كما تمتاز الشريعة الوضعية للحكومات والدول عن الشريعة الطبيعية ، هكذا تمتاز الشريعة الكنسية لجماعة المسيح عن الشريعة الدينية .
ولذلك يجب أن نحاذر الخلط بينهما .
إن الشريعة الوضعية السياسية تعتمد على الشريعة الطبيعية ، والشريعة الوضعية الكنسية تعتمد على الشريعة الإلهية .
والله مصدر كلا الشريعتين : الطبيعية والإلهية . إن إرادته هى الشريعة . فإذا أتخذت شكلاً ظاهراً ، وأعرب عنها لفظاً بواسطة العقل السليم فى شعورنا وضميرنا ، ووضعت أساساً للشرائع المسنونة لسياسة المجتمع ، دعيت الشريعة الطبيعية .
أما إذا أتخذت شكلها وأعرب عنها لفظاً برسائل الوحى الإلهى الفائق الطبيعة ، وجعلت أساساً ومرجعاً للإشتراع فى جماعة المختارين من الله ، دعيت الشريعة الإلهية .
وهى فى جوهرها ذات الشريعة الطبيعية وإن أختلفت عنها فى التعبير . إن يسوع المسيح أعرب عن الشريعة الإلهية جملة فى الوصايا التى عطاها وكشف فيها عن إرادة الله من جهة علاقته مع الخليقة والإنسان .
ولما كان يسوع المسيح فى الحقيقة إبن الله الأزلى – الكلمة المساوى للآب فى الجوهر – فقد كشف لنا إرادة الله بعد أن إتخذ جسداً لتكون مبدأً وقانوناً لشعورنا وتأثرنا ورغائبنا وأعمالنا . وبعبارة أوضح أنه أظهر لنا شريعة الخلاص ، شريعة أتصالنا وإتحادنا بالله وتعاهدنا على عمل الخير مع رفاقنا من البشر فى جماعة البر والصلاح .
إن الناس الذين يؤمنون بالإعلانات الإلهية ويعتصمون من كل قلبهم بإرادة الله المعلنة بيسوع المسيح يؤلفون الجماعة المشابهة لله . ويطلب منهم من كل وجهة أن يفكروا وأن يشعروا وأن يتأملوا داخلياً فى نفوسهم وأن تصدر أعمالهم خارجياً حسبما ينطبق على تعاليم يسوع المسيح وشرائعه ووصاياه . فإن إرادته هى الشريعة للجماعة المشابهه لله .
إن شريعة المسيح أعطيت للإنسان بالنسبة إلى وجوه الحياة الثلاثة أعنى:-
1- بالنسبة إلى الفكر ،
2- بالنسبة إلى الشعور ،
3- بالنسبة إلى رغبة الإرداة وعزمها الداخليين وإلى عملها وسلوكها الخارجيين .
وشريعة المسيح روحية ، وغرضها فى الإشتراع الإنسان نفسه خاصة ، أو بعبارة أوضح ( الذات – الأنا ) النفس والروح والفكر . فمن الفكر والشعور تصدر الرغبة وفى الرغبة والعزم كل ما هو الإنسان .
وعندما تقف الإرادة للمحاكمة أمام الشريعة الإلهية يحكم عليها بسبب رضاها وتصميمها على العمل لا بسبب عملها الخارجى . مثال ذلك قال لنا المسيح " وأما أنا فأقول لكم أن كل من ينظر إلى إمراة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه. " ( متى 5 : 28 ) .
أما الشريعة القديمة ، قبل قدوم المخلص ، فقد كانت تحكم على العمل الخارجى ، وأصدرت أمرها هكذا " لا تزنِ " ( الخروج 20 : 14 ) وقضت بعقوبة الموت على الزناة . أما الشريعة الجديدة ، وهى شريعة الروح ، فتعتبر كل من زنى فى قلبة ولو لم ينفذ رغبته زانياً .
فإن الذهن والقلب معاً هما الإنسان – هما الكائن البشرى – وما الجسم وأعضاؤه إلا أدوات خارجية لخدمة أفكار القلب ورغباته .
ولما كان المسيح فى إشتراعه يرمى من جهة ثانية إلى تطهير المرء ورفعه إلى رتبة الكمال الأدبى ، أو بعبارة أخرى إيصاله إلى درجة البلوغ الأدبى وضع الشرائع لضبط وتوجيه سلوك الإنسان فى معناه الروحى الحقيقى لا فى مظهره الخارجى وجسده المادى . فهى من هذا الوجه كما سلف القول شرائع روحيه تختلف وتمتاز عن الشريعة القديمة التى تحكم على ما يصدر من الجسد فى حين أن شريهة الروح ، فى ضبطها عمل الإرادة وسلوكها تخضع أعضاء الجسد إلى هداها فى أوامر إشتراعها .
فالشريعة من جهة ترشد الإرادة وتقودها إلى الخير . والإرادة تقود أعضاء الجسم فى إتمام وظائفها إلى ما هو صالح . وهكذا يتكون من الثلاثة : الشريعة الإلهية والإرادة الخاضعة لها والجسم الذى يصغى إلى صوت الإرادة وينفذ رغائبها وحدة ووئام فتنهج حياة الإنسان بكامل قواها داخلياً وخارجياً أسلوباً يرضى الله وينطبق على إرادته .
ومعنى ذلك أن القوة التى تدفع الإرادة إلى معارضة أو تجاوز الشريعة الإلهية والجسم إلى مقاومة الإرادة فتسبب بذلك تشويشاً ونزاعاً فى الكائن البشرى قد أضمحلت وفنيت . وبخضوع الإرادة للشريعة الإلهية وخضوع أعضاء الجسد للإرادة يتم الخضوع لله وفى هذا سر المسيحية الأسمى والقوة الموحدة التى تجعل الإنسان بكامله على وفاق تام مع الله ومع أخوته فى الإنسانية .
إن النتيجة المباشرة لخضوع إرادة الإنسان للشريعة الإلهية هى خضوع أعضاء جسده لإرادته . ومتى أدركت المسيحية غرضها وهو إخضاع إرادة الإنسان للشريعة الإلهية لا تجد صعوبة فى إخضاع أعضاء الجسد لإرادة الإنسان .
والدين يمثل الدور الرئيسى فى إخضاع الإرادة البشرية للشريعة الإلهية . لإنه يشفى الأمراض النفسية ويحرر الإرادة من قيود الخطيئة فيمكنها من القيام بدورها حسب الواجب وهكذا تباشر طوعاً وحالاً القيام بالاعمال الصالحة .
الرجل المريض
إن الرجل المريض الذى مر عليه زمن طويل ملازماً الفراش لا يستطيع أن يأكل ما يشتهى أو يشتغل أو يتجول كما يشاء . وهذا يعنى أنه فى حاجة إلى المعالجة الطبيه للشفاء من مرضه . وبعد المعالجة والشفاء يصير فى إستطاعته أن يأكل ويشرب ويعمل ويجول بكل حرية . والخاطئ رجل مريض أدبياً وقبل أن يتحرر من مرضه الأدبى ومن تطوحه فى الخطيئة لا يستطيع أن يقوم بعمل صالح لأن قوة الخطيئة تقيد إرادته وتستعبدها . ولا ينقذ النفس من مرضها هذا ويحررها من قيودها إلى قوة أعظم من سلطة الخطيئة . وما هذه القوة إلا نعمة الإيمان بالمسيح والتوبة الصادقة وقتل كل ميل إلى الأعمال المخالفة لشريعة الله .
إن شريعة الإيمان هى العلاج الجوهرى لشفاء النفس ، ونجد الإعراب عنها فى أسرار الكنيسة المقدسة وصلواتها وطقوسها التى يقوم بها الكهنة القانونيون . وهم فى قيامهم بعملهم يستخدمون التبشير بالإيمان وإعلان وصايا الله وإتمام الأسرار المقدسة بصورة تشعر بها الحواس أيضاً .
من هذا المبدأ العام للشريعة الإلهية تنشأ الشريعة الدينية ، وهى أحد مظاهرها . وكل ما ينشأ من علاقات بين خدام الكنيسة الروحيين والكنيسة ، أى جماعة المؤمنين فى المسيح ، وبين المؤمنين أنفسهم قد وضعت لها سلطة الكنيسة قوانين وأنظمة لحسن ادارة أعمال الكنيسة الخارجية وهى الشرائع الكنسية ، ومصدرها الشريعة الإلهية .
إن الجسم ينفذ رغبات النفس ( الأنا ) . والشريعة الكنسية هى المظهر الخارجى لفظاً وكتابة لذلك الفرع من الشريعة الإلهية .
إن عمل الإرادة الخارجى هو إعلان لعزمها الداخلى . وبهذا الإعتبار تكون الشريعة الكنسية إعراباً عن العلاقات السرية بين نفوس البشر والله نتيجة للإيمان بالمسيح . وخدام الكنيسة الروحيون إجمالاً يظهرون ويعلنون فى الطقوس إرادة الله . والطقوس ، فى خدام الأسرار ، توضح وتعلن الظاهرة النفسية التى تطورت روحياً وطقسياً داخلنا بقوة وفعل الروح القدس .
وشرائعه الكنيسة وقوانينها تظهر وتوضح العلاقة الأدبية التى تربط النفوس بالله وتربط أحداها بالأخرى وتحفظ الكل هكذا فى وحدة خارجية ، بينما تقوم الشريعة الدينية والأدبية بحفظهم متحدين مع الله ومع بعضهم البعض فى وحدة داخلية . وهكذا تقسم الشريعة الكنسية إلى نوعين ، داخلياً ، والشريعة القانونية لتنظيم عمل الكنيسة وجماعة المؤمنين ، وسلوكها خارجياً .
ويجب أن نتذكر دائماً أن لامسيح وضع مباشرة مبادئ الشريعة الأدبية فى أقواله وأعماله أثناء البشارة وفيما أصدره من اوامر ووصايا . أما القسم الثانى من الشريعة الكنسية ، وهو الشريعة القانونية ، فقد وضع مبادئها رسل المسيح وتوسعت فى وضعها المجامع المسكونية .
ومما يجدر بالذكر فى هذا الشأن أن الشريعة الكنسية الأدبية ، وبعبارة أخرى الشرائع المختصة بالعقائد ، بالأسرار وتقليد الكنيسة هى ثابتة لا تقبل أدنى تغيير . فلا يستطيع أحد أن يضيف إليها أو يحذف منها شيئاً فى تعديل ما وضعه المسيح نفسه فى نظام إشتراعه الكامل .
أما من جهة الشريعة الكنسية القانونية فالكنيسة تقدميه لأنها تستطيع أن تضيف إليها أو تحذف منها أو تجرى فيها من التعديل والتبديل ما يتلاءم مع حاجات كل زمان ومكان . ولهذا السبب عقدت الكنيسة مجامعها المسكونية .
ويستطيع مجمع مسكونى تالٍ أن يعدل ويبدل ما وُضع فى مجمع سابق إذا أقتنع الآباء بلزم ذلك . على أن كل تعديل فى الشريعة القانونية أى فى نظام الإدارة لا يمكن أن يجوز القبول إلا إذا صدر بعد مناقشات حرة وبإتفاق آراء أعضاء المجمع لا خضوعاً لإرادة شخص واحد أو تقيداً بأورامره مهما سمت منزلته فى الإدارة الكنسية .
عن كتاب
مجموعة الشرع الكنسى أو قوانين الكنيسة المسيحية الجامعة
جمع وترجمة
الارشمندريت / حنانيا الياس كساب