والكلمةُ صار جسدًا وحَلَّ بيننا

استعدوا لسماع كلمة الله
اسمحوا لي قبل أن أتأمَّل في كلمات الإنجيل، أنْ أطلبَ منكم أمرًا أرجو ألاَّ ترفضوه؛ لأنَّ ما أطلبه منكم ليس عسيرًا أو ثقيلاً أو صعبًا.
 وهذا الأمر ليس مفيدًا لكم فقط، بل ولي أنا أيضًا. فما هو هذا الأمر؟
إنه يجب على كل واحدٍ منكم عندما يأتي إلى الكنيسة يوم السبت أو الأحد، أنْ يأخذ بين يديه مقطع الإنجيل الذي سوف يُقرأ في الأيام القادمة، ثم يعكف في بيته على قراءته بحرص، وأن يسجِّل عليه ملاحظاته الآتية بدقة: 
هل هناكَ غموضٌ يكتنف النص؟، 
وما هو الواضح فيه؟ 
ما الذي يبدو متناقضًا؟، 
وما الذي يظهر منسجمًا؟ 
وما هو معنى النص وتفسيره؟ إلخ ... 
وهكذا تكونون جاهزين للتفاعل مع كل ما يقال في اجتماعنا. إنَّ 
الفائدةَ المرجوةَ من هذا الاستعداد لن تكون قليلةً، سواء بالنسبة لكم أو لي؛ لأننا لن نعود نجد مشقةٍ في عرض الموضوع بوضوح، طالما كانت أذهانكم مهيأة، وقد عايشتم النص. وهذا بدوره يُضرم فيكم شوقًا، فتجيئون إلى الكنيسة مسرعين متيقظي الأذهان. على أن الفائدة التي ستعود عليكم لن تقتصر فقط على السمع والتعلّم، بل تشمل أيضًا استعدادكم لتعليم الآخرين.
 لأن كثيرين من الذين يأتون إلى هنا ليسمعوا العظة، لا يستطيعون أن يحصلوا على فائدةٍ كبيرة، إذ ينبغي لهم أن يتعلّموا قراءة النصوص وفهم كل ما نقوله عنها، وكيف يتحقق ذلك في هذا الوقتٍ الوجيز؟ 
قد يتعلّل البعض بمبرراتٍ مثل الهموم والارتباطات الاجتماعية أو الخاصة.
وهؤلاء لا يدرون أنهم يرتكبون جرمًا كبيرًا في حق أنفسهم عندما يسمحون للمشاغل الخاصة، والمطالب العامة بأن تستحوذ عليهم إلى الدرجة التي لا يستطيعون معها أن يخصصوا وقتًا وإنْ كان قليلاً لمَا هو أكثر ضرورةً لحياتهم. 
وقد يتعلّل البعض الآخر بأنهم على ارتباطٍ بأصدقائهم لارتياد المسارح، أو ليكونوا ضمن الحشود التي تتابع مسابقات الخيول، وفي مرات كثيرة يقضون أيامًا كاملةً مع هؤلاء الأصدقاء، والمدهش في الأمر أن واحدًا منهم لا يعتذر عن عدم ذهابه إلى هذه الأماكن بانشغاله بمواضيع معينة. 
هكذا ترتادون تلك الأماكن التافهة دون أي مبرر، بينما تنقطعون تمامًا عن المجيء إلى الكنيسة. وبينما من الواجب عليكم أن تهتموا بما يخص الله، يبدو لكم هذا الأمر تافهًا للدرجة التي لا تكون لديكم معها قناعة بأنَّ هذه الأمور تستحق أنْ يُخصص لها وقتًا ولو كان قليلاً. 
وقد يحتج هؤلاء الخاملون بحجةٍ غير معقولة، فيقولون إنهم لا يملكون كُتبًا[2].
فإن كان هؤلاء من الأغنياء، فإنه من المضحك أن نرد عليهم. ولكن إن كان كثيرون من الفقراء يسوقون هذا المبرر، فأنا أقول لهم:
 لو أن أحدًا منكم لم يكن لديه كل الأدوات الحرفية اللازمة لممارسة مهنته إلى الحد الذي يضع له فيه الفقر عشرات العقبات أمام ممارسته لمهنته، وأنا أتساءل أيقعد عن ممارسة مهنته متعللاً بفقره وما وضعه أمامه من عقبات ـ في الوقت الذي تُدر عليه هذه المهنة مكسبًا وفيرًا؟ 
عمومًا، لو كان البعض منكم فقراء جدًا، فمن الممكن لهم أن يُلموا بكل ما في الكتب المقدسة، إذا ما تابعوا باهتمام القراءة المستمرة لنصوص الكتاب في الكنيسة.
 وإن كان هذا الأمر يبدو لكم غير ممكنٍ، فقد تكونون على حق، إذ أن كثيرين منكم لا يأتون مهيَّئى الأسماع، بل ويكتفون بسماع ما يُقرأ، عندئذٍ للتو يرجعون إلى بيوتهم غير منتظرين ما يُقال من تعليقات حول النص. أمَّا الذين بقوا منتظرين، فهم ليسوا أفضل حالاً من الذين انصرفوا لأنهم حاضرون فقط بأجسادهم. 
دعونا الآن نأتي إلى كلام الإنجيل حتى لا نهدر الوقت في سرد هذه الحجج والمبررات، فقد حان الوقت لنتكلّم في موضوعنا. تيقظوا إذن حتى لا يفوتكم شيءٌ مما أقوله. 
والكلمةُ صار جسدًا وحَلَّ بيننا ”.
فبعدما قال إنَّ كل الذين قَبِلوه وُلِدوا من الله وصاروا أبناء الله، يعرض الآن لسبب هذا الشرف غير الموصوف وأساسه. هـذا الشرف هـو أن الكلمةُ 
تجسَّد والربُ أخذ شكل العبد. صار ابنُ الإنسان بينما كان وما زال هو ابنُ الله الحقيقي، لكي يجعل أبناء البشر أبناء الله. لأن العظيم عندما يأتي إلى الوضيع، فإنه لا يفقد شيئًا من مجده، بل يرفع الوضيع ويقيمه من وضاعته. 
حسنًا، لقد حدث هذا في حالة المسيح، إذ لم يعترِ طبيعته نقصٌ ما بسبب تنازله إلينا، بل نحن القابعون في المهانة والظلمة رُفعنا إلى المجد الفائق.
وهذا هو ما يحدث بالضبط عندما يتعطّف الملك فيتحدّث مع أحد الفقراء بحنوٍ، فهو لا يُسبب لنفسه أي خزي أو عار، بينما يصير هذا الفقير علمًا ويصير ممجدًا من الكل. فإذا كان الأمر على هذا النحو من جانب البشر، فلا يصيب الضرر مَن يتمتع منهم بمكانةٍ عالية إذا ما خالطوا مَن هم أقل منهم في المرتبة، فكم بالأكثر يكون الأمر بالنسبة للجوهر الطاهر والطوباوى، الذي لا يستمد شيئًا من خارجه، وهو غير قابل للتحوّل بل هو يملك كل الصالحات بثباتٍ وعدم تغيُّر!. 
معنى فعل ”صار”: 
هكذا، عندما تسمع قول الكتاب "الكلمةُ صار جسدًا"، لا يضطرب ذهنك، ولا تشعر بصغر النفس؛ لأن الجوهر الإلهي لا يتغيَّر إلى جسدٍ ـ فمجرد التفكير في هذا يعتبر كفرًا ـ لكنه ظَلَّ كما هو آخذًا شكل العبد. 
لقد استخدم الإنجيلي الفعل "صار" لكي يسُدَّ أفواه الهراطقة. لأن هناك مَن يقول إن كل أحداث التدبير الإلهي كانت مجردُ خيالٍ[3].
 فلكي يفنِّد ـ مسبقًا ـ تجديفهم، استخدم الفعل "صار" الذي لا يعني أن جوهر الله قد تغيَّر، بل يعني أنه اتخذ جسدًا حقيقيًا. 
وبالمثل تمامًا المكتوب " المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنةً لنا لأنه مكتوبٌ ملعونٌ مَن عُلِّقَ على خشبة" (غل 3: 13)، فهو لا يعني أن جوهره انفصل عن مجده وتغيَّر إلى لعنةٍ، فمثل هذا التفكير لا يجرؤ عليه، حتى الشياطين، فهو تفكير غبيٌ، وكُفرٌ صريح. هكذا، فالمعنى الصحيح هو أنه قَبِلَ اللعنةَ، ولم يتركنا لنكونَ بعدُ ملعونين. 
هكذا بالمثل، فعندما يقول الكتاب المقدس إنه "صار جسدًا"، فهو لا يعني أنه غيَّر جوهره إلى جسدٍ، لكن اتخذه، بينما ظلّ جوهره كما هو غيرَ مُقَتَرَبٍ إليه
وإن زعموا أنه إله، وإنه يستطيع فعل كل شيء، وبالتالي يمكنه أن يتغيَّر إلى جسدٍ، نقول لهم: نعم يستطيع أن يفعل كل شيء، على أن يظل إلهًا كما هو. فكيف يكون إلهًا إذا ما اعتراه تغييرٌ، وما بالكم لو كان هذا التغيير للأسوأ؟!! 
لا شك أن التغيير يعتبر أمرًا غريبًا على الطبيعة الإلهية الطاهرة، لذلك قال النبي:
 "مِن قِدَمٍ أسست الأرضَ، والسموات هي عمل يديك. هي تبيد وأنت تبقى وكلها كثوبٍ تبلى، كرداءٍ تغيرهن فتتغيَّر وأنت هو وسنوك لن تنتهي" (مز102: 25ـ27، راجع أيضًا عب1: 11). هكذا، فإنَّ جوهرَ الله فوق أيُ تغييرٍ، ولا يوجد ما هو أسمى منه، وبالتالي يكون مستحيلاً أن يقبل تغييرًا؛ لأنه لن يكون في هذه الحالة "الله".
 لذلك دعونا نترك نتيجة هذه التجاديف تحيق بمن ينطقون بها. 
وأمَّا أنه قيل عنه إنه "صار"، فلكي لا يُظَنُّ أنه مجردُ خيالٍ. وعلينا أن نلاحظ كيف أوضح الأمر بما قاله بعد ذلك. فلكي يفنِّد ظنهم الشرير، أضاف "وحَلَّ بيننا"، 
فلا يأتي على ذهنك أمر سخيف نتيجة استخدامه للفعل "صار" بمفرده، فهو لم يَقُل إن الطبيعة غير المتغيِّرة تغيَّرت، بل قال: حَلَّ، أو سَكَنَ، أو خَيَّمَ. والفعل "خَيَّمَ" يختلف عن كلمة "خَيمة"، إذ هو يعني شيئًا آخر، وإلاَّ فإنه يكون قد خَيَّمَ في ذاته. فهو يعني به الاتحاد بين الكلمة والجسد دون أن يحدث اختلاط أو زوال للجوهر، بل اتحاد لا ينفصلُ إتحاد سري فائق للوصف. أمَّا عن كيف حدث هذا؟ لا تَسَل؛ لأنه ـ فقط ـ "صار" كما أُعلِنَ لنا. 
ولكن ما المقصود بالخيمة التي خَيَّم أو سكَنَ فيها؟ 
اسمع النبي يقول: " في ذلك اليوم أُقيم مظلة داود الساقطة" (عا9: 11).
 فقد سقطت ـ حقًا ـ طبيعتنا جثةً هامدةً بلا شفاء، ولا تقدر أن تسُدُّ احتياجها إلاَّ يدُ الله القدير. فلم تكن هناك طريقةٌ أخرى لكي تقوم طبيعتنا البشرية من موتها سوى أن تمسكها نفس اليد التي خلقتها منذ البدء، فتجددها بالولادة الفوقانية من الماء والروح. 
انتبه أيضًا إلى هذا السر العظيم المخفي:
 إن سُكناهُ في الخيمة سُكنى دائمة. فهو لم يأخذ جسدنا لكي يتركه ثانيةً، بل أخذه ليكون معه على الدوام. وإن لم يكن الأمر على هذا النحو، لمَا جعله مستحقًا للعرش الملوكي، ولا للسجود من جنود الملائكة السماوية ورؤساء الملائكة والكراسي والربوبيات والسلاطين. 
وأتساءل: ما هو السبب في كل ذلك؟ أيُ عقلٍ يمكنه أن يصف عِظَم هذا الشرف الذي صار لجنسنا؟ حقًا يا لها من كرامةٍ عظيمةٍ تفوق الطبيعة! هل يستطيع الملاك أن يصف هذا الشرف العظيم؟ هل يستطيعُ ذلك رئيس الملائكة؟ لا أحدَ إطلاقًا لا في السماء ولا على الأرض؛ لأن إحسانات الله عظيمة، وإنجازاته تفوق الطبيعة حتى أن السرد التفصيلي لها يستعصي ـ ليس فقط على اللغة البشرية، بل وعلى القوات الملائكية أيضًا. 
خاتمة 
لذلك دعونا نُنهي حديثنًا حالاً، ونلوذ بالصمت متذكرين أننا رجوناكم أن تتقبلوا ما أنعم به الله عليكم من مكافآت عظيمة، وما يعود عليكم منها من نفع. تلك المكافآت، تنالونها عندما تهتمون بأنفسكم وتنصتون لأقوال الله؛ لأن هذا هو عمل محبته للبشر. فالله لا يحتاج إلينا في شيء، لكنه يغدق علينا نعمته العظيمة عندما نعتني بأنفسنا. 
وإذا كنا نستمتع بهذه الكرامة، دون أن نقدم ما هو في مقدورنا، ألا نكون مستحقين لأنْ نُتهم بالجنون؟ 
إنَّ الآلاف من الخيرات الصالحة تنتظرنا بسبب مجيء الله إلينا بالجسد. لأجل كل هذا، ليتنا نمجِّد الله محب البشر، ليس فقط بالكلام، لكن بالحري بالأعمال لكي نستمتع بالخيرات الصالحة التي هي من نصيب الكل بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح للبشر، الذي نعطي له المجدَ مع الآب في الروح القدس إلى الأبد آمين. 


القديس يوحنا ذهبى الفم
ترجمة الدكتور / جورج عوض ابراهيم 
دكتوراة فى العلوم اللاهوتية 
باحث بالمركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] العظة العادية عشر على إنجيل يوحنا 
[2] بالطبع لم تكن عمليات الطباعة قد اكتُشفت فى ذلك الوقت وكانت عملية نسخ الكتاب المقدس مكلفة جدًا ولا يقدر عليها سوى الأغنياء. 
[3] لقد حارب القديس يوحنا الإنجيلى هذه الهرطقة التى علّم بها هؤلاء "الخياليون"، ليس فقط فى إنجيله بل أيضًا فى رسائله: " كل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء فى الجسد فليس من الله" (1يو3:4).