لا نستطيع أن نعطى تعريفاً دقيقاً للقلب الروحى إلا أننا نستطيع أن نقول أن القلب
هذا المكان مدرك حسياً للشخص العائش بصورة أساسية فى التقليد الأرثوذكسى .
لقد أعطى الآباء القديسون الذين أختبروا هذه الحقيقة عدة سمات وصور لهذه الحياة . سوف نحاول فيما يلى أن نتأمل هذه السمات أو التعريفات التى تُظهر القلب ودوره فى الحياة الروحية بكليتها بصورة أوضح .
+ إن القلب هو المكان الذى يسكن فيه الله : " ليحل المسيح بالإيمان فى قلوبكم " ( أف 3 : 17 ) . " لأن محبة الله قد إنسكبت فى قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا " ( رو 5 : 5 ) . وتماماً مثلما يولد الفحم اللهب " هكذا يفعل الله الذى يسكن فى قلبنا منذ معموديتنا " .
وإذا وجد مجال فكرنا خالياً من رياح الشر وإذا كان فكرنا محروساً بحفظ العقل ، عندئذ سيُلهب عقلنا بالثيئوريا مثلما يضئ اللهب الشمعه .
وطالما أن الله يقيم هناك فإن " كل كنوز الحكمة والمعرفة الروحية " تختبئ هناك . " إنها تُستعلن فى القلب بمقدار تطهيرنا بواسطة الوصايا " .
وفى مرآة النفس " يُصور يسوع المسيح وينعكس بنور ذلك الذى هو حكمة وقوة الله الآب " . يجب علينا أن نطلب ملكوت الله داخل قلبنا ولو نظفنا عين العقل فسوف نجد حقاً ملكوت الله والبذرة واللؤلؤة والخميرة وأشياء أخرى كثيرة .
سوف نجد اللاهوتية فى قلوبنا : " قال المسيح أن ملكوت السموات فى داخلنا مشيراً إلى أن اللاهوتية تقيم فى قلوبنا " .
وإذ سكن الله فى قلوبنا، فإنه يُعلم ويكتب تعاليمه وناموسه .
+ وهكذا يكون القلب هو المكان حيث تكتب وصايا الله . يتكلم بولس الرسول عن أولئك " الذين يُظهرون عمل الناموس مكتوباً في قلوبهم " (رو2: 5).
" يكتب الله نواميسه الخاصه فى القلب " وهناك لا يعرف الشخص فقط " الجواهر ولكنه أيضاً بعدما يمر خلالها جميعاً فإنه سوف يرى الله ذاته بمقدارٍ ما " .
عندما يأتى الله ليقيم فى قلب مثل هذا " فإنه يمجده بأن ينقش كلماته الخاصه عليه من خلال الروح القدس " .
وهكذا إذ أحتضن القديسون الله في قلوبهم صاروا مستحقين أن يُكتب ناموس الله في قلوبهم ، إكتسبوا فكر المسيح بحسب ما هو مكتوب : " وأما نحن فلنا فكر المسيح " (1كو2: 16).
فكر المسيح الذى تلقاه القديسون لا يجلب معه فقداناً للقوة العقلية ولا يأتى " كجزء مكمل مضافاً لعقلنا " ولا " يعبر بصورة جوهرية أساسية فى عقلنا ، ولكنه بالأحرى يضئ قوة عقلنا بطبيعته الخاصة ويطابق نشاط عقلنا على نشاطه " .
وهذا يعنى أن قوة عقلنا تضاء بطاقة المسيح دون أن تفقد . " أن نمتلك فكر المسيح " يعنى كما يقول القديس مكسيموس " أن يكون لنا الفهم بحسب ذاك الذى للمسيح ، وفهم المسيح من خلال كل الأشياء " .
فيفكر الشخص بحسب إرادة الله ويتذكر الله على الدوام . ينطبق نفس الشئ على قوة الرغبة فيرغب الشخص بإستمرار فيما يرغبه الله ، ويرغب فى الله بلا شبع .
يشير القديس بطرس الدمشقى للقديس باسليوس الكبير الذى يقول أنه عندما يجد الله قلباً خالياً من كل أمور وتعاليم العالم فإنه عندئذ " يكتب عليه تعاليمه الخاصة كما لو كان لوحاً نظيفاً " . وبالتالى تكون المسألة فى هذه الحالة مسألة " وعى بالتعاليم " .
يعرف المرء تعليم الكنيسة من الخبرة طالما أن له حياة الله فى قلبه . يجب علينا أن نجاهد لكى نجعل المسيح يقيم فى قلبنا لأنه عندئذ سوف يقوم الله بنفسه " بتعليمنا كيف نثبت فى نواميسه " .
+ إن القلب هو الجحيم الذى ينزل إليه المسيح ويحرر نفس الإنسان . ومثلما نزل المسيح إلى الجحيم وحرر نفوس الأبرار ، هكذا ينزل المسيح إلى عمق القلب . يعلم القديس مقاريوس أنه عندما نسمع أن الرب نزل إلى الجحيم وحرر النفوس يجب أن نفكر أن هذه الأشياء ليست بعيدة عما يحدث الآن . فالقبر هو القلب . والرب يأتى " إلى النفوس الموجودة فى الجحيم والتى تدعوه " أى فى أعماق القلب وبعد حوار مع الموت ، " إذ يرفع الحجر الثقيل الذى يحزن النفس ويفتح القبر فإنه يقيمنا لأننا كنا أمواتاً بالحقيقة ويحرر نفسنا السجينة من سجنها المظلم .
+ إن القلب هو الأرض التى تُزرع فيها حبة الحنطة بيد الرب . ويقول القديس مكسيموس : " حبة الحنطة هى الرب الذى يُزرع روحياً فى قلوب أولئك الذين يقبلونه بواسطة الإيمان " .
+ القلب هو الكنيسة والمذبح ، ذلك المكان المقدس الذى فيه يتمجد ويتقدس الرب . يُعلم بطرس الرسول قائلاً : " قدسوا الرب الإله فى قلوبكم " ( ا بط 3 : 15 ) . ويرى القديس مقاريوس أن كل الأمور المنظورة هى إنعكاس للأمور الخفية .
فالكنيسة المرئية ترمز وتعكس صورة كنيسة القلب . والكاهن الذى يرفع الأسرار هو رمز " الكاهن الحقيقى لنعمة المسيح " .
وفى هذه الكنيسة الروحية الحقيقية التى هى أعماق القلب تستمرعبادة أبدية فى الإنسان القائم : " مكلمين بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح وأغانى روحية ، مترنمين ومرتلين فى قلوبكم للرب " ( أف 5 : 19 ) . القلب الخالى من الأفكار الشريرة والذى ينشط بالروح القدس " هو قُدس حقيقى حتى قبل الحياة الآتية " .
فالقلب هو كنيسة ومذبح . يُعلم القديس يوحنا الدرجى قائلاً : " أن تقيم حراسة منظمة على القلب شئ ، ولكن أن تكون أسقفاً على القلب فهذا شئ آخر " .
فى الحالة الأولى يكون العقل مُشرعاً ولكن فى الحالة الثانية يكون العقل أسقفاً يقدم ذبائح روحية .
+ القلب هو أيضاً قدس حيث تكون النار . إن هذا ما شعر به التلميذان فى رحلتهما إلى عمواس عندما كان المسيح يتحدث إليهما : " ألم يكن قلبنا ملتهباً فينا إذ كان يكلمنا فى لاطريق ويوضح لنا الكتب " ( لو 24 : 32 ) . القلب هو " حجرة إستقبال الرب " .
+ القلب هو الإناء الذى يحوى زيت النعمة الإلهية . ويرى القديس مقاريوس المصرى أن " الخمس عذارى السهارى اللائى حملن فى آنية قلوبهن الزيت الذى لم يكن موروثاً فى طبيعتهن ، إذ أنه نعمة الروح القدس ، كن قادرات على أن يدخلن مع العريس إلى حجرة العرس " . القلب هو إذا الإناء الذى يحفظ فيه الشخص اليقظ نعمة الروح القدس ويدخل بالتالى حجرة العرس ليبتهج بإحتفال العريس .
+ القلب هو الحقل حيث الكنز مخفى الذى من أجله يبيع الذى يجده كل شئ لكى يشتريه .
+ القلب هو صورة العهد الجديد ، أو بالأحرى فإن العهد الجديد أيضاً هو نقاوة القلب ويقظة وحراسة العقل . العهد القديم هو أيقونة للنسك الجسدى الحسى الخارجى أما " الإنجيل المقدس أو العهد الجديد فهو أيقونة اليقظة التى هى نقاوة القلب " .
+ القلب هو سماء وحيث يكون الإتضاع وتذكر الله " ثابتين من خلال اليقظة والإنتباه وأيضاً مع صلاة متواترة لا تلين فى مقاومة العدو فهناك يكون مكان الله فى سماء القلب "
فى القلب يوجد عربون الروح القدس : " الذى ختمنا أيضاً وأعطى عربون الروح فى قلوبنا " ( 2 كو 1 : 22 ) .
+ القلب هو الألواح المكتوبة عليها أحرف الله : " أنتم رسالتنا مكتوبة فى قلوبنا معروفة ومقرءة من جميع الناس . ظاهرين أنكم رسالة المسيح مخدومة منا مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحى . لا فى ألواح حجرية بل فى ألواح قلب لحمية " ( 2 كو 3 : 2-3 ) .
+ القلب هو المكان حيث يسطع نور الله : " لأن الله الذى قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذى أشرق فى قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله فى وجه يسوع المسيح " ( 2 كو 4 : 6 ) .
+ فى القلب يصبح الانسان متأكداَ من البنوة وهناك يسمع صوت الله بوضوح قائلاً : " بما أنكم أبناء أرسل الله روح أبنه إلى قلوبكم صارخاً يا أبا الآب " ( غل 4 : 6 ) .
وحيث أن الله يقيم هناك فهناك هو المكان الذى يتكلم فيه مع الإنسان وهناك تُسمع كلمة الله بوضوح وتمييز .
+ فى القلب النقى توجد أيضاً العينان التى تُرى بها أسرار الله . " كى يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد روح الحكمة والإعلان فى معرفته ، مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته " ( أف 1 : 17-18 ) .
كما أن سلام الله يملك فى القلب : " وليملك فى قلوبكم سلام الله " ( كو 3 : 15 ).
+ القلب هو القيثارة وأوتارها هى المشاعر ، وريشة العازف هى الذهن الذى من خلال الإدراك يحرك الريشة بإستمرار بتذكر الله " التى منها تمتلئ النفس حلاوة الغير موصوفة ويستضاء العقل الإلهى بالإستنارة الإلهية " .
+ القلب هو النبع الذى منه تنبع المياة خلال الصلاة وإحترار المشاعر " من الروح المعطى الحياة " . القلب هو إنساننا الداخلى .
الرسل والآباء يستعملون هذه الصور والسمات لكى يعبروا عن القلب . نستطيع أن نقول بإختصار أن القلب هو " إنساننا الداخلى " . إنه المكان الذى يُستعلن خلال حياة الجهاد المكلل بالنعمة ، والذى فيه يُستعلن الله ويقيم .
إنه الكنيسة الروحية حيث تقام الليتورجية الدائمة ، وحيث يُقدم لله تسبيح دائم ، هذا المكان المجهول للكثيرين ولكنه معلوم للقديسين ، هو الذى يعطى حياة للإنسان .
ايروثيئوس . س . فلاخوس
عن كتاب : الطب النفسى الارثوذوكسى
ترجمة : د / نيفين سعد
ترجمة : د / نيفين سعد