الروح القدس من خلال الكنيسة المجتمع ، هو أساس السلطة :-
إن حقيقة إستمرارية الكنيسة فى الروح القدس ، إبتداء من يوم الخمسين وإلى الأجيال اللاحقة ، تعطينا فهماً صحيحاً للتقليد الكنسى وسلطانه فى الكنيسة ،
فما لابد أن نعرفه أن التلاميذ فهموا من هو يسوع ليس فقط من الرب يسوع المسيح إبان وجوده معهم على الأرض ، بل وأيضاً وبالأكثر من خلال الروح القدس " الذى يرشدكم إلى جميع الحق " ( يو 16 : 13 ) .
فما لابد أن نعرفه أن التلاميذ فهموا من هو يسوع ليس فقط من الرب يسوع المسيح إبان وجوده معهم على الأرض ، بل وأيضاً وبالأكثر من خلال الروح القدس " الذى يرشدكم إلى جميع الحق " ( يو 16 : 13 ) .
ومن هذا الفهم الكامل قاد الروح القدس الإنجيليين ليكتبوا تسجيلاتهم عن المسيح والتى فاقت على كونها مجرد " ذكريات " أو " مذكرات " كما سماها بابياس ( أحد الكُتاب المسيحيين فى القرن الأول الميلادى ) ، بل صارت تقديماً حياً عن كل ما تكلم به الرب لتلاميذه . وهذا هو التقليد الكنسى فى بداية تكوينه .
بمفهومنا المسيحى هذا عن " التقليد " أصبح للكنيسة بعد الرسل حرية مسئولة لتمييز مشيئة الله – وذلك من خلال الروح القدس الذى أصبح هو " الضمان " الوحيد للحق وللأمانة الكاملة لشهادة الرسل المقولة والمكتوبة عن حياة رب المجد وأقواله .
وكلا هذين الإتجاهين ، أى تمييز مشيئة الله والأمانة لشهادة الرسل عن حياة الرب وأقواله ، كانتا تتطلبان قبولاً كامللاً لإيمان الكنيسة الأولى ، وهو الإلتزام الذى تحمله الكنيسة على مدى الأجيال .
وكمثل لهذا ، أننا إذا فحصنا كيف أستقر إختيار الكنيسة ( من بين إختيارات عدة ) ، على تقديم بشارة الإنجيل للأمم ، ثم على رفض هرطقة الغنوسية ، فإننا نجد أن الكنيسة لم تستند على سلطان غير سلطان الروح القدس لتختار إختيارها الصائب فى هاتين المشكلتين العويصتين . ومن هنا جاء قرار مجمع أورشليم للكنيسة الأولى مسنوداً بهذه العبارة " لقد رأى الروح القدس ونحن " ( أع 15 : 28 ) .
إلا أن قيادة الروح القدس لا تتسق أبداً مع " الفردية " ولا مع " العاطفة " ولا مع " حكم الفرد " . لكن طبيعة الكنيسة المؤسسة على الإجتماع الإفخارستتى للكنيسة جسد المسيح هى التى فى إطارها يمكن أن تتحقق قيادة الروح القدس للكنيسة ولكهنتها الذين يمثل كل واحد منهم وسط إيبارشيته شخص الرب نفسه . وهو مسئول عن التعليم الصحيح كما عن الرعاية والتوجيه للجماعة .
ولكن لأن وظيفة الأسقف أو الكاهن مستمدة ، ليس من إختيار شخصى مغلق من جانب المسيح تجاه هذا الشخص بطريقة فردية ، بل من عمل الروح القدس بواسطة إختيار الكنيسة كلها ؛ لذلك فالأسقف لا يمكن أن يتمتع بأية عصمة شخصية ، فتعاليمه وأفكاره وآراؤه يجب أن تُراجع وتُقارن دائماً مع متعاليم وأفكار وآراء شركائه فى كل موضع ، ( وطبعاً مع طغمة المثقفين والعلماء والمفكرين اللاهوتيين وسط الشعب ) . لذلك فالإجماع على الحق هو علامة جازمة ذات سلطة أمكثر من الرأى المنفرد للأسقف الفرد . كما أن الإكماع من كنائس المسكونة هو أعلى سلطة فى أمور الإيمان .
والمجامع هى التى تُستعلن فيها مشيئة الروح القدس :-
وهنا نعود إلى إظهار أن المفهوم الأرثوذكسى عن الكنيسة هو أساس قيام المؤسسة التى تضبط الحياة فى الكنيسة المسيحية إلا وهى : المجامع . والملاحظات الآتية عن طبيعة المجامع تُظهر لنا بعض النقاط الهامة عن السلطة والسلطان الروحى فى الكنيسة :-
1- المجمع يُعبر عن مشيئة الله :-
المجامع كانت تجمعات الأساقفة المدعوين ليواجهوا مشاكل معينة فى حياة الكنيسة ورسامة أساقفة جدد فى الكراسى الشاغرة ، ومناقشة بعض القضايا التعليمية الطقسية والمختصة بالنظام فى الكنيسة ، ولكنها لم تكن مؤسسات دائمة أو ذات سلطة مفروضة فوق الكنيسة .
والوظيفة الأساسية للمجامع فى الكنيسة الأرثوذكسية تحتلف عن مفاهيم " المجمعيين " فى القرن الرابع عشر لدى الغرب ، الذين فهموا المجمع كمجلس حاكم يخلف ويحل محل البابا الرومانى . ففكرة المجمع الأصلية أنه يأخذ وظيفة " الشهادة " أى الإتفاق على قضية معينة يعبر فيها عن مشيئة الله ، وتقبلها الكنيسة وتختبرها على ضوء الشهادات " السابقة " أى الأسفار المقدسة ، والتقليد والمجامع السابقة .
2- المجمع يحكمه قانون الأغلبية ولكن بشرط :-
المجامع كان يحكمها قانون الأغلبية فى القضايا الكبرى ، والأقلية كان لابد أن توافق على القرار . هذا من الناحية النظرية فقط .
3- بشرط إلتزام الأغلبية جانب الحق الكنسى :-
ولكن غياب الضمانات القانونية لتأمين " حقوق الأقلية " فى القرارات المجمعية لم يكن يعنى أن الأغلبية معصومة عن الخطأ لأنها أغلبية ، فالتاريخ يعرف مجامع عديدة رفضتها الكنيسة فيما بعد وإعتبرتها مزيفة وصدقت على وجهة نظر الأقلية فيها والتى سبق أن أُدينت ، أو حتى على رأى شهود للحق منعزلين . وأمامنا مثل القديس أثناسيوس ومجمع صور الذى أدانه . فالقرار المجمعى يتطلب " القبول " من الكنيسة كلها ليكون معتبراً أنه التعبير عن الحق والتقليد الكنسى . هذا " القبول " لم يكن على هيئة إستفتاء شعبى أو بطريقة الديموقراطية الشعبية ضد أصوات الإكليروس . لكن هذا القبول أو عدم القبول كان يتم بطريقة تلقائية تستعلن فيها الحرية المسيحية حيث لا يمكن لأى سلطة أن تسحق حرية الإنسان فى إعتقاده أو عدم إعتقاده . فأى قرار مجمعى كان يحمل فى طياته " مخاطرة إيمان " . ولم يكن مقبولاً أن تُسحق هذه المخاطرة فى الآخرين . فمجمع خلقيدونية المعتبر مسكونياً لدى معظم الكنائس فى العالم لم يُقبل من الأقلية وهى الكنائس الشرقية . وهكذا أحتمل كُل من الجانبين الخلقيدونيين واللاخلقيدونييمن مخاطرة الإنقسام بإسم الحق كما يراه كل جانب . وهكذا فإن " قبول " المجمع لا يجب أن يُفهم بالمعطيات القانونية ، بل هو يعنى أن السلطة العليا فى الكنيسة هى فى يد الروح القدس نفسه .
4- حتى التأييد الحكومى لقرارات مجمعية خاطئة لا يفيد :-
ثم إن التحالف مع الدولة الرومانية كان يتمضن تعاوناً بين الدولة التى يحكمها القانون وبين الكنيسة التى بنيانها الداخلى لا يقوم على التشريع بل على الأسرار . وقد حاولت الدولة دائماً أن تجبر الكنيسة لأن تعبر عن نفسها بالمصطلحات القانونية التى تفهمها السلطة الرومانية السياسية . وتدريجياً ، بدأت العوامل القانونية البحتة تتسرب ، سواء إلى إجراءات أو إلى قرارات المجامع . إلا أنه فى معظم أمور الإيمان الأساسية لم ينجح الأباطرة فى إجبار الكنيسة الأولى على التعبير عن نفسها بالدقة والإنتظام القانونيين اللذين كانا يمارسان فى مجلس الشيوخ الرومانى .
على أنه فى نظر الدولة كان منتظراً أن تحقق المجامع المسكونية بدقة هذه الوظيفة أى أن تزود الإمبراطور بصيغة واضحة للإيمان تأخذ قوة قانونية وملزمة بموجب تصديق إمبراطورى . ولكن فى واقع الأمر فإن وعى الكنيسة لم يستوعب تماماً هذا الإجراء . فبعض المجامع رُفضت بالرغم من تصديق الإمبراطور . وكانت عمليات رفض قرارات بعض المجامع بسبب عدم إتساقها مع الحق الكنسى المعلن فى التقليد تعنى أن الروح القدس يظل هو السلطة العليا المعترف بها فى تاريخ الكنيسة .
5- عمل الروح القدس يظهر فى قبول الكنيسة لقرارات المجمع :-
ولكن عمل الروح القدس فى تثبيت قرارات المجامع كان يظهر جلياً فى قبول المجامع التى أعتُرف بها أنه " مسكونية " . ولكن أى مجمع مسكونى لم يكن يدعى بأنه يعلن " عقيدة جديدة " بل على العكس فإن كل مجمع كان يؤكد أن قراراته لا تختلف عن تلك السابقة عليه ( راجع مقلاً قانون 7 من أفسس سنة 331 م ) .
كل هذا يشير إلى أن السلطة فى الكنيسة لا هى تكبت الحرية ولا هى تلغيها بل هى تلجأ إليها ، إذ تؤكد دائماً على إقامة الله للعهد الجديد مع الإنسان وبإعلان أن الله حقاً حاضر دوماً فى الكنيسة ، أى حضور الحق الإلهى من خلال المشاركة الحقة من جانب المؤمنين فى إستجلاء وإعلاء وإعلان الحق الإلهى .
لا طاعة عمياء فى الكنيسة الأرثوذكسية :-
لهذا فإن مبدأ السلطة فى الكنيسة المسيحية – كنيسة العهد الجديد – يستبعد تماماً ما يسمى بالطاعة العمياء ، ويفترض وجود المشاركة المسئولة من الكل فى حياة جسد المسيح .
وهذا يتحقق بسبب الطبيعة الشرائرية لجسد المسيح ، حيث تتنوع المواهب والخدمات ، وأولاها موهبة الأسقفية على الأخص ، فهى المسئولة عن تكميل الإستمرار والتلاحم التاريخى مع إنجيل المسيح ( وهذا ما يسمى بالتقليد ) ؛ وكذلك تكميل وتحقيق الشركة بين كل أعضاء الكنيسة مما يحتم المسئولية الجماعية عن هذا الإستمرار والتلاحم فى كنيسة واحدة ذات إيمان واحد ومعمودية واحدة .
3- البعد الإنسانى فى الحرية فى الكنيسة
أن نكون قد " دُعينا للحرية " ( غلا 5 : 13 ) فهذا فى نظر القديس بولس أعظم إمتياز للمسيحيين . وهذه الدعوة تتضمن أن " ينقاد الإنسان بالروح " ( غلا 5 : 187 ) . فالروح القدس والحرية لا يتعارضان ، بل يفترض وجودهما معاً . وهذا الرأى مرتبط بالتعليم الآبائى القائل بالتلازم بين الروح القدس والحرية فى نعمة " المشاركة " فى الحياة الإلهية التى سبق وأوضحناها أنها لازمة ضرورية للمبدأ المسيحى عن السلطة .
والقديس إيرينئوس ينظر إلى الإنسان كجسد ونفس والروح القدس . هذه النظرة التى قد تبدو غريبة على الأسماع – وكأنها تذكر البعض بفلسفة الإغريق القديمة عن " وحدة الوجود " التى تنادى بوحدة الطبيعة والإله – ولكن التعليم المسيحى يُظهر مفهوماً قوياً عن الإنسان يخلو من الإعتقاد الجامد بالطبيعة الطاهرة للإنسان .
فالإنسان خًلق لكى يشارك فى حياة الله ، وهذا ما يجعل الإنسان يختلف عن الحيوانات . وهذا يظهر فى قصة سفر التكوين عن خلقة الإنسان الأول آدم " على صورة الله " . والتعليم الآبائى عن الثيئوسيس ( أو التآليه أو التقديس ) يتضمن أنه لا طبيعة الله ولا طبيعة الإنسان منغلقة على نفسها .
( ذلك لأن المخلوقات غير العاقلة حينما تخضع لسلطان وحدود الطبيعة يكون خضوعها لطبيعة مغلقة ، أى خضوع تسيطر عليه قوة وقوانين الطبيعة ؛ أما الخليقة العاقلة وهى الإنسان فهى تخضع لحدود وقوانين الطبيعة بحرية لكى تسمو وترفع الطبيعة البشرية إلى مستوى الرؤيا التى يراها الشخص " .
فإن كان الله يُرى دائماً أنه فة تسام كامل عن الخليقة وأن طبيعته مختلقة تماماً ولا تمت إلى طبيعة المخلوقات بصلة ، إلا أنه استُعلن موصلاً للإنسان – وعن حرية كاملة – حياته الإلهية . والإنسان بدوره خُلق ليكون مُستقبلاً لهذه الحياة الإلهية والتى بدونها لا يكون الإنيان إنساناً بالحقيقة . فإذا سعى الإنسان لأن يكون كائناً " مستقلاً " وينكفئ على الحياة الدنيوية ، فإنه يفقد – ليس فقط " النعمة " بل ووجوده الحقيقى كإنسان . والخطيئة الأصلية لم تتمخض فقط على عقاب خارجى للإنسان ، أى تجرده من النعمة الفائقة ، بل أسفرت عن فساد الطبيعة البشرية ، إذ فقد الإنسان مصيره وغاية وجوده ، ( وبذلك خضع لقوانين الطبيعة الإنسانية وصار مُستعبداً لها وهذا هو أحد جوانب الفساد ) .
هذه المفاهيم فى غاية الأهمية وأساسية لفهم موضوع الحرية والسلطة فى الكنيسة . فالحرية ، عند القديس غريغوريوس النيصى ( كما يتضح من كتابه " خلقة الإنسان " 16 ) ، هى العنصر الأساى لخلقة الإنسان على مثال الله فى الحرية ، أى أن لا يكون الإنسان مُسيراً ، وهذا هو أهم أساس فى الصفات الإلهية والتى يقتنيها الإنسان " بالمشاركة " . ولكن تمرده على الله جرده من هذه الحرية وجعله عبداً للجسد ، عبداً للجبرية أة للقضاء والقدر ( أى ما آلت إليه طبيعة الإنسان بالخطية فصارت مستعبدة للضرورات لا تملك التفوق عليها ) . وهكذا أصبح الإنسان جزءاً من هذا العالم خاضعاً للنواميس الكونية وعلى الأخص للفساد والفناء والموت والخطية .
ثم أتى التجسد . وكانت غاية التجسد إسترجاع الإنسان فى كرامته الأولى ، أى أن يجعله حراً مرة أخرة . والفرق الحقيقى بين " الإنسان فى المسيح " وبين " آدم العتيق " هو أن الاول " حر " . وهذه الحرية تأتى إليه لا من عملية تحرير قانونية تتركه مرة أخرى فى وجود مستقل عن الله فيُستعبد مرة أخرى للطبيعة البشرية ، بل بمشاركة فى كرامة خالقه ، بحياة جديدة لا تقف فيها الحرية كحرية فى حد ذاتها ، بل كنتيجة للمعرفة الكاملة ، والرؤيا الكاملة ، والإختبار الكامل لمحبة الله وللحق الإلهى وللجمال الإلهى " وتعرفون الحق والحق يحرركم " ( يو 8 : 32 ) .
فمبدأ السلطة فى الكنيسة يمكن فهمه فى إطار تلك التضادة التى يضعها القديس بولس بين " الإنسان الأول " وبين " آدم الأخير " الذى هو رب المجد ( 1 كو 15 : 45 ) . فالسلطة مثلها مثل الناموس مطلوبة فقط طالما يعيش الإنسان فى " اللحم والدم " .وتتصاعد المشلكة جداً بسؤال حول الكنيسة : هل الكنيسة هى مجتمع الإنسان الساقط من النعمة الذى يستبدل الله بالنظام والطاعة لسلطة بشرية ، وكأن هذه السلطة ستمنعه من الإنحدار إلى غوايات العالم ؛ أن أم الكنيسة هى المكان الذى يختبر فيه ، على الأقل جزئياً ، " حرية مجد أولاد الله " ( رو 8 : 21 ) بتأمله وإستيعابه شخصياً وحقاً فى الحق الإلهى وبمشاركته فى هذا الحق ، وبهذا يكون شاهداً للملكوت أمام العالم وهو فى العالم ؟
إننا نأخذ الإختيار الثانى حيث تكون الكنيسة حقاً " ليست سلطة " كما أكد على ذلك خومياكوف فى بدء المقال ، ( بل " فردوساً " و" سماء " أرضية . ) .
4- السلطة والتاريخ
دور الكنيسة ، إذن ، ليس أن تفرض على ذهن الإنسان ما تراه أنه هو الحق ، بل أن تجعله يحيا وينمو فى الروح حتى هو نفسه يمكنه أن يرى بنفسه ويختبر الحق . ومن هنا أتت قوانين الإيمان التى أصدرتها المجامع المقدسة بأقل قدر من التجديدات الإيجابية وبأكثر قدر من التحديدات السلبية Negative ( مثل " مولود غير مخلوق " " غير الزمنى " و " غير المفحوص " و " غير المدرك " " غير المحدود " إلخ . ) وكان قصد هذه التحديدات هو إدانة الهرطقة والإعتقادات الخاطئة . وإن أية محاولة لتحديد الحق الإلهى بالمصطلحات الإيجابية المحددة لن تنجح ، لأن هذا يعنى :
إما أن العقل إستطاع أن يستوعب ويحيط بالله غير المحدود وهذا ما لم يحدث ؛ وإما أن الإنسان يوضع فى موقف المسير حيث يطالب بتصور الله بتحديدات لفظية محددة ويكون فى هذه الحالة أسيراً لهذه التحديدات عن الله غير المحدود . وهذا ما أتى التجسد ليحرر الإنسان من ضيق المفهومات التى سادت فى العهد القديم عن الله . ولكن كرازة الرسل التى سلموها للكنيسة منذ القدم أصبح لابد من التأمل فيها وشرحها فى كل جيل ، ولكن دون إستحداث عقائد جديدة أو تعاليم جديدة .
وتاريخ الكنيسة يُظهر لنا أن الكنيسة كانت تستخدم بإفراز وتمييز شديدين المصطلحات اللغوية السائدة فى العصر لششرح معنى الإيمان الرسولى والكرازة الرسولية الأولى مثل كلمة " هوموؤوسيوس " ( أى مساوٍ للآب فى الجوهر – أو من نفس جوهر الآب ) التى وإن لم ترد فى الإنجيل ولذلك لم يتقبلها كل اللاهوتيين أولاً – إلا أنها فى النهاية سادت وصارت هى المنقذ الأخير للكنيسة من هرطقة آريوس .
إذن ، فالسلطة فى الكنيسة أمر نسبى بمعنى أن الكنيسة تنظر إلى التعبيرات المستعملة فى العالم كمثل نظرتها إلى " العتيق " بالنسبة إلى " الجديد " وإلى " آدم " بالنسبة إلى " المسيح " وإلى " الجسد " بالنسبة إلى " الروح القدس " .
فالكنيسة التاريخية الكنيسة السائرة تجد أنه لا مفر من إستخدام مصطلحات العالم الذى لم يتجدد بعد . ولكن ما يجعل الكنيسة أن تكون حقاً هى كنيسة الله أنها ليست مجبرة على إستخدام هذه المصطلحات إلا إذا كان الفداء يعمل فى داخلها ، فإرساليتها هى أن تجعل الناس يروا ما وراء هذه المصطلحات الخاصة بالعالم الطبيعى ، حتى وهى تستخدمها ، وأن يحيوا فى الله ، فى الحرية ، وعلى الأقل فى الحق المطلق ولو جزئياً .
إن هدف الكنيسة هو تجلى الإنسان بدخوله إلى الملكوت وليس بقاؤه سجين الحدود العقلانية ، هدفها تحرير الإنسان من عبوديته للكون ، هذا التحرير الذى شهد له القبر الفارغ ، أى قيامة المسيح من بين الأموات .
خطأ النظرة الغربية للسلطة فى الكنيسة :-
إن نظرة الكنيسة الغربية فى القرون الوسطى إلى السلطة فى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية أنها سلطة معصومة من الخطأ وأن هذه السلطة هى التى ستحمى وتضمن إستمرارية الكنيسة وتحفظ قوتها ، هذه النظرة مأخوذة من مفهوم أغسطينوس عن الإنسان أنه بالطبيعة خاطئ ومعرض للسقوط وبناء عليه فإنه يرى أن تأسيس الله لسلطة غاشمة معصومة عن الخطأ هو عمل من أعمال محبة الله للإنسان ليحفظه من نفسه ومن أخطائه . ( وبهذه النظرة تكون عصمة الكهنوت من الخطأ سعياً بشرياً مستمداً من الخوف من الخطأ وليس صفة مطلقة والتى لا يحوزها إلا الله والمسيح " من منكم يبكتنى على خطية " ( يوحنا 8 : 46 ) والروح القدس " ومتى جاء ذاك ( الروح القدس ) يبكت العالم على الخطية " ( يوحنا 16 : 8 ) ) .
ثم أتى رد الفعل تجاه هذه النظرة من حركات الإصلاح البروتستانتية التى بدأت بما يسمى حركة الإعتماد على الكتاب المقدس فقط دون التقليد المقدس ، ثم أتت الحركة الخمسينية التى تُغلِّب الحياة الفردية على الحياة الكنسية ، ثم أتت الحركة العلمانية Secularism التى أنكرت العامل الإلهى فى الحياة عموماً . وهكذا أستبدل البروتستانت البابا بالكتاب المقدس وأصبحت السلطة غائبة تماماً عن الكنيسة .
مفهوم ومضمون السلطة فى الكنيسة الأرثوذكسية مستمد من حضور المسيح وسط الكنيسة بالروح القدس :-
أما الأرثوذكسية فهى ترى أنه ليست السلطة هى التى تجعل الكنيسة هى الكنيسة لكن الروح القدس وحده العامل فى الكنيسة كجسد المسيح ، محققاً حضور المسيح سرائرياً وسط الناس وفى الناس . أما السلطة متمثلة فى الأساقفة والمجامع والكتاب المقدس والتقليد فما هى إلا تعبيرات عن هذا الحضور الإلهى للمسيح . لذلك فالسلطة ليست بديلاً عن غاية الحياة فى المسيح التى هى إختبار الحياة فى ملكوت الله الذى أتى بقوة والذى سيأتى فى نهاية الدهور .
هذا الفكر ليس خيالياً ولا تأملياً ، بل هو حقيقة ، لأن مكان الإختبار الشخصى هو شركة القديسين التى تكون الكنيسة والتى تتضمن الإنفتاح بعضنا على البعض والمحبة وإنكار الذات ، وهذا هو الإطار الذى يُبنى عليه التنظيم الكنسى السرائرى للكهنوت .
إن السلطان الروحى لا يكون بفرض معرفة عقلية على الإنسان المسيحى فأمام السؤال : " كيف أعرف ؟ " يأتى الرد المسيحى الصحيح : " تعال وأنظر " .
جون مايندروف
عميد كلية فلاديميراللاهوتية الارثوذوكسية بنيويورك