حالة النعمة وحرية الاختيار

كرامة الإنسان في المسيح
+ اعرف ايها الإنسان سموك وكرامتك وشرفك عند الله. لكونك أخاً للمسيح، وصديقاً للملك، وعروساً للعريس السماوي. لان كل من استطاع أن يعرف كرامة نفسه، فانه يستطيع أن يعرف قوة وأسرار اللاهوت.
وبذلك يمكنه أن ينسحق ويتضح أكثر، ففي ضوء قوة الله يرى الإنسان خطورة حالته الساقطة. وكما انه (المسيح) عبر الآلام والصليب قبل أن يتمجد ويجلس في يمين الآب هكذا ينبغي لك أن تتألم معه، وتصلب معه، وبذلك تصعد معه وتجلس معه وتتحد بجسد المسيح، وتملك معه إلى الأبد في ذلك العالم، "ان كنا نتألم معه لكي نتمجد ايضاً معه" (رو 8 : 17).
+ لأن اولئك الذين يستطيعون أن يغلبوا ويجوزوا حصون الشر، فانهم يدخلون إلى المدينة السماوية المملوءة بالسلام وأنواع الصالحات حيث "أرواح الأبرار" تجد راحتها (عب 12 : 23).
لذلك ينبغي أن نكد ونتعب كثيراً من أجل ذلك. فانه لا يليق أن العريس الذي أتى من أجلك، يتألم، بينما العروس التي جاء لأجلها العريس تعيش في بلاده وتكاسل هائمة في العالم.
وكما انه في الأمور العالمية تعطي الزانية نفسها لكل انسان بدون تمييز في عهارة، هكذا النفس قد اعطت نفسها لكل شيطان حتى افسدتها تلك الأرواح الشريرة. فإن البعض يخطئون ويفعلون الشر باختيارهم بينما البعض الآخر يخطئون رغماً عنهم.
فما معنى هذا؟ أو اولئك الذين يفعلون الشر باختيارهم هم الذين قد باعوا ارادتهم للشر، ويجدون لذتهم فيه ويعقدون معه صداقة. مثل هؤلاء هم متصالحون مع الشيطان ولا يحاربونه في أفكارهم. وأما اولئك الذين يفعلون الشر بدون ارادتهم فهؤلاء تحارب الخطية في اعضائهم (رو 7 : 23).
وقوة وحجاب الظلمة تحارب ضد ارادتهم وهم لا يتوافقون معها في افكارهم، ولا يجدون لذتهم فيها، ولا يطيعونها بل يحاربون ضدها في القول والفعل. وهم يغضبون مع انفسهم. فهؤلاء هم اسمى جداً وأكرم في عيني الله عن الذين يبيعون ارادتهم للشر ويفرحون به.
+ فاذا افترضنا أن ملكاً وجد فتاة فقيرة تلبس خرقاً بالية، ولم يستنكف منها بل أخذها وجردها من ثيابها الرثة وغسلها من سوادها وزينها بملابس أنيقة مبهجة وجعلها شريكته وجليسته على مائدته، هكذا الرب ايضاً فقد وجد النفس مجروحة ومضروبة، فأعطاها الدواء وخلع عنها الثياب السوداء أزال عنها عار الخطية وألبسها الملابس الملوكية السماوية أي ملابس اللاهوت اللامعة المجيدة.
ووضع تاجاً على راسها وجعلها شريكة في مائدته الملوكية للفرح والبهجة - وكما في حالة الحديقة الجميلة حيث توجد اشجار مثمرة ويكون الهواء محملاً بالروائح الزكية، وتوجد أمكنة كثيرة جميلة ومنعشة وذلك لبهجة وراحة اولئك الذين يذهبون إلى هناك، هكذا ايضاً تكون النفوس في الملكوت فانها تكون جميعها في فرح وسعادة وسلام، ويكونون ملوكاً وارباباً وآلهة. لأنه مكتوب "ملك الملوك ورب الأرباب" (1تي 6 : 15).
+ فالديانة المسيحية ليست اذن شيئاً عادياً، "هذا السر عظيم" (أف 5 : 32)، لذلك فاعرف قدرتك وسموك لكونك دعيت إلى الكرامة الملوكية "جنس مختار كهنوت ملوكي وأمة مقدسة" (1بط 2 : 9)، لأن سر المسيحية هو غريب بالنسبة لهذا العالم.
والمجد المنظور الذي للامبراطور أو الملك وكل غناه، انما هو أرضي وفاني ومضمحل وأما ذلك الملكوت وذلك الغنى السماوي فهو الهي سماوي ومملوء مجداً وهو لا يفنى ولا يضمحل لأن مثل هؤلاء المسيحيون يملكون مع الملك السماوي في الكنيسة السماوية "وهو البكر من الأموات" (كو 1 : 18) وهم ايضاً أبكار ولكن رغم أن هذه هي حالتهم وهم مختارون ومقبولون أمام الله، فانهم يعتبرون انفسهم أقل الكل وليس لهم أي استحقاق، وقد صار أمراً طبيعياً عندهم أن يعتبروا انفسهم كلا شيء.
نفسي ليست ثمينة عندي
+ سؤال: هل معنى ذلك انهم لا يعرفون انهم قد نالوا شيئاً زائداً وانهم قد حصلوا على ما لم يكن لهم قبلاً أي ما هو غريب عن طبيعتهم؟
جواب: ما أقوله هو انهم لا يعتبرون انفسهم مستحقين لمدح الله ورضاه، ويعتبرون انهم لم يتقدموا ويرتقوا، وهم لا يعرفون كيف حصلوا على ما لم يكن لهم قبلاً. ولكن برغم كل ذلك فإن النعمة نفسها تأتي وتعلمهم أن لا يحسبوا "نفوسهم ثمينة عندهم" (أع 20 : 24) رغم انهم قد نموا وتقدموا. بل وان يحسبوا انفسهم كأنهم من طبيعتهم لا قيمة لهم. ورغم انهم مكرمون وأعزاء عند الله ولكنهم ليسوا مكرمون عند أنفسهم.
ورغم انهم ينمون ويتقدمون في معرفة الله، فانهم يكونون كأنهم لا يعرفون شيئاً ورغم كونهم أغنياء عند الله فانهم يرون انفسهم فقراء - وكما أن المسيح "أخذ صورة عبد" (فيلبي 2 : 7) وغلب الشيطان بالتواضع، هكذا فانه في البداية سقط الإنسان عن طريق الكبرياء والمجد الباطل بخداع الحية، والآن فان الحية نفسها التي تختبئ في القلوب البشرية تحاول أن تصرع وتهلك كثير من جنس المسيحيين عن طريق الكبرياء والمجد الباطل.
+ وإذا كان انسان حر وكريم المولد بحسب العالم وعنده غنى كثير، وهو مستمر في تنمية ثروته وزيادة دخله، فان مثل هذا الإنسان يفقد اتزانه ويصير معتداً بنفسه واضعاً نفسه في ذاته. هذا الإنسان يصير غير محتمل، ويبتدئ يرفس الآخرين ويبطش بهم.
هكذا يكون الحال احياناً مع بعض الأشخاص الذين ينقصهم التمييز، فانهم بمجرد أن يبدأوا في تذوق بعض الفرح والقوة في الصلاة، فانهم يبتدأون أن ينتفخوا روحياً، ويفقدون اتزانهم، ويبدأون في ادانة الآخرين ولذلك يسقطون إلى أسفل أعماق الأرض. 
وان الحية نفسها التي طردت آدم من الفردوس عن طريق الكبرياء بقولها "ستكونان كالآلهة" (تك 3 : 5)، لا تزال تلقي بأفكار الكبرياء في قلوب البشر قائلة لكل منهم "أنت كامل، أن عندك كثير وانت غني، انك لا تحتاج شيئاً، انك مغبوط وسعيد".
وهناك اشخاص آخرون أغنياء بحسب هذا العالم ومستمرون في تنمية ثرواتهم، ومع ذلك فانهم يحفظون انفسهم في حدود بعض البصيرة والتمييز ولا يفتخرون أو ينتفخون بل يظلون متزنين لأنهم يعرفون أن الوفرة والغنى يمكن أن يعقبها القلة والشح. وايضاً حينما تحدث لهم الخسارة والقحط فانهم لا ييأسون بل يحفظون توازنهم عالمين أن الرخاء والوفرة ستعود مرة أخرى، وبكثرة تمرنهم في وقت الخسارة لا يندهشون ويتحيرون.
المسيحية تذوق عميق للحق وأكله وشربه باستمرار
+ والمسيحية في حقيقتها هي تذوق عميق للحق، هي أكل وشرب للحق، أن تأكل وان تشرب، وهكذا تستمرتأكل وتشرب لتنال القوة والفاعلية. وإذا افترضنا أن هناك عين ماء يأتي اليها شخص عطشان ويبدأ أن يشرب منها ولكن في اثناء شربه يأتي شخص آخر ويصده قبل أن يرتوي تماماً كما يريد، فان ذلك الإنسان العطشان يشتعل عطشاً أكثر إلى الماء، لأنه قد تذوق الماء ولذلك فانه يطلبه بغيرة وجهد أكثر. هكذا ايضاً في المجال الروحاني فان الإنسان يتذوق الطعام السماوي ويشترك فيه، ثم يأتي في اثناء ذلك ما يمنعه فلا ينال شبعه تماماً.
+ سؤال: ولماذا لا يسمح له أن ينال شبعه الكامل؟
جواب: أن الرب يعرف ضعف الإنسان، انه ينتفخ بسهولة، ولهذا السبب فانه يحجز عنه الشبع ويسمح للانسان بان يمتحن ويجرب. فاذا كنت تنال قليلاً من النعمة ومع ذلك تصير غير محتمل وتكون منتفخاً، فكيف يكون الحال لو أنك اعطيت حتى الشبع مرة واحدة بدون أن يحجز عنك الشبع؟ ولكن الله اذ هو يعرف ضعفك تماماً فانه بعنايته يرتب أن تأتيك الشدائد لكي ما تتضح وتطلب الله بغيرة واجتهاد. وكما يحدث في حالة انسان فقير في الماديات، ويقول "لقد وجدت كيساً من الذهب وصرت انساناً غنياً" وحينئذ يسمع صاحب الكيس الذي فقده فيأتي ويأخذ ذهبه.
وانسان آخر كان غنياً، وفقد اتزانه وبدأ يرفس الناس ويحتقر كل واحد، ويعظم نفسه على غيره من الاشخاص، وحينما سمع الامبراطور عنه صادر كل ممتلكاته. وهكذا الأمر في المجال الروحاني. فحينما يتذوق بعض الأشخاص قليلاً من العزاء والنعمة فانهم لا يعرفون كيف ينتفعون بما نالوا، بل انهم يفقدون حتى ما قد نالوه لأن الخطية تضلهم وتظلم عقولهم.
النعمة والسقوط وحرية الاختيار
+ سؤال: كيف يسقط البعض بعد افتقاد النعمة أفلا يصير الشيطان أضعف بواسطة النعمة؟ وحيث يكون النهار كيف يمكن أن يكون هناك ليل؟
جواب: ليس أن النعمة تنطفئ أو تضعف، بل أن ارادتك وحريتك تمتحن لكي يتضح إلى أي اتجاه تميل، ولهذا، فان النعمة تعطي فرصة لوجود الخطية. وحينئذ تقترب انت ثانية من الرب باختيارك وتتوسل إليه أن تأتيك النعمة وتفتقدك. فانه مكتوب "لا تطفئوا الروح" (1تس 5 : 19) فالروح نفسه لا يمكن أن ينطفئ، بل هو نور دائم، ولكن إذا كنت انت مهملاً، فبعدم توافقك وتعاونك مع الروح فانك تنطفئ وتفقد الروح. وبالمثل يقول الكتاب ايضاً "لا تحزنوا الروح القدس الذي به ختمتم ليوم الفداء" (أف 4 : 30) وأنت ترى هنا، انه متروك لاختيارك وحريتك أن تكرم الروح القدس ولا تحزنه. واني أؤكد لك أن حرية الاختيار تظل باقية حتى في المسيحيين الكاملين الذين يسبون بالصالحات ويسكرون بها، والنتيجة انهم رغم تعرضهم لآلاف من الشدائد والشرور فانهم يتجهون إلى الصلاح.
+ وحينما يترك بعض الأشخاص من ذوي الرتب والثراء والنسب - يتركون أموالهم ورتبهم ويلبسون ثياباً فقيرة رثة ويقبلون المسكنة والاهانات بدلاً من التكريم والاحترام، ويحتملون الشدائد ويحسبون بلا كرامة، فانهم يفعلون هذا باختيارهم وارادتهم.
وصدقني أن الرسل انفسهم الذين كانوا كاملين في النعمة، لم تكن النعمة تمنعهم من أن يفعلوا ما يريدون، أن رغبوا احياناً أن يفعلوا شيئاً غير موافق للنعمة.
أن طبيعتنا البشرية معرفة لكل من الخير والشر، والقوة المعادية تعمل عن طريق الحث والاغراء وليس عن طريق الاجبار. وانت تملك الحرية أن تميل إلى الاتجاه الذي تريده. 
ألم تقرأ ما هو مكتوب أن بطرس "كان ملوماً" (غل 2 : 11). وان بولس قاومه مواجهة. 
فرغم كل ما كان عليه بطرس من نعمة فانه استوجب التوبيخ. وبولس مع كل الروحانية التي كان عليها فانه تشاجر مع برنابا حتى فارق أحدهما الآخر (أع 15 : 39)، وبولس نفسه ايضاً يقول "اصلحوا انتم الروحانيون مثل هذا.. ناظراً إلى نفسك لئلا تجرب انت ايضاً" (غل 6: 1). اذن فالروحانيون يجربون لأن حرية ارادتهم باقية، والأعداء يحاربونهم ما داموا في هذا العالم.
+  سؤال: ألم يكن الرسل يستطيعون أن يخطئوا لو أرادوا ذلك؟ ام أن النعمة كانت قوية جداً فوق ارادتهم؟
جواب: انهم لم يكونوا يستطيعون أن يخطئوا، لأنهم لم يكونوا يستطيعون أن يختاروا الخطية لكونهم في النور وفي ملء النعمة. وأنا لا أقول أن النعمة كانت ضعيفة فيهم ولكن ما أقوله أن النعمة تسمح حتى للأشخاص الروحانيين الكاملين أن تكون لهم حرية الارادة، وان يكون لهم السلطان أن يفعلوا ما يختارون، وان يتجهوا الاتجاه الذي يرغبونه. والطبيعة البشرية، اذ هي ضعيفة لها الامكانية أن تميل حتى مع وجود الصلاح والنعمة فيها. وكما أن هناك اناساً يلبسون السلاح الكامل من الرأس إلى القدم مع الدروع وغيرها من الأسلحة، فانهم حينئذ يكونون محفوظين في الداخل ولا يستطيع الأعداء أن يهاجموهم، فانهم في استطاعتهم إما أن يستخدموا اسلحتهم ويحاربوا ويجاهدوا ضد الأعداء وينتصروا أو أن يصالحوا الأعداء ويعقدوا معهم صلحاً ويكفوا عن محاربتهم رغم انهم يملكون السلاح. وينفس الطريقة، فان المسيحيين المسلحين بالقوة الكاملة والذين يملكون السلاح السماوي يستطيعون أن ارادوا أن يتصالحوا مع الشيطان ويكفوا عن الحرب. أن الطبيعة البشرية معرضة للتغير، والإنسان يستطيع إذا أراد أن يصير ابناً لله أو ابناً للهلاك. وفي هذا يتضح أن حرية ارادتهم هي التي تحدد ماذا يكون.
أهمية الاختبار وبرهان الروح
+ أن مجرد الحديث عن الأطعمة والمائدة شيء وأما أن تأكل وتتمتع بالطعام لتقوية أعضاء جسدك فهذا شيء آخر تماماً. والحديث عن مشروب لذيذ بالكلمات شيء، وأما الاقتراب من الينبوع نفسه والشرب منه حتى الارتواء فهذا شيء آخر. وان تتحدث عن الحرب والأبطال والمحاربين الشجعان هذا شيء ولكن ذهاب الإنسان إلى المعركة في الطليعة ومحاربة الأعداء وجهاً لوجه ومناورتهم والخذ والعطاء معهم والانتصار عليهم فهذا شيء آخر تماماً.
وبالمثل في الأمور الروحية: الكلام والحديث بالمعرفة والأفكار العقلية هذا شيء، وأما الجوهر والحقيقة في ملء الاختبار وفي الإنسان الداخلي وامتلاك كنز ونعمة ومذاقة وفاعلية الروح القدس في القلب فهذا شيء آخر. لأن أولئك الذين يتكلمون مجرد كلمات عارية يعيشون في أوهام "وينتفخون في ذهنهم" (كو 2 : 8). والرسول يقول: "وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الانسانية اقتنع، بل ببرهان الروح والقوة" (1كو 2 : 4) وايضاً يقول: "ان غاية الوصية هي المحبة من قلب طاهر وضمير صالح وايمان بلا رياء" (1تيمو 1 : 5). ومثل هذا الإنسان لا يسقط لأن كثيرين من الذين يطلبون الله ينفتح لهم الباب ويبصرون الكنز ويدخلون فيه، وبينما هم يفرحون بهذا ويقولون "لقد وجدنا الكنز" فانه يغلق الأبواب. ويبدأون بالصراخ والطلب والتوسل كثيراً ويقولون "لقد وجدنا الكنز وضيعناه". فان النعمة تنسحب بقصد وتدبير لكي ما نسعى ونطلب باجتهاد وغيرة. والكنز يكشف لنا لكيما يجعلنا نسعى في طلبه.
+ سؤال: يقول البعض أن الإنسان بعد أن ينال النعمة مرة فانه يعبر من الموت إلى الحياة. فهل من الممكن لمن قد صار في النور أن تكون عنده أفكار غير طاهرة؟
جواب: مكتوب "ابعد ما ابتدأتم بالروح تكملون بالجسد" (غل 3 : 3) وايضاً يقول "البسوا سلاح الروح الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكايد ابليس" (أف 6 : 11).
وهذه النصوص تبين وجود وضعين: الأول هو الذي يكون فيه الشخص حينما يكون لابساً سلاح الروح والآخر حينما يحارب مع السلاطين والرؤساء سواء في النور أو الظلمة. ومكتوب ايضاً "لكي تقدروا أن تطفئوا سهام الشرير الملتهبة" (أف 6 : 16). وايضاً "لا تحزنوا روح الله القدوس" (أف 4 : 30) وايضاً "لأن الذين استنيروا مرة وذاقوا موهبة الله وصاروا شركاء الروح القدس وسقطوا لا يمكن تجديدهم ايضاً" (عب 6 : 4). فهناك اولئك الذين استنيروا وذاقوا الرب ومع ذلك يسقطون. ومن ذلك نرى أن الإنسان يملك الارادة أن يحيا في توافق وانسجام مع الروح، وايضاً يملك الارادة أن يحزنه. وهو يأخذ الأسلحة لكي يذهب إلى المعركة ليحارب الأعداء. انه بالتأكيد قد استنار حتى يمكن أن يحارب ضد الظلمة.
الفرق بين المواهب وبين المحبة الكاملة
+ سؤال: ماذا يعني الرسول بقوله "ان كان لي كل علم وكل نبوة واتكلم بألسنة الملائكة فلست شيئاً" (1كو 13 : 1-3).
جواب: لا ينبغي أن نفهم من هذا الكلام أن الرسول ليس بشيء ولكنه يعني أن كل هذه المواهب ليست شيئاً بالمقارنة بالمحبة الكاملة، وهذه كلها لها أهمية قليلة. والذي له مثل هذه المواهب يمكن أن يسقط. أما الذي يملك المحبة فلا يمكن أن يسقط.
واني أؤكد لكم هذا، اني قد رأيت اشخاصاً نالوا كل المواهب الروحية وكانوا شركاء للروح ولكن لأنهم لم يصلوا إلى المحبة الكاملة فقد سقطوا. أن واحداً من النبلاء رفض العالم وباع كل ممتلكاته وأطلق عبيده احراراً. وإذا كان انساناً ذو حكمة وفهم، فقد نال شهرة كبيرة عن شدة تنسكه في الحياة. ولكنه في نفس الوقت كان له أفكار عالية عن نفسه، وصار منتفخاً وأخيراً سقط في نجاسة فاضحة وآلاف شرور رديئة.
+ وانسان آخر في زمن الاضطهاد، قدم جسده وصار معترفاً. ولما انتهى زمان الاضطهاد وأطلق حراً صارت له شهرة عظيمة لأن جفون عينيه كانت محترقة. وايضاً هذا الإنسان نال مجداً كثيراً من الناس وكانوا يطلبون صلواته وصار يأخذ منهم نقوداً وتقدمات ويعطيها لخادمه. وتغيرت أفكاره حتى صار كأنه لم يسبق له أن سمع كلمة الله. 
وآخر قدم جسده في زمن الاضطهاد، وعلقوا جسده وجلدوه ثم ألقوه في السجن، وهناك كانت تخدمه احدى الراهبات، وقد كون الفة معها أثناء وجوده في السجن وسقط معها في الزنى. فانظر كيف أن الرجل الغني، بعد أن باع كل ممتلكاته، والذي قدم جسده للاستشهاد كلاهما يمكن أن يسقط.
+ كان هناك ناسك حكيم، وكان يعيش معي في اقامة واحدة وكان يصلي معي، وكان غنياً جداً في النعمة حتى انه حينما كان يصلي بجواري كانت تغمره الندامة والدموع، وكانت النعمة تغلي في داخله. وقد اعطي موهبة الشفاء، ولم يكن يطرد الشياطين فقط، بل كان يضع يديه على اولئك المربوطين والمعذبين بأمراض خطيرة فيشفيهم. ثم بعد ذلك بدأ يتهاون لأنه كان ينال مجداً كثيراً من العالم: وكان يجد متعة ولذة في هذا المجد، وصار منتفخاً. وسقط إلى أعماق الخطية. فأنظر كيف أن الذي كانت له موهبة الشفاء سقط. ألا ترى انهم يسقطون قبل أن يصلوا إلى المحبة الكاملة. لأن الذي يصل إلى المحبة يؤسر منها ويسكر بها. انه يغطس فيها ويمسك أسيراً في عالم آخر، كأنه لا يعرف شيئاً عن طبيعته القديمة.
+ سؤال: ما معنى الآية التي تقول: "ما لم تره عين وما لم تسمع به اذن وما لم يخطر على قلب بشر" (1كو 2 : 9).
جواب: في ذلك الزمان كان الأبرار والعظماء والملوك والأنبياء يعرفون أن المسيح لابد أن يأتي. ولكنهم لم يكونوا يعرفون ولا كانوا قد سمعوا انه سيتألم ويصلب ويسفك دمه على الصليب ولم يخطر على بالهم انه ستكون هناك معمودية بالنار والروح القدس وان في الكنيسة ستقدم تقدمة الخبز والخمر مثالاً لجسده ودمه وان اولئك الذين يتناولون الخبز المنظور سيأكلون جسد الرب روحياً، لأن الرسل والمسيحيين سينالون المعزي "ويتأيدون بالقوة من الأعالي" (لو 24 : 49) ويمتلئون باللاهوت، وان نفوسهم تمتزج بالروح القدس وتتشبع به، هذا لم يعرفه الأنبياء والملوك ولا خطر على قلبهم. والآن فان المسيحيين يتمتعون بغنى عظيم يختلف عن غيره، وقلوبهم ممسوكة بشهوة اللاهوت، ولكن برغم كل ما يتمتعون به من فرح وتعزية فانهم لا يزال عندهم، خوف ورعدة.
+ سؤال: أي خوف ورعدة؟
جواب: لئلا يتخذوا خطوة خاطئة، بل يظلون متوافقين مع النعمة. ومثل انسان يملك كنوزاً كثيرة، ويسافر في رحلات حيث يوجد بعض اللصوص. فرغم انه يفرح بغناه وكنوزه ولكنه يخاف لئلا يهاجمه اللصوص وينهبوه، ويكون كمن يحمل دمه على يديه. 
فأنظر ها نحن من جهة الأمور الخارجية، قد تخيلنا جميعاً عنها وصرنا غرباء لا نملك شيئاً، وتركنا كل عشرة جسدية مع العالم. والآن حينما يكون الجسد في وضع الصلاة فان الأخوة هم الذين يرون هل العقل ايضاً متحد مع الجسد ومشترك في الصلاة ام لا؟ فانه في حالة العمال المهرة والبنائين في العالم، فانهم يكونون مربوطين بجسدهم وعقلهم ليلاً ونهاراً في حرفتهم. فانظر الآن جيداً إلى نفسك: أن جسدك متغرب بالنسبة للعالم، فهل عقلك متغرب عن العالم ولا يرتبط بأمور هذا العالم؟
أن كل انسان في العالم، سواء كان جندياً أو تاجراً حيثما يكون جسده فانه هناك يكون عقله وهناك يكون كنزه، كما هو مكتوب "حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك ايضاً" (متى 6 : 12).
ما هو كنزك؟
+ والآن ما هو الكنز الذي يميل إليه قلبك ويسعى اليه. هل هو يميل كلية وتماماً إلى الله ام لا؟ فان لم يكن مائلاً إلى الله فأخبرني ما هو الذي يمنعك من ذلك فبالتأكيد هناك الأرواح الشريرة، أي الشيطان وجنوده الذين يجذبون العقل ويربطون النفس بالأغلال، لأن الشيطان ماكر جداً وله حيل وخدع كثيرة من كل نوع، وهو يستولي على مراعي النفس وأفكارها ولا يدعها تصلي الصلاة الصحيحة وتقترب من الله.
الطبيعة البشرية عندها القابلية لتكوين شركة مع الشياطين وأرواح الشر كما أن عندها القابلية لتكوين الشركة مع الملائكة والروح القدس فمن الممكن أن تكون هيكلاً للشيطان أو هيكلاً للروح القدس.
والآن افحصوا عقولكم يا اخوة، مع من انتم في شركة؟ هل مع الملائكة ام مع الشياطين وانتم هيكل لمن: هل انتم مسكن لله ام للشيطان؟ وما هو الكنز الذي يملأ قلبك: هل النعمة ام الشيطان. وكمثل بيت قد امتلاه بالروائح الكريهة والقذارة، ينبغي أن يتم تنظيفه تماماً وينسق ويمتلئ بكل رائحة طيبة وبكل الكنوز، لكي يأتي الروح القدس بدلاً من الشيطان ويجد راحة في قلوب المسيحيين.
+ وفي الحقيقة فان الإنسان حينما يسمع كلمة الله لا يصير في نفس اللحظة مع القديسين في الحال. فلو أن مجرد الاستماع يجعله بين الصالحين لما كان هناك صراع أو أوقات حروب أو جهاد اذ انه بمجرد سماعه فقط يتحول إلى راحة كاملة والى السلام وحالة الكمال. ولكن حقيقة الأمر تختلف عن كل ذلك فان الذين يظنون أن الأمور تسير هكذا انما ينتزعون من الإنسان حرية اختياره وايضاً ينكرون بذلك وجود قوة معادية تحارب ضد الانسان.
اما ما نقوله نحن فهو، أن الإنسان الذي يسمع الكلمة ويقبلها فانها تقوده إلى التوبة، ثم بعد ذلك تنسحب النعمة قليلاً بتدبير عناية الله لأجل نمو الإنسان ومنفعته، فيدخل في التدريب ويتعلم نظم الحرب، ويدخل في عراك وحرب ضد الشيطان وبعد كفاح طويل وعراك ينال الانتصار ويصير مسيحياً. فلو كان مجرد الاستماع يجعل الإنسان من القديسين والصالحين لكان الممثلون وكل الزناة قد دخلوا إلى الملكوت والحياة الأبدية. ولكنهم لن يعطى لهم هذا بدون توبة وجهاد لأن الطريق مستقيم وضيق (متى 7 : 14) وفي هذا الطريق ينبغي أن نسير ونحتمل الشدائد بصبر وهكذا ندخل إلى الحياة.
أهمية اختيار اتجاه الايمان والجهاد
+ فلو أن النصرة الروحية بدون أي جهد، لما كانت المسيحية "حجر صدمة وصخرة عثرة" (رو 9 : 33). ولما كان هناك ايمان وعدم ايمان. وبذلك فانك تجعل من الإنسان مخلوق الضرورة والاجبار، غير قادر على الاتجاه إلى الخير أو إلى الشر.
والقانون يعطى فقط لمن يستطيع أن يتجه إلى أي من الاتجاهين - يعطى لمن له الحرية أن يدخل المعركة ضد القوة المعادية. ولا يمكن أن يوضع قانون لطبيعة تسير بالاجبار. 
أن الشمس والسماء والأرض لا تحتاج أن تسن لها قوانين، فان مثل هذه المخلوقات طبيعتها محكومة جبرياً، ولهذا السبب فانها لا تنال، لا مكافأة ولا عقاب..
أن المكافأة والمجد انما هي معدة لمن يتجه إلى الصلاح، اما جهنم والعقاب فهي معدة لهذه الطبيعة المتغيرة، التي في استطاعتها أن تهرب من الشر، وتلقي بكل كيانها إلى الجانب اليمين أي جانب الصلاح والخير. فاذا قلت أن الإنسان طبيعته غير متغيرة فهذا يخالف حقيقة الواقع، ثم انك تجعل الإنسان غير مستحق لأي مجد أو مدح من الله. فان الذي هو صالح ورحوم بطبيعته، لا يستحق أي مدح على ذلك مع أن هذا (الصلاح والرحمة) امر محبوب ومرغوب. أن من لا يصير في حالة الصلاح باختياره، لا يستحق المدح، مهما كان الصلاح مرغوباً فيه. أن المدح انما يستحقه ذلك الإنسان الذي يقرر هو شخصياً ويتعهد مع الله بتعب واحتمال أن يكون الصلاح هو اتجاهه الشخصي واختياره الحر.
قوة العقل تعادل قوة الشرير والانتصار بقوة النعمة
+ فاذا كان معسكر الفرص في مواجهة معسكر الرومان فانه يخرج شاب مجنح من كل معسكر منهما، لهما قوة متساوية ليصارعا في المعركة. فبالمثل فان العقل البشري والقوة المعادية هما متساويان في القوة في حربهما ضد بعضهما.
فالشيطان يحث ويغري الإنسان لكي يتبعه، والإنسان له قوة معادلة ليرفض ايحاءاته ولا يطيعه بأي حال، وكل من الشر والخير يعمل عمله بالحث وليس بالاجبار. ومعونة النعمة الالهية تعطى لمن يختار الصلاح بحريته، وبدخوله في المعركة فانه ينال الاسلحة السماوية التي يستطيع بها أن يغلب الخطية ويستأصلها.
فان مقاومة الخطية هي في حدود امكانية الانسان، ولكن بدون نعمة الله لا يستطيع أن يغلب الشر ويستأصله. أما اولئك الذين يقولون أن الخطية هي عملاق جبار والنفس هي كطفل فهم مخطئون فلو كان الأمر هكذا، حتى أن الخطية تكون في قوة العملاق، والنفس البشرية في قوة طفل صغير، فيكون الله حينئذ ظالماً، باعطائه للانسان قانوناً أن يحارب ضد الشيطان.
اساس الطريق الالهي
+ أن اساس طريق الله هو هذا: الصبر الكثير، والرجاء، والاتضاع، ومسكنة الروح التي أوصانا بها الرب، هي مثل علامات ولافتات في الطريق الملوكي لارشاد المسافرين إلى المدينة السماوية. لأنه يقول "طوبى للمساكين بالروح، طوبى للودعاء، طوبى للرحماء، طوبى لصانعي السلام" (مت 5 : 3) وهذه هي المسيحية. اما الذي لا يسير في هذا الطريق فانه يضل إلى حيث لا طريق ويكون قد بنى على غير اساس.

والمجد لتحننات الآب والابن والروح القدس إلى الأبد آمين.


القديس مكاريوس المصرى الكبير
من كتاب عظات القديس مكاريوس 
المركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية بالقاهرة 
ترجمة د . نصحى عبد الشهيد بطرس