الشهادة

  الشهيد من الشاهد والمشاهدة أو المعاينة. والمعاينة داخلية.
ما تراه بعين قلبك. وإن حدّثت عن القلب حدّثت عن أمرين: الحبّ والحقّ.
 الحبّ والحقّ مزيَّتان والوجه واحد. أنت، إذاً، تعاين وجهاً. هذا هو وجه الله، وجه يسوع. وجه يسوع تعاينه. تعاينه بالإيمان.
تؤمن به لأنّك عرفته. أنت لا تؤمن بما هو مجهول. تؤمن بما هو معلوم. إذ كيف تؤمن بما لست تعرفه، أي كيف تُسلم نفسك إليه. الإيمان لغة الكيان كما المنطق لغة العقل.
إذاً الشهيد هو مَن أحبّ يسوع وعرف أنّه الحقّ كلّه. يشهد لمَن أقام في حياته سيِّداً. ويشهد حتى الدم إن لزم. لا بل شهادة الدم هي ختم المحبّة الكاملة.
على أنّ الشهادة هي التخلُّق بأخلاق مَن أحببت. تسير في إثره. كلمته حقّ. سيرته حقّ. تتوخّى أن تحاكيه، أن تصير مثله. أن تكون إيقونة له. لا تتفوّه إلاّ بما يليق بالحقّ ولا تفعل إلاّ ما يليق بالمحبّة. إن كنت شهيداً فأنت، إذاً، مبذول. كُلُّك بذل. لا تعطي الناس شيئاً. لا تأتي أمراً إلاّ عن محبّة. تجعل قلبك، تبذل نفسك في كل ما تفعل.
 لا تستقيم الصلاة إلاّ بمحبّة ولا الصوم ولا السجود ولا السلوك في أي فضيلة ولا يستقيم العطاء. وحدها المحبّة لغة الله. لا يتعاطى الله إلاّ لغة المحبِّين ولا يسمع إلاّ لهم. لا ينظر العليّ إلى ما تعطي بل إلى المحبّة التي تعطي بها، قليلاً أو كثيراً لا فرق.
 لم ينظر السيّد إلى الكثير الذي ألقاه الأغنياء في صندوق التقدمات لأنّهم أعطوا مالاً، بل نظر إلى القليل الذي ألقته الأرملة الفقيرة لأنّها أعطته كل شيء. أعطت قلبها. أسلمت حياتها. للربّ الأرض بكمالها. لا يطلب الله شيئاً. فقط أن تحبب الربّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك. وإن كان لا يطالبك بأي شيء فلا يطالبك بشيء من فروض العبادة. لا تكون قريباً إليه بمقدار صلواتك أو أصوامك أو سجداتك.
 الصلاة والصوم والسجود مكرهة له إن لم يكن بمحبّة. من غير محبّة تفعل ما تفعله كأجير، كنفعي. تفعله لنفسك لا لله. إن لم تكن فيك المحبّة وأنت تصلّي وتصوم وتسجد، قليلاً أو كثيراً، فقد صرت نحاساً يطن أو صنجاً يرنّ. كلمة واحدة، حركة قلب واحدة تأتيها في الصلاة بمحبّة تجعل صلاتك كاملة، وألف فرض صلاة بلا محبّة كالخرقة تُحسب.
 لا ينظر الربّ إلى العين بل إلى القلب. هذا لا يعني أنّك إن أحببت يكفيك أن تصلّي قليلاً، لأنّك إن أحببت لا تعود تشبع من الصلاة إليه، ولا من العطاء باسمه ولا من السجود لديه. كل شيء، إذ ذاك، كل سانحة، كل العمر يكون فرصة محبّة. تحببه إن تنفّست وإن تحرّكت وإن لزمت مكانك وإن صحوت وإن غفوت وإن حلمت. الكل، ساعتذاك، يكون إطار محبّة. هذا تتعاطاه مع إلهك في كل زمان وفي كل مكان، وتتعاطى ما يقابله مع الناس أنّى وُجدت وحيثما أقمت.
 الإنسان، إذاً، كائن مبذول. هذه شيمته. ببذله نفسَه يصير إنساناً. قبل ذلك يكون مشروع إنسان. لذا كان لا بدّ للإنسان من أن يحبّ عدُوّه.
 العدو هو الموقع الكياني الأوّل الذي تتعاطى فيه المحبّة بامتياز. أي قيمة ترتجى وأي إنجاز يتحقّق إن أحببتم الذين يحبّونكم؟ بعض شهداء الزمن القديم كان يعطي الجلاّدين الأجرة سلفاً. وكانوا، كاستفانوس، الشهيد الأوّل بعد السيّد، يسألون لهم الصفح. "لا تُقم لهم يا ربّ هذه الخطيئة" (أع 7: 60). والسيّد، من قبل، قال الكلمة: "اغفر لهم، يا أبتاه، لأنّهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34)
ليس أكثر من الذي يؤذيك بحاجة إلى رحمة، وليست محبّة أعظم من أن تصفح عن الذين يبغضونك. "أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم".
 فيما يتوقّع منك عدوّك أن تكرهه تحببه. هذا أقسى عقاب يناله الإنسان دنيا وآخرة. ليس أكثر من محبّتك لعدوِّك يزلزل فيه الكيان، يقوى عليه، يجرِّده من كل اعتبار، يُظهره ضعيفاً. كم من جلاّد جلدته محبّة ضحاياه وجعلته لا يرتاح إلاّ بالشهادة، بأن يذوق ما ذاقه الذين قضوا بيديه! المحبّة تستدعي المحبّة. تحرّك الأحشاء. المحبّة هي الشهادة. الشهادة، أولاً وأخيراً، شهادة محبّة.
 يحلو للناس، في كل زمان، أن يكون لهم شهداؤهم. ولكن كثيراً ما يكون الإسم على غير مسمّى. هذا لا يمنع أن يبقى الناس مشدودين إلى الشهيد لأنّه عنوان البذل وسند كل قضية ذات شأن.
 ثمّة تصوّر أنّ في العالم خرافاً وذئاباً. هذا بعض الحقيقة لا كلّها.
 الحقيقة أن في كل نفس خِرافيةً وذئبيةً. لذا مَن يتصوّرون أنّ حلّ مأساة العالم هي في القضاء على الذئاب، أو مَن يُصنَّفون ذئاباً، يخطئون. وكذا يخطئ مَن يحسب نفسَه أو يحسبونه شهيداً مَن قضى وهو يقتل الذئاب.
 أصلاً العنف الكامن في النفس منبع القتل. وكل نفس مطبوعة على الأنانية على عنف داخلي أو خارجي. فكيف إذا كان أصل الذئبية في كل نفس. العنف، إذ ذاك، يكون أرضاً خصبة لِتَوَلُّد الذئبيات. العنف، في إطار الواقع الإنساني الساقط، يدمّر ذاته بذاته.
"مَن يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون" (مت 26: 52). "إذا كنتم تنهشون وتأكلون بعضكم بعضاً فانظروا لئلا تُفنوا بعضكم بعضاً" (غلا 5: 15).
 طالما هناك أنانية هناك حبّ للسلطة والمجد. وطالما هناك حبّ للسلطة والمجد فهناك صراع. اليوم يجتمع اثنان على ثالث وغداً يقوم الواحد على الواحد. المأساة أنّ النفس، كل نفس، غير نقيّة ولا يؤتمن لها. "تصوّر قلب الإنسان شرّير منذ حداثته" (تك 8: 21).
 الإنسان ساقط. أَن عدوّك هو المشكلة وهمٌ. طالما بذرة العداوة فيك فلست بخير من عدوّك. طالما المحبّة ليست فيك فأنت أسير حلقة الفناء والإفناء. أنت أسير الموت وعميله. تزرع الموت من حولك.
 إما الحبّ وإما الموت. فإن أحببت بذلت نفسك لا سواك. المحبّة، إذ ذاك، قويّة كالموت (نش 8: 6) لكنّها تحيي. وإن قتلت نحرت نفسك في الآخرين. فالذي قال "أحبب قريبك كنفسك" جعلك قاتلاً لنفسك متى قتلت. لذا الموضوع أن تنقّي نفسك لتساهم في تنقية الأرض. نقِّ نفسك من حبّ الذات، من حبّ السلطة، من حبّ المال، من حبّ المجد.
 كل آلام البشرية وراءها شيء من هذا وذاك. الحروب صراع أنانيات جماعية وفردية. والأنانيات الجماعية تنقسم أنانيات جماعيةً على مستوى أضيق إلى أن تصل إلى أنانيات فردية. أعظم الاكتشافات أن تعرف نفسك على حقيقتها لا كما تتصوّرها. تصوّراتك معقلُ وهمٍ وكذب. مرآتك كلمة الله. منها تعرف حقيقة نفسك. طالما ليست المحبّة فيك فأنت شاهد زور. تشهد للباطل الذي فيك ولا تشهد الحقّ الذي في ربّك.
  فيما يشتدّ الفتك بالناس باسم الشهادة، اليوم، سبيلنا أن نتوب إلى مَن في يده نسمة حياتنا لنعرف أنّ ما يجري هو لوجه عدوّ الخير لا لوجه الله، ولنعرف أيضاً أنّنا إن لم نتعب لنصفح ونحبّ أعداءنا فلسنا بخير ممن يذبحون الناس. هم يذبحون بسكاكين الحديد ونحن نذبحهم بسكاكين أفكارنا ونوايانا. وإذا كان الأوائل بادين لأعين الناس فالأخيرون بادون لعين الله. الشماتة ونيّة الشرّ وإدانة الناس أنّهم فاسدون، كل ذلك حُكْم على الناس وإلغاء لهم. هذه بذرة الشرّ. فمَن استأصلها من نفسه، بنعمة الله والصفح والمحبّة وبذل النفس، تنقّى، ومَن أقام عليها قتلته ولو بقيت كامنة في نفسه ولم تظهر إلى خارج.
 "نقّوا أنفسكم يا ذوي الرأيين". في نهاية المطاف، الطوبى، كل الطوبى، لأنقياء القلوب، هؤلاء يعاينون الله، والطوبى، كل الطوبى، للودعاء لأنّهم يرثون الأرض. هذه هي الشهادة الحقّ لأنّها شهادة للحقّ الإلهي، والحقّ الإلهي هو هو الذي سيق إلى الذبح ولم يفتح فاه!

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما