1- السلطة فى العقيدة المسيحية
( الكنيسة ليست سلطة ، كما أن الله ليس سلطة والمسيح ليس سلطة ، هذا إذا كان مفهوم السلطة أنها قوة خارجية مفروضة علينا . الكنيسة ليست سلطة ، كما قلت ، بل هى الحق ، وفى نفس الوقت هى الحياة الروحية الباطنية للمسيحى طالما أن الله والمسيح والكنيسة يثبتون فى داخله حياة أكثر حقيقية من القلب الذى ينبض بين جنباته والدم الذى يتدفق فى عروقه ، ولكنهم يحيون فيه طالما هو يحيا الحياة الرحبة للحب والوحدة وهذه هى حياة الكنيسة ) .
قول لعالم لاهوتى روسى من شعب الكنيسة الروسية الأرثوذكسية خوميا كوف عاش
فى القرن التاسع عشر
هذا النص كتبه " خومياكوف " ، وهو لاهوتى ومن شعب الكنيسة فى القرن التاسع عشر ، وتأثيره ما زال مستمراً ولم يخبو من وسط اللاهوتيين الأرثوذكس المعاصرين ، وهو يُعتبر مقدمة فقط لتحديداته الشاملة عن الفروق الكثيرة بين الأرثوذكسية – من جهة – وبين المسيحية الغربية من الجهة الأخرى ، عن طبيعة الخلاف حول مفهوم " السلطة " فى الكنيسة .
فيرى خومياكوف أنه فى الغرب " أصبحت السلطة قوة خارجية مفروضة ومعروفة الحقائق الدينية اقُتطعت وفُصلت عن الحياة الروحية " ، وأن الكنيسة ( الغربية ) هى التى تفرض هذه الحقائق على العقل البشرى وحده كواسطة " ضرورية " أو نافعة للخلاص ( بحسب تحديدات الكنيسة الرومانية الكاثوليكية ، وبدونها يهلك الذى لا يعتنق هذه المبادئ ) . وحينما أتت حركة الإصلاح ( البروتستانتى ) أستبدلت سلطة الكنيسة الخارجية بسلطة " الكتاب المقدس " وحده . ويقول خومياكوف إن كلا الأتجاهين يحملان نفس الخطأ من وجهة نظر الكنيسة الأرثوذكسية . ( لذلك فممارسة السلطة بأى من الأتجاهين مرفوض فى الكنيسة الأرثوذكسية ) .
وأهم من نخرج به من هذا التقييم الجدلى هو أن مشكلة السلطة لها تاريخ طويل ، وعلى الأخص فى العلاقات بين الشرق والغرب ، وهذه المشلكة تدور ليس فقط بالرد على السؤال : مَنْ أو ما الذى يملك السلطة ؟ ( هل البابا الرومانى أم الكتاب المقدس ) بل وأيضاً بتحديد المفهوم الصحيح للسلطة وعلى الأخص فى الأمور التى تختص بالإيمان المسيحى . وسوف نحاول أن نحتفظ فى ذهننا بهذا السؤال التمهيدى أثناء مناقشتنا للسلطة فى هذه المقالة .
1- سلطان الله من داخل الكنيسة
إن السلطان المطلق لله هو أحد أهم المبادئ الأساسية للعهد القديم ، وأن أستعلان مشيئته هو فى حد ذاته تعبير عن رحمته . ولكن هذا السلطان يمكن أن يُفهم فقط " بخوف ورعدة " ( تك 18 : 27 ، خروج 3 : 6 ، أش 6 : 4-5 ؛ أيوب 24 : 2-3 ) .
سلطان الله فى العهد القديم : من خارج الجماعة :-
وهكذا نفهم العهد الذى قطعه الله مع شعبه بإعتباره مبادرة إلهية من جانب الله فقط . وأنبياء الله كانوا يذكرون إسرائيل دوماً بحق الله فى فرض شروطه . ومن بين أهم الموضوعات فى كرازة الأنبياء ، هو رفض الفكرة القائلة بأن يهوه فى حاجة إلى إسرائيل ، وأن العهد الإلهى مع إسرائيل يشبه عقود الأتفاق ذات الطابع الثنائى . فهذا العهد أو الميثاق من جانب واحد – عبرت عنه الترجمة السبعينيه للعهد القديم باللغة اليونانية بكلمة " ذياثيكى " ( أى " العهد أو الميثاق أو الإرادة " ) كترجمة للكلمة العبرية " بريت " ، وذلك بدلاً من التعبير اليونانى " سينثيكى " الذى يصف العهد أو المواثيق الثنائية الأطراف . فبتقديم إسرائيل الطاعة من جانب واحد لوصايا الله ، يكون قد أوفى شروطه فى هذا الميثاق أو العهد أو الأتفاق ، وحينئذ ينال حماية الله وقيادته لهم حسب الوعد القائل : " قد واعدت الرب اليوم أن يكون لك إلهاً وأن تسلك فى طريقه وتحفظ فرائضه ووصاياه وأحكامه وتسمع لصوته ، وواعدك الرب اليوم أن تكون له شعباً خاصاً كما قال له وتحفظ جميع وصاياه " ( تث 26 : 17 ، 18 ) .
إن طريقة العهد القديم فى إبرام " العهد " تعكس معالم سلطة الله ، أنها – بحسب ما كان سائداً آنذاك – سلطة خارجية ، مطلقة وواجبة المخافة والرعدة من جانب الشعب . ونحن نعلم أن بولس الرسول يبدأ من هذه الفكرة ليوضح فى رسالته إلى روميه مضمون " الكرازة " المسيحية حينما يقول : " فإذا ، هو يرحم من يشاء ويُقسى قلب من يشاء ... من أنت أيها الإنسان الذى تجاوب الله " ( رو 9 : 18 ، 20 ) .
سلطان الله فى العهد الجديد : من داخل الجسد :-
لكن العهد الجديد يتضمن أيضاً إعلان ميثاق جديد يغير بطريقة جذرية من ممارسة الله لسلطانه على البشر . فمن بين أكثر الأختلافات وضوحاً بين العهدين ، ما أشار إليه عالم الكتاب المقدس دوض " C.H.Dood " ، أنه إذا كان العهد القديم يتضمن " قصة عن جماعة " والتفسير يأتى من خلال النظرة الشخصية ، فالعهد الجديد لم يعد يتضمن قصة عن جماعة بعد بل أساساً عن " شخص " . وهذا الشخص هو المسيا الذى يأخذ على عاتقه تحديد مصير إسرائيل ويصير جماعة نيابة عن كل البشرية ، إنه قصة عن عهد الله الجديد ، زاد على ذلك أنه إذا كان موسى ، وهو يجمع إسرائيل عند سفح سيناء ، يرش عليه دم ثور باعتباره " دم العهد " ( خروج 24 : 8 ) ؛ فإن العهد الجديد لربنا يسوع المسيح يكمن " فى دمه " ( 1 كو 11 : 25 ، لو 22 : 20 ) ، أو بحسب الإنجيل للقديس متى والقديس مرقس ، فإن دم المسيح يصير هو " دم العهد " ( متى 26 : 28 ، مر 14 ، 24 ) .
وإن كان العهد الجديد – كما قال العالم " C.H.Dood " – يتحدث عن شعب الله " بطريقة ثانوية " فذلك لأن إسرائيل فى العهد الجديد صار هو " جسد " المسيا ؛ وهكذا فقدت إسرائيل أستقلاليتها وذاتيتها ، بمعنى أنها كفت ولم تعد أن تكون " طرفاً " فى الميثاق مع الله . إن مفهوم بولس الرسول عن الكنيسة " كجسد المسيح " هو فى حقيقته تجسيد للصورة التى رسمها إشعياء عن " العبد المتألم " . فالمسيا عند بولس هو حقاً يسوع ، لكنه هو أيضاً " كل إسرائيل الجديد فى المسيح " تماماً كما يرسم إشعياء صورة مزدوجة للمسيا كشخص وأيضاً لإسرائيل كشعب .
( إن الكنيسة ليست هيئة أو منظمة أو مياناً بشرياً أو شعبياً أو إكليروساً يتسلط على الشعب ، بل الكنيسة هى ببساطة : المسيح متجسداً البشرية الجديدة المؤمنه به )
فحينما نتكلم عن الكنيسة فينبغى أن نتأنى ونمعن النظر فى هذه الصورة الإلهية البشرية ، لذلك فمن يستطيع أن يدعى أن له السلطان على الكنيسة ؟ أى على " المسيح متجسداً البشرية الجديدة المؤمنه به " ؟ من يجرؤ ؟ ومن له الوجه أن يدعى ذلك ؟ المسيح الرأس هو وحده الذى له السلطان والسلطة فى الكنيسة وعلى الكنيسة بكل من فيها وبكل مسمياتهم : إكليروساً وشعباً ، رعاة ورعية ، آباء وأبناء ، رؤساء ومرؤوسين . أما الرعاة والإكليروس فهم خدام إنجيل المسيح وخدام كهنوت المسيح وخدام خلاص المسيح وخدام حضور المسيح وسط شعبه .
ومن هذا المنطلق وحده يجب أن نفحص أية قضية وندير أى مناقشة أو حوار حول أى شأن من شئون الكنيسة وعلى الأخص قضية السلطة فى الكنيسة ، ووصية الطاعة للآباء والرؤساء فى الكنيسة ، ومسألة الالتزام أو التمرد أو التحايل على قوانين الكنيسة . المسيح المتجسد البشرية هو هو الكنيسة ، ولا سلطان على جسد المسيح إلا للمسيح وحده ، والكسل واقفون تحت سلطان ألوهيته وملوكيته ، وربوبيته للكنيسة ، جسده ، وملتزمون بطاعة وصاياه ومشيئته وقانون جسده الكنيسة ) .
المحبة بحرية هى أساس السلطة فى العهد الجديد :-
إلا أن العهد الجديد يتضمن أيضاً وصية الله . إنها " الوصية الجديدة " للمحبة ( يو 13 : 34 ) . إنه مطلب مختلف جذرياً عن ناموس موسى ، لأنه يمثل علاقة شخصية ومتبادلة بين الله والإنسان : " الذى عنده وصاياى ويحفظها فهو الذى يحبنى ، والذى يحبنى يحبه أبى ، وأنا أحبه وأُظهر له ذاتى " ( يو 14 : 21 ) . ويتفق القديس بولس والقديس يوحنا فى فهمهما لرسالة العهد الجديد فى أنه فى المسيح يسوع تحدث المواجهة والتلاقى المباشرين بين الله والإنسان ، مواجهة وتلاق صارتا ممكنة التحقيق للكثيرين من خلال سر قيامة المسيح وحضور الروح القدس ، ومواجهة وتلاق تتساميان على وتحل محل وتشرح المقولات القانونية الخارجية عن " الوصية – الطاعة – الأمانة " للناموس .
هذه الموضوعات الأساسية والمعروفة لدى كل دارسى ومدرسى العهد الجديد ذات أهمية حاسمة قاطعة مانعة لفهم السلطة فى كنيسة الله المسيحية – ( والأرثوذكسية بوجه خاص ) ، لأن الله لم يعد يتكلم إلى الجماعة وهو خارج عنها ، لكنه حاضر من خلال الروح القدس فى وسط الجماعة ، والجماعة ذاتها هى مجمع " القديسين " مجمع " الأنباء " بالتبنى ، مجمع " الأشخاص المحبين عن حرية " ، إذ قد " نالوا ختم الروح " ( أفسس 1 : 13 ) وهم " المتعلمون من الروح القدس " ( 2 كو 2 : 13 ) . ويقول القديس بولس : " الذى ختمنا أيضاً وأعطى عربون الروح فى قلوبنا " ( 2 كو 1 : 22 ) . فالكنيسة هى " الجسد " إنها حقيقة المسيح نفسه .
السلطان الممنوح للكنيسة هو لمغفرة الخطايا أولاً :-
ويمارس من خلال الكنيسة :-
إن " السلطان " الملكى الذى للمسيا يسوع يؤكده العهد الجديد ، إنه سلطان مغفرة الخطايا على الأخص ( مر 2 : 10 ) . إنه أحد أوضح العلامات للاهوت المسيح . هذا السلطان الذى هو نفسه سلطان الله ، مُعطى الناموس فى العهد القديم ، يتضمن تنفيذ " وصاياه " ( متى 28 : 20 ) . لكن السمة العامة للوصايا قد تغيرت وصارت تمارس من داخل الإنسان أولاً بسبب سكنى الروح القدس فيه ، كما يتضح جلياً من العظة على الجبل أن " كل الناموس والأنبياء " ( متى 5 : 17 ) تأسسوا على وصية المحبة : " وسأله واحد منهم وهو ناموسى ليجربه قائلاً : يا معلم أية وصية هى العظمى فى الناموس ؟ فقال له يسوع : تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك . هذه هى الوصية الأولى والعظمى ، والثانية مثلها : تحب قريبك كنفسك . بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء " ( مت 22 : 35/40 ) .
وهكذا فقدت وصايا الناموس وإنذارات الأنبياء سمتها القانونية الخارجية وامتلأت من قوة " محبة الله التى أنسكبت فى قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا " ( رو 5 : 5 ) .
وما يىتبع ذلك أن السلطة الخاصة التى قلدها الرب يسوع لبعض ( ثم لكل ) تلاميذه أى للإثنى عشر أو السبعين رسولاً تكون سلطة فقط من داخل الكنيسة وليس فوقاً منها أو خارجاً عنها.
ومن هذا المفهوم ، فإن مفسرى كلمات المسيح عن سلطان الحل والربط فى إنجيلى يوحنا ومتى لم يعودوا يتناقشون ويختلفون حول قضية تحديد هوية الذين وُجهت إليهم هذه الآيات ، هل إلى الكنيسة مجتمعة أم إلى مجموعة ضيقة من التلاميذ . فالأمر واضح من هذه الآيات :-
" ولما قال هذا نفخ وقال لهم أقبلوا الروح القدس من غفرتم خطاياه تُغفر له ومن أمسكتم خطاياه أُمسكت " ( يو 20 : 22و23 ) .
" وإن لم يسمع منهم فقُل للكنيسة . وإن لم يسمه من الكنيسة فليكن عندك كالوثنى والعشار . الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً فى السماء وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً فى السماء . وأقول لكم أيضاً إن اتفق أثنان منكم على الأرض فى أى شئ يطلبانه فإنه يكون لهما من قبل أبى الذى فى السموات . لأنه حيثما اجتمع أثنان أو ثلاثة بإسمى فهناك أكون فى وسطهم " ( متى 18 : 1-20 ) .
فالسلطان معطى وممنوح إلى الكنيسة مجتمعة . وواضح أن البشيرين لم يكونوا يحسون بأن هناك أية مشكلة من هذا القبيل على الإطلاق . فإتحاد المسيح والكنيسة يجعل من المستحيل قيام أى سلطة بشرية على الكنيسة من فوقها أو خارجاً عنها ؛ بل لقد أصبح من الضرورى وجود بنيان الكنيسة المؤسس على الأسرار الكنسية الذى أدى إلى تعميم الرئاسة الأسقفية ( من خلال إجتماع شعب الكنيسة معاً وفى نفس الموضع والإتفاق معاً ، كما قال المسيح . ) .
الإستثناء الوحيد : كان سلطان الرسل أثناء حياتهم :-
إلا أنه كان هناك إستثناء واحد فى التاريخ حيث كانت هناك سلطة بشرية وقفت – بمعنى خاص جداً – فوق الكنيسة وخارجاً عنها – وكانت هى شرط الوجود الأساسى للكنيسة : تلك هى سلطة تلاميذ المسيح الإثنى عشر الذين كانوا " شهود عيان " لقيامة المسيح والذين أختارهم وائتمنهم المسيح على تبليغ هذه الشهادة العينية للكنيسة ليؤسسها على حقيقة قيامة المسيح من بين الأموات .
+ " لكنكم يتنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لى شهوداً فى أورشليم وفى كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض " ( أعمال 1 : 8 ) .
+ " وها أنا أرسل إليكم موعد أبى فأقيموا فى مدينة أورشليم إلى أن تُلبسوا قوة من الأعالى " ( لو 24 : 49 ) .
+ " فينبغى أن الرجال الذين أجتمعوا كل الزمان الذى فيه دخل إليها الرب يسوع وخرج منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذى أرتفع فيه عنا ، يصير واحد منهم شاهداً معنا بقيامته " ( أع 1 : 21-22 ) .
فلا يمكن أن تقوم الكنيسة بدون إيمان بقيامة المسيح . " فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به . وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به . وكيف يسمعون بلا كارز . وكيف يكرزون إن لم يُرسلوا ( أى إن لم يكونوا من الرسل " ( رو 10 : 14 ) .
لذلك فما دام الإيمان المسيحى يقوم على حقيقة تاريخية حدثت فى الزمن – ألا وهى قيامة ربنا يسوع المسيح من بين الأموات- فلا مناص من أن تعتمد على شهادة " الرسل " ، وهو أمتياز فريد وغير ممكن نقله لآخرين وقاصر على الذين رأوا بعيونهم المسيح قد قام( أى التلاميذ الأثنى عشر ) . وأنتخاب متياس ليحل محل يهوذا يُظهر جلياً أن عضوية مجمع الإثنى عشر يتحتم أن تكون لمن هو " شاهد بقيامة المسيح " ( أع 1 : 22 ) .
شهادة وقيادة الروح القدس يوم الخمسين :-
ولكن الكنيسة أُقيمت وتثبتت يوم الخمسين ( أع 1 : 21 ) . ثم تأسست على كل من : سلطان " الشهادة لقيامة الرب " ، وأيضاً على قيادة الروح القدس . وكلاً هاتين السلطتين ترتبط الواحدة بالأخرى ، فلا يمكن تصور أن أقتناء الروح القدس يتعارض مع شهادة الرسل ، أو أن شهادة الرسل تصل للكنيسة خارجاً عن إطار عمل الروح القدس فى الكنيسة .
هذا التلاحم بين السلطانين الأساسيين لتأسيس الكنيسة : أى السلطان الشخصى للرسل من خلال شهادتهم بالروح القدس لقيامة المسيح ، وسلطان الروح القدس القائد للكنيسة ، أعطى الإمكانية لإستمرار الكنيسة وإمتدادها حتى بعد إنتقال الرسل أصحاب الشهادة الفريدة من نوعها ، وأوجد إستمرارية سلطان الشهادة بقيامة المسيح بعد عصر الرسل ، حيث أصبحت الإستمرارية تكمن لا فى الشهادة الشخصية ، إذ كان قد رقد الرسل الشهود العيان للقيامة ، بل أصبحت تكمن فى سلطان الروح القدس داخل الكنيسة الذى أصبح البديل للشهادة العيانية للرسل .
الروح القدس فى الكنيسة المجتمعة أصبح هو البديل للحضور الشخصى للرسل :-
فمن الملاحظ أن غياب واحد من الإثنى عشر ( وهو يعقوب الرسول ) : " هيرودس الملك قتل يعقوب أخا يوحنا بالسيف " ( أع 12 : 2 ) لم يتبعه انتخاب تلميذ آخر بديل كما حدث بعد موت يهوذا . فإن يهوذا الخائن كان لابد له من بديل ، لكن يعقوب الشهيد لا . وبعد موت يعقوب لم يعد مجمع الرسل قائماً تاريخياً .
وهكذا توقفت أية عضوية جديدة فيه . وبدأت مهمة الكنيسة فى حفظ الرسالة الرسولية فى نقاوتها الأصلية ، وفى إستمرار الإرسالية وخدمة الرعاية بدون الرسل ، وهذه المهمة أصبحت ممكنة ليس فقط بسبب إختيار خلفاء للرسل بل بسبب الطابع السرائرى المشترك بين كنيسة أورشليم التى نالت الروح القدس يوم الخمسين ، وبين أية كنيسة تجتمع فى أى موضع آخر بإسم المسيح .
إن عقيدة التعاقب الرسولى أو التسلسل الرسولى كما يقدمها لنا القديس إيرينئوس ( أسقف ليون فى القرن الثانى ) أصبحت هى نفسها إيماننا بـ " التقليد الرسولى " أى الكرازة الحقة بتعليم الرسل ، والتى لا تُحفظ بعمل سحرى أى بمجرد وضع الأيادى على رأس الشخص المرشح للأسقفية ، بل من خلالا إستمرار طبيعة ووظيفة الأسقف فى كل كنيسة . والقديس إيرينئوس وهو يشرح طقس " وضع الأيادى " المعتبر منذ أوائل عصر المسيحية أنه علامة حلول مواهب الروح القدس ، يصور الأسقفية بإعتبارها تعبر عن " طبيعة الكنيسة " وليس كسلطة أو سلطان مفروض على الكنيسة . فهو يسمى موهبة الأسقفية أو التعاقب الرسولى بأنها " موهبة الحق " ( ضد الهرطقات 4 : 40 : 2 ) ،
إنها ليست عصمة شخصية لكنها التعبير عن حقيقة أن فى الكنيسة كل شئ يحدث من خلال إحتفال الإفخارستيا حيث يرأسه الأسقف كصورة للرب وكمعبر عن مشيئة الله . ولذلك نعود ونكرر كلام القديس إيرينئوس :-
* ( كل من يريد أن يرى الحق ، فليتأمل فى تقليد الرسل المعلن فى كل أنحاء العالم داخل كل كنيسة ) .
والإستمرارية بين السلطة فى الكنيسة أثناء حياة الرسل والسلطة فى الكنيسة فى العصور اللاحقة قائم على أساس طبيعة الكنيسة كمجتمع سرائرىسلتف ويلتئم حول سر الإفخارستيا : فبسبب طبيعة الكنيسة فى العهد الجديد ، فإن أساس العلاقة بين الله وشعبه هو فى حضور الله وسط شعبه وفى العالم ؛ وهذا لا يمكن أن يُفهم على أساس قانونى بل الروح القدس يحول إجتماع المؤمنين وتناولهم من سر الإفخارستيا إلى جسد المسيح . ومن داخل جسد المسيح هذا يتكلم الله للناس ، بل هو يجعل المؤمنين يعلنون مشيئته " نحن عاملان مع الله " ( 1 كو 3 : 9 ) .
إنه حضور الله وسط الكنيسة الذى يسميه الإنجيل " روح " والقديس بولس يسميه أحياناً " سر " . ( فلا سلطة خارجية تقتحم سر حضور الله وسط شعبه ، لأن الله يتكلم من داخل الكنيسة بالسلام إلى شعبه . )
( ولذلك يُرسم الكهنة والأساقفة فى إحتفال الإفخارستيا يوم الأحد ، لأنه المناسبة التى يُشهد فيما لموت الرب وقيامته من خلال ممارسة سر الإفخارستيا . فهو السر الذى يُستعلن فيه الرب القائم من بين الأموات والذى جعل موته علامة حياة ) .
أساس البنيان الرئاسى الكهنوتى فى الكنيسة :-
إن أسرار الكنيسة – وعلى الأخص سر الإفخارستيا – تتطلب أن تكون الكنيسة ذات بنيان رئاسى ونظام كهنوتى . والعكس أيضاً فإن أساس هذا البنيان الرئاسى له أساس لاهوتى فى الأسرار ذاتها ؛ أى فى الحقيقة الدامغة عن الكنيسة فى موضع ما أنها جماعة سرائرية أى مؤسسة ومجتمعة على الأسرار ؛ ويسميها القديس إغناطيوس من هذه الوجهة " الكنيسة الجامعة " . ولكن ليس هناك أى أساس لاهوتى لسطلة خارجيةعليا مفروضة على الجماعات السرائرية فى أى موضع المعتبرة أنها جسد المسيح بكل ملئه .
يتبع.............
جون مايندروف
عميد كلية فلاديميراللاهوتية الارثوذوكسية بنيويورك