين إليه، ليس الرجال منهم فقط بل والنساء أيضًا. وقد صار الشيطان ضعيفًا حتى أن النساء اللواتي انخدعن منه قديمًا، فإنهن الآن يسخَرون منه كميت وعديم الحركة. 

4 ـ وكما يحدث حينما يهزم ملك حقيقي طاغية ويربط يديه ورجليه، فحينئذ يهزأ به كل العابرين، ويضربونه ويزدرون به ولا يعودون يخافون غضبه ووحشيته، بسبب الملك الذى غلبه، هكذا الموت أيضًا إذ قد هزمه المخلّص وشهّر به على الصليب وربط يديه ورجليه، فإن جميع الذين هم فى المسيح، إذ يعبرون عليه، فإنهم يدوسونه وفى شهادتهم للمسيح يهزأون به، ويسخرون منه، مردّدين ما قد قيل عنه فى القديم " أين غلبتك يا موت، أين شوكتك يا هاوية". 

الفصل الثامن والعشرون 

هذه الحقيقة الفريدة تختبر عمليًا. وعلى الذين يشكّون فيها أن يؤمنوا بالمسيح ليروا بأنفسهم. 

1 ـ وحينما يحتقر الشبّان والشابّات الذين فى المسيح هذه الحياة ويرحبون بالموت، فهل يكون هذا إذن برهانًا هينًا على ضعف الموت؟ أو هل هو إيضاح ضئيل للنصرة التى حققها المخلّص عليه؟

2 ـ فالإنسان بطبيعته يرهب الموت ويخشى انحلال الجسد. ولكن المدهش جدًا أن مَنْ قد تسلّح بالإيمان بالصليب فإنه يحتقر كل ما هو مفزع بالطبيعة، ومن أجل المسيح فإنه لا يخاف الموت. 

3 ـ وعلى سبيل المثال، فإن خاصية النار الطبيعية هى الإحراق. فإن قال أحد إن هناك مادة لا تخضع لقوة إحراق النار بل بالحرى تُثبْت أن النار ضعيفة كما يقول الهنود عن مادة الأمينت (أى الاسبستوس)، ومن لا يصدّق هذه الرواية، فعليه إن أراد أن يختبرها أن يرتدى حُلّة من هذه المادة ويتعرض بها للنار، ليتأكد من ضعف النار أمام الأمينت. 

4 ـ أو إن أراد أحد أن يرى الطاغية موثقًا فعليه أن يذهب إلى مملكة ذاك الذى قهره ليرى الطاغية المفزعِ للآخرين وقد صار ضعيفًا. وهكذا أيضًا فإن كان هناك شخص لا يزال متشككًا، حتى بعد هذه البراهين الكثيرة وبعد أن استشهد كثيرون لأجل المسيح، وبعد الاحتقار للموت الذى يُظهره كل يوم أولئك الذين لهم حياة متلألئة فى المسيح، وإن هذا الشخص لا يزال عقله متشككًا فى أن الموت قد أُبيد وانتهى، وإن كان يتعجب من أمر عظيم كهذا، فدعه لا يكون عنيدًا فى تشككه، ولا يقسّي قلبه أمام أمر واضح جدًا كهذا الأمر. 

5 ـ بل كما أن الشخص الذى ارتدى حلة الأمينت يدرك ضعف النار أمام هذه المادة، وكذلك مَنْ يريد أن يرى الطاغية مربوطًا عليه أن يذهب إلى مملكة الذى قهره، هكذا بالمثل أيضًا فإن مَنْ يتشكّك فى الغلبة التى تمت على الموت، فعليه أن يقبل إيمان المسيح ويدخل إلى تعليمه، وسوف يرى بنفسه ضعف الموت والنصرة التى تمت عليه. لأن كثيرين ممن كانوا فيما مضى متشككين ومستهزئين قد آمنوا فيما بعد، وهكذا احتقروا الموت لدرجة أنهم صاروا شهداء لأجل المسيح نفسه. 

الفصل التاسع والعشرون 

نتائج عجيبة سببها صلب المسيح وقيامته. كما أن النهار هو نتيجة لإشراق الشمس. 

1 ـ فإن كان الموت يُداس بالإيمان بالمسيح وبعلامة الصليب ، فلابد أن يكون واضحًا أمام محكمة الحق، أنه ليس أحد آخر سوى المسيح نفسه له الغلبة والنصرة على الموت وهو الذى أفقده كل قوته. 

2 ـ وإن كان الموت مرعبًا وقويًا فيما سبق، والآن بعد مجىء المخلّص وموت جسده وقيامته فإن الموت يُحتقر، فلابد أن يكون واضحًا أن المسيح نفسه الذى صعد على الصليب هو الذى أباد الموت وغلبه. 

3 ـ لأنه كما أن الشمس تشرق بعد الليل، وتستنير بها الأرض كلها فلا يكون هناك شك بالمرّة فى أن الشمس هى التى نشرت نورها فى كل مكان وهى التى بدّدت الظلام وأنارت كل الأشياء، هكذا أيضًا إن كان الموت قد احتُقر ووُطئ تحت الأقدام منذ الظهور الخلاصى للمخلّص فى الجسد وموته على الصليب، فيبقى أن يكون واضحًا تمامًا أن المخلّص نفسه الذى ظهر فى الجسد هو الذى أباد الموت وهو الذى يُظهر علامات النصرة على الموت فى تلاميذه كل يوم. 

4 ـ لأنه عندما يرى الإنسان أن البشر الضعفاء بطبيعتهم يسرعون إلى الموت ويتهافتون عليه ولا يخشون فساده ولا ينزعجون من مواراتهم في القبر، بل يتحدّون الموتَ بحماسة، ولا يجزعون من التعذيب، بل بالعكس فإنهم من أجل المسيح يندفعون نحو الموت بحماسة مفضّلْينه على الحياة هنا، أو عندما يشاهد الإنسان بنفسه الرجال والنساء والأطفال يندفعون ويقفزون إلى الموت لأجل الإيمان بالمسيح، فمَنْ يكون غبيًا بهذا القدر أو من يكون متشككًا أو عديم العقل، حتى أنه لا يُدرك ولا يفهم أن المسيح الذى يشهد له هؤلاء الناس هو نفسه الذى يَهِب ويعطى كل واحد منهم النصرة على الموت؟ إذ أنه يجعل الموت ضعيفًا أمام كل من يتمسك بإيمان المسيح، ويحمل علامة الصليب. 

5 ـ من ذا الذى يرى الحيّة مدوسة تحت الأقدام ـ وخصوصًا وهو يعرف توحشها السابق ـ ويشك فى أنها قد ماتت وفقدت قوتها تمامًا، إلاّ إذا كان قد فقد اتزانه العقلي أو كانت حواسه الجسدية غير سليمة؟ ومَنْ ذا الذى يرى أسدًا والأطفال يلعبون به ولا يعرف إما أنه ميت أو أنه فقد كل قوته؟

6 ـ وكما أنه يمكن أن نرى بأعيننا أن كل هذا حق، هكذا فحينما يعبث مؤمنو المسيح بالموت ويحتقرونه، فيجب ألاّ يشك أحد فيما بعد ولا يبقى غير مصدَّق أن المسيح قد أبطل الموت وأوقف فساد الموت وأباده. 

الفصل الثلاثون 

البرهان على حقيقة القيامة ببعض الوقائع وهى: (1) غلبة الموت كما تبين مما سبق. (2) عجائب عمل المسيح هى من فعل شخص حي هو الله. 

1 ـ إن ما سبق أن قلناه إلى الآن ليس بالبرهان الهيّن على أن الموت قد أُبطِلَ وأن صليب الرب هو علامة الانتصار عليه. أما عن قيامة الجسد إلى حالة عدم الموت التى أكملها المسيح مخلّص الكّل وهو الحياة الحقيقية لهم جميعًا، فهذه (القيامة) يمكن إثباتها بالوقائع بوضوح أكثر من إثباتها بالحجج والمناقشات، وذلك لمَنْ لهم بصيرة عقلية سليمة. 

2 ـ لأنه إن كان الموت قد أُبطِلَ، كما بينّا بالأدلة سابقًا، وإن كان الجميع قد وطأوه بأقدامهم بقوة المسيح، فبالأولى جدًا يكون هو نفسه قد وطأه بجسده أولاً وأبطله. وإن كان المسيح قد أمات الموت فماذا كان ممكنًا أن يحدث (بعد ذلك) إلاّ أن يقيم جسده ويظهره كعلامة للنصرة على الموت؟ أو كيف كان ممكنًا إظهار أن الموت قد أبيد ما لم يكن جسد الرب قد قام؟ ولكن إن كانت هذه الأدلة على قيامته تبدو لأحد غير كافية، فليتأكد مما قلناه من الأمور التى تحدث أمام أعيننا. 

3 ـ لأنه عندما يكون المرء ميتًا لا يستطيع أن يمارس أي عمل، إذ أن قدرته وتأثيره ينتهيان عند القبر. فإن كانت الأعمال والتأثيرات في الآخرين هي من خصائص الأحياء فقط فلينظر كل مَنْ أراد وليحكم، وليكن شاهدًا للحق مما يبدو أمام عينيه. 

4ـ لأنه إن كان المخلّص يعمل الآن بقوة بين البشر ولايزال كل يوم ـ بكيفية غير منظورة ـ يُقنع الجموع الغفيرة من كل المسكونة سواء من سكان اليونان أو سكان بلاد البرابرة ليقبلوا الإيمان به ويطيعون تعاليمه، فهل لا يزال يوجد من يتطرّق الشك إلي ذهنه أن المخلّص قد أتم القيامة (بقيامته) وأن المسيح حيّ أو بالأحرى أنه هو نفسه الحياة ؟

5 ـ وهل يمكن لشخص ميت أن ينخس ضمائر الآخرين حتى يجعلهم يرفضون نواميس آبائهم الموروثة، ويخضعون لتعاليم المسيح؟ أو إن كان (المسيح) لم يَعُد يعمل ما يتفق مع خاصية مَن هو ميت فكيف استطاع أن يوقف أعمال الأحياء حتى يكف الزاني عن الزنا، والقاتل عن القتل، والظالم عن الظلم، ويصيّر الكافر تقيًا؟ ولو أنه لم يقم، بل لايزال ميتًا، فكيف يستطيع أن يطرد ويطارد ويحطم تلك الآلهة الكاذبة التي يدّعى غير المؤمنين أنها حيّة؟ وأيضًا كيف يستطيع أن يطرد الأرواح الشريرة التي يعبدونها؟ 

6 ـ لأنه حيث يُذكر اسم المسيح والإيمان به تتلاشى من هناك كل عبادة وثنية، وتُفضَح كل أضاليل الأرواح الشريرة، بل لم يستطع أي من هذه الأرواح أن يحتمل مجرد سماع الاسم (اسم المسيح)، حتى إنه يختفي عند سماعه. وهذا لا يمكن أن يكون عمل شخص ميت، بل هو عمل شخص حيّ، وبالحرى هو عمل الله. 

7 ـ وسيكون من الحماقة أن يُقال عن الأرواح التي بددها والأصنام التي أبطلها إنها حيّة، بينما يُقال عن ذلك الذي طردها، والذي بسلطانه منعها من الظهور وهو الذى يشهد له الجميع أنه ابن الله، أن يقال عنه إنه ميت. 

الفصل الحادى والثلاثون 

إن كانت قوة العمل علامة الحياة، فماذا نتعلم من ضعف الأوثان وعجزها سواء في فعل الخير أو فعل الشر؟ وماذا نتعلم من قوة المسيح الفائقة ومن قوة علامة الصليب؟ إذن فقد اتضح من هذا البرهان أن الموت والأرواح الشريرة فقدت سلطانها. 

1ـ فكل الذين لا يؤمنون بالقيامة يناقضون أنفسهم مناقضة شديدة، إذ أن كل الشياطين والآلهة التي يعبدونها عجزت عن طرد المسيح الذي يدّعون أنه ميت، بل بالعكس فإن المسيح أظهر أنها كلها ميتة. 

2 ـ لأنه إن كان صحيحًا أن الميت لا يستطيع أن يقوم بأى عمل فإن المخلّص كان يتمم كل يوم أعمالاً متعددة، جاذبًا البشر إلى التقوى ومقنعًا إياهم بحياة الفضيلة، ومعلّمًا إياهم عن الخلود، وباعثًا فيهم حب السماويات، كاشفًا لهم معرفة الآب، ومانحًا إياهم القوة لمواجهة الموت، مظهرًا لكل واحد ضلال عبادة الأوثان. فهذه الأعمال لا تستطيع الآلهة والأرواح التي يعبدها غير المؤمنين أن تعملها، بل بالحرى تظهر أنها ميتة في حضور المسيح، إذ تصير أُبهتها فارغة وباطلة تمامًا. 

وعلى العكس من ذلك، فبعلامة الصليب تَبطل قوة السحر وتتلاشى كل قوات العرافة، والأوثان تُهجَر وتُترَك. وكل الملذات غير العاقلة تكف، ويرفع الجميع أنظارهم من الأرض إلي السماء. فإن كان الميت لا يملك قدرة على العمل، فمن هو الذي يستحق أن ندعوه ميتًا؟ هل المسيح الذي يعمل أعمالاً كثيرة كهذه، أو ذاك الذي لا يعمل بالمرّة بل هو مطروح عديم الحياة؟ وهذه هي حالة الأرواح الشريرة والأصنام، إذ هى ميتة. 

3 ـ فابن الله هو حيّ وفعّال، ويعمل كل يوم، ويحقق خلاص الجميع. أما الموت، فيتبرهن في كل يوم أنه قد فقد كل قوته، والأصنام والأرواح الشريرة هي التي يتبرهن بالحرى أنها ميتة وليس الرب، وبالتالي فلا يستطيع أحد بعد أن يشك في قيامة جسده. 

4 ـ أما من لا يؤمن بقيامة جسد الرب فهذا سيبدو أنه يجهل قوة كلمة الله وحكمته. لأنه إن كان ـ كما بيّنا سابقًا ـ قد اتخذ لنفسه جسدًا وهيأه بطريقة لائقة ليكون جسده الخاص، فما الذي كان سيصنعه الرب بهذا الجسد؟ أو ماذا كان يمكن أن تكون نهاية هذا الجسد بعد أن حلّ فيه الكلمة؟ لأنه كان لابد أن يموت إذ هو جسد قابل للموت، وأن يُقدَّم للموت نيابة عن الجميع. ولأجل هذه الغاية أعده المخلّص لنفسه. لكن كان من المستحيل أن يبقى هذا الجسد ميتًا بعد أن جُعِلَ هيكلاً للحياة. ولهذا إذ قد مات كجسد مائت فإنه عاد إلى الحياة بسبب "الحياة" التي فيه. والأعمال التى عُملت بالجسد هى علامة لقيامته. 

الفصل الثاني والثلاثون 

مَن يستطيع أن يرى المسيح بعد قيامته؟ فإن الله غير منظور أبدًا، ومعروف بأعماله فقط. وهنا تنطق أعماله مقدمة البرهان. إن كنت لا تؤمن فانظر إلى من يؤمنون واعترف بألوهية المسيح. إن الأرواح الشريرة تعترف بهذا حتى وإن أنكر الملحدون. ملخص للحجج السابقة إلى الآن. 

1 ـ فإن كانوا لا يصدقون أنه قام بسبب أنه لم يكن منظورًا (بعد القيامة)، فيلزمهم إذن أن ينكروا ما يخص الطبيعة (الإلهية) ذاتها. لأن من خواص الله الذاتية أن يكون غير منظور، ومع ذلك فإنه يُعرف بواسطة أعماله، كما قلنا سابقًا. 

2 ـ لأنه لو لم يكن هناك أعمال لكان يحق لهم ألاّ يؤمنوا بمن هو غير منظور. لكن إن كانت الأعمال تصرخ بصوتِ عالٍ معلنة إياه بكل وضوح، فلماذا يصّرون على إنكار الحياة الواضحة جدًا الناتجة عن القيامة؟ لأنه حتى لو طُمِست أذهان البشر فإنهم يستطيعون بحواسهم الخارجية أن يروا قوة المسيح التي لا يُشك فيها ويدركون ألوهيته. 

3 ـ إن كان حتى الأعمى ـ رغم أنه لا يرى الشمس ـ فإنه عندما يشعر بالحرارة التي تشعها الشمس فإنه يعرف أنه توجد شمس فوق الأرض. هكذا أيضًا، إن كان مقاومونا لا يؤمنون حتى الآن بسبب أنهم لا يزالون عميانًا عن رؤية الحق، فإنهم على الأقل عندما يعرفون قوته في الذين يؤمنون فلا ينبغي أن ينكروا ألوهية المسيح والقيامة التي أتمها. 

4 ـ لأنه واضح لو كان المسيح ميتًا لما كان في قدرته أن يطرد الشياطين ويُبطل الأوثان، فإن الشياطين لا تخضع لإنسان ميت. لكن إن كانت قد طُرِدت جهارًا بمجرد ذِكْر اسمه، فإنه يتضح بشكل أكيد أنه ليس ميتًا، خاصة وأن الشياطين وهي ترى ما لا يراه البشر، تستطيع أن تعرف إن كان المسيح ميتًا وبالتالي ترفض الخضوع له بالمرة. 

5 ـ فمَنْ لا يؤمن به الملحدون ترى الشياطين أنه هو الله، ولذلك فإنها تطير وتجثو تحت قدميه، وتردد ما سبق أن نطقت به أمامه وهو في الجسد " نحن نعرفك من أنت قدوس الله" ، "ما لنا ولك يا يسوع ابن الله أستحلفك ألا تعذبني". 

6 ـ فإن كانت الشياطين تعترف به، وإن كانت أعماله تشهد له يومًا فيومًا. فيجب أن يكون واضحًا ـ ويجب ألاّ يتصلف أحد ضد الحق ـ أن المخلّص قد أقام جسده وأنه هو ابن الله بالحقيقة المولود من الآب وهو كلمته وحكمته وقوته؛ الذي في الأزمنة الأخيرة اتخذ جسدًا لأجل خلاص الجميع وعلّم العالم عن الآب وأبطل الموت ووهب عدم الفساد للجميع بوعد القيامة، إذ قد أقام جسده كباكورة للراقدين، مُظهِرًا إياه ـ بالصليب ـ كعلامة للغلبة على الموت والفساد.

الفصل الثالث والثلاثون 

عدم إيمان اليهود واستهزاء اليونانيين. عدم إيمان اليهود تدحضه كتبهم. النبوات التى تشير إلى مجيئه كإله متأنس. 

1 ـ طالما أن الأمور هي هكذا، وأن قيامة جسد المخلّص وانتصاره على الموت قد تبرهن عليها بوضوح، فهيا بنا الآن لكى ندحض كلاً من عدم إيمان اليهود واستهزاء الأمم. 

2 ـ فبسبب عدم الإيمان عند اليهود والاستهزاء عند الأمم، فإنهم يعتبرون الصليب أمرًا غير لائق، وكذلك يرون عدم لياقة تأنس كلمة الله. ونحن لن نتباطأ عن تقديم الحجج ضد آراء هذين الفريقين، لأن البراهين ضدهما واضحة جدًا. 

3 ـ فمن جهة اليهود، فإن الكتب المقدسة التي يقرأونها هى نفسها توضح عدم إيمانهم، إذ كل الكتاب الموحى به يصرخ عاليًا شاهدًا لهذه الأمور في كلماته الصريحة. فالأنبياء سبق أن تنبأوا عن عجيبة العذراء وولادتها (للمسيح) قائلين : " هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل". 

4 ـ أما موسى، ذلك العظيم حقًا ـ والذي يعتقدون فيه أنه ينطق بالحق، فقد اعترف بأهمية المخلّص، وأكد على حقيقته بهذه الكلمات: "يقوم كوكب من يعقوب وإنسان من إسرائيل فيحطم رؤساء موآب". وأيضًا "ما أحلى مساكن يعقوب وخيامك يا إسرائيل كبساتين ظليلة، كجنّات على نهر، يخرج من نسله إنسان يصير ربًا على شعوب كثيرة". ويقول أيضًا إشعياء: " قبل أن يعرف الصبي أن يدعو يا أبي ويا أمي تُحمل ثروة دمشق وغنيمة السامرة قدام ملك أشور". 

5 ـ فبهذه الكلمات تنبأ بظهور إنسان. وأكثر من ذلك أن الكتاب تنبأ أيضًا أن هذا الإنسان الذي سيأتي هو رب الكل بقوله: " هوذا الرب جالس على سحابة خفيفة وقادم إلى مصر فترتجف أوثان مصر المنحوتة". لأن من هناك دعاه الآب أيضًا للرجوع قائلاً: "من مصر دعوت ابني". 

الفصل الرابع والثلاثون 

نبوات عن آلامه وموته. 

1 ـ الكتب المقدسة أيضًا لم تصمت عن ذكر موته، بل على العكس أشارت إليه بوضوح تام. ولكي لا يتشكك أحد بسبب نقص المعرفة للأحداث الفعلية، فإنها لم تخش أن تتحدث عن سبب موته ـ إذ هو لم يحتمل الموت لأجل نفسه بل من أجل خلود الجميع وخلاصهم ـ كما تحدثت الكتب عن مؤامرات اليهود ضده وما لاقاه من إهانات منهم. 

2 ـ فالكتب تقول " رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمُستَّرٍ عنه وجوهنا مُحتقر فلم نعتد به. لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومرذولاً وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبجراحاته شُفينا". يالها من محبة عجيبة للبشرية تلك التي أظهرها الكلمة من نحونا حتى أنه هو يُهان لكى نحصل نحن على كرامة. ثم يقول الكتاب: " كُلنا كغنم ضللنا، ملنا كل واحد إلى طريقه والرب سلّمه لأجل خطايانا. ظُلم أما هو فلم يفتح فاه كشاة سيق إلى الذبح وكحمل صامت أمام الذى يجزه فلم يفتح فاه في اتضاعه رفعت عنه قضيته ". 

3 ـ ولئلا يظن أحد بسبب آلامه أنه إنسان عادي فقد سبق الكتاب وأشار إلى أوهام البشر معلنًا قوته واختلاف طبيعته عن طبيعتنا إذ يقول الكتاب: " من يُخبر بجيله؟ لأن حياته انتزعت من الأرض لأنه سيق إلى الموت بسبب شر الشعب، وجُعِلَ مع الأشرار قبره ومع غنيٍ عند موته، على أنه لم يعمل شرًا ولا وُجِدَ في فمه غش". 

الفصل الخامس والثلاثون 

نبوءات عن الصليب، وكيف تحققت هذه النبوات في المسيح وحده. 

1 ـ وبعد أن سَمِعتَ النبوة عن موته فربما تسأل لكي تعرف أيضًا ما كُتب عن الصلب. وهذا أيضًا لم يصمت عنه الكتاب بل ذكره القديسون بوضوح تام. 

2 ـ لأن موسى هو أول من تنبأ عنه بصوت عالٍ قائلاً: "وترون حياتكم معلقة أمام أعينكم ولا تؤمنون" ومن بعده شهد الأنبياء قائلين: "وأنا كحمل برئ يساق إلي الذبح ولم أعلم أنهم تآمروا عليّ قائلين تعالوا لنلقى على خبزه شجرة ونقطعه من أرض الأحياء" . 

3ـ وأيضًا " ثقبوا يدي ورجلي، وأحصوا كل عظامي، اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا القرعة" . 

4 ـ فالموت الذي يُرفع فيه الإنسان إلى فوق في الهواء ويُعلّق على خشبة لا يمكن إلاّ أن يكون موت الصليب. وأيضًا اليدان والرجلان لا تثقبان في أى موت سوى موت الصليب. 

5 ـ ولأنه منذ حلول المخلّص بين البشر بدأت الأمم أيضًا تعرف الله، (فالأنبياء) لم يتركوا هذا الأمر أيضًا دون الإشارة إليه، بل ذكروه في الكتب المقدسة كما هو مكتوب " سيكون أصل يسى الذي يقوم ليسود على الأمم، عليه يكون رجاء الأمم" وهذا قليل من كثير لإثبات ما حدث. 

6 ـ والكتاب المقدس مليء بالحجج التي تدحض عدم إيمان اليهود. لأنه مَن مِن الرجال الأبرار والأنبياء القديسين والأباء البطاركة الذين سُجِلت أسماؤهم في الكتب الإلهية وُلِدَ جسديًا من عذراء فقط؟ أو أيّة امرأة كانت قادرة أن تحمل بإنسان بدون رجل؟ ألم يولد هابيل من آدم؟ وأخنوخ من يارد ونوح من لامك، وإبراهيم من تارح، ويهوذا من يعقوب، وهارون من عمرام؟ ألم يولد صموئيل من ألقانة؟ وداود من يسى؟ ألم يكن سليمان من داود؟ ألم يكن حزقيال من آحاز؟ أما كان يوشيا من آموس؟ أما كان إشعياء من آموص؟ إرميا من حلقيا؟ وحزقيال ألم يكن من بوزي؟ ألم يكن لكل واحد أب كأصل لوجوده؟ فمن هو إذن الذي وُلِدَ من العذراء فقط؟ لأن النبي شدّد بتأكيد على هذه العلامة. 

7 ـ ومَنْ ذا الذي وقت ميلاده جرى نجم في السماء ليعلن للعالم عن ذلك الذي وُلِدَ؟ فلما وُلِدَ موسى أخفاه أبواه، وجيران داود لم يسمعوا عن ميلاده حتى إن صموئيل العظيم نفسه لم يعرفه بل سأل: أليس ليسّى ابن آخر؟ وإبراهيم لم يعرفه جيرانه كرجل عظيم إلاّ بعد ميلاده بزمن طويل، أما المسيح فعند ميلاده شهد له ليس إنسان بل نجم في السماء التي نزل هو منها. 

الفصل السادس والثلاثون 

نبوات عن عظمة المسيح وعن هروبه إلى مصر...ألخ 

1 ـ ولكن أي مَلِك على الإطلاق مَلَكَ وانتصرَ على أعدائه قبل أن يكون قادرًا أن ينادي يا أبي ويا أمي؟ ألم يصل داود إلي العرش في سن الثلاثين؟ وسليمان صار ملكًا حينما وصل إلى سن الشباب؟ ألم يترأس يوآش على المملكة وهو في سن السابعة؟ ويوشيا وهو ملك جاء بعده ـ ألم يستلم الحكم وهو في سن السابعة تقريبًا؟  ومع ذلك فإن هذين الآخرين كانت لهما القدرة في تلك السن أن يدعو يا أبي ويا أمي. 

2 ـ فمن هو إذن الذى كان يحكم ويأسر أعداءه حتى قبل ولادته؟ ليُخبرنا اليهود الذين فحصوا هذا الأمر: أى ملك مثل هذا ـ وُجِدَ في إسرائيل وفي يهوذا، قد وضعت كل الأمم رجائها عليه فأعطاها السلام بدلاً من العداوة؟ 

3 ـ لأنه طالما كانت أورشليم قائمة كانت هناك حرب بلا انقطاع إذ كانت جميع (الأمم) تحارب إسرائيل؛ فالآشوريون ضايقوا الإسرائيليين والمصريون طاردوهم والبابليون انقضّوا عليهم. وأعجب من ذلك فإن جيرانهم الآراميين (السوريين) حاربوهم، ألم يحارب داود ضد الموآبيين وألم يضرب الآراميين، ويوشيا كان يحترس من جيرانه، وحزقيا انهار أمام تعايير سنحاريب؟ ألم يحارب عماليق موسى، ألم يقاومه الأموريون، وكذلك سكّان أريحا ألم يقفوا ضد يشوع بن نون؟ وبالإجمال لم تكن هناك معاهدات سلام بين الأمم وإسرائيل. والآن هو أمر جدير بالنظر أن نفكر في مَن هو هذا الذي تضع الأمم رجائها عليه؟ لأنه يجب أن يكون هناك شخص كهذا، فمن المستحيل أن ينطق النبي بالكذب

4ـ فمَن مِن بين الأنبياء القديسين أو من الآباء البطاركة الأولين مات على الصليب لأجل خلاص الجميع؟ أو مَن الذي جُرِحَ وسُحِقَ لأجل شفاء الكل؟ أو مَن مِن الأبرار أو الملوك نزل إلى مصر فسقطت أوثان مصر عند مجيئه إليها؟ فإبراهيم ذهب إليها ولكن عبادة الأوثان ظلت مع ذلك منتشرة بها كما كانت. وموسى وُلِدَ هناك ومع ذلك فإن عبادة الشعب الضالة (للأوثان) لم تنقضِ. 

الفصل السابع والثلاثون 

نبوة " ثقبوا يدىّ ورجلىّ " (مز16:22). عظمة ميلاده وموته. اضطراب العرافين والشياطين في مصر. 

1 ـ أو مَن مِن بين الذين سُجلت سيرتهم في الكتاب المقدس قد ثُقبت يداه ورجلاه أو عُلّق كله على خشبة ومات على الصليب لأجل خلاص الجميع؟ فإبراهيم مات وانتهت حياته على الفراش، واسحق ويعقوب أيضًا ماتا رافعين أقدامهما على الفراش؛ موسى وهارون ماتا في الجبل وداود مات في بيته دون أن يتعرّض لمؤامرة من الشعب. صحيح أن شاول قد طارده، لكنه حُفظَ من الأذى. 

وإشعياء نُشِرَ ولكنه لم يعلّق على خشبة. وإرمياء أُهين إلاّ أنه لم يَمُتْ بسبب الحكم عليه. وحزقيال تألم، ليس من أجل الشعب، بل لكى يوضح ما كان عتيدًا أن يأتي على الشعب (من كوارث). 

2 ـ وأيضًا فإن هؤلاء الذين احتملوا الآلام كانوا بشرًا وجميعهم يشبهون بعضهم بعضًا في طبيعتهم المشتركة، أما ذلك الذى تنبأ عنه الكتاب أنه يتألم عن الجميع فإنه يُدعى ليس مجرد إنسان بل "حياة " الكل حتى إن كان مشابهًا للبشر في طبيعتهم. لأن الكتاب يقول "سوف ترون حياتكم معلّقة أمام أعينكم" وأيضًا يقول "مَنْ يُخبر بجيله" فيمكن للمرء أن يتحقق من سلسلة أنساب كل القديسين، ويُخبر عنها منذ بدايتها، ويعرف من أي جيل وُلِدَ كل منهم. أما جيل الذي هو " الحياة " فإن الكتب المقدسة تشير إليه على أن لا يُخبر به. 

3 ـ فمَن هو إذن ذلك الذي تقول عنه الكتب الإلهية هذا الكلام؟ أو مَن هو العظيم بهذا المقدار حتى يتنبأ عنه الأنبياء بهذه الأمور العظيمة؟ لا يوجد أحد آخر في الكتب سوى مخلّص الجميع، كلمة الله، ربنا يسوع المسيح. فهو الذي وُلِدَ من العذراء وظهر كإنسان على الأرض وهو الذي لا يُخبَر بجيله حسب الجسد، لأنه لا أحد يستطيع أن يُحدد له أبًا حسب الجسد لأن جسده لم يأتِ من رجل بل من عذراء فقط. 

4 ـ لأنه لن يستطيع أحد أن يُخبر عن نسب (ولادة) المخلّص بالجسد من رجل بنفس الطريقة التي تُذكر بها سلسلة أنساب داود وموسى وجميع الآباء البطاركة. فهو الذي جعل النجم يعلن عن ميلاده بالجسد، لأنه كان يليق بالكلمة النازل من السماء أن يكون الإعلان عن ميلاده أيضًا من السماء. وكان يليق بملك الخليقة، عند مجيئه (للعالم) أن تعترف به المسكونة جهارًا. 

5 ـ فمع أنه وُلِدَ في اليهودية، فقد جاء رجال من بلاد فارس ليسجدوا له. فهو الذي نال الغلبة على الشياطين أعدائه، والنصرة على العبادة الوثنية حتى قبل ظهوره في الجسد. وكل الأمم الوثنية من كل قطر هجروا تقاليدهم الموروثة وعبادة الأصنام، والآن يضعون رجاءهم في المسيح، ويقدمون خضوعهم له، الأمر الذي يمكن أن نراه بعيوننا. 

6 ـ فضلال المصريين لم يتوقف في أي عصر من العصور إلاّ حينما جاء رب الكل بالجسد إلى هناك كأنه راكب على سحابة، وأبطل ضلالات الأوثان، وجذب الجميع إلي نفسه ثم إلى الآب من خلال شخصه. 

7 ـ وهو الذي صُلب والشمس وكل الخليقة ومن صلبوه شهود لصلبه. وبموته صار الخلاص للجميع، وتم الفداء لكل الخليقة. هذا هو "حياة " الكل، الذي سلّم جسده للموت كَحَمل فدية لأجل خلاص الكل ولو لم يؤمن اليهود بذلك. 

الفصل الثامن والثلاثون 

نبوات أخرى واضحة عن مجىء الله في الجسد. معجزات المسيح المنقطعة النظير. 

1 ـ فإن كانوا يظنون أن هذه البراهين غير كافية فليقتنعوا على الأقل ببراهين أخرى مستقاة من الأقوال الإلهية التي عندهم. لأنه عن مَنْ يقول الأنبياء " صرت ظاهرًا لمن لم يطلبوننى، وُجدت من الذي لم يسألوا عني، قلت هاأنذا للأُمَّة التي لم تُسمَّ باسمي، بسطت يدي إلى شعب معاند ومقاوم" ؟ 

2 ـ ويمكن للمرء أن يسأل اليهود: مَنْ هو إذن الذي صار ظاهرًا؟ فإن كان هو النبي فليقولوا لنا متى اختفى حتى يظهر ثانيةً، وأي نبي هذا الذي لم يظهر من الخفاءفقط، بل أيضًا بسط يديه على الصليب؟ بالتأكيد أنه ليس بين الأبرار سوى كلمة الله فقط الذي هو بلا جسد حسب الطبيعة، ظهر في الجسد لأجلنا وتألم عن الجميع. 

3 ـ وإن كان حتى هذا لا يكفيهم فلعلهم على الأقل يصمتون بواسطة برهان آخر واضح كل الوضوح، لأن الكتاب يقول " تشدّدي أيتها الأيادي المسترخية والرُكب المرتعشة، تعزوا يا خائفي القلوب، تشدّدوا لا تخافوا هوذا إلهنا يجازي منتقمًا، هوذا يأتي ويخلّصنا. حينئذٍ تفتح عيون العُمي وآذان الصُمّ تسمع، حينئذٍ يقفز الأعرج كالأيّل ولسان العيّ يصير فصيحًا". 

4 ـ والآن ماذا يمكن أن يقولوا عن هذا أو كيف يجرأون على أن يواجهوا هذا بالمرة؟ فالنبّوة لا توضح أن الله يحل هنا فقط بل هي تكشف أيضًا عن علامات ووقت مجيئه. فهي تربط معًا استعادة العُمي لبصرهم، وشفاء العرج ليمشوا، والصُمّ ليسمعوا، ولسان المتلعثم يصير فصيحًا، وذلك بمجيء الإله الذي كان مزمعًا أن يحدث. فليخبرونا إذًا متى تَمّت هذه العلامات في إسرائيل أو في أى مكان في اليهودية حدث أمر كهذا؟ 

5 ـ فنعمان الأبرص تطهر، ولكن لم يحدث أن أصمًا سمع أو أعرج مشى. وإيليا أقام ميتًا، وهكذا فعل إليشع، ولكن لم يستَعِد أيّ أعمى منذ ولادته بصره. حقًا إن إقامة الميت أمر عظيم ولكنه ليس مثل العجائب التي تمّمها المخلّص. فإن كان الكتاب لم يغفل ذكر حادثة الأبرص، ومعجزة ابن الأرملة الذي أقامه إيليا، بالتأكيد لو كان قد حدث أن إنسانًا أعرج مشى أو أعمى استعاد بصره لما أغفل ذكر هذا أيضًا. وحيث إنه لم يَرِد شيء عن ذلك في الكتاب فواضح أن مثل هذه الأمور لم تحدث مطلقًا من قبل. 

6 ـ إذن متى حدثت هذه (المعجزات) إلاّ عندما جاء كلمة الله نفسه في الجسد؟ ومتى مشى العرج وتكلّم المُتلعثمون بفصاحة، وسمع الصُمّ، واستعاد العُمي منذ ولادتهم بصرهم، إلاّ عندمـا جاء هو في الجسد؟ لأن هذا هو عين ما شهد به اليهود الذين عاينوا تلك الأمور لأنهم لم يسمعوا أنها حدثت في أى وقت من قبل إذ قالوا: "منذ الدهر لم يُسمع عن أحد فتح عيني مولود أعمى. لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئًا".


الفصل التاسع والثلاثون 

دليل آخر: دانيال يتنبأ عن وقت مجيئه. تفنيد الاعتراضات المتعلقة بهذا. 

1 ـ ولكن ربما لأنهم لم يكونوا قادرين على مقاومة الحقائق الواضحة باستمرار، فإنهم دون أن ينكروا الأمور المكتوب عنها يقولون إنهم ينتظرون تحقيقها، وإن كلمة الله لم يأتِ بعد. وهذا هو ما يرددونه على الدوام دون أن تخجلهم الحقائق الواضحة التي يواجهونها. 

2 ـ ولكن في هذا الأمر أكثر من غيره سيتم دحضهم بشدة، ليس على أيدينا بل بواسطة دانيال الكثير الحكمة الذي يحدّد الوقت الفعلي لمجىء المخلّص الإلهي بيننا قائلاً: " سبعون أسبوعًا قُضيت على شعبك وعلى المدينة المقدسة لتكميل المعصية وتتميم الخطايا ولكفارة الآثم وليؤتى بالبر الأبدي ولختم الرؤيا والنبوة والمسيا قدوس القديسين، فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس.."

3 ـ فربما في النبوات الأخرى يستطيعون أن يجدوا عذرًا لأنفسهم أو أن يؤّجلوا تتميم المكتوب إلى وقت آخر في المستقبل، ولكن ماذا يستطيعون أن يقولوا عن هذه النبوة؟ أو كيف يمكنهم مواجهتها على الإطلاق؟ إذ نجد فيها ليس إشارة فقط إلى المسيح بل هي تُخبر بأن الذي سيُمسح ليس هو مجرد إنسان بل هو "قدوس القديسين" وأن أورشليم تبقى إلى وقت مجيئه وبعد ذلك تبطل النبوة والرؤيا في إسرائيل. 

4 ـ فداود مُسح قديمًا وكذلك سليمان وحزقيا ومع ذلك فإن أورشليم والموضع (الهيكل) استمرا موجودين بعدهم، وأيضًا الأنبياء جاد وآساف وناثان ومن بعدهم إشعياء وهوشع وعاموس وآخرون، كل هؤلاء استمروا يتنبأون. ثم أن الأشخاص الذين كانوا يُمسحون كانوا يُدعون قديسين ولكن لم يُدع أحد منهم قدوس القدوسين. 

5 ـ إن كانوا يجدون لهم ذريعة في السبي قائلين إن أورشليم لم تكن قائمة عندئذٍ، فماذا يستطيعون أن يقولوا عن الأنبياء أيضًا؟ فالواقع أنه في بداية السبي عندما نزل الشعب إلى بابل كان هناك دانيال وإرميا، وكذلك تنبأ هناك أيضًا حزقيال وحجي وزكريا. 

الفصل الأربعون 

براهين من إبطال النبوة وخراب أورشليم، ومن تجديد الأمم واتباعهم إله موسى. كل النبوات عن المسيا تحققت في يسوع المسيح. 

1 ـ فاليهود إذن يخترعون أساطير، فالوقت الذي نتحدّث عنه قد جاء فعلاً، أما هم فيحاولون أن يثبتوا أنه لم يأت بعد. لأنه متى بَطُلت النبوة والرؤيا في إسرائيل إلاّ حينما جاء المسيح قدوس القدوسين؟ فالعلامة الواضحة والبراهين القوية على مجىء كلمة الله أن أورشليم لن تكون فيما بعد، ولا يكون هناك نبي في وسطهم، ولا تُعلن لهم رؤيا، وهذا ما كان من الطبيعي أن يحدث. 

2 ـ لأنه عندما يكون الذي أشارت إليه النبوات قد جاء فعلاً فأي حاجة بعد ذلك لأية نبوة تشير إليه؟ وعندما يكون الحق حاضرًا فأى حاجة تكون بعد إلى الظـل؟ فإن هـدف تنبؤاتهم هو مجـىء البر ذاته والذي يكون فدية عن خطايا الجميع. وهذا هو السبب في بقاء أورشليم حتى ذلك الوقت، حتى يستمروا في ممارسة الرموز هناك تمهيدًا لظهور الحقيقة. 

3 ـ هكذا فحينما جاء قدوس القدوسين كان من الطبيعي أن تبطل الرؤيا والنبوة وتنتهي مملكة أورشليم. فقد كان يجب أن يُمسح بينهم ملوك إلى أن يُمسح "قدوس القديسين". فيعقوب تنبأ أن مملكة يهوذا تبقى حتى مجيء (المسيح) قائلاً: " لا يزول حاكم من يهوذا ورئيس من بين أحقائه حتى يأتي المُعد له ويكون هو رجاء الأمم". 

4 ـ لهذا هتف المخلّص نفسه قائلاً: " الناموس والأنبياء إلى يوحنا تنبأوا". فلو كان الآن بين اليهود ملك أو نبي أو رؤيا لكان لهم العذر أن ينكروا المسيح الذي أتى فعلاً. أما إن لم يكن هناك ملك ولا رؤيا، بل قد خُتمت كل نبوة من ذلك الوقت وأُخذت المدينة والهيكل، فلماذا يجحدون ويتمردون إلى هذه الدرجة، حتى أنهم بينما ينتظرون ما قد حدث فإنهم ينكرون المسيح الذي جعل كل هذه الأمور تتم؟ ولماذا حينما يرون الوثنين يهجرون أصنامهم ويضعون رجاءهم في إله إسرائيل بإيمانهم بالمسيح نراهم هم (اليهود) ينكرون المسيح الذي وُلِدَ من أصل يسى حسب الجسد صائرًا ملكًا إلى الآن؟ لأنه لو كانت الأمم تعبد إلهًا آخر ولا تعترف بإله إبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى لكان لهم العذر في أن يدّعوا أن الله لم يأت (في الجسد). 

5 ـ أما إن كانت الأمم تكرّم نفس الإله الذي أعطى موسى الناموس والذى سبق أن أعطى إبراهيم الوعد، والذي احتقر اليهود كلمته (المتجسد)، فلماذا يجهلون، أو لماذا يتجاهلون، أن الرب الذي سبق أن أنبأت عنه الكتب المقدسة قد أشرق على العالم، وظهر للمسكونة متجسدًا كما قال الكتاب " الرب الإله قد أشرق علينا" وأيضًا " أرسل كلمته فشفاهم"، وأيضًا " لا رسول ولا ملاك بل الرب نفسه خلّصهم "؟ 

6 ـ ويمكن أن تقارن حالتهم بما يحدث لإنسان غير متزن العقل يرى الأرض والشمس تضيؤها ومع ذلك ينكر الشمس التي تنيرها. لأنه ما هو الأمر الذي لم يتممه المسيح (الذي أتى)، ويقولون أن مَن ينتظرونه سيتممه؟هل هو دعوة الأمم؟ لقد دعاهم المسيح فعلاً. هل هو إبطال النبوّة والمُلك والرؤيا؟ وهذا أيضًا قد تم فعلاً هل هو فَضحْ فساد وكفر العبادة الوثنية؟ لقد شُهّر بها فعلاً وشُجبت. هل هو إبادة الموت؟ لقد أُبيد فعلاً. 

7ـ إذن فأى شيء كان ينبغي أن يفعله المسيح ولم يفعله؟ وأى شيء لم يتحقق حتى يصرَّ اليهود على عدم إيمانهم؟ وأقول إن كان الأمر ـ كما نرى فعلاً ـ أنه لم يعد هناك ملك ولا نبى ولا أورشليم ولا ذبيحة ولا رؤية بينهم، بل قد امتلأت الأرض كلها من معرفة الله، والأمم تركوا ضلال عبادتهم الوثنية ولجأوا إلى إله إبراهيم بواسطة الكلمة، ربنا يسوع المسيح، فواضح إذن ـ حتى لأشد الناس عنادًا ـ أن المسيح قد جاء وأنه قد أنار الجميع بنوره وأعطاهم التعليم الصحيح الإلهي عن أبيه. 

8ـ وبهذه الأدلة وبغيرها الكثير مما هو في الكتب الإلهية، يمكن للمرء أن يُفنّد حجج اليهود. 

الفصل الحادى والأربعون 

الرد على اليونانيين. هل هم يعترفون بالكلمة؟ إن كان يعلن نفسه في نظام وترتيب الكون فماذا يمنع ظهوره في جسد بشرى؟ أليس الجسد البشرى جزءًا من الكل؟ 

1 ـ إن اليونانيين يناقضون أنفسهم، فإنهم يسخرون مما لا يدعو إلى السخرية، وفي ذات الوقت لا يشعرون بالخزي الذي هم فيه ولا يرونه، فهم يتعبدون لأحجار وأخشاب. 

2 ـ ومع أن حجتنا لا تنقصها البراهين والإيضاحات لكن هيّا بنا نخجلهم ببيان أمور لا تقبل المناقضة، وبالحرى من تلك الأمور التي نراها نحن أنفسنا. فهل هناك أمر غير لائق أو يدعو إلى السخرية فيما نقوله ونؤمن به، أن الكلمة قد ظهر في الجسد؟
وهذا الأمر أيضًا كانوا سيشتركون معنا (في الإيمان به) لو كانوا مُحبين للحق، دون أن يروا شيئًا من عدم اللياقة في ذلك. 

3 ـ فإن كانوا ينكرون وجود كلمة الله بشكل مطلق فإن استهزاءهم هذا يكون على غير أساس، إذ أنهم يهزأون بما يجهلون. 

4 ـ ولكن إن اعترفوا بوجود كلمة الله وأنه هو المهيمن على الكون، وأن الآب خَلَقَ به الخليقة كلها، وأن الكل ينالون النور والحياة والوجود بعنايته، وأنه يملك على الكل، ولهذا فإنه يُعرف من أعمال عنايته، وبواسطته يُعرف الآب، فأتوسل إليك أن تتمعن لتدرك أنهم في هذه الحالة هم يهزأون بأنفسهم وهم لا يدرون. 

5 ـ إن فلاسفة اليونانيين يقولون إن الكون جسم عظيم، وهذا صحيح. لأننا نرى الكون وأجزاءه بحواسنا. فإن كان كلمة الله موجود في الكون الذي هو جسم، وإن كان (كما يقول الفلاسفة) موجود في الكون، فما هو الأمر الغريب أو غير اللائق إن قلنا إنه اتحد بالإنسان أيضًا؟

6 ـ لأنه لو كان حلوله في جسد أمرًا غير لائق لكان من غير اللائق أيضًا أن يوجد في الكون كله ويعطي بعنايته نورًا وحركة لكل الأشياء، لأن الكون أيضًا هو جسم. 

7ـ فإن كان قد لاق به أن يرتبط بالكون وأن يُعرف في الكون كله، فإنه يليق به أيضًا أن يظهر في جسد بشري، وأن ينير هذا الجسد ويعمل به. لأن البشرية هي جزء من الكل (الكون كله) كغيرها من الأجزاء. فلو كان أمرًا غير لائق أن يتخذ الجزء كأداة يُعَرِّف بها لاهوته للبشر، لكان أمرًا غير معقول بالمرة أن يُعرَف بواسطة كل الكون. 

الفصل الثاني والأربعون 

إن اتحاده بالجسد مؤسس على علاقته بالخليقة ككل. وهو استخدم جسدًا بشريًا لأنه أراد أن يعلن نفسه للإنسان. 

1 ـ فكما أن الجسد كله يحيا ويستنير بواسطة (نفس) الإنسان، فلو قال أحد إنه من غير المعقول أن تكون قوة الإنسان موجودة في إصبع قدمه أيضًا، اعتبر هذا الشخص غبيًا. لأنه بينما يُسلّم أن (نفس) الإنسان تَسود كل أجزاء الجسم وتعمل فيها فإنه يستنكر وجودها في الجزء. هكذا أيضًا يجب على كل مَنْ يُسلّم ويؤمن أن كلمة الله هو في كل الكَوْن وأن الكَوْن كلَّه يستنير ويتحرّك بواسطته أن لا يحسبه أمرًا غير معقول أن جسدًا بشريًا واحدًا ينال منه حركة ونورًا. 

2 ـ فإن كانوا ـ بسبب أن الجنس البشري مخلوق وقد وُجد من العدم ـ يعتبرون أن ظهور المخلّص في الجسد الذي نتحدّث عنه هو أمر غير لائق، فإنه يجب عليهم أن يبعدوه خارج الخليقة أيضًا لأنها هى أيضًا وُجدت من العدم بالكلمة. 

3 ـ أما إذا لم يكن أمرًا غير لائق أن يكون الكلمة في الخليقة رغم أنها مخلوقة كذلك يكون من اللائق أن يكون هو في (الجسد) البشري. لأنه يجب أن يفكروا بطريقة واحدة عن الكل والجزء معًا. لأن الإنسان أيضًا ـ كما سبق أن قلت ـ هو جزء من الكل. 

4 ـ لذلك فليس من عدم اللياقة على الإطلاق أن يحل الكلمة في (الجسد) البشري في الوقت الذي تستمد منه كل المخلوقات نورها وحركتها وحياتها، كما يقول أحد شعرائهم " إننا به نحيا ونتحرك ونوجَد" . 

5 ـ إذن فأي شيء فيما نقوله يستدعي الاستهزاء إن كان الكلمة قد استخدم هذا الجسد الذي سكن فيه كأداة ليُظهر فيه نفسه؟ لأنه لو لم يكن كائنًا في الجسد لما استطاع أن يستخدمه. ولكن إن كنا قد قَبِلْنا سابقَا أنه موجود في الكون كله وفي الأجزاء فما هو الذي لا يمكن تصديقه عندما يُظهر ذاته في ذلك الجسد الذي هو كائن فيه؟ 

6 ـ لأنه بقدرته الذاتية هو موجود في الكل وفي الجزء ويضبط كل الأشياء بغير حدود. حتى أنه لو أراد أن يُعلن ذاته ويُعلن أباه بواسطة الشمس أو القمر أو السماء أو الأرض أو المياه أو النار لما تجاسر أحد بقول إن ما يفعله الكلمة هو في غير محله، إذ هو يمسك بكل الأشياء معًا في وقت واحد وهو في الحقيقة ليس موجودًا في الكل فقط بل كائن أيضًا في الجزء الذى نتحدّث عنه، أى الجسد، وبطريقة غير منظورة يُظهر فيه ذاته. وبالطريقة نفسها لا يمكن أن يكون أمرًا غير معقول ـ إن كان الكلمة وهو الذي يضبط كل الأشياء ويعطيها الحياة وأراد أن يجعل نفسه معروفًا للبشر ـ قد استخدم جسدًا بشريًا كأداة له يُظهر فيه الحق ويعلن الآب، لأن البشرية أيضًا هى جزء حقيقي من الكل. 

7ـ وكما أن العقل موجود في الإنسان بكلّيته ومع ذلك يُعبر عنه جزء واحد من الجسم وأعني اللسان، دون أن يقلّل أحد من جوهر العقل بسبب ذلك؛ هكذا فإن كان الكلمة، وهو الكائن في كل الأشياء، قد استخدم الجسد البشري كأداة فإن ذلك لا يمكن أن يكون أمرًا غير لائق. لأنه كما قلت سابقًا، لو كان أمرًا غير لائق أن يتخذ الجسد كأداة فإنه يكون أمرًا غير لائق به أيضًا أن يكون في الكل. 

الفصل الثالث والأربعون 

جاء في شكل بشرى وليس في شكل أسمى لأنه: (1) جاء ليخلّص لا ليبهر الأنظار (2) لأن الإنسان وحده هو الذى أخطأ دون سائر المخلوقات. وبما أن البشر لم يريدوا أن يروا أعماله في الكون فقد جاء وعمل بينهم كإنسان في الدائرة التى حصروا أنفسهم فيها

1 ـ والآن إذا سألوا قائلين: لماذا لم يظهر عن طريق أجزاء أخرى من الخليقة أكثر سموًا، وأن يستخدم أداة أشرف كالشمس أو القمر أو النجوم أو الكواكب أو النار أو الهواء بدلاً من الإنسان وحده؟ فدعهم يعرفون أن الرب لم يأتِ لكى يتظاهر أو يستعرض نفسه، بل جاء لكى يُشفي ويعلّم أولئك الذين هم تحت الآلام. 

2 ـ فطريقة الذي يريد أن يتظاهر هى مجرد أن يظهر ويبهر عيون الناظرين، أما الذي يأتي ليُشفي ويعلّم فطريقته هي ألاّ يكتفي بمجرد حلوله بيننا بل أن يقدّم ذاته لمساعدة من هم في احتياج، وأن يَظهر لهم بالقدر الذي يحتمله أولئك الذين هم في حاجة إليه، لئلا إذا زاد (ظهوره) عن القدر الذي يحتاجه المتألمون فقد يسبب هذا اضطرابًا لنفس الأشخاص الذين يحتاجونه مما يجعل ظهور الله عديم النفع بالنسبة لهم. 

3 ـ ومن بين كل الخلائق لم يبتعد مخلوق منها عن الله سوى الإنسان وحده. فلا الشمس ولا القمر ولا السماء ولا الكواكب ولا الماء ولا الهواء انحرفت عن نظامها، بل إذ عرفت خالقها وربها الكلمة فإنها باقية كما خُلقت. أما البشر وحدهم فإذ قد رفضوا الصلاح، فإنهم اخترعوا لأنفسهم أشكالاً من لا شيء بدلاً من الحق، ونسبوا الكرامة الواجبة لله ومعرفته للشياطين ومنحوتات البشر. 

4 ـ ولذلك، إذ لم يكن لائقًا بصلاح الله أن يهمل أمرًا خطيرًا كهذا، ولأن البشر لا يزالون عاجزين عن أن يعرفوه أنه هو ضابط الكل ومدّبر الكل، لذلك اتخذ لنفسه جزءًا من الكل كأداة، أى " الجسد البشري " واتحد به لكى لا يعجز البشر عن إدراكه في الجزء بعد أن عجزوا عن إدراكه في الكل. لكى بعدما عجزوا عن أن يدركوا قوته غير المنظورة يمكنهم بالحرى أن يدركوه ويتأملوا فيه عن طريق ما هو مشابه لهم. 

5 ـ ولكونهم بشرًا فإنهم يستطيعون بواسطة الجسد المماثل لهم الذي اتخذه الكلمة، وبالأعمال الإلهية التي يعملها بواسطة هذا الجسد، أن يعرفوا أباه مباشرة وبأكثر سرعة، إذ يدركون بالمقارنة أن هذه الأعمال ليست أعمالاً بشرية بل هى أعمال الله التي عملها الكلمة بالجسد. 

6 ـ ولو كان من غير اللائق ـ كما يقولون ـ أن يُعرف الكلمة بواسطة أعمال الجسد لكان من غير اللائق أيضًا أن يُعرَف بواسطة أعمال الخليقة كلها. لأنه كما أنه كائن في الخليقة ومع ذلك لا يشترك في طبيعتها بأى حال، بل بالحرى فإن كل المخلوقات قَبِلت قوة منه، هكذا أيضًا عندما اتخذ الجسد كأداة له فإنه لم يشترك في خواص الجسد بل بالحرى فإنه قدّس الجسد. 

7 ـ لأنه حتى أفلاطون الذائع الصيت بين اليونانيين يقول إن مُنشئ الكَوْن إذ رأى الكَوْن مضطربًا وفي خطر أن ينحدر إلى حالة الاضمحلال فإنه جلس على دفة حياة الكَوْن لينقذ الكَوْن ويصحّح مساره. فأى شيء إذًا لا يُصَدَق عندما نقول إن البشرية عندما أخطأت فإن الكلمة نزل إليها وظهر كإنسان لكى يخلّصها من الاضطرابات بقيادته وصلاحه الذاتي؟ 

الفصل الرابع والأربعون 

وإن كان الله قد خلق الإنسان بكلمة فلماذا لا يخلّصه بكلمة؟ ولكن: (1) الخلقة من العدم تختلف عن إصلاح ما هو موجود فعلاً (2) والإنسان كان موجودًا وله حاجة معيّنة ويتطلب علاجًا معينًا. ولقد تأصل الموت في طبيعة الإنسان. فكان لابد للحياة أن تلتصق بالجسد وتصير فيه. لذلك تجسد الكلمة لكى يلتقي بالموت ويقهره في الجسد. تشبيه بالقش والاسبستوس. 

1 ـ وربما بسبب الخجل يوافقون على هذا، ولكنهم يريدون أن يقولوا إن الله لو أراد أن يردَّ البشرية ويخلّصها كان يمكنه أن يفعل هذا بنطق عالٍ وبدون أن يتخّذ كلمته جسدًا، أي بالطريقة نفسها التي أوجد بها البشرية من العدم في البدء. 

2ـ ونجيب على اعتراضهم هذا بجواب معقول قائلين إنه في البدء لم يكن شيء موجودًا بالمرّة. فكل ما كان مطلوبًا هو مجرد "نطق" مع إرادة (إلهية) لإتمام الخلق. ولكن بعد أن خُلق الإنسان (وصار موجودًا) واستدعت الضرورة علاج ما هو موجود، وليس ما هو غير موجود، عندئذٍ كان من الطبيعي أن يظهر الطبيب والمخلّص فيما هو موجود لكى يشفي الخلائق الموجودة. لهذا السبب قد صار إنسانًا واستخدم جسده أداة بشرية. 

3 ـ لأنه لو لم تكن هذه هي الطريقة الصحيحة فكيف كان ممكنًا للكلمة، الذى اختار أن يستخدم أداه "بشرية"، أن يظهر؟ أو من أين كان سيأخذ " هذه الأداة " إلاّ من أولئك الموجودين فعلاً، والذين هم في حاجة (أن يأتي) بلاهوته في واحد مشابه لهم؟ لأن الأشياء غير الموجودة لم تكن هى المحتاجة للخلاص (بالتجسد) بل كان يكفيها مجرّد كلمة أو صدور أمر، ولكنه الإنسان (المخلوق) الموجود فعلاً والمنحدر إلى الفساد والهلاك هو الذي كان محتاجًا أن يأتي الكلمة ويستخدم أداة بشرية، ويعلن نفسه في كل مكان، وكان هذا أمرًا طبيعيًا وصائبًا. 

4 ـ ثم ينبغي أن يُعرف هذا أيضًا، أن الفساد الذي جرى لم يكن خارج الجسد، بل كان ملتصقًا به، وكان الأمر يحتاج إلى أن تلتصق به الحياة بدلاً من الفساد، حتى كما صار الموت في الجسد تصير الحياة في داخل الجسد أيضًا. 

5 ـ والآن لو أن الموت كان خارج الجسد لكان من الملائم أيضًا أن تصير الحياة خارج الجسد أيضًا. ولكن ما دام الموت قد صار داخل نسيج الجسد وبوجوده في كيانه صار سائدًا عليه، لذلك كان من اللازم أن تصير الحياة داخل نسيج الجسد أيضًا، حتى إذا لبس الجسد الحياة بدل الموت فإنه يطرح عنه الفساد. وإضافة إلى ذلك فلو افترضنا أن الكلمة قد جاء خارج الجسد وليس فيه، لكان الموت قد هُزم منه (من الكلمة) بحسب قانون الطبيعة، إذ أن الموت ليس له سلطان على الحياة. ولكن رغم ذلك، كان الفساد سيظل باقيًا في الجسد. 

6 ـ لهذا السبب كان من الصواب أن يلبس المخلّص جسدًا، لكي إذا اتحد الجسد " بالحياة " لا يعود يبقى في الموت كمائت، بل إذ قد لَبِسَ عدم الموت فإنه يقوم ثانية ويظل غير مائت فيما بعد. ولأنه كان قد لَبِسَ الفساد فإنه لم يكن ممكنًا أن يقوم ثانية ما لم يلبس الحياة. وكما أن الموت بحسب طبيعته لم يكن ممكنًا أن يظهر إلاّ في الجسد لذلك لبس الكلمة جسدًا لكى يلاقي الموت في الجسد ويبيده. لأنه كيف كان مستطاعًا البرهنة على أن الرب هو " الحياة " ما لم يكن قد أحيا ما كان مائتًا؟ 

7 ـ وكما أنه من الطبيعي أن القش تفنيه النار، فإذا افترضنا أن إنسانًا أبعد النار عن القش فرغم أنه لم يحترق يظل مجرد قش قابل للاحتراق بالنار، لأن النار لها خاصية إحراقه بطبيعتها. أما لو حدث أن إنسانًا غلّف القش بمادة الأسبستوس التي يقال عنها إنها لا تتأثر بالنار، فإن القش لا يتعرض لإحراق النار فيما بعد إذ قد تحصّن بإحاطته بمادة غير قابلة للاحتراق. 

8 ـ وبالطريقة نفسها نستطيع أن نقول عن الجسد والموت. إنه لو كان الموت قد أُبعِدَ عن الجسد بمجرد إصدار أمر من الكلمة لبقى رغم ذلك قابلاً للموت والفساد بحسب طبيعة الأجساد. ولكى لا يكون الأمر كذلك، فإن كلمة الله الذي بدون جسد قد لبس الجسد لكى لا يعود الموت والفساد يُرهب الجسد لأنه قد لبس الحياة ثوبا وهكذا أبيد منه الفساد الذي كان فيه.

الفصل الخامس والأربعين 

ومرة أخرى نقرر أن كل جزء من الخليقة يعلن مجد الله. فالطبيعة وهى تشهد لخالقها تقدم شهادة ثانية (بالمعجزات) للإله المتجسد. وإذ انحرفت شهادة الطبيعة بسبب خطية الإنسان فقد أُجبرت على الرجوع إلى الحق بقوة أعمال المسيح. وإن لم تَكفِ هذه البراهين فليتأمل اليونانيون في الوقائع والحقائق الثابتة. 

1 ـ إذن كان من الضرورى أن يتخذ كلمة الله جسدًا ويستخدم أداةً بشريةً لكى يُحيي الجسد أيضًا، وكما أنه معروف فى الخليقة بواسطة أعماله فيجب أن يُعرف بعمله فى الإنسان أيضًا، وأن يُظهر نفسه فى كل مكان، وبذلك لا يترك أيًا من المخلوقات مقفرًا من ألوهيته ومعرفته. 

2 ـ فإنى أعود وأكرر ما قلته سابقًا، إن المخلّص فعل ذلك حتى كما أنه يملأ كل الأشياء فى كل مكان بحضوره، هكذا أيضًا فإنه يملأ كل الأشياء من معرفته، كما يقول الكتاب المقدس أيضًا: " الأرض كلها امتلأت من معرفة الرب". 

3 ـ لأنه إن نظر الإنسان إلى السماء فإنه سيرى تنظيمه لها. ولكن إن كان لا يستطيع أن يرفع وجهه إلى فوق بل ينظر فقط بين الناس سيرى من خلال أعمال الله قوته التى لا مجال لمقارنتها بقوة البشر، وسيعرف أن المسيح وحده بين البشر هو الله الكلمة (المتجسد). وإذا ضل إنسان، وإذا حوّل أحد نظره إلى الشياطين وكان يخاف منهم، فيمكنه أن يرى المسيح يطرد الشياطين ويتيقن بهذا أن المسيح هو صاحب السلطان عليها. أو إذا نزل الإنسان إلى عمق المياه وهو يتوهم أنها إله ـ كما كان المصريون مثلاً يعبدون الماء ـ فإنه يمكن أن يرى طبيعة المياه تتغيّر بسلطانه (المسيح) ويعرف أن المسيح الرب هو خالق المياه. 

4 ـ أما إذا نزل إنسان إلى الهاوية، ووقف أمام أبطال العبادة الوثنية مرتعبًا منهم كآلهة، فإنه يمكن أن يرى حقيقة قيامة المسيح ونصرته على الموت، ويدرك بهذا أن المسيح هو وحده الرب والإله الحقيقى. 

5 ـ لأن الرب لمَسَ كل أجزاء الخليقة وحرّرها من كل خداع كما يقول بولس: " إذ جرّد الرياسات والسلاطين وأشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فى الصليب"، لكى لا ينخدع أي إنسان فيما بعد بل يجد كلمة الله الحق فى كل مكان. 

6 ـ وهكذا إذ يكون الإنسان مُحاصرًا من كل ناحية (بأعمال الخليقة)، وإذ يرى ألوهية الكلمة مُعلنة فى كل مكان ـ في السماء وفي الهاوية وفي الناس وعلى الأرض ـ فإنه لا يبقى مُعرّضًا للانخداع بأي فكر مُضلّ عن الله بل يَعبُد المسيح وحده وبه يأتى مباشرة ليعرف الآب . 

7 ـ وعلى أساس هذه البراهين المعقولة فإن اليونانيين بدورهم سيخزون. أما إن اعتبروا هذه البراهين غير كافية لتخجيلهم، فدعهم يتأكدون من صدق كلامنا بما سنقدمه (الآن) من حقائق ظاهرة أمام أنظار الجميع. 

الفصل السادس والأربعون 

افتضاح العبادة الوثنية، واستشارة الأوثان، والأساطير الخرافية، والأعمال الشيطانية، والسحر، والفلسفة الوثنية، منذ وقت التجسد. وبينما نرى العبادات القديمة محصورة في أماكنها المحلية ومستقلة بعضها عن بعض، نرى عبادة المسيح جامعة وعلى نسق واحد. 

1 ـ فمتى بدأ الناس يهجرون عبادة الأوثان إلاّ عندما أتى كلمة الله الحقيقى بين البشر؟ أو متى بَطُلَت استشارة الأوثان بين اليونانيين وفى كل مكان وصارت بلا معنى إلاّ عندما أظهر المخلّص نفسه على الأرض؟ 

2 ـ أو متى ظهر أن أولئك الذين دعاهم الشعراء آلهة وأبطالاً، وهم ليسوا فى الحقيقة إلاّ مجرد بشر مائتين، إلاّ حينما أكمل الرب نصرته على الموت وحفظ الجسد الذى اتخذه غير فاسد، ولذلك أقامه من بين الأمـوات؟

3 ـ متى صارت خداعات الشياطين وجنونهم محتقرة إلاّ عندما تنازل قوة الله ـ الكلمة ـ الذى هو سيد الكل وسيدها أيضًا، تنازل من أجل ضعف البشر وظهر على الأرض ؟ أو متى بدأت حرفة السحر وتعليمه تُداس بالأقدام إلاّ بعد أن صار الظهور الإلهى للكلمة بين البشر؟

4 ـ وباختصار ، متى صارت حكمة اليونانيين جهالة إلاّ حينما أظهر حكمة الله الحقيقى نفسه على الأرض؟ ففي القديم ضّل العالم كله منقادًا فى كل مكان لعبادة الأوثان، وكان البشر يعتقدون أن الأوثان وحدها هى الآلهة، أما الآن فإننا نجد البشر فى كل مكان يهجرون خرافة الأوثان ويأتون للمسيح، وإذ يعبدونه إلهًا لهم فإنهم بواسطته يعرفون الآب أيضًا الذى كانوا يجهلونه. 

5 ـ والأمر المدهش أنه بينما تنوّعت المعبودات وتعدّدت ـ إذ كان لكل مكان صنمه الخاص، والذى كان يُعتبر إلهًا بينهم، لم يكن لهذا الصنم سلطان على المكان المجاور ليُقنِع الشعوب المجاورة بعبادته، بل كان بالكاد يُعبد بين شعبه فقط، إذ لم يكن أحد يعبد إله جاره قط، بل بالعكس كان كل واحد مرتبطًا بوثنه الخاص ومعتقدًا أنه سيد الكل، فإننا نرى المسيح وحده هو الذي يُعبد بين كل الشعوب إلهًا واحدًا للجميع فى كل مكان. وما لم تستطع الأوثان الضعيفة أن تفعله، أى إقناع الذين يعيشون فى مناطقهم بعبادتها ـ فَعَله المسيح إذ أقنع ليس مَنْ يعيشون بالقرب منه فقط بل أقنع كل المسكونة ليعبدوه ربًا واحدًا فقط، وبه يعبدون الله أباه. 

الفصل السابع والأربعون 

القضاء بعلامة الصليب على العرافات المتعددة والأشباح التى يتوهمون ظهورها في أماكن عبادتهم إلخ. البرهان على أن الآلهة القديمة ما هى إلاّ مجرد بشر. افتضاح السحر. وبينما لم تستطع الفلسفة أن تقنع بالخلود والصلاح سوى جماعة محدودة محلية، فإن بعضًا من البشر ذوي الكفاءة المحدودة استطاعوا أن يقنعوا الجماهير العديدة في كل الكنائس بمبدأ الحياة التي تفوق الطبيعة. 

1 ـ وبينما فى القديم امتلأ كل مكان بخداع التنجيم وما اشتهرت به دلفى ودودنا وبوتيا وليكيا وليبيا ومصر، وما كان يُعجب به الناس من أعمال العرافة فى كابرى وبيثيا، فإنه قد بَطُل الآن هذا الجنون، منذ أن بدأ التبشير بالمسيح فى كل مكان، ولم يعد أحد من بين البشر يُنجِّم بعد. 

2 ـ وبينما أضلّت الشياطين عقول البشر قديمًا باستخدامها الينابيع والأنهاروالأشجار والحجارة، وهكذا أثرّت على بسطاء الناس بغواياتها فإن خداعاتها بَطُلت الآن بعد الظهور الإلهى للكلمة، لأنه حتى الإنسان العادى يستطيع بعلامة الصليب فقط أن يفضح ضلالاتها. 

3 ـ وبينما كان البشر فى السابق يعتقدون فى زفس وكرونوس وأبوللو والأبطال المذكورين فى أشعارهم أنهم آلهة، وضلوا بعبادتهم لها فالآن بعد أن ظَهَرَ المخلّص بين الناس فقد انكشف أمر أولئك، وظَهَرَ أنهم بشر مائتون، وعرف البشر أن المسيح وحده هو الإله الحقيقى كلمة الله . 

4 ـ أو ماذا نقول عن السحر الذى كان يُدهش البشر؟ فإنه قبل مجىء الكلمة بيننا كان السحر له قوته وتأثيره بين المصريين والكلدانيين والهنود وكان يثير الرهبة فى كل مَنْ شاهده ، أما بعد مجىء الحق وظهور الكلمة فقد دُحِضَ السحر تمامًا وأُبطل كلية . 

5 ـ وأما عن الحكمة اليونانية وثرثرة الفلاسفة وضجيجهم فلا أظن أن أحدًا يحتاج أن نقدّم له براهين من جانبنا . ذلك لأن الأعجوبة واضحة أمام أعين الكل. فبينما عجز حكماء اليونانيين عن أن يقنعوا ولو نفرًا قليلاً بواسطة كتاباتهم الكثيرة عن حقيقة الخلود والحياة بحسب الفضيلة، فإن المسيح وحده بلغته العادية، وبأشخاص غير فصحاء فى الكلام، قد أقنع جماعات كثيرة من البشر أن يحتقروا الموت ويهتموا بالأمور التى لا تموت ولا تفنى، وأن يغضوا النظر عما هو زمنى، وأن يحولوا أنظارهم للأمور الأبدية ، وأن لا يفكروا فى المجد الأرضى، بل يجاهدوا فقط لأجل الأمور التى لا تفنى. 

الفصل الثامن والأربعون

حقائق أخرى. عفة العذارى المسيحيات والنساك. الشهداء. قوة الصليب ضد الشياطين والسحر. المسيح أظهر بقوته أنه أعظم من البشر ومن الأرواح، وأعظم من السحرة، لأن هذه كلها تخضع لسلطانه كلية. إذًا فهو كلمة الله. 

1 ـ وما عرضناه ليس هو مجرد كلام بل هناك اختبارات فعليّة تشهد بأنه حق. 

2 ـ فمن يُرد دعه يذهب ليرى برهان الفضيلة فى عذارى المسيح والشبان الذين يعيشون حياة العفة المقدسة، ويرى أيضًا فى الجوقات الكثيرة من شهداء المسيح، اليقين والثقة فى الخلود. 

3 ـ ومَنْ يُرِد أن يمتحن أقوالنا السابقة بطريقة عملية فَدَعَهُ ـ فى وجود خداع الشياطين وضلالات المنجمين وأعاجيب السحر ـ يستعمل علامة الصليب التى يسخرون منها، وينطق فقط باسم المسيح، فيرى كيف تهرب الشياطين من اسمه، ويَبْطُل التنجيم ، ويتلاشى كل سحر وعرافة. 

4ـ إذن مَنْ هو المسيح هذا وما أعظمه، ذاك الذى باسمه وبحضوره يحجب كل الأشياء ويلاشيها، وهو وحده يَقوى على الكل وهو قد (أنار) المسكونة كلها بتعليمه؟فليخبرنا اليونانيون الذين يُسرّون بالاستهزاء بدون خجل . 

5 ـ فإنه لو كان إنسانًا فكيف استطاع إنسان واحد أن يَقوى على كل الذين يَظُنْ اليونانيون أنهم آلهة، وأن يفضحهم بقوتـه ويُظهر أنهم لا شىء؟ أما إن دَعُوه ساحرًا فكيف يمكن لساحر أن يبيد كل أعمال السحر بدلاً من أن يدعمها ؟ لأنه لو كان قد قهر سحرة بعينهم، أو غلب ساحرًا واحدًا فقط، لجاز لهم أن يدّعوا أنه تفوق على الباقين بمهارته الأعظم من مهارتهم 

6 ـ أما إن كان صليبه قد رَبَحَ النصرة على كل سحر على الإطلاق، بل وعلى اسم السحر نفسه، فلابد أن يكون واضحًا أن المخلّص ليس ساحرًا، إذ إن الشياطين نفسها ـ التى يستدعيها السحرة ـ تهرب منه (باعتباره) هو سيدها . 

7 ـ فليخبرنا اليونانيون الذين حصروا كل ذهنهم فى الاستهزاء إذن مَن يكون هو؟ ربما يقولون إنه هو أيضًا كان شيطانًا، وهذا هو سبب قوته، فليقولوا ما يشاءون، فإن استهزاءهم يرتد عليهم. فإنه من الممكن تخجيلهم مرة أخرى بواسطة براهيننا السابقة، لأنه كيف يمكن لِمَنْ يطرد الشياطين أن يكون شيطانًا؟ 

8 ـ لأنه لو كان فقط قد طرد شياطين معينة لكان يمكن أن يُقال إنه برئيس الشياطين قد غلب الشياطين الأضعف ، وهذا هو ما قاله اليهود له عندما أرادوا أن يهينوه. أما إن كان بمجرد ذكر اسمه قد تم استئصال كل جنود الشياطين وطُردت بعيدًا فقد اتضح هنا أيضًا أن اليونانيين مخطئون، وأن ربنا ومخلّصنا المسيح ليس قوة شيطانية ، كما يظنون . 

9 ـ إذن إن كان المخلّص ليس مجرد إنسان وليس ساحرًا، ولا شيطانًا، ولكنه بألوهيته قد أبطل تعاليم الشعراء وضلالات الشياطين وحكمة اليونانيين، وطرحها فى الظلام، فيجب أن يكون واضحًا وأن يعترف الجميع أن هذا هو بالحقيقة الكائن، ابن الله، كلمة الآب وحكمته وقوته. وهذا هو السبب فى أن أعماله أيضًا ليست أعمال إنسان ، بل هى أسمى جدًا من أعمال الإنسان، وهى حقًا أعمال الله سواء من جهة طبيعة هذه الأعمال ذاتها أو من جهة مقارنتها بأعمال باقى البشر. 

الفصل التاسع والأربعون 

ميلاده ومعجزاته. أنتم تدعون أسكيليبوس وهرقل وديونيسيوس آلهة بسبب أعمالهم. فقارنوا بين أعمالهم وأعمال المسيح، والعجائب التى تمت عند موته الخ. 

1 ـ ومَن مِن البشر وُلِدَ قط وقد شكّل لنفسه جسدًا من عذراء فقط؟ أو أى إنسان قط قد شفى أمراضًا كتلك التى شفاها رب الكل؟ أو مَن الذى أكمل نقصًا فى الخلقة لإنسان ، وجعل الأعمى منذ ولادته يُبصر ؟

2 ـ لقد اعتبر اليونانيون أسكيليبوس إلهًا لأنه مارَسَ الطب واكتشف أعشابًا لعلاج الأجساد المريضة، وهو لم يخلق هذه الأعشاب من الأرض بل اكتشفها بالخبرة التى من الطبيعة. وماذا يكون هذا العمل بالمقارنة بما فعله المخلّص الذى بدلاً من أن يشفى جرحًا فإنه أكمل طبيعة إنسان أعمى منذ ولادته وأعاد جسده سليمًا؟

3 ـ وقد عَبَد اليونانيون هيراكليس كإله لأنه حارب بشرًا مثله وفتك بوحوش برّية بخداعه. وأين هذا مما فعله الكلمة بطرده للأمراض والشياطين، بل والموت نفسه، من الإنسان ؟ وهم يعبدون ديونيسيوس لأنه علّم الإنسان شرب الخمور، أما المخلّص الحقيقى ورب الكُلْ الذى علّم العفة والاعتدال فإن هؤلاء يهزأون به. 

4 ـ بل وأكثر من ذلك، ماذا يقولون عن المعجزات الأخرى لألوهيته، فأى إنسان أظلمت الشمس وتزلزلت الأرض عند موته؟ فأى من البشر الذين يموتون كل يوم منذ القديم وإلى الآن حدثت عند موته عجيبة كهذه؟! 

5 ـ وإذ نترك الأعمال التى أكملها فى جسده دعنا نتذكر تلك الأعمال التى تَمّتْ بعد قيامته. فأى إنسان ساد تعليمه وانتشر فى كل مكان وهو نفس التعليم الواحد من أقاصى الأرض إلى أقاصيها، حتى إن عبادته قد انتشرت فى كل البلاد؟

6 ـ أو إن كان المسيح إنسانًا كما يدّعون وليس هو الله الكلمة، فلماذا لم تستطع آلهتهم أن تمنع عبادة المسيح من أن تمتد إلى نفس البلاد التى تُعبد فيها تلك الآلهة، بل بالحرى إن الكلمة بظهوره هنا قد أوقف عبادتها وفَضَحَ ضلالها بتعليمه ؟


الفصل الخمسون 

بموت المسيح افتضح ضعف المغالطين ومنافساتهم. قيامته لا مثيل لها حتى في الأساطير اليونانية. 

1 ـ وقبل المسيح كان هناك ملوك وطغاة كثيرون فى العالم، كما سجلّ التاريخ أسماء العديد من الحكماء والسحرة بين الكلدانيين والمصريين والهنود . فمَن منهم استطاع ليس فقط بعد موته ، بل فى حياته أيضًا، أن يملأ كل المسكونة بتعليمه وأن يرد كل تلك الجموع الغفيرة عن أباطيل الأوثان مثلما فعل مخلّصنا، إذ نقلهم من عبادة الأوثان إلى شخصه؟ 

2 ـ لقد ألّفَ فلاسفة اليونانيين كتابات كثيرة بحكمة واضحة ومهارة فهل كان لهذه الكتابات تأثير مثل التأثير العظيم الذى لصليب المسيح؟ فالفلسفة والأفكار التى علّموا بها كانت مقبولة حتى وفاتهم فقط، ولكن حتى فى أثناء حياتهم فإن هذا التأثير العظيم كان موضع تنافس متبادل بينهم. لأنهم كانوا يغارون من بعضهم البعض ويهاجم كل منهم الآخر. 

3 ـ أما كلمة الله ، فالعجيب جدًا أنه بينما علّم بلغة أبسط إلاّ أنه قد حجب بنور تعليمه (تأثير) أعظم الفلاسفة، وإذ جذب الجميع إلى نفسه فإنه قد ملأ كنائسه بينما أفرغ مدارسهم. والأمر المدهش أنه بنزوله إلى الموت كإنسان أبطل أصوات الفلاسفة وتعاليمهم عن الأوثان. 

4 ـ فهل هناك مَن كان موته يطرد الشياطين؟ أو مَن هو الذى ارتاعت الشياطين من موته كما فعلت عند موت المسيح؟ فحيث سُمّى اسم المخلّص هناك يُطرد كل شيطان. ومَن هو الذى حرّر البشر من شهواتهم النفسانية حتى صار الزناة عفيفين، والقتلة لا يعودون يحملون السيف، والذين كان يتملّكهم الجبن قبلاً صاروا شجعانًا؟

5 ـ وبالإجمال ، ما الذى أقنع سكان البلاد البربرية والوثنيين فى كل مكان أن يتخلّوا عن عنفهم الجنونى وأن يميلوا للسلام إلاّ الإيمان بالمسيح وعلامة الصليب؟ أو ما الذى أعطى البشر مثل هذا اليقين بالخلود كما فعل صليب المسيح وقيامة جسده؟

6 ـ فرغم أن اليونانيين قد تكلموا بكل نوع من الأساطير الكاذبة، لكنهم لم يستطيعوا أن يؤلّفوا أساطير تنسب لأوثانهم القيامة، إذ لم يخطر ببالهم أبدًا أن الجسد يمكن أن يحيا أيضًا بعد الموت . وهنا نحن نقبل ما يقولونه إذ بأقوالهم هذه يكشفون ضعف عبادتهم الوثنية، وذلك يؤدى للاعتراف بقيامة المسيح بالجسد، وبذلك أيضًا يُعرف عند الكل أنه ابن الله. 

الفصل الحادى والخمسون 

فضيلة البتولية. فاعلية تعليم المسيح في تغيير الطباع الوحشية والميل للقتل والحرب. 

1ـ ومَن من البشر بعد موته أو حتى أثناء حياته علّم عن البتولية وعن أن هذه الفضيلة ليست مستحيلة بين الناس؟ أما المسيح مخلّصنا ومَلِك الكل، فقد كانت تعاليمه عنها لها قوة عظيمة حتى إن الأحداث الذين لم يبلغوا السن القانونية كانوا ينذرون أنفسهم ليعيشوا حياة البتولية التى تفوق الناموس. 

2ـ وأى إنسان استطاع أن يصل بتأثيره حتى إلى السكيثيين، أو الأثيوبيين أو الفرس، أو الأرمن أو الغوطيين، أو أولئك الذين يقال عنهم أنهم يسكنون فيما وراء البحار، أو سكان بلاد أركانيا، بل إلى المصريين والكلدانيين، هؤلاء الذين ينشغلون بالسحر ويبالغون في ميلهم للخرافات ولهم طباع شرسة، وأى إنسان استطاع أن يكرز بالفضيلة وضبط النفس ويندّد بعبادة الأوثان كما فعل رب الكل، قوة الله، ربنا يسوع المسيح؟ 

3ـ فالمسيح لم يكرز فقط بواسطة تلاميذه بل أقنع عقول البشر بالتخلي عن طباعهم الفظة والكف عن عبادة آلهة آبائهم، بل وأن يتعلموا أن يعرفوه وأن يعبدوا الآب عن طريقه. 

4ـ فاليونانيون والبرابرة حينما كانوا لا يزالون يعبدون الأوثان اعتادوا أن يحاربوا بعضهم بعضًا. وكانوا قساة حتى على ذويهم. ولم يكن ممكنًا على الإطلاق للواحد منهم أن يَعبُر بحرًا أو أرضًا دون أن يكون متسلّحًا بالسيوف بسبب الحروب المستمرة بينهم. 

5 ـ وكانوا يستعملون السلاح في كل مسيرة حياتهم، إذ كانوا يعتمدون على السيف عوض العصى كسند لهم. ولم تستطع عبادتهم للأوثان بكل ما فيها مع تقديم الذبائح للشياطين أن تغّير من روحهم المتوحشة. 

6ـ ولكن حينما انتقلوا إلى نهج تعاليم المسيح حدث أمر عجيب، إذ أنهم قد نخسوا في ضمائرهم حقًا وتخلوا عن وحشية القتل، ولم يعودوا يفكّرون في القتال والحرب بل أصبحوا يعيشون في سلام تام، وصار كل ما يؤول إلى المودة والصداقة هو أهم شئ لديهم. 

الفصل الثانى والخمسون 

الحروب التى حركتها الشياطين أبطلتها المسيحية. 

1ـ فمَن هو إذًا الذى فعل هذا؟ ومَن هو الذى وحّد بين الذين كانوا يبغضون بعضهم بعضًا وجعلهم في سلام سوى ابن الآب المحبوب، مخلّص الكُلْ، يسوع المسيح، الذى بمحبته احتمل كل شئ لأجل خلاصنا؟ فقد تمّ التنبؤ منذ القِدم عن السلام الذى كان مزمعًا أن يأتى به إذ يقول الكتاب "فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل، لا ترفع أُمّة على أُمّة سيفًا ولا يتعلمون الحرب فيما بعد ". 

2ـ وهذا أمر لا شك فيه، فالبرابرة ذوى الأخلاق الوحشيّة بالفطرة، حينما كانوا لا يزالون في عبادتهم الوثنية، كانوا يحاربون بعضهم بعضًا بجنون، ولا يحتملون أن يبقوا ساعة واحدة بدون سلاح. 

3ـ ولكن حينما يسمعون تعليم المسيح فإنهم في الحال يتحوّلون إلى أعمال الزراعة بدلاً من القتال، وبدلاً من تسليح أيديهم بالسيوف فإنهم يرفعونها في الصلاة، وبالإجمال فإنهم عوض أن يحاربوا بعضهم بعضًا يتسلّحون ضد الشيطان وضد الأرواح الشريرة، وينتصرون عليها بفضيلة النفس وضبط الذات. 

4ـ هذا هو بلا شك برهان على ألوهية المخلّص، لأنه علّم البشر ما عجزوا عن أن يتعلّموه من الأوثان، كما أنه افتضاح ليس بقليل لضعف الشياطين والأوثان ودليل على أنها لا شئ. فالشياطين لأنها تعرف ضعفها كانت تحرّض البشر قديمًا ليحاربوا بعضهم بعضًا، لئلا إن كفوا عن ذلك تحولوا إلى محاربة الشياطين. 

5ـ فتلاميذ المسيح بدلاً من أن يحاربوا بعضهم بعضًا فإنهم يصطفّون في مواجهة الشياطين بأخلاقهم وأعمالهم الفاضلة، فيطردونها ويهزأون برئيسها. وهكذا فإن تلاميذ المسيح يضبطون أنفسهم في شبابهم، ويحتملون التجارب، ويثابرون في الأتعاب، وحينما يُشتمون يصبرون، وان سُلبوا لا يبالون. والأمر المدهش أكثر أنهم يحتقرون الموت نفسه، ويصيرون شهداء للمسيح. 

الفصل الثالث والخمسون 

كل العبادة الوثنية قد هبطت إلى أسفل السافلين بضربة واحدة من المسيح إذ إنه تحدث سرًا إلى ضمير الإنسان. 

1ـ ولنذكر أيضًا برهانًا عجيبًا جدًا على ألوهية المخلّص فنقول: أى إنسان عادى أو ساحر أو طاغية أو ملك استطاع أن يواجه بنفسه ويحارب ضد كل عبادة وثنية وكل قوات الشياطين وكل سحر وكل حكمة لليونانيين بينما كان كل هؤلاء في أوج قوتهم وازدهارهم، باسطين نفوذهم على الكُلّ؟ ومَن استطاع أن يوقعهم جميعًا بضربة واحدة مثلما فعل ربنا كلمة الله الحقيقى، الذى يكشف في الخفاء ضلالات جميع الناس ويخلّص بنفسه كل البشر من هذه الضلالات كلها، حتى إنهم صاروا يدوسون الأوثان التى كان يعبدونها من قبـل؟ أما الذين اشتهروا بالسحر فصاروا يحرقون كتبهم. والحكماء صاروا يفضّلون تفسير الأناجيل على كل الدراسات الأخرى. 

2ـ والآن صاروا يهجرون المعبودات التى كانوا يعبدونها من قَبل، وذلك الذى كانوا يهزأون به كمصلوب صاروا الآن يعبدونه مسيحًا، معترفين به أنه الله. والذين كانوا يُدعَون آلهة بينهم غُلبوا بعلامة الصليب. أما المخلّص المصلوب فقد صار يُنادى به في كل المسكونة إلهًا وابن الله. والآلهة التى كان يعبدها اليونانيون سقطت في نظرهم لأنها كانت مُعثِرة لهم. أما أولئك الذين قبلوا تعاليم المسيح فإنهم يعيشون حياة أكثر عفّة منهم. 

3ـ فإن كانت هذه الأمور وما يماثلها هى أعمال بشرية فليذكر لنا ـ مَن يريد ـ أعمالاً مماثلة عملها البشر في عصر سابق وهكذا يمكنه أن يقنعنا. أما إن ثبتَ أن هذه الأمور ليست أعمال بشر بل أعمال الله، وهى كذلك فعلاً، فلماذا يبقى غير المؤمنين على ضلالاتهم ولا يعترفون بالرب الذى عملها؟

4ـ مثلهم مثل إنسان عجز أن يعرف الله الخالق من أعمال خليقته. لأنهم لو عرفوا ألوهيته من خلال سلطانه على الكَوْن لكانوا قد أدركوا أن أعمال المسيح التى عملها في الجسد ليست أعمالاً بشرية، بل هى أعمال مخلّص الجميع كلمة الله. ولو كانوا قد عرفوا هذا حينذاك " لما صلبوا رب المجد" كما قال بولس الرسول. 

الفصل الرابع والخمسون 

إن الكلمة المتجسد يُعرف لنا بأعماله كما هو الحال مع الله غير المنظور. وبأعماله ندرك رسالته التى يريد بها أن يجعلنا آلهة. ولنكتفِ بذكر القليل منها تاركين كثرتها المبهرة للأبصار لمن يريد أن يبصر. 

1ـ وهكذا إذن، فكما أنه إذا أراد أحد أن يرى الله، غير المنظور، الذى هو بطبيعته غير منظور ولا يمكن رؤيته قط، فيمكنه أن يعرفه ويدركه من أعماله كذلك فعَلى مَنْ لا يستطيع أن يرى المسيح بعقله أن يدركه على الأقل من أعمال جسده، ويفحص إن كانت هذه أعمال بشريّة أم أعمال الله. 

2ـ فإن كانت أعمالاً بشرية جاز له يسخر، أما إن لم تكن بشريّة بل هى أعمال الله فلا ينبغى أن يسخر مما لا يستحق السخرية، بل بالحرى فليتعجب لأنه بواسطة وسائل عادية جدًا كهذه أُظهرت لنا الإلهيات، ولأنه بواسطة الموت طال عدم الموت الجميع، ولأنه بتأنس الكلمة عُرفت عنايته بكل الأشياء، كما عُرف كلمة الله نفسه خالقها وواهبها. 

3ـ لأن كلمة الله صار إنسانًا لكى يؤلهنا نحن، وأظهر نفسـه في جسد لكى نحصل على معرفة الآب غير المنظور، واحتمل إهانة البشر لكى نرث نحن عدم الموت. لأنه بينما لم يَمسّه هو نفسه أى أذى، لأنه غير قابل للألم أو الفساد، إذ هو الكلمة ذاته وهو الله، فإنه بعدم قابليته للتألم حَفِظَ وخلّص البشر الذين يتألمون والذين لأجلهم احتمل كل هذا. 

4ـ وباختصار فإن الأعمال التى حققها المخّلص بتأنسه عظيمة جدًافي نوعها وكثيرة في عددها، حتى أنه إذا أراد أحد أن يحصيها فإنه يصير مثل الذين يتفرسون في عرض البحر ويريدون أن يحصوا أمواجه. لأنه كما أن الإنسان لا يستطيع أن يحصى كل الأمواج بعينيه، لأن الأمواج تتتابع بطريقة تبلبل ذهن كل مَنْ يحاول ذلك، هكذا مَن يحاول أن يحصى كل أعمال المسيح في الجسد، فمن المستحيل أن يدركها كلها إذ إن الأعمال العظيمة التى تفوق ذهنه هى أكثر من تلك التى يظن أنه قد أدركها.

5ـ إذًا فمن الأفضل ألاّ يحاول الإنسان أن يتحدث عنها كلها مادام لا يستطيع أن يوفي ولو جزءًا منها حقه، وإن ذكرنا عملاً آخر منها فإننا نترك لك باقى الأعمال كلها للتعجب منها. لأنها كلها عجيبة على السواء. وأينما وجّه الإنسان بصره فإنه يرى ألوهية الكلمة ويتملك عليه الذهول العظيم. 

الفصل الخامس والخمسون 

ملخص لما سبق. إبطال العرافة الوثنية إلخ وانتشار الإيمان. لقد جاء الملك الحقيقى وأسكت كل المغتصبين. 

1ـ وبعد كل ما قلناه يحق لك أن تعلم هذا أيضًا وأن تضعه أساسًا لكل ما سبق أن قررناه وأن تتعجب منه بشدة، وهو أنه منذ مجئ المخلّص بيننا فإن العبادة الوثنية لم تَعُدْ تنمو بل إن ما كان موجودًا منها قبلاً بدأ يتناقص ويتلاشى تدريجيًا. وبالمثل فلم يبطل تقدم الفلسفة (الوثنية) اليونانية فحسب بل إن ما كان موجودًا منها بدأ الآن يذبل. والشياطين لم تَعُدْ قادرة على خداع الناس بالخيالات والعرافة والسحر، وإن تجاسرت وحاولت أن تفعل ذلك أُخجِلت بعلامة الصليب. 

2ـ ونلخص الحديث هكذا: لاحظ كيف أن تعليم المخّلص يزداد انتشارًا في كل مكان بينما كل عبادة وثنية وكل ما يتناقض مع إيمان المسيح يذبل كل يوم ويضعف ويتلاشى. وهكذا إذ تنظر ذلك فاعبد المخلّص الذى هو فوق الكل، والمقتدر أى الله الكلمة، واشجب هؤلاء الذين غلبهم وأبادهم. 

3ـ لأنه كما أنه حينما تأتى الشمس فلا تسود الظلمة بعد، وإن بقى شئ منها في أى موضع فإنه يتبدّد، هكذا يحدث الآن، فإنه عندما أتى الظهور الإلهى لكلمة الله فإن ظلمة العبادة الوثنية لم تعد تسود بعد، وأصبحت كل أجزاء المسكونة مستنيرة بتعليمه. 

4ـ فكما أنه إن كان هناك مَلَك يملك في بلد ما لكنه لا يظهر لشعبـه بل يلازم قصره، فإن المارقين إذ ينتهزون فرصة عدم ظهوره يعلنون عن أنفسهم وكل منهم يدّعى أنه ملك ويحاول التأثير على البسطاء وإقناعهم أنه ملك، وهكذا ينخدع الناس بهذا الاسم، لأنهم بينما يسمعون أن هناك ملكًا فإنهم لا يرونه لعدم استطاعتهم الدخول إلى القصر، ولكن حينما يخرج الملك الحقيقى ويظهر فحينئذ يفتضح أمر أولئك المارقين بظهوره. وإذ يرى الناس الملك الحقيقى فإنهم يهجرون أولئك الذين أضلوهم سابقًا. 

5ـ بالطريقة نفسها فإن الأرواح الشريرة قد أضلّت البشر في القديم منتحلة لنفسها كرامة الله. ولكن عندما ظهر كلمة الله في الجسد، وعرّفنا بأبيه، فحينئذ بَطلت وتبدّدت خداعات الأرواح الشريرة. وإذ بدأ البشر يحوّلون أنظارهم إلى الإله الحقيقى، كلمة الآب، فأصبحوا يهجرون الأصنام، وصاروا الآن يعرفون الإله الحقيقى. 

6ـ والآن هذا هو البرهان على أن المسيح هو الله الكلمة، وقوة الله. لأنه إن كانت الأمـور البشرية تُبطَل وكلمة المسيح تَثبُت فيكون واضحًا أمام أنظار الجميع أن ما يبطُل هو وقتى، أما ما يثبت فهو الله وابن الله الحقيقى، كلمته الوحيد الجنس. 

الفصل السادس والخمسون 

فتّش الكتب وبذلك تتمم هذا البحث. 
تعلّم أن تترقب مجيئه الثانى ويوم الدينونة. 

1ـ فلتكن هذه إذًا هى تقدمتنا إليك أيها الإنسان المحب للمسيح كمبادئ أساسية موجزة عن إيمان المسيح وظهوره الإلهى لنا. وهذا يعطيك فرصة لكى تفحص نصوص الكتب المقدسة وتُعمِل ذهنك فيها بإخلاص، فتتعلّم منها بصورة أكمل وبوضوح أكثر التفاصيل الدقيقة لما سبق أن قلناه. 

2ـ لأنها نصوص قد نُطِق بها وكُتبت من الله على أيدى أناس تكلّموا من الله. ونحن نعرّفك بما تعلّمناه من المعلّمين الذين درسوا الكتب المقدسة، والذين صاروا شهودًا لألوهية المسيح، وذلك لكى تزداد غيرة بدورك في الدراسة والتعلّم. 

3ـ وستتعلّم أيضًا من الكتب عن ظهوره الثانى المجيد، الإلهى والحقيقى. حيث لا يظهر بعد في فقر بل في مجد، ولا يظهر بعد متخفيًا متواضعًا بل في عظمته. وهو سيأتى لا ليتألم ثانية بل ليقدم للجميع ثمر صليبه، أى القيامة وعدم الفساد. ولا لكى يُحكَم عليه بعد بل ليدين الجميع بحسب ما صنع كل واحد في الجسد خيرًا كان أم شرًا، حيث أعد للصالحين ملكوت السموات، أما للذين عملوا السيئات فالنار الأبدية والظلمة الخارجية. 

4ـ لأنه هكذا يقول الرب نفسه أيضًا " من الآن تبصرون ابن الانسان جالسًا عن يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء في مجد الآب ". 

5ـ ولهذا السبب عينه نجد أيضًا كلمة للمخلّص تهيئنا لذلك اليوم إذ يقول " كونوا مستعدين واسهروا لأنه يأتى في ساعة لا تعلمونها " لأنه بحسب قول الرسول بولس " لأنه لابد أننا جميعًا نُظهر أمام كرسى المسيح لينال كل واحدٍ ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيرًا كان أم شرًا ". 

الفصل السابع والخمسون 

وفوق كل شيء عش الحياة التي تؤهلك للأكل من هذه الشجرة، شجرة المعرفة والحياة، وتتمتع بالأفراح الأبدية. تسبحة ختامية. 

1ـ إن دراسة الكتب المقدسة ومعرفتها معرفة حقيقية تتطلّبان حياة صالحة، ونفسًا طاهرة، وحياة الفضيلة التي بالمسيح، وذلك لكي يستطيع الذهن ـ باسترشاده بها ـ أن يصل إلى ما يتمناه وأن يدرك بقدر استطاعة الطبيعة البشرية ما يختص بالله الكلمة. 

2ـ فبدون الذهن النقي، والتمثل بحياة القديسين، لا يستطيع الإنسان أن يفهم أقوال القديسين، فكما أنه إذا أراد إنسان أن يبصر نور الشمس، عليه أن يمسح عينيه ويجليهما، لكي تقترب نوعًا ما من نقاوة النور الذي يريد أن يراه، حتى إذا استنارت العين يمكنها أن ترى نور الشمس؛ أو كما أنه إذا أراد إنسان أن يرى مدينة أو قرية فيجب عليه أن يذهب إلى هناك لكي يراها، هكذا فمن يريد أن يعرف فكر أولئك الذين يتكلمـون عن الله، يلزمه بالضرورة أن يبدأ بغسل نفسه وتطهيرها بتغيير طريقة حياته، ويقترب إلى القديسين أنفسهم بالاقتداء بأعمالهم، وهكذا إذ يشترك معهم في السلوك يمكنه أيضًا أن يفهم ما قد أُعلن لهم من قِبَل الله، وبعد ذلك إذ يكون قد ارتبط بهم ارتباطًا وثيقًا فإنه يفلت من الخطر المُحدِق بالخطاة والنار في يوم الدينونة، ويحصل على ما أُعِدَّ للقديسين في ملكوت السموات، " ما لم تَرَ عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان" ما أُعِدَّ للذين يعيشون في الفضيلة ويحبون الله الآب بالمسيح يسوع ربنا، الذي به ومعه يحق للآب نفسه، مع الابن نفسه، في الروح القدس، الكرامة والقدرة والمجد إلى دهر الدهور. آمين.