المنهج التفسيري الروحي عند الذهبي الفم وإسحق السرياني


 - أنطاكيا ونصيبين -
مقدمة
يبقى الكتاب المقدس الركيزة الأساسية للحياة الكنسية والشخصية، وإذا أضفنا، نحن الأرثوذكس، التقليدَ، فهو يعني الكتاب في التفسير الذي تقبله الكنيسة. الإشكالية ليست في الكتاب بمقدار ما هي في التفاسير أي في تقليد كلّ كنيسة.

في التجربة على الجبل يظهر كيف يختلف يسوع كثيراً مع الشيطان في تفسير الكتاب: "وقال له الشيطان: إِن كُنتَ ابنَ اللَّهِ فَاطْرحْ نَفسَكَ إِلَى أَسْفَل، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ، فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: مكْتُوبٌ أَيْضاً: لاَ تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلَهَكَ"[1].
يختلف الذهبي الفم مع إسحق السرياني بشؤون أساسية، لكنهما يلتقيان في الأمر الأهم، في منهج التفسير الكتابي.فالذهبي الفم من أعظم رجال المدرسة الأنطاكية وهو مصلحها من منهجية الحرف إلى عمق الروح، وإسحق السرياني من كبار رجال "نصيبين" ومن المدرسة الاسكندرية، كما يرى فلوروفسكي[2].
هذا لغته اليونانية وذاك السريانية، هذا من القرن الرابع وذاك من السابع، فكيف وأين التقى الاثنان، رغم كلّ تلك الفوارق؟ كيف اتفق الاثنان في التفسير وهما من مدارس مختلفة المنهجية، إلا في الحقيقة والروح!
سنقدّم هنا طريقة تفسير وقراءة الكتاب المقدس كما يتفق عليها القديسان. مروراً أولاً بنصوص إسحق وثانياً بنصوص الذهبي الفم، ونستخلص أخيراً في الخاتمة ما يمكن استنتاجه كطريقة للتفسير.
الموضوع:
يعتمد كلٌّ من الأبوين على مفهوم بولس الرسول الأنثروبولوجي حول الإنسان الجسداني والنفساني والروحاني:"وَلَكِنَّ الإِنْسَانَ (النفسانيّ) لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً. وأَمَّا الرُّوحِيُّ فَيَحْكُمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ لاَ يُحْكَمُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ، لأنهُ مَنْ عَرفَ فكرَ الربِّ فيعلمهُ. وأما نحنُ فلنَا فكرُ المسيح"[3].
ففي حين يستخدم الذهبي الفم هذا المفهوم بعباراته مباشرة كأنطاكي، لا يهمل الحرف ولو لم ينحصر فيه، يعلّم إسحق كإسكندريّ وراهب وممارس المفهومَ ذاته بأسلوبٍ فلسفيّ وروحيّ.
1- درجات تفسير الكتاب المقدس عند القديس إسحق السرياني
يُعتبر القديس أحد الهامات الروحية الكبرى في العالم المسيحي شرقاً وغرباً، يقدّم كتاباته عن خبرةٍ روحية مباشرة[4].
تتفرّد أعمال القديس إسحق في كون مقاربتها للكتاب المقدس لا تتّبع منهجيةً ذات غايةٍ تفسيرية بل منهجية حوار، لقاء، كشف[5]، وخبرة عشرة الحياة مع الله.ويظهر التأثير الكبير لمدرسة الاسكندرية التفسيرية في كلّ أعماله، حيث يفسّر الكتاب المقدس رمزياً، محاولاً أن يكتشف معانيه الروحية الكامنة وراء النصّ[6]. كما يرى جورج فلوروفسكي.
يتكلّم عن ثلاث درجاتٍ في فهمه، ويعلّم عن المحاولة في اكتشاف أعماق الكتاب وفهم أسراره. إنه متأثرٌ جداً بـ ذيونيسيوس الأريوباغيΔιονύσιοςΑρειοπαγίτης ، ويورده مباشرةً. وبحسب الباحث عينه، كان لإسحق بذلك فيما بعد تأثيرٌ على الصوفية الإسلامية. كما أنه متأثرٌ بـ إفاغريوس الذي يُعتبر مصدراً أساسياً له[7].
يقول القديس: "ليس هناك ما يطهّر النفس أكثر من الغوص في عشق التعلُّم والبحث في أعماق معاني الكتاب المقدس"[8]. "الكتاب المقدس يرفع الذهن ويضعه كلّ لحظةٍ في مسار توجه الله. يصبغه ويرفعه عن مادة هذا العالم بإعلاناته الإلهية، ويجعله دوماً يفوق وجوده المادي"[9].
إذاً بالنسبة إلى إسحق توجد ثلاث درجات للمعرفة ولطريقة تفسير الكتاب. الأولى: الجسدانية، والثانية: النفسية (المنطقية)، والثالثة: الروحية. في كتابه "نسكيات"[10]، تسود هذه المفاهيم في كلّ النصوص،
 إلا أنّ له بالتحديد المقالات:
- المقالة 18: في مقياس المعرفة ومقاييس الإيمان   - المقالة 62: في حالات المعرفة الثلاث  - المقالة 63: في المرتبة الأولى للمعرفة
- المقالة 64: في المرتبة الثانية للمعرفة             - المقالة 65: في المرتبة الثالثة للمعرفة     - المقالة 66: في أحوالٍ ومعانٍ وصفاتٍ أخرى للمعرفة
درجات المعرفة الروحية، بالنسبة للقديس إسحق، هي درجات الحياة الروحية، وذلك لأنّ المعرفة تتناسب مع كلّ مراحل حياة المسيحي الروحية[11]. فالمعرفة تنمو وتتنقّى بمقدار نموِّ ونقاوة الذهن المتقبِّل للمعرفة. وتصل المعرفة إلى كمالها بعد أن تُشفى النفس وتتحرّر حواسها من الضعف الكامن في الأهواء. يرسل القديس كتابه إلى "النفس التي سلكت سبل الحياة الرهبانية..."[12]، لكنه يعالج المسألة الإنسانية للمعرفة، التي تتدرّج بمستوى ودرجة الكمال المسيحي، الذي الرهبنة إحدى طرقه.
في كلامه عن أنواع المعرفة، يجعل القديسُ إسحق الإيمانَ كحدٍّ فاصلٍ بين معرفتين، "ثمة معرفة تسبق الإيمان وأخرى تتولّد منه. فالتي تسبقه تكون معرفةً طبيعية، أما المتولّدة منه فهي معرفةٌ روحية"[13].
ويميّز للحالتين "طريق الإيمان" و"طرق المعرفة البشرية". ويصل في سبيل التمييز بينها إلى حدّ اعتبار وجود تضادّ بينها: "المعرفة البشرية معاكسة للإيمان" لأنّ الإيمان يُبطل قوانين المعرفة البشرية اللاروحية.
 فالمعرفة الروحية تستخدم "عيون الإيمان" فترى العناية الإلهية؛ وليس العيون الجسدية فقط. يتعدّى الإيمانُ حدودَ العقل، لكن بأيّ معنى يرد ذلك عند قديسنا؟ يقول إسحق: "هناك ثلاث طرق ومرتبات عقلية تصعد وتنزل عليها المعرفة، هي الجسد والنفس والروح.
"في المرتبة الأولى للمعرفة"[14]- الجسدانية "Γνώμη Σαρκική":
تدعى معرفةً قاحلة لتجرّدها من كلّ اهتمامٍ إلهيّ، بل تهتمّ بالغنى، المجد الفارغ، الزينة، راحة الجسد، الاجتهاد في الحكمة المنطقية بما يتناسب مع مسيرة هذا العالم. إنّ منظار هذه المعرفة هو عدم الإيمان بوجود حاكمٍ خفيّ للإنسان وعناية إلهية، وهي تنسب إلى الإنسان كلّ صلاح، ويستولي عليها الخوف من أنواع الموت وفقدان الحاجات الجسدية". إنها المعرفة الكاذبة التي تزهو بصاحبها، على عكس بولس القائل: "ولست أنا بل نعمة الله التي معي"[15].
"في المرتبة الثانية للمعرفة"[16]- المنطقية "Γνώμη Ψυχική":
إنها الدرجة الوسطى، التي يجب أن تخلّصنا من الرغبات الدنيوية وتهدينا إلى الإيمان- الدرجة الأكمل.
وهي المعرفة المترافقة مع حياة الفضيلة، فيها: "يتمّم الإنسان الصالحات بإلهام أفكار النفس ونورها، وبمؤازرة الحواس الجسدية... الصوم، الصلاة، الإحسان، مطالعة الكتاب المقدس".
"في المرتبة الثالثة للمعرفة"[17]- الروحية "Γνώμη Πνευματική":
هي حالة الإشراق التي متى تحققت "تكمّ النفسُ فاها بالصمت والدهش". إنها ما دعا إليه يسوع: "تصيرون كالأطفال"[18]. إنها معرفة فوق منطقية ونفسية (تطأ الأسد والتنين)[19]."هناك حدود للمعرفة الطبيعية (الثانية المنطقية) لا تجرؤ على تعدّيها، أما الإيمان (المعرفة الثالثة) فيتعداها بسلطة ويقول: "إذا اجتزتَ في المياه فإني معك أو في الأنهار فلا تغمركَ، وإذا سلكتَ في النار فلا تلذعك ولا يلفحك اللهيب"[20].
تستطيع هذه المرتبة التحليق إلى أمكنة اللامتجسمين وأن تلمس عمق البحر غير المدرَك لأنها تفهم بأيّ طريقةٍ عجيبةٍ إلهيةٍ تدار الطبائع العقلية والحسية، لأنها قد قبلت القيامة المدرَكة من خلال ما هو هنا، كما بسرٍّ، شهادةً حقيقيةً لتجديد الكلّ.
الثابت والمعروف والمشترك بين العقل والإيمان (المرتبة الثانية والثالثة) هو "محبة الله وعنايته"، لكن كلّ هذا الفارق الذي يشير إليه القديس إسحق (الفارق الكبير وحتى درجة التعاكس- طبيعي وغير طبيعي أو فوق الطبيعي) هو في كيف نفهم ما هو بعد النصّ والشرح!فالمرتبة السليمة والكاملة لقراءة الكتاب المقدس عند القديس تتمّ كـ "صلاة" أي عشرة مع الله: "وكلّ ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه".نطلب فهم الكتاب المقدس، فقراءتُه ليست مجرد بحث بل هي طلبٌ وكشف[21]!
هذه هي أحوال المعرفة الثلاث المقابلة لأحوال الإنسان الجسدية والنفسية والروحية، وما دام الإنسان في هذا العالم فلا بدّ له من عبور هذه المراتب الثلاث للمعرفة.
هذه المستويات يدعوها الآباء حالات ويقسمونها إلى حالة بحسب الطبيعة وثانية بخلاف الطبيعة وثالثة فوق الطبيعة.
مرتبة المعرفة الأولى تجمّد النفس وتمنعها من السير في طريق الله، والثانية تجعلها حارة فتسير بسرعة لتبلغ درجة الإيمان، أما الثالثة فاستراحة من الأعمال وصورة للمستقبل لأنها تتمتع بنعيم أسرار الدهر الآتي بتأمل الذهن فقط.وكما أنّ المعرفة أكثر دقة من الأشياء المحسوسة، فإنّ الإيمان أكثر دقة من المعرفة.
الإيمان يُعلن من خلال الأعين الروحية، الأسرارَ الخفية في النفس والغنى الإلهي المحجوب عن عيون أبناء الجسد، والمعلن بالروح لأولئك الذين يتناولون الطعام على مائدة المسيح والذين يهذّون بناموسه، حسب قوله: "إن حفظتم وصاياي أرسل لكم المعزي روح الحقّ الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، وهو يعلّمكم الحقيقة كلها"[22].المعرفة الأولى تأتي بالتفتيش المستمرّ وبالتعلّم والاجتهاد. والمعرفة الثانية تأتي بالسيرة الصالحة وبإيمان الذهن. أما المعرفة الثالثة فهي ميراث الإيمان فقط.
2- درجات التفسير عند القديس يوحنا الذهبي الفم
يلتزم فم الذهب بالعبارات والصيغ الإنجيلية مباشرةً، فهو لا يدرس طرق التفسير بقدر ما يتكلم عن درجات الإنسان المفسِّر، كما عند بولس الرسول.
مرتبة الإنسان الجسداني (Σαρκικός) هي طريقة الحياة الملتصقة برغبات العالم وليس بالجسد، ويشير من بولس الرسول إلى مظاهر هذه الحياة: "لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ وَلَكِنَّ اهْتِمَامَ الرُّوحِ هُوَ حَيَاةٌ وَسَلاَمٌ"[23]، فيها يحرم الإنسانُ ذاته من المنطق والروح[24]. أما مرتبة الإنسان النفساني (Ψυχικός) فهي حالة منْ يحيا محصوراً في أبعاد المنطق والملموس والتطبيق[25] فقط، "δια της διανοίας μόνης δοκιμάζει".
وهاتان الدرجتان لا يمكنهما، كما عند القديس إسحق، أن تسمعا نداء الكتاب وأن تجيبا على كلمة الله المستترة وراء الكلمات. هذا أسلوب حياة "مضحك" بحسب تعبير فم الذهب[26]. لأنه بدون سكب الروح وعونه يضلّ الإنسان عن فهم الحياة والكتاب[27].
الإنسان "الروحي" هو الإنسان "المكتمل"، إذ يؤهِّل كلّ الإمكانية الإنسانية فيه (الجسد والنفس والروح). بينما الدرجتان السابقتان هما صفات إنسانٍ "أقطع" تغيب منه الطبيعة الأهم، أو بالأحرى هو إنسانٌ مازالت صورة الله فيه مشوّهة (صورة المسيح)[28].
إنّ الفوارق، وإن استخدمت كلمة جسد- جسداني، ليست في الطبيعة الجسدية للإنسان إنما في التربية وفي منهجية التفكير، أي هي فوارق أخلاقية وليست أندلوجية. فالروحاني إنسان له جسد كالجسداني، لكنه يفكر بمؤازرة الروح ويشتهي السماويات على عكس الأول. فالمتعاكس هي الرغبات وليس الجسد، فالروحانيّ هو إنسانٌ "التهب" بالنعمة وذاك بارد[29]، كما هو الحديد وحده، والحديد المحمّى بالنار- تلك النار التي جاء يسوع ليرميها على الأرض وقد اشتعلت[30]. إنه الإنسان الذي طهّر حياته من أوساخ الأهواء والرغبات وترفّع عن رغبات البشرة، فهو ليس مجرد بشر، بل بشري يتمثل بصورةٍ إلهية، صورة المسيح[31].
المعرفة الجسدية والنفسية - المنطقية هما درجتان لإنسانٍ يشبه الأعمى (عمى البصيرة ولا عين إيمان له)، لا يرى ما يراه الإنسان الروحي (Πνευματικός)[32].
يعطي فم الذهب مثالاً توضيحياً رائعاً. فالإنسان الجسداني هو كالجاهل غير المتعلّم "αναλφάβητο" ولا يعرف الحروف، يستلم رسالةً فيراها ورقاً وألونَ مداد. أما الإنسان النفساني فهو نصف المتعلّم الذي يعرف الكلمات لكنه لا يفهم اللغة ولا الموضوع. يستطيع أن يطالع الرسالة، لكنه يبقى عند الحروف ولا يفهم المضمون ولا المطلوب. بينما الإنسان الروحاني فهو الإنسان "العالم" والمتعلّم الذي يقرأ الحروف ويعرف لغتها ويفهم مضمونها ولكن أيضاً يتصل بكاتبها. وهذا هو المطلوب من الرسالة ومن فهم الكتاب المقدس، ولا قيمة لكلّ ما سبق دونها.
المثال الأوضح هو الحوار العقيم بين المسيح ونيقوديموس، بين الإنسان الروحاني والعقلاني، بين المسيح و"المعلّم في إسرائيل"[33]. يشرح القديس الحدث في عظاته (25، 26، 27) على إنجيل يوحنا. ويستخدم بالحرف عبارات بولس الرسول (ΓνώμηΣαρκική-Ψυχική- Πνευματική).
 بالنسبة له، يشكّل نيقوديموس "وهو معلِّم في إسرائيل" شبه من يقرأ الكتاب المقدس من العلوم والمعرفة فقط وليس له عين الإيمان. في الحوار حاول يسوع عدة مرات أن يرفعه إلى مستوى الفهم الروحي لكن عبثاً. لهذا تتكرر كلمة يسوع: "الحق الحق أقول لك..."، أي أنك معلّم ولا تعلم، تتكلم ولا تصيب.
 وكان نيقوديموس يجيب بـ "كيف" و"كيف"... لقد تحقق فيه قول بولس الرسول: "الإنسان النفساني- ψυχικός" لا يقبل كامل الحقيقة أي ما للروح. إنّ نصف الفهم (الدرجة النفسانية) هي المرتبة التي خرج منها كلُّ الهراطقة إلى التفسير الخاطئ. يمتدح الذهبي الفم هنا نيقوديموسَ أنه اعترف بعدم الفهم ولم يخرج إلى تفاسير كهؤلاء، من ذاته.
أمام الإعلان الإلهي وكلام يسوع، يكرّر الإنسان العقلاني مثل نيقوديموس كلمة "كيف"، وهو يناقض ذاته، فقد سبق وصرّح بإيمانه أنّ يسوع هو معلّم آتٍ من الله، لكنه في الوقت ذاته يجيب على كلمات الربّ بـ "كيف"! مثله مثل سارة التي ضحكت عند سماع إعلان الله وأجابت "كيف؟". "كيف" سارة كانت غير "كيف" العذراء. وقد تكون استنتاجات الإنسان العقلاني استنتاجاتٍ مضحكةً. فعلى قول يسوع: "يجب أن تولد من فوق"، أجاب المعلم العقلاني: "ألعله يدخل بطن أمه ثانيةً ويولد!"[34].
 لهذا لم يعطِ بولس طعاماً بل حليباً لأهل كورنثوس، فهم مازالوا جسدانيين[35]. "لا أسوأ من أن نستودع شؤون الروح (الكتاب) لمحدودية المنطق". يقول الذهبي الفم. [36]"ουδέν γαρ χείρον του τοις λογισμοίς τα πνευματικά επιτρέπειν"
كان نيقوديموس الإنسان النفساني يبحث عن الفهم: "كيف". وكان يسوع يعاتبه على سبب عدم فهمه وهو غياب عين الإيمان: "وإن كنت قلتُ لكم الأرضيات ولستم تؤمنون فكيف تؤمنون إن قلتُ لكم السماويات"[37]، وهنا يتوقف الذهبي الفم ويلاحظ، أنّ يسوع لم يقل تفهمون وإنما "تؤمنون".
ما يلزم لفهم الكتاب ليس المعلومات والمعارف فقط، بل الحياة الروحية التي ترفع الإنسان فوق المنطق الجسداني وتعطيه قوة فوق معطيات المنطق والعلوم التطبيقية وحسب. إنّ أنقياء القلوب يعاينون الله[38].
قراءة الكتاب المقدس ليست مطالعةً بل عشرةٌ مع المتكلِّم، تفهم منها الكثير مما ليس في الحروف، وتفهم ما تبتغيه الحروف وليس ما تقوله نصّاً. لهذا قال يسوع لنيقوديموس: "إننا إنما نتكلمُ بما نعلم، ونشهدُ بما رأينا". أما "المعلّم في إسرائيل" فيتكلّم عما لا يعلم لأنه لم يشهد[39]!
الخلاصة
موضوع تفسير الكتاب هام جداً، الذهبي الفم وإسحق السرياني هما هامتان من أطرٍ مختلفة جداً لكنهما التقيا في التفسير وطرقه. لهما هناك ثلاثُ درجاتٍ مستوحاة من مفهوم بولس الرسول الأنثروبولوجي للإنسان الجسداني والنفساني والروحاني.
وما نستنتجه من منهجهما المشترك هو مايلي:
1- تفسير الكتاب ليس شأناً معلوماتياً منفصلاً عن الحياة الطاهرة، وقراءة الكتاب هي عشرة مع الله أي صلاة. وهذا ما تورده صلاة التحضير لقراءة الإنجيل في قداس الذهبي الفم:
الإفشين قبل قراءة الكتاب المقدس:
"أيها السيد المحبّ البشر، أشرق في قلوبنا النور الصافي نور معرفتك الإلهية، وافتح حدقتي ذهننا حتى ندرك تعاليم إنجيلك. ضع فينا خشية وصاياك المغبوطة حتى إذا وطئنا كلّ الشهوات الجسدية نسلك سلوكاً روحياً.
فنفتكر بكلّ ما يرضيك ونعمله، لأنك أنت استنارة نفوسنا وأجسادنا أيها المسيح الإله. ولك نرسل المجد مع أبيك الذي لا بدء له وروحك الكليّ قدسه، الصالح والصانع الحياة. الآن وكلّ أوانٍ وإلى دهر الداهرين. آمين".
2- هناك تدرّج في المعرفة، أي ثلاث درجات لفهم الكتاب المقدس، نلخصه عند القديسَين والتقليد، كما يلي:
درجات المعرفة الثلاث–ارتباطها
جسداني   carnal
نفساني     psychic
روحاني       spiritual
عند بولس الرسول
تطهير
purification
purification
استنارة illumination
illumination
اتحاد
theosis
Theosis
عند الآباء
عبد
esclave
أجير
employee
salarié
ابن
son
fils

ترداد- جسداني
répétitionsans sens
تحليل تفسير عقلاني
l'analyse rationnelle
فهم- روحاني
comprehesionSpirituelle

عند القديس الذهبي الفم
مرتبة أولى- جسداني
degréCarnal
مرتبة ثانية- نفساني
Psychic degree
degrépsychique
مرتبة ثالثة- روحاني
degré spirituel
عند القديس إسحق
رواية
Text
Letters
تحليل
analysis
Critic
استجابة
response  réponse

في الكتاب المقدس


3- المعرفة واحدة بطبيعتها، أُعطيتْ من الله للخلائق الناطقة من البدء لكمالهم... بسيطة لا تتجزأ، أما في عملها فتقبل تغييرات وتجزيئات[40]، يقول القديس إسحق.فإنّ هذه الدرجات، وإن عَبَّروا عنها كمتناقضة في عملها، لكنها برأيهما متدرّجة، أي إذا قرأت الكتاب فعلاً لا بد أن يقودك العقل إلى الدرجة الأفضل وهي الروحية. يقول إسحق: "ونحن لا نعني أنّ المعرفة أمرٌ مذموم، بقدر ما نشير إلى سموّ الإيمان".
المنشود هو "موعد اتحاد المعرفة بالإيمان اتحاداً كلياً واحداً، وعن اتشاحها بمعانٍ ناريةٍ والتهابها بالروح واقتنائها أجنحة اللاهوى وارتقائها من خدمة الأرضيات إلى مكان خالقها"[41]."تقتبس المعرفة قوة الصعود إلى العلاء وإحساساً بمن هو أعلى من كلّ حسٍّ (الله)"."المعرفة درجة يصعد بها الإنسان إلى علوّ الإيمان"[42].
فالدرجة الأولى يجب أن تقودك إلى الثانية وتقودك الثانية إلى الكاملة وهي الروحية. وهذا يعني أنه علينا ألا نقف عند الدرجة الأولى ولا حتى عند الثانية بل لنتذكر قول السلمي: "اصعدوا يا إخوتي اصعدوا"[43].

مشاركة فى المؤتمر الدولى عن المدارس الانطاكية 
عن  
www.alboushra.org
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشواهد
 [1] مت 4: 6- 7.
[2] موسى الخصي، الأرشمندريت، استخدام الكتاب المقدس في أعمال القديس إسحق السرياني، احتفالات سمعانيات 2، ندوة القديس إسحق السرياني، منشورات دير سيدة البشارة، حلب 2010، ص 67.
[3] اكور 2: 14- 16.
[4]بولس يازجي، المتروبوليت، حياة وشخصية وأعمال القديس إسحق السرياني في التقليد الأرثوذكسي، احتفالات سمعانيات 2، ندوة القديس إسحق السرياني، منشورات دير سيدة البشارة، حلب 2010، ص 29.
[5]Αλφεγίεφ, ΙλαρίωνΆγιοςΙσαάκοΣύροςοπνευματικόςτουκόσμου,μετ. ΙωσήφΡοηλίδη, Αγιολογικήβιβλιοθήκη 17, εκδ. Ακρίτας, Αθήνα 2005, σελ 220.
[6]Φλοροφσκύ, ΓεωργίουΟιβυζαντινοίασκητικοίκαιπνευματικοίπατέρες,μετ. Παναγιώτουκ. Πάλλη, εκδ. Πουρναρά, Θες/Νίκη 1992, σ. 380.
[7]Θ.Η.Ε.τ. 6, Αθήναι 1965, σ.1006.
[8]Αλφέγιεφ, Ιλαρίων, Αυτόθι, σελ. 220,Ι/1 (3-5) = PR 1 (2-5).
[9]Αλφέγιεφ, Ιλαρίων, Αυτόθι, σελ. 221.
[10] إسحق السرياني، نسكيات، ترجمة الأب إسحق عطا الله، آباء الكنيسة 7، منشورات النور، 1983.
[11]بولس يازجي، المتروبوليت، حياة وشخصية وأعمال القديس إسحق السرياني في التقليد الأرثوذكسي، احتفالات سمعانيات 2، ندوة القديس إسحق السرياني، منشورات دير سيدة البشارة، حلب 2010، ص 37. انظر أيضاً: الشاهد 1-2 ص 38 من الكتاب نفسه.
[12] إسحق السرياني، نسكيات، ترجمة الأب إسحق عطا الله، آباء الكنيسة 7، منشورات النور، 1983، المقالة (62)، ص 225- 226.
[13]المرجع السابق نفسه: 18، 72. يرد عنده أنّ هذه الدرجات الثلاث (أعمال البرّ) هي: "بالجسد: الصوم، الإحسان، السهر... بالنفس: محبة القريب، تواضع القلب، المسامحة...، فحص الأسرار الخفية في الكتاب المقدس... بسيرة الإيمان: إحساس بالحياة الروحية والنعيم وراحة النفس والشوق والفرح في الله وغيرها مما يعطي للنفس المستحقة نعمة الغبطة هناك أو تلك الأمور التي تتمّ هنا عندما يغمرنا الله بنعمه من خلال الكتاب المقدس والإيمان".
[14] إسحق السرياني، نسكيات، ترجمة الأب إسحق عطا الله، آباء الكنيسة 7، منشورات النور، 1983،المقالة (63) في المرتبة الأولى للمعرفة، ص 231.
[15] 1كور 15: 10.
[16] إسحق السرياني، نسكيات، ترجمة الأب إسحق عطا الله، آباء الكنيسة 7، منشورات النور، 1983، المقالة (64) في المرتبة الثانية للمعرفة، ص 233.
[17]المرجع السابق نفسه، المقالة (65) في المرتبة الثالثة للمعرفة، ص 234.
[18] مت 18: 3.
[19] مز 90: 13.
[20]إش 43: 2.
[21] إسحق السرياني، نسكيات، ترجمة الأب إسحق عطا الله، آباء الكنيسة 7، منشورات النور، 1983، المقالة (65) في المرتبة الثالثة للمعرفة، ص 227.
[22]يو 14: 15-17.
[23] رو 8: 6.
[24]Ιω. Χρυσόστομος,ΕιςΑ΄Κορ. Ομ.7, 5, PG 61, 60- 61.
[25]Ιω. Χρυσόστομος,ΕιςΑ΄Κορ. Ομ.7, 5, PG 61, 60 ε.
[26]Ιω. Χρυσόστομος,ΕιςΑ΄Κορ. Ομ.7, 5, PG 61, 60- 61.
[27]Ιω. Χρυσόστομος,ΕιςΕφ. Ομ.5, 4, PG 62, 40- 42. ΕιςΒ΄Κορ.Ομ.3, 3, PG 61, 408. «… καιτηςτουΠνεύματοςενεργείαςεκτόςτυγχάνων, πανταχούαπιέναιδύναται, καιπλανάσθαιόπουβούλεται».
[28]Ιω. Χρυσόστομος,ΕιςΚολ. Ομ.8, 1, PG 62, 352.
[29]Ιω. Χρυσόστομος,ΕιςΡωμ. Ομ.13, 8, PG 60, 518.
[30]لو 12: 49. انظر أيضاً:
Ιω. Χρυσόστομος,ΕιςΡωμ. Ομ.13, 8, PG 60, 518.
[31]Ιω. Χρυσόστομος,ΕιςΒ΄Κορ. Ομ.3, 3, PG 61, 408.
[32]Ιω. Χρυσόστομος,ΕιςΑ΄Κορ. Ομ.7, 5, PG 61, 60- 61.
[33]يو 3: 10.
[34]يو 3: 4.
[35] 1كور 3: 2- 3.
[36]Ιω. Χρυσόστομος,ΕιςΙωαν. Ομ. 25,ΕΠΕ 13, 109.
[37]يو 3: 12.
[38] مت 5: 8.
[39]يو 3: 11.
[40] إسحق السرياني، نسكيات، ترجمة الأب إسحق عطا الله، آباء الكنيسة 7، منشورات النور، 1983، المقالة (65) في المرتبة الثالثة للمعرفة، ص 230.
[41] انظر: إسحق السرياني، نسكيات، ترجمة الأب إسحق عطا الله، آباء الكنيسة 7، منشورات النور، 1983، المقالة (62) في حالات المعرفة الثلاث، ص 228.
[42]المرجع السابق نفسه، ص 229.
[43]يوحنا السلمي، السلم إلى الله، منشورات النور، ص 276.