المعمودية والولادة الثانية

بمناسبة معمودية المسيح ...حديث المسيح مع معلم الناموس نيقوديموس” (يو1:3ـ13)
الولادة الثانية السرائرية (المعمودية المقدسة)
(أ‌) الإنسان قبل المعمودية هو ”إنسان عتيق”
نري في نصوص العهد الجديد ـ وبالحري في حوار المسيح مع نيقوديموس الرؤية التعليمية للإنسان بعد السقوط. هكذا الرسول بولس علي سبيل المثال يصف الإنسان بعد السقوط عمومًا ك  "إنسان عتيق" (رو6:6). 
والعناصر التي تصف الإنسان بعد السقوط هي الآتي
1- تعرية الطبيعة البشرية
الإنسان بعد السقوط بالرغم من أنه يرتدي ملابس إلا إنه في الحقيقة هو "عاريًا"، قد فَقَدَ أغلبية مواهب نعمة الخلق "بحسب صورة الله". ورسالة الله إلي ملاك كنيسة اللاودكيين يعبر عن هذه الحالة: " لأَنَّكَ تَقُولُ: إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقِيُّ وَالْبَئِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ" (رؤ17:3). 
هكذا كان نيقوديموس رئيسًا لليهود ومعلم الناموس كما هو وارد في إنجيل يوحنا، إلا أنه إتضح – كما في تفسير القديس كيرلس الاسكندري لإنجيل يوحنا - أنه فقير وأعمي وعريان : 
+ لقد كان نيقوديموس عنده إستعداد للإيمان ولكن عمل حسابًا لرأي الناس. 
+  لم تكن له الجرأة ـ إنقسم في رأيه، وكان يتردد في هدفه. 
+ كان رئيسًا لليهود خاف علي مركزه.
+ أراد أن يجمع بين الإحتفاظ بالمركز وأن يكون تلميذًا في الخفاء
إتخذ من ستار الليل عونًا لخطته. 
2- الإتجاه الخاطئ والمضاد للوجود
لقد إختار الإنسان إختيارًا خاطئًا لوجوده، والنتيجة أنه فَقَدَ إتجاهه وطريقة حياته قبل السقوط. بدلاً من أن يتحرك تجاه الشرق أي نحو النور، نحو الله، شمس وجوده، إنحرف وإتجه تجاه الغرب أي تجاه الظلمة والهاوية. والنتيجة: ضلال وظلمة في مسيرته. 
هكذا إقترب نيقوديموس إلي المسيح كما إلي مجرد إنسان ويدعوه "معلمًا من الله". والضلال هنا هو: 
+ أنه لا يعرف أن المسيح هو الله. لذا إقترب إليه كما إلى مجرد إنسان .
+ ولم يفهم خطة تدبير التجسد
3- العبودية للشيطان: مملكة الظلمة
لقد وضَّح له المسيح أن الضرورة القصوى للإنتقال إلي مملكة الله: ملكوت الله هي أن يُولد من فوق. مازال نيقوديموس ينتمي لمملكة الظلمة فالكلام وحده لا يكفي للتبرير: " ليس كل من يقول لي: يارب، يارب! يدخل ملكوت السموات. بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السموات" (مت 21:7). 
فمشيئة الآب أن يصير الإنسان شريك بالنعمة مع الروح القدس أي أن يُدعي مواطنًا سماويًا بالولادة الثانية من الروح. 
وكأنه يريد أن يقول لنيقوديموس: ما لم تُولد ثانية وما لم تنل الروح بحميم الميلاد الثاني، فلن يمكنك أن تكّون فكرة صحيحة عني. لأن هذه الفكرة التي لك هي فكرة ليست روحية بل جسدية (القديس يوحنا ذهبي الفم). 
4- ظلمة العقل وضعف الإرادة
العقل الذي يعيش في الظلمة لا يقبل الأمور التي لروح الله لأنه عنده جهالة (أنظر 1كو14:2). فهو يقيس الإلهيات بمفاهيمه الشخصية. وضعف الإرادة يتمثل في أن هذا الإنسان الذي ينتمي لمملكة الظلمة حين يواجه مفاهيم تفوق طاقته فإنه يتراجع ويسعد أن يبقي في المستوي الذي يلائمه فيحتقر الفهم الأسمى والأفضل. 
هكذا تخيل نيقوديموس أن الميلاد المقبل ينبغي أن يحدث بحسب نهج الأجساد، فأمُسك في حالة فقدان الشعور والعجز عن التعليم.
الإنسان أثناء المعمودية
ينبغي علي الإنسان أن يتمم الإجراءات الضرورية قبل أن يُولد من فوق بواسطة المعمودية، وهي: 
أولاً: يجحد الشيطان ويكرز بحريته
يقف الإنسان منتصبًا عاريًا تجاه الغرب في موقف شجاع غير عامل حسابًا لرئيس الظلمة، يتفوه بكلام رهيب ومخيف لرئيس الظلمة: "أجحدك أجحدك أجحدك" فهو يجحد الشيطان وجنوده وأعماله. هنا يقرر الإنسان المقبل على العماد ان ينحل من التقيد بالحياه البيولوجية المجرده التي لا ترى إلا الأمور الحسية والمادية ، وكذلك يقرر ان يفك إرتباطه الشديد بالأسره والأهل والأصدقاء ، أيضاً يغامر بفقدان جواز سفره وهويته الأرضية إذا لزم الأمر ويسعد بأن يكون مواطن سماوي .
ثانيًا: يتجه ناحية الشرق وينضم للمسيح
يصرخ وهو متجه ناحية الشرق: أنضم إليك وأؤمن بك ويُسرع ليسقط بين أحضان المسيح : " أعترف لك أيها المسيح الحي ، وبكل نواميسك المخلصة وكل خدمتك المحيية وكل أعمالك المعطية الحياة "
ثالثًا: يخلع الملابس ويظل عاريُا
هنا العُري هو طوعي ويرمز لخلع الإنسان العتيق (راجع لو9:3). 
رابعًا: يُمسح بالزيت المبارك
والمسحة هنا ترمز إلي الشفاء السرائري للطبيعة البشرية حيث السامري الصالح يسكب عليها زيتًا ويضمد جراحها (أنظر لو34:10)
خامسًا: التغطيس في الماء المقدس
يُلقي الإنسان في أعماق محبة الله معلنًا للشيطان كذبه وتزيفيه إذ سبق وأقنع الإنسان بأن الله يعيد حرية الإنسان. الإنسان يغطس في محيط المحبة الإلهية لكن لا يغرق ولا يموت لأن يدّي الله تمسكه (المسيح والروح القدس)، هكذا المعمد بدلاً من أن يغرق ويموت يخرج صحيحًا وحيًا (أنظر تك20:1). 
هنا نجد أن نيقوديموس لم يفعل شيئًا من هذا ولم يحسم مسألة إنتقاله من مملكة الظلمة إلي مملكة النور. الولادة يجب أن تتم بالروح والماء ويشرح القديس كيرلس السبب، إذ يقول، أن الإنسان مركب من جسد محسوس ونفس عاقلة. فبالروح القدس تتقدس روح الإنسان وبالماء المقدس يتقدس جسده أيضًا. الماء في الغلاية يكتسب قوة النار هكذا الماء مع الروح القدس. 
الإنسان بعد المعمودية (الإنسان الجديد)
الإنسان يخرج من مياه المعمودية صحيحًا ومعافيًا وحرًا. لكن هذه هي بداية إعادة الإصلاح والتجديد. ثم بعد ذلك نتيجة أفعال إلهية أخري، لأنه كما يقول القديس كيرلس عمود الدين:
" الأشياء التي تكون طريقة وجودها مختلفة، فإن وسيلة ولادتها تكون بنفس الأسلوب". فالريح تهب حيث تشاء، ويُعرف وجوده من صوته ويتصل بالأجساد بواسطة النفحات الخفيفة. هكذا تدرك الميلاد الجديد أيضًا بواسطة الروح (القديس كيرلس)
وسؤال نيقوديموس: كيف يمكن أن يكون هذا؟ يدل بحسب القديس كيرلس ـ علي أن هناك غباوة عند نيقوديموس، وذهن ممتلئ جهل، "وقبور مبيضة" (مت27:23)، "حائط مبيض" (أع3:23)
أما قول المسيح له: " أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا" يوضحها بالأكثر القديس يوحنا ذهبي الفم، بأنه معلم إسرائيل وكان يجب عليه أن يدرك أقوال المسيح لأنه من المفترض أن يكون عارف بحقائق يعلنها الكتاب المقدس مثل
- المرأة التي وُلدت من جنب آدم .
- إليشع النبي يجعل الحديد يطفو.
- الملاك الذي كان يحرك مياه بركة حسدا
كل هذه الأمور تخبرنا عن الميلاد والتطهير الذي سيتم في المستقبل. وهناك آيات كان ينبغي أن يعرفها: "يخبر عن الرب الجيل الآتي. يأتون ويخبرون ببره، شعب سيولد بأنه قد فعل" (مز 30:20، 31)، "يتجدد مثل النسر شبابك" (مز 5:103). 
أولاً: المسح بالمسحة المقدسة
الكاهن بالمسحة المقدسة التي تنقل مواهب الروح القدس (إعادة إكتساب مواهب نعمة الخلق "بحسب الصورة")، يمسح كل العلامات الأساسية وأجزاء جسد الإنسان:
الجبهة (شفاء وإعادة إصلاح الوظيفة الذهنية)،
العيون (إعادة إصلاح ـ إستعادة البصيرة الروحية)،
الأذن (إستعادة وظيفة السمع)،
الفم (إستعادة وظيفة النطق)،
الصدر (إستعادة الإرادة)،
الظهر (إستعادة القوة والتحمل النفسي والجسدي)،
الأرجل (إستعادة الوظيفة الحركية تجاه الكرازة وفعل الخير).
سفر "نشيد الأنشاد" يشير حصريًا لمسح الإنسان بمواهب الروح القدس والتي يسميها رمزيًا "عطور": " شَفَتَاكِ يَا عَرُوسُ تَقْطُرَانِ شَهْدًا. تَحْتَ لِسَانِكِ عَسَلٌ وَلَبَنٌ، وَرَائِحَةُ ثِيَابِكِ كَرَائِحَةِ لُبْنَانَ" (نش11:4ـ14) الطبيعة البشرية، ممسوحة بمواهب الروح القدس ليس فقط تصدر رائحة ذكية بل تصير أيضًا جميلة حقًا مكتسبة "جمالها الأول".
ها نشيد الأنشاد يقول: " إِنْ لَمْ تَعْرِفِي أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَاخْرُجِي عَلَى آثَارِ الْغَنَمِ، وَارْعَيْ جِدَاءَكِ عِنْدَ مَسَاكِنِ الرُّعَاةِ. لَقَدْ شَبَّهْتُكِ يَا حَبِيبَتِي بِفَرَسٍ فِي مَرْكَبَاتِ فِرْعَوْنَ..". 
ثانيًا: يخرج الإنسان من الماء العمادي نقيًا وجديدًا الإنسان وهو يخرج عاريًا من بطن أمه، ويبدأ حياته البيولوجية. المعمد وهو يخرج عاريًا من ماء المعمودية، حضن الروح القدس، يبدأ الحياة المسيحية الجديدة والروحية المعمودية هي "حميم الميلاد الثاني"، التطهير والولادة الثانية. 
الإنسان، عندما يخرج عاريًا من حميمة، يلبس ملابس نظيفة جدًا. سيكون من غير المعقول تمامًا أن يلبس ثانيًة الملابس الملوثة والقذرة التي كان يلبسها من قبل: " قَدْ خَلَعْتُ ثَوْبِي، فَكَيْفَ أَلْبَسُهُ؟ قَدْ غَسَلْتُ رِجْلَيَّ، فَكَيْفَ أُوَسِّخُهُمَا؟" (نش3:5).
ثالثًا: المعمد، عندما يخرج عاريًا من حميم "الميلاد الثاني" يلبس ملابس بيضاء. 
رابعًا: المعمد يذهب تجاه المائدة المقدسة ويشترك في الأسرار الأبدية. 
محاولة إقناع نيقوديموس
كما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم، عندما نقنع شخصًا ما نقول له إنني رأيت بعيني. ولا نقول له: علمت الأمر بالسماع. لذلك يتكلم السيد المسيح بطريقة بشرية، ويقول لنيقوديموس: "الحق أقول لك: إننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما رأينا". 
والقديس كيرلس يري أن المسيح بدأ ينصحه أن يقبل في إيمان بسيط ما لا يستطيع فهمه. ويستنتج القديس كيرلس من كلام الرب يسوع عنصرًا هامًا يجب أن نطبقه مع المقبلين علي الإيمان حديثًا، علينا أن نتحدث لهم بأحاديث بسيطة أفضل من تفكير عقلي عميق، نُطعم بلبن. ونعطي كل واحد ما يناسبه وبحسب طاقة كل أحد.
أما عبارة "ولستم تقبلون شهادتنا
جاء الحديث بصيغة الجمع، كما في ناموس موسي علي فم شاهدين أو ثلاثة. لكن بحسب القديس كيرلس، يري أن اليهود الذين يمثلهم نيقوديموس ينحدرون إلي هوة الهلاك، لأنه بسبب جهلهم الشديد لا يفهمون ما يُكرز لهم به، كما أنهم لم يقبلوه بإيمان. أورشليم تجلب علي نار هلاكًا. 
مشكلة غير المؤمنين
لقد بلور الرب يسوع مشكلة غير المؤمنين بقوله لنيقوديموس: "إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قُلت لكم السماويات؟ وليس أحد صعد إلي السماء إلا الذي نزل من السماء إبن الإنسان الذي هو في السماء" يو3
هكذا بالرغم من أن السيد المسيح يتحدث لنيقوديموس بتعليم بسيط لا يفوق الفهم الملائم للإنسان، إلا انه ما زال لا يُدرك هذه الأقوال البسيطة. 
والمشكلة: كيف يشرح السيد المسيح لنيقوديموس وغير المؤمنين أمثاله أمورًا إلهية أكثر عمقًا؟ وتسائل القديس كيرلس: كيف لشديدي الجهل في أمورهم الأرضية أن يكونوا حكماء في الأمور التي هي أعلي منهم؟ 
ولا يأتي المسيح بشاهد علي هذه الأسرار السماوية إلا ذاته حيث يقول: "ليس أحد صعد إلي السماء إلا الذي نزل من السماء، إبن الإنسان". 
أما عن تعبير المسيح: "إن كنت قلت لكم الأرضيات" يوضحها القديس يوحنا ذهبي الفم بأن الأرضيات تشير إلي حديث المسيح بأمثلة مأخوذة من الأرض: مثل الريح. لكل لو إفترضنا أنه يدعو المعمودية كشيء أرضي مع أن الولادة بالمعمودية سماوية، فهذا فقط عند مقارنتها بولادة الإبن من جوهر الآب. فهو تعبير أرضية من هذا المنطلق أي بمقارنتها بولادته الفائقة السمو.
هكذا الولادة بالروح تعيد تشكيل الإنسان "علي صورة الله ومثاله" وملامح هذا الإنسان كما شرحناها
+ شفاء الوظيفة الذهنية
+ إستعادة البصيرة الروحية
+ إستعادة وظيفة النطق
+ إستعادة وظيفة السمع
+ إستعادة الإرادة الصالحة
+ إستعادة القوة والتحمل النفسي والجسدي
+ إستعادة الوظيفة الحركية تجاه الكرازة وفعل الخير
+ الشركة في الأسرار الإلهية وحياة التقوي



د. جورج عوض إبراهيم
دكتوراة فى العلوم اللاهوتية 
باحث بالمركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية 
مدرس بالكلية الاكليريكية بالقاهرة