إن تفسير بولس الرسول الجديد للناموس والعهد القديم يتعلق بواقع أساسى، سوف يقف وقوفًا حاسمًا فى مسيرة التفسير الكتابى، خاصةً في التعليم اللاهوتى لآباء الكنيسة.
وبولس الرسول فى تفسيره للعهد القديم لا يمثل أحدًا ولا يعلّم تعليمًا خاصًا، لكنه يكرز ويبشر بشخص يسوع المسيح الحي " نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا" (1كو23:1، 2كو5:4).
وبهذه الطريقة يفتح بولس باب معرفة جديدة، تستند لا على المعرفة البشرية (الحكمة اليونانية) ولا على الحقائق الخارجية التاريخية (العلامات التى كان يطلبها اليهود) بل على معرفة شخص المسيح.
إن إنجيل الحياة والخلاص هو ـ فى نفس الوقت ـ "عثرة" لأنه يقلب التفاسير والمعارف البشرية رأسًا على عقب. عندما يكرز بولس بالإنجيل ويفسر نصوص من العهد القديم فهو يعرف تمامًا أنه يكرز بكلمة الحياة والحق والنعمة وليس بمجرد معلومات تاريخية.
إن تفسير العهد القديم لم يكن لدى بولس تمرين ذهنى، أو كسب لتقوى ذاتية أو إظهار ولاء لنص مكتوب في الماضى، مثلما كان يفعل الرابونيين في عصره.
إن العهد القديم هو نص يعلن العلاقة الشخصية الحيّة بين الله وشعبه فى القديم، والتي تسرى أيضًا على عصر الكنيسة الجديد وذلك على ضوء مبادئ وأساسيات جديدة.
إن التفسير الكتابى هو مسألة حياتية لكرازة الإنجيل وينبغى أن يسير على مبادئ الشركة المباشرة والشخصية بين الله وشعبه الجديد.
إن المبادئ الجديدة للتفسير الكتابى ليست مبادئ خاصة بالأدب اللغوى ولا خاصة بالتاريخ بل هى مبادئ شخصية تمامًا. وبولس يُلخص هذا التفسير الشخصى في (2كو5:4) بقوله: " فإننا لسنا نكرز بأنفسنا بل بالمسيح يسوع ربًا ولكن بأنفسنا عبيدًا لكم من أجل يسوع ".
إن الله ينير قلب المؤمنين المظلم بنور مجده والذي هو نور المعرفة الشخصية ليسوع المسيح. هذه المعرفة هى مواهبية وتنمو بالحضور الشخصى للمسيح وعمله فى النفس. إن استشهاد بولس بالعهد القديم يكشف مدى أهمية المعرفة الشخصية ليسوع المسيح، تلك المعرفة التي تقدم للمؤمن الإنجيل الحقيقى.
عندما شدّد الرسول على تلك العبارة الشهيرة " تسلمت من الرب " (1كو23:11) ودائمًا يذكر هذا (1كو3:15 ، غلا12:1)، فهو بالتأكيد لا يعنى اعلان شخصي آخر، مثل الاعلان الذي نراه أثناء رجوعه من دمشق لكى يقصد تقليد معين يرجع بدايته إلى الرب نفسه. هذا التقليد يروى ويغذي ويُشكل عظة ولاهوت بولس الرسول. لقد استخدم بولس الرسول مصطلحات مثل " تسلمت" و"سلمت" والتي تشير مباشرة إلى تقليد شفاهي معروف في عصره كان قد تشكل وصيغ من قبله، وهذا يظهر بوضوح في نصوص رسالته الأولى لأهل كورنثوس والخاصة بموضوع القيامة (1كو15).
وهدف بولس الرسول من التشديد على كلمة "تسلمت" و"سلمت" هى اعطاء مصداقية حقيقية لعظته، وهذه المصداقية لعظة الرسول بولس ترجع كنسيًا إلى الرب القائم نفسه وليس إلى تقليد إنساني.
هذا التقليد الذي كان قبل بولس أتى من الكنيسة الأولى لأورشليم ويربطنا مباشرةً لهؤلاء الذين كانوا حاضرين حوادث حياة المسيح والذين حضروا العشاء الأخير للرب. بهذا العشاء يُقيد بولس محتوى التقليد والذي "تسلمه" (1كو23:11ـ26) كما أخبرنا هو نفسه.
وهنا سؤال يفرض نفسه. هل هناك اختلاف أو شيء جديد بين التقليد الأورشليمي السابق وتقليد بولس الرسول الذي سلمه وأسس به كنائس جديدة؟
إن الرسول بولس يشدّد على أن الرسالة الإنجيلية والتي " سلمها " إلى أهل كورنثوس هي نفس الذي " تسلمه "، وكلمة " تسلمت " هنا التي يذكرها بولس الرسول لا تخص بالطبع رجوعه المؤثر فقط ولكن أيضًا عمليًا تخص الشركة والتي تكونت عنه بعد رجوعه إلى أشخاص وأعمدة الجماعة المسيحية الأولى في أورشليم. لقد زار بولس الرسول مدينة أورشليم بعد ثلاث سنين، من رجوعه وأمضى هناك أسبوعين وتقابل مع بطرس ويعقوب أخو الرب كما اعترف هو نفسه في رسالته إلى غلاطية (غلا18:1ـ19).
وهؤلاء الأشخاص هم يُعتبرون أعمدة الكنيسة وكان لهم دور أساسى في تشكيل وصياغة التقليد الكرازى.
ومن الصعب لأي باحث أن يشكك في التوافق الذي تتميز به عظة بولس ورسل كنيسة أورشليم في الملامح الأساسية المعروفة والعناصر الجوهرية للتقليد الأول " فسواء أنا أم أولئك هكذا نكرز وهكذا آمنتم " (1كو15:11).
وهكذا نستطيع أن نقول إنه كيف أنه من بداية الكنيسة الأولى فإن محتوى التعليم الوعظي والإنجيلي كان " نموذج ثابت ومترابط " أو صار مثال أو نموذج للتعليم " فشكرًا لله أنكم كنتم عبيدًا للخطية ولكنكم أطعتم من القلب صورة التعليم التي تسلمتموها" (رو17:6)، والذي تسلموه المسيحيون وسلموه يدعوه الرسول في رسالته إلى أهل كورنثوس " إنجيل "، "الذي به يقومون منه، وبه أيضًا يخلصون " (1كو1:15ـ2 ، غلا11:1).
لقد علم هو نفسه دائمًا في كل الكنائس (1كو17:4) بإنجيل واحد والكل " تتلمذوا " منه بنفس " التعليم " (رو17:16): " وأطلب إليكم أيها الاخوة أن تلاحظوا الذين يصنعون انشقاقات والعثرات خلافًا للتعليم الذي تعلمتموه واعرضوا عنهم "
إن التعليم المسيحى قد أُعطى لرسول الأمم " بإعلان يسوع المسيح " (غلا12:1)، ومع اعترافنا بأن رؤيا دمشق قد لعبت دورًا في بلورة أفكاره اللاهوتية، لكن لا يمكننا أن ندعى بأن بناءه اللاهوتي هو منفصل أو مقتطع عن التقليد الكنسي الذي كان موجودًا من قبل.
هكذا يوجد توافق جوهري بين بولس الرسول وبقية الرسل، توافق بين مبشري الإيمان المسيحي الأولين في محتوى عظاتهم، وفي أهدافهم اللاهوتية، وبالتأكيد هذا التوافق يقودنا ـ بلا تحفظ ـ إلى تقليد مشترك.
هذا المصدر المشترك " له أهمية عظيمة لعظة ولاهوت الكنيسة الأولى، لأنه يُظهر أنه كيف على أي حال أن التوسع والامتداد لا يعنى اطلاقًا انحرافًا أو خروجًا عن الشكل والمحتوى الأول.
د.جورج عوض
دكتوراة فى العلوم اللاهوتية
باحث بالمركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية