1- كل الأعمال المنظورة التي تعمل في العالم، انما تعمل على رجاء الاشتراك والانتفاع بنتائج هذه الأعمال، ولولا الثقة والتيقن من التمتع بثمار التعب فلا تكون هناك فائدة تكتسب. فالزارع يبذر البذار على رجاء الثمار، وهذا الرجاء يسنده ويشدده في احتمال مشقات كثيرة.
كما يقول الرسول: "ان الحراث يحرث على رجاء" (كو 9 : 10) والذي يأخذ زوجة، انما يفعل ذلك على رجاء أن يكون له ورثة، والتاجر يسلم نفسه للبحر ولخطر الموت بهدف الربح. هكذا ايضاً فيما يخص ملكوت السموات، فان الإنسان يسلم نفسه للرب برجاء أن تستنير عيون قلبه (أفسس 1 : 18) منصرفاً عن أمور هذه الحياة، ويحفظ نفسه حراً، ليكون انشغاله بالصلوات والتضرعات ناظراً إلى الرب ومنتظراً اياه حين يأتي ويكشف نفسه له، وحين يطهره من الخطية الساكنة فيه.
رجاء حلول الرب بملء اختبار الروح
2- وهو مع ذلك لا يضع ثقته في أتعابه، وطريقة حياته، إلى أن يحصل على الاشياء التي يترجاها، أي إلى أن يأتي الرب ويحل فيه بملء اختبار الروح وفاعليته وحينما يتذوق صلاح الرب ويبتهج بثمار الروح، وحينما يرفع عنه ستار الظلمة، ويضيء عليه نور المسيح ويعمل فيه بفرح لا ينطق به، فحينئذ يشبع ويرضى تماماً اذ يكون حاصلاً على الرب معه في محبة عظيمة، كما يفرح التاجر - كما ذكرنا في المثل - حينم يحصل على الربح ولكن لا يزال عنده خوف وحرص من اللصوص - أرواح الشر - لئلا يتكاسل ويضيع تعبه، قبل أن يدخل ملكوت السموات في اورشليم العليا.
3- لذلك فلنتوسل إلى الله أن ينزع منا الإنسان العتيق ويجردنا منه، ويلبسنا المسيح السماوي، هنا ومن هذه اللحظة الحاضرة، حتى اذ نكون في فرح وبهجة، واذ نكون منقادين بروحه، فاننا سنكون في هدوء وسلام عظيم. وان الرب الذي يريد أن يملأنا ويشبعنا يتذوق الملكوت، يقول "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً" (لو 15 : 5).
الرسل أنوار للعالم
وقد عرف الرب كيف ينير كثيرين بواسطة الرسل. فالرسل كانوا هم أنفسهم خلائق مثل غيرهم، ولكنهم ربوا وغذوا العبيد رفقائهم. وبسيرتهم الصالحة وتعاليمهم أحيوا وأقاموا عقول الناس التي كانت مائتة وفاسدة. فمن الممكن أن يقوم أحد المخلوقات بتغذية واحياء مخلوق آخر. فالسحب ، والمطر والشمس، بحسب أمر الله، تحيي بذار القمح والشعير، رغم انها مجرد خلائق فقط، ومثل النور الذي يأتي من خلال النافذة، في حين أن الشمس ترسل اشعتها على العالم كله، هكذا كان الانبياء هم أنوار بيتهم الخاص - أي اسرائيل - وليس أكثر، وأما الرسل فهم شموس يسطعون بأشعتهم في كل أركان وأرجاء العالم.
"أرض الشياطين" و"أرض اللاهوت"
4- هناك "أرض" تسكنها الوحوض، وهناك "أرض" في الهواء تتحرك فيها الطيور وتعيش. فاذا ارادت الطيور أن تقف أو تسير على الأرض فان الصيادين يصطادونها. والأسماك ايضاً لها "أرض" وهي مياه البحر. والمكان الذي يولد فيه أي كائن، سواء على الأرض أو في الهواء، ففيه يعيش ، وفيه يقتات ويجد لذته وراحته.
وبنفس الطريقة فهناك "أرض" وبيت للشياطين، حيث تعيش قوات الظلمة وأرواح الشر، وهناك تتحرك وتجد راحتها، كما توجد "أرض" نورانية هي أرض اللاهوت، حيث معسكرات الملائكة والأرواح المقدسة تصعد وتهبط وتجد راحتها. فتلك الأرض المظلمة لا يمكن أن ترى بعيون هذا الجسد ولا أن تلمس ، وكذلك الأرض النورانية أرض اللاهوت، لا تلمس ولا ترى بالعيون الجسدية. أما بالنسبة للروحانيين فإن "الأرض" الشيطانية، و"أرض" اللاهوت كلاهما تنكشفان لعيون قلوبهم.
5- فإن كانت خرافة أولئك الذين من خارج، تقول: انه توجد جبال نارية ، لأن النار متقدة فيها، وانه توجد فيها حيوانات مثل الأغنام. وان الذين يصطادونها يصنعون لهم عجلات حديدية، ويطرحون خطاطيفهم ويلقونها في النار، لأن تلك الحيوانات تقتات على النار والنار هي شرابها وهي لذتها وبها تنمو وتحيا. فالنار بالنسبة لها هي كل شيء. فان اتيت بها إلى هواء آخر فانها تموت. وحينما يتسخ صوفها فانها لا تغسل في الماء، بل في النار، فتنظف وتبيض أكثر.
هكذا المسيحيون عندهم النار السماوية كطعام لهم. وهي لذتهم تنعمهم. وهي تنظف قلوبهم وتغسلها وتقدسها. وهي تنميهم. وهي هواؤهم وحياتهم. فان خرجوا منها يهلكهم الروح الشرير، كما أن الحيوانات في الخرافة - تموت حينما تترك النار، وكما يموت السمك حينما يخرج من الماء، وكما أن الوحوش - ذوات الأربع - تغرق إذا طرحت في البحر، وكما أن الطيور إذا سقطت على الأرض يصطادها الصيادون، كذلك النفس التي لا تقيم في تلك "الأرض"، فانها تختنق وتهلك، وإذا لم تكن تلك النار الالهية هي طعامها وشرابها ولباسها، وهي تطهير لقلبها، وهي تقديس للنفس، فان الأرواح الشريرة تأخذها وتدمرها.
أما بالنسبة لنا، فلنفحص بغيرة واخلاص، هل نحن قد تم زرعنا في تلك "الأرض" وطعمنا في الكرمة السماوية أم لا؟
والمجد لمراحمه آمين.
العظة الرابعة عشر من عظات القديس مكاريوس الكبير
ترجمة الدكتور / نصحى عبد الشهيد