الكرازة ومدرسة الاسكندرية - 2

الكرازة ووجهة نظر المدرسة تجاه الكنيسة وتقليدها 
(1) الكنيسة تحب الجنس البشري كله 
العلامة أوريجانوس الذي كان ملتهبًا بحب البشرية كلها كان يشتهي خلاص كل الناس. لذا لما اتهم كِلسس Celsus المسيحيين بأنهم يؤمنون أن الله قد تخلى عن بقية البشرية وهو يهتم بالكنيسة فقط، أجاب أوريجانوس أن هذا ليس إيمانًا مسيحيًا([1]).
(2) الكنيسة تحزن من أجل الخطاة 
الكنيسة مع رأسها، يسوع المسيح، تحزن إلى أن يرجع كل الخطاة إلى الله.
وفي تعليق أوريجانوس على هذه الآية "وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي." (مت٢٦: ٢٩)، شرح أن الخمر في الكتاب المقدس هو رمز للفرح الروحي، وأن الله وعد شعبه بمباركة كرْمهم أي يمنحهم فيض من الفرح الروحي.
 من أجل ذلك، منع الكهنة من شُرْبِ الخمر عند دخولهم الهيكل، لأنه يريدهم أن يكونوا في حزنٍ أثناء تقديم الذبائح لأجل الخطاة. إذن، عندما يصطلح الخطاة مع الله، يصير فرحهم كاملاً. ويؤمن أوريجانوس أن ربنا يسوع المسيح نفسه وقديسيه ينتظرون توبة الخطاة وأن فرحهم حتى ذلك الحين يكون غير كامل. 
[عندما يترك القديسون هذا المكان، فإنهم لن يحصلوا مباشرة على الأجر الكامل لفضائلهم. إنهم ينتظروننا أيضًا حتى ولو تأخرنا، لأنهم لم يبلغوا البهجة الكاملة طالما أنهم يحزنون لأخطائنا ويشعرون بالأسى لآثامنا. ربما لا تصدقونني عندما أقول هذا. لأنه من أنا حتى أتجاسر وأؤكد معنى مثل هذه العقيدة ؟ ولكنني أُقَدِّم شهادة هؤلاء الذين لا تقدرون أن تشكوا فيهم. فالرسول بولس هو معلم الأمم في الإيمان والحق (تيموثاوس٢: ٧)
لذلك في رسالته للعبرانيين وبعد أن أحصى كل الآباء القديسين الذين تبرروا بالإيمان، أضاف بعد ذلك "فهؤلاء كلهم مشهود لهم بالإيمان لم ينالوا الموعد إذ سبق الله فنظر لنا شيئًا أفضل لكي لا يُكملوا بدوننا" (عب١١: ٣٩-٤٠)
أنتم ترون إذن أن إبراهيم ما زال ينتظر أن يبلغ الأمور الكاملة، اسحق ينتظر ويعقوب وكل الأنبياء ينتظروننا حتى ما يملكون التطويب الكامل معنا. 
لذلك فإن كنتم أتقياء فإنكم ستتهللون عندما ترحلون من هذه الحياة. لكن سيكتمل تهليلكم عندما لا ينقصكم أي عضو من أعضاء الجسد، أنتم ستنتظرون الآخرين مثلما انتظركم. 
لأن التهليل لم يكمل لكم أنت الأعضاء إذا كان أحد الأعضاء ناقصًا. فكم بالأكثر يعتبر ربنا ومخلصنا الذي هو الرأس (أف٤: ١٥-١٦)، وأصل الجسد كله فرحه غير كامل طالما أنه يرى أحد الأعضاء ناقصًا من جسده. وربما لهذا السبب أعلن هذا في صلاته للآب: "مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" (يو١٧: ٥). هكذا أنه لا يريد أن يقبل كامل مجده بدوننا، بمعنى، أنه نفسه يريد أن يحيا في جسد كنيسته وفي شعبه كما في نفوسهم حتى يكون له كل القوى الدافعة وكل الأعمال بحسب مشيئته، حتى يتم حقًا فينا ما قاله النبي: "وأجعل مسكني في وسطكم... وأسير بينكم" (لا٢٦: ١١-١٢)]([2]
(3) الكرازة المتواصلة في العالم كله 
الكنيسة التي رآها وأحبها العلامة أوريجانوس هي مجموعة تلاميذ المسيح المنتشرين على وجه الأرض. هذا المجتمع العظيم لا يمكن أبدًا أن يُقارَن ببقية البشر. إنه لا يكف أبدًا عن جذب أولئك المحتاجين إلى الإيمان([3]). 
منذ بداية الكنيسة، كانت رسالة الإنجيل معلنة بواسطة المؤمنين أينما حلّوا أو ارتحلوا. 
وقد كتب العلامة أوريجانوس في بحثه ضد كِلسس Celsus قائلاً: [المسيحيون يبذلون كل جهدهم في نشر الإيمان في العالم كله. بعضهم يجعلون منه مهنة حياتهم أن يطوفوا ليس فقط من مدينة إلى مدينة بل من منطقة إلى منطقة ومن قرية إلى قرية، حتى يربحوا أناس جددًا لله]([4]). 
(4) التقليد والكرازة ([5]
ما هو التقليد الذي تشعر الكنيسة بالتزام أن توصِّله للعالم أجمع؟
 إذا رجعنا إلى العصر الرسولي، فسوف نجد "عدة تقاليد للكنيسة المحلية" تقبل ثقافات متعددة. ولكن كل هذه الثقافات لها فكر واحد وهو فكر المسيح؛ روح واحد أي روح الرب وهدف واحد أي خلاصنا.
لهذا السبب لم يتردد أساقفة الإسكندرية في الاشتراك مع أساقفة من روما، أنطاكية وأورشليم في خدمة واحدة ومذبح واحد. بالرغم من وجود بعض الاختلافات في تفاصيل الطقوس والتقاليد، لكن الكل يشترك معًا في روح واحد (تقليد واحد). 
ولقد عاش الرسل جميعًا بروحٍ واحد منفتح على الكرازة. "فإني إذ كنت حرًا من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الكثيرين" (١كو٩: ١٩). 
وعندما كرز القديس مار مرقس في مصر، تكلم عن المسيح الواحد، فآمن به المصريون وأقاموا نُظم للعبادة من خلال ثقافتهم ولكن بروح رسولية حقيقية.
فعلى سبيل المثال، تختلف الألحان القبطية عن الألحان السيريانية أواللاتينية الخ.. ولكن الكل يشترك في الروح الهادئ والوديع والذي يحمل التعاليم الروحية والعقائدية الحقَّة. مثال آخر هو الأنوار والأضواء في بيت الرب؛ تستخدم كل الكنائس الرسولية في العالم أنوارًا وقت العبادة بالنهار والليل، خاصة أثناء قراءة الإنجيل.
هذه هي روح التقليد التي تعلن أن المسيح هو نور العالم. الشموع في الكنائس القبطية، السيريانية، اللاتينية، واليونانية تعكس الثقافة الخاصة بكلٍ منهم. 
بالرغم من أن إيمان المسيحيين الأرثوذكسيين في العالم كله واحد وأنهم يحافظون على التقليد كحقيقة حية، إلا أن كل كنيسة محلية تُعَبِّر عن هذا الإيمان الواحد بلغتها الخاصة، بطقوسها للقداس، بألحانها، بملابس الكهنوت المقدسة الخاصة بها، الخ... 
إن موقع الكنيسة لا يلغي من جامعيتها. بمعنى أن الاختلاف في التقاليد والتفاصيل لا يُشكِّل عقبة في طريق الكرازة. 
+ الكنيسة الأرثوذكسية وخاصة كنيسة الإسكندرية، حافظت على التقليد المقدس في شرحه وفي روحه. 
ولم تتدخل كنيستنا في السياسة ولم تتأثر بالسلطة العالمية. فهي تحافظ على روحانياتها وأكثر من ذلك على تقليدها بالرغم من العقبات الصعبة. والحركة الرهبانية قد حفظت تقليد الكنيسة في روحٍ متواضعة، إنجيلية وناسكة. 
+ يجب أن نفكر بجدية فيما يلزم أن نقدم للعالم في كرازتنا. فمثلا، عندما يقْبل إنسان فرنسي الإيمان الأرثوذكسي، يجب أن نُقَدِّم له العبادة بطريقة بسيطة في فكر أرثوذكسي، رسولي وآبائي وذلك من خلال ثقافته الخاصة. 
+ في عام ١٩٧٦م قال نيافة الأنبا غريغوريوس، مطران Newdelhi نيودلهي في الهند، في حديثه لرؤساء كنيسة أورشليم في ميلبورن أنه يجب علينا أن نزرع بذور أرثوذكسية في أرض أستراليا حتى أن تلك الشجرة تصبح شجرة أرثوذكسية أسترالية. 
+ على الكنيسة قيادة ومساعدة أبنائها على الكرازة بالطريق الأرثوذكسي للحياة بدون تجنُّب لروح الطقس والعقيدة وخصوصًا بعد انفتاح كنيسة الإسكندرية على العالم الخارجي بهجرة الآلاف إلى الخارج.
فالكنيسة يجب ألاَّ تنغلق على ذاتها لصالح جماعة محلية أو لغة ولكن يجب أن تتخذ مسئوليتها المسكونية. حقًا، إننا في هذه الأيام في حاجة مُلحة إلى لاهوتيين أرثوذكسيين يقدِّمون التقليد الحيّ للكون بقلبٍ مفتوح
(5) الكرازة وعلاقة المدرسة بالكنيسة 
مدرسة الإسكندرية كانت معهد تعليمي منفرد. العميد كان الرجل الثاني بعد البطريرك. ولقد أُختير الكثير من عمدائها ليصيروا أساقفة أو بطاركة للإسكندرية. لم يتطَّلع أيًا منهم أن يصير بطريركًا وكانوا لا يتدخلون أبدًا في إدارة الكنيسة.
لقد كرسوا كل حياتهم للدراسة والتعليم والكرازة، في تواضع. كانوا مع تلاميذهم نساك حقيقيين ومتعبدين لله. 
لم يواجهوا خلافات في تعاملهم مع الإكليروس، حتى عندما دَعَا البابا ديمتريوس إلى انعقاد مجمعًا كنسيًا في الإسكندرية وطلب من العلامة أوريجانوس أن يترك الإسكندرية، غادر العلامة أوريجانوس بدون إحداث أي مشاكل. وبالرغم من كونه ذائع الصيت في مصر والخارج، إلا أنه لم يرد أن يضيع وقته في مشاكل.
بل عوضًا عن ذلك أسس مدرسة جديدة في فلسطين ورفض أن يرجع إلى مصر بعد رحيل البابا، قائلاً: أن فلسطين كانت في أشد الحاجة إلى مجهوده عن الإسكندرية
(6) الكرازة والكنيسة كحياة سماوية 
عمداء مدرسة الإسكندرية كانوا يرجون أن يقودوا كل أحد إلى الآب السماوي. لذلك كانوا هم أنفسهم كانوا حريصين على ممارسة الحياة السماوية، كشهادة للسماء. 
ولقد قال القديس كليمندس السكندري أن الأرض تتحول إلى سماء بالنسبة للغنوسي Gnostic، أي المؤمن الروحي.
الغنوسي يمارس حياة سماوية خلال فترة وجوده على الأرض. لأنه [سيستريح على جبل الله المقدس، الكنيسة العليا، حيث يجتمع فلاسفة الله، الإسرائيليين الحقيقيين الذين هم أنقياء القلب... يقدمون أنفسهم للمعرفة الطاهرة التي للتأمل اللانهائي] هو أيضًا يقول:
 [لو أنك سجلتَ نفسك كواحدٍ من شعب الله، تكون السماء هي وطنك والله هو شريعتك] ([6]). 
إن الكنيسة الأرضية بالنسبة للقديس كليمندس([7])، هي صورة للكنيسة السماوية، فلذلك نحن نصلي أن تَتِم مشيئة الله على الأرض كما هي في السماء. إنَّ الكنيسة المثالية أو "الكنيسة السماوية" كانت دائمًا موضوع فكر كليمندس في المتفرقات [8](stromata )
وقد أكَّد أوريجانوس أن المؤمنين يبلغون الحياة السماوية عن طريق عمل الصليب [فإن المسيح عمل صلحًا بين السماوات والأرض بواسطة دمه (كو1: 20)، حتى صار للأرضي شركة مع السمائي] ([9]). 
[كما أن الشمس والقمر أعظم أضواء القبة السماوية، هكذا أيضًا المسيح والكنيسة فينا وكما أن الله وضع نجومًا في القبة السماوية، فإنه وضع نجومًا فينا التي هي في سماء قلوبنا] ([10]). 
علَّق أوريجانوس على الكلمات ".. وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد..." (تك١: ٧)، قائلاً: [لهذا السبب، باشتراكنا في ذلك الماء السماوي الذي قيل أنه فوق السموات، يصير كل مؤمن سماويًا بمعنى أنه يرفع عقله لأمور مرتفعة وسامية، غير متفكر البتة في الأمور الأرضية ولكن بالكلية في الأمور السماوية، "فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله" (كو٣: ١)]([11])
الكرازة ووجهة نظر المدرسة تجاه الفلسفة 
الإسكندرية، المدينة العالمية، تم اختيارها كموطن للتعليم([12]). ازدهرت فيها الثقافات المصرية، اليونانية واليهودية مع الأفكار الشرقية الباطنية. لم يُردْ عمداء المدرسة الدخول في منافسة مع الفلسفات ولا أن يتحدوها. تعاملوا مع الفلاسفة بذهنٍ متسع وقلبٍ منفتح وحبٍ صادق. 
ففي القرن الثاني، كان ترتليان، أول لاهوتي من آباء الغرب هاجم النظريات الفلسلفية كعدو للإيمان والفلاسفة كأعداء للمؤمنين. وفي نفس القرن، في الإسكندرية، أصر القديس بنتنيوس أن يمارس عمله كعميد للمدرسة لابسًا ثوب الفلاسفة. أما أوريجانوس فقال أن بنتنيوس جذب فلاسفة وثنيين كثيرين للإيمان المسيحي. 
القديس كليمندس السكندري كان أول كاتب مسيحي يعلن أن الفلسفة هي طريقة الله لإهداء الناس المتعلمين إلى المسيحية. أما تلميذه أوريجانوس، لم يتفق مع الفلسفة ولكنه أصرَّ على استخدام الفلسفة لجذب الفلاسفة. 
الآباء السكندريون الأوائل عرفوا كيف يكرزون وسط الفلاسفة باستخدام طريقتهم الخاصة. لهذا يجب أن نتبع خطواتهم بكرازتنا للآخرين خلال ثقافتهم الخاصة. وعلينا الاعتراف بعقليتهم لنعلن الإيمان لهم. 
مدرسة الإسكندرية وروح الفرح 
إن الكتاب المقدس بالنسبة لهذه المدرسة هو رحلة للنفس من الأرض إلى السماء. الكنيسة هي أيقونة السماء ومجتمع للفرح. يشتاق المؤمنون إلى رؤية البشر وقد صاروا ملائكة متهللين. لذلك سادت روح الفرح على عمداء وتلاميذ المدرسة حتى في أوقات الاضطهاد. 
لقد اعتبر القديس كليمندس الحياة المسيحية كعيد لا ينتهي([13]). فبالنسبة له، إن الغنوسي الحقيقي يعتبر أن الوصول إلى الحياة الجديدة في المسيح بمثابة عيد. 
وأوريجانوس كانت له نفس الفكرة . فالبنسبة له لا يحتفل المسيحي بعيد الفصح فقط في وقت القيامة بل في كل الأوقات. هو يعيِّد بخبزٍ غير مختمر هو الإخلاص والحق وبأعشاب مرّة هي الحزن والتوبة. إن حياته هي بصخة أو عيد غير منقطع، مليء بالفرح الروحي من خلال التوبة([14])
يقول أوريجانوس: [قل لي، أنت يا من تجيء إلى الكنيسة في أيام الأعياد فقط، هل الأيام الأخرى ليست أعياد؟ أليست هي أيامًا للرب؟!]([15])
فبالنسبة لأوريجانوس [كل يوم هو يوم الرب...لذلك فإن المسيحيين يأكلون يوميًا جسد الحَمَل، يتناولون كل يوم جسد الكلمة، لأن المسيح فصحنا قد ذُبِحَ لأجلنا (١كو٥: ٧)]([16])
ويعلِّق أوريجانوس يعلق على كلمات المرتل: "طوبى للشعب العارفين الهتاف" (مز٨٩: ٥)، قائلاً: [إنه لا يقول: "طوبى للشعب الذي يزاول الصلاح" أو "الذين عندهم معرفة السماء والأرض والنجوم" ولكن "العارفين الهتاف" أحيانًا مخافة الله تمنح الإنسان فرحًا...هنا يُقدَّم التطويب بفيض، لماذا؟ لأن كل الناس يشتركون فيه والكل يعرفون الشركة بطريقة مفرحة سليمة!]([17]). 
[...بخصوص اسحق، يقول الكتاب: "كَبُرَ" وأصبح قويًا، بمعنى أن فرح إبراهيم كبر عندما لم ينظر إلى هذه الأشياء التي تُرَى بل إلى التي لا ترى" (٢قارن كو٤: ١٨).
 لأن إبراهيم لم يفرح بالأشياء الحاضرة أو بغنى العالم وحيوية العمر. بل هل ترغب في أن تسمع لماذا تهلل إبراهيم؟ اسمع الرب قائلاً لليهود: أبوكم إبراهيم تهلَّل أن يرى يومي فرأى وفرح" (يو٨: ٥٦). بنفس الطريقة إذن، "اسحق كبر" (تك٢١: ٨). هذه الرؤية هي التي رأى فيها إبراهيم يوم الرب ورجاؤه في المسيح ضاعف فرحته. ليتك تصير مثل اسحق وتتهلل داخل أمك الكنيسة] ([18]) . 
ولقد دوَّن القديس أثناسيوس عن معلمه القديس أنطونيوس العظيم: [بسبب أن نفسه كانت حُرَّة من الاضطرابات، فمظهره الخارجي كان هادئًا. ومن نفسه المتهللة، كان يملك وجه مسرور، ومن حركاته الجسدية كانت تُدرَك حالة روحه، كما هو مكتوب: "القلب الفرحان يجعل الوجه طلقًا وبحزن القلب تنسحق الروح" (أم١٥: ١٣).هكذا كان يُعرَف أنطونيوس، لأنه لم يكن مضطربًا أبدًا، لأن نفسه كانت في سلام؛ لم يكتئب أبدًا، لأن قلبه كان متهللاً] ([19]). 
هذا انعكس على شخصية تلميذه البابا أثناسيوس الرسولي. نراه حتى في وسط محنته لم يكتب عن عزلته أو المقبرة التي اختبأ فيها. في كتاباته، لم يكتب أبدًا عن عدم قدرته على الاجتماع مع شعبه في الإسكندرية. لقد كتب عن حياته وسط صراعه العنيف واصفًا إياها بأنها كعيدٍ دائم. ويضيف قائلاً: أن عيدنا هو المسيح نفسه!. 
أينما عاش، حتى وهو مختبئًا في مقبرة كان يختبر عيد سماوي لا ينقطع، حيث يتجلى يسوع المسيح القائم في داخله. في فرحه الدائم، لم يمتنع أبدًا عن عمل المسيح، جاذبًا الكثيرين من خلال صلواته. حتى أنه أرسل خطابات لشعبه طالبًا منهم أن يشتركوا معه في احتفاله بالعيد الذي لا ينقطع. 
لقد كتب القديس أثناسيوس في رسالة فصحية: [إن مسرة عيدنا يا إخوتي دائمًا في أيدينا، ولا يخذل أبدًا أولئك الذين يرغبون في الإحتفال به. لأن الكلمة هو قريب، الذي هو كل الأشياء بالنسبة لنا، حتى ربنا يسوع المسيح الذي وعدنا أن مسكنه معنا لابد أن يكون أبديًا، بمقتضى ذلك صرخ قائلاً: "هوذا أنا معكم كل الأيام إلى إنقضاء الدهر" (مت٢٨: ٢٠). لأنه هو الراعي والكاهن الأعظم، الطريق والباب وكل شيء بالنسبة لنا، أيضًا هو يُعلَن لنا كالعيد واليوم المقدس، حسب الرسول المبارك: "فصحنا المسيح قد ذُبِحَ لأجلنا" (١كو٥: ٧)]([20])
العالم ليس في حاجة إلى عدة مناقشات نظرية ولكن إلى أن يتلامس مع السماء المفرحة المبهجة. لذلك، فإن روح الفرح هو الشاهد الحيّ للمسيحية. ومن خلاله، يعترف الناس أن السماء قريبة جدًا خلال عمل الثالوث القدوس. 
الكرازة والروح المسكونية 
لا شك أن الناس يمكنهم تَذوُّق حلاوة إيمانهم بالثالوث القدوس من خلال الروح المسكونية الحقيقية. الحركة المسكونية هي روح نشرتها مدرسة الإسكندرية لا عن طريق الكلام عن وحدة الكنائس في العالم أجمع ولكن بممارسة طرق عديدة: 
1ـ جذب المدرسة للعديد من الطلبة الأجانب لدراسة علم اللاهوت، خاصة تفسير الكتب المقدسة. ثم صار هؤلاء الطلبة بعد ذلك قادة في كنائسهم. 
2ـ نشاط عمداء المدرسة خارج مصر، بسبب حبهم للكنيسة الجامعة؛ لم يكونوا يتطلعون إلى أي اعتبارات شخصية ولا الحصول على أي قوة سياسية في كنائسهم. فمثلاً سافر العلامة أوريجانوس إلى روما، قيصرية، العربية، تيرا، ...الخ. 
3ـ كان اللاهوتيون السكندريون قادة ورواد في المجامع المسكونية. 
4ـ المخطوطات القبطية هي دليل على أن الأقباط ترجموا تقريبًا جميع الأدب المسيحي الذي كان موجودًا في العالم في ذلك الوقت. 
الفائدة من دراسة "الكرازة ومدرسة الإسكندرية" 
هذا الوصف العام والمختصر عن دور مدرسة الإسكندرية في الكرازة يساعدنا على التعرُّف على رسالتنا نحو التبشير بالإنجيل في العالم كله. 
الكرازة، في حقيقتها، هي عطية نقْبلها من الروح القدس الناري الذي يعمل في داخل أنفسنا. هو يُقَدِّس كل قدراتنا ومواهبنا لأجل انتنشار ملكوت الله على الأرض. وعلينا الإقتداء بهؤلاء العمداء الملتهبين من خلال نوالنا روح الكرازة وتوجيهنا للجيل الجديد كتلاميذ روحيين لنا. 
ملاحظات: 
1- علينا توضيح المفهوم الحقيقي للرهبنة. فإن بعض الكُتَّاب يعتقدون أنها هروب من المسئوليات؛ وأنها حياة في جو من الحزن والأسف. على العكس، لقد تكلم القديس يوحنا كاسيان عن الرهبان كبشر فرحين قد صعدوا إلى السماء أو كملائكة يعيشون على الأرض. لهذا تحوَّل وثنيون كثيرون إلى الإيمان بالمسيح من خلال الحياة المفرحة لأبينا أبوللو وتلاميذه في صعيد مصر. 
2- علينا مراجعة وتعديل عظاتنا الدينية ومناهج مدارس الأحد واجتماعات الشباب خاصة في النقاط التالية: 
+ التركيز على دور كل عضو في الكنيسة تجاه التبشير بالإنجيل في العالم كله. 
+ اكتشاف وضعنا كأولاد الله، وافتخارنا بالعمل الفدائي لله ولنعمته. 
+ التبشير بإيماننا الأرثوذكسي، وليس ثقافتنا المحلية، مع احترام ثقافة الآخرين. 
+ توضيح المفاهيم الحقيقية للكنيسة وتقليدها. 
+ التركيز على الكتاب المقدس واكتشاف خطة الله لكل إنسان. 
+ علينا دراسة ثقافات العالم المختلفة بجدية لنعد أنفسنا لكرازة الإيمان الأرثوذكسي للجميع. 


اعداد 
القمص تادرس يعقوب ملطي 
ترجمة عن النص الإنجليزي للمقال 
د. منير لبيب إبراهيم 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] Contra Celsus 4: 28; N.R.M. De Lange: Origin and the Jews: Studies in Jewish-Christian Relations in Third-Century Palestine, 1976, Cambridge, p.76. 
[2] Homilies on Leviticus 7: 2. (see Frs. of the Church). 
[3] …adiou: Orgin, Herder Book Co., 1944, p.313. 
[4] Against Celsus, 3: 9; Carl A. Vol Z: Life and Practice in the Early Church, Minneapolis, 1990, p.97. 
[5] Fr. Tadros Malalty: Tradition and Orthodoxy, 1979 [Tradition Today] 
[6] Stromata 6: 14. 
[7] Stromata 8: 4: 66. 
[8] Stromata 4: 8: 66: 1; 4: 26: 172: 2; 6: 14; 108: 1; 7: 2: 29: 3; 7: 6: 32: 4; 7: 11: 68: 5; Lebreton, 917. 
[9] Homilies on Leviticus 4: 4 (see Frs. of the Church). 
[10] In Gen. hom. 1: 7. 
[11] In Gen. hom. 1: 2. 
[12] H. M. Gwatkin: Early Church History, London 1909, Vol. 2, p.155. 
[13] Stromata 7: 7. 
[14] Contra Celsus 8: 22-3; Comm. on John. 10: 13. 
[15] In Gen. hom. (cf. Heine). 
[16] In Gen. hom. 10. 
[17] In Jos. hom. 7: 2. 
[18] In Gen. hom. (cf. Heine). 
[19] Vita Antonii, 67. 
[20] Paschal Letters 14: 1.