تدبيرات النعمة ..


"ان الله يعمل بتدبيرات نعمته في جنس البشر بطريقتين، قاصداً أن يحصل في النهاية على ثمرات نعمته".

1- أن حكمة الله، لا نهاية لها وتفوق الفهم ولذلك فانها تعمل بتدبيرات النعمة نحو جنس البشر بما يفوق الفهم ويفوق الفحص وذلك بطرق متنوعة لأجل امتحان ارادة الإنسان الحرة، حتى بذلك يظهر اولئك الاشخاص الذين يحبون الله بكل قلبهم والذين يحتملون بصبر كل نوع من الأخطار والأتعاب من أجل الله.
البعض ينالون النعمة ويتقدمون حالاً
فالبعض تأتيهم نعم ومواهب الروح القدس مقدماً وهم يتقدمون حالاً في الايمان والصلاة، بدون جهد أو عرق أو تعب وهم موجودون في وسط العالم.
ويعطيهم الله النعمة هكذا ليس باطلاً ولا في غير وقتها ولا بمجرد المصادفة، ولكنه يعطيها بحكمة تفوق الوصف وتفوق الفهم وذلك لكي يمتحن الاختيار وحرية الارادة لأولئك الذين قد نالوا نعمة الله بهذه السرعة، وهل شعروا وقدروا الفائدة وأحسوا بصلاح وحلاوة الله التي أظهرت حسب قياس النعمة الموهوبة لهم بدون أي مجهودات من جانبهم والتي حسبوا اهلاً أن ينالوها، وفي مقابل هذه النعمة ينبغي أن يظهروا غيرة واجتهاداً ويركضون في الميدان ويجاهدون ويحملون ثمر الارادة والعزم والحب وان يردوا للرب مقابل المواهب الروحية التي نالوها بأن يعطوا ذواتهم ويسلموها تماماً لمحبة الرب، وبأن يتمموا مشيئته هو وحدها وبأن يتخلوا تماماً عن كل هوى جسدي.
البعض الآخر تتأخر عليهم النعمة
2- وهناك آخرون، الذين رغم انهم تركوا هذا العالم وتخلوا عنه بحسب الانجيل، ويصرفون وقتهم في صلاة مستمرة وصوم وسهر وبقية الفضائل، فان الله لا يعطيهم النعمة في الحال ولا الراحة وفرح الروح بل يتأنى ويؤخر عطيته لهم.
وهذا يفعله الله، ليس باطلاً ولا بدون قصد وليس مصادفة، بل بحكمة تفوق الوصف، لأجل امتحان ارادتهم الحرة، لكي يرى أن كانوا قد حسبوا الله أميناً "وحسبوا الذي وعد صادقاً" (عب 11 : 11)، أن يعطي الذين يسألون ويفتح باب الحياة لأولئك الذين يقرعون، ولكي يرى أن كانوا بعد ايمانهم بكلمته بالحق، هل يصبرون ويستمرون إلى النهاية في ملء ثقة الايمان والاجتهاد، يسألون ويطلبون ولا تخور قلوبهم أو يتراجعون ويكفون، وبعدم ايمان وبدون رجاء يحتقرون الهدف ولا يثبتون إلى النهاية لأن الله قد أخر ميعاد موهبته. وايضاً لأجل امتحان ارادتهم وقصدهم.
3- فان الذي لا ينال سريعاً بسبب تأني الله فانه يشتعل شوقاً أكثر ويزداد رغبة في الخيرات السماوية. ويزداد كل يوم اشتياقاً واجتهاداً، ويزداد ركضاً وسعياً ويزداد في كل فضيلة ويظهر جوعاً وعطشاً إلى ما هو صالح ولا يتعوق بسبب الايحاءات التي تتحرك في نفسه، ولا يتحول إلى الاحتقار واليأس وعدم الصبر، ومن الجهة الأخرى فانه لا يسلم نفسه إلى الكسل تحت ستار التظاهر بالصبر قائلاً مثلاً: "في يوم أو آخر سأحصل على نعمة الله" ومن هنا تغويه الخطية وتقوده إلى التغافل والاهمال.
ولكن ما دام الرب في تأخيره للموهبة انما يتأنى بمحبة ممتحناً ايمانه ومحبته، فينبغي على الإنسان نفسه أن يكون أكثر حرصاً واجتهاداً ولا يكل أو يفشل بل يطلب عطية الله اذ انه قد وثق وتيقن تماماً في نفسه أن الله صادق ولا يمكن أن يكذب، وهو الذي وعد أن يعطي نعمته لأولئك الذين يطلبون بايمان في كل صبر إلى النهاية.
أمانة الله وفحص النفس
4- لأن الله أمين وصادق في تعامله مع النفوس المؤمنة الأمينة، أولئك "الذين قد ختموا أن الله صادق" (يو 3 : 33) حسب الكلمة الصادقة. لذلك فبحسب هذه البصيرة الايمانية في داخلهم، يفحصون نفوسهم ليروا أن كانوا ناقصين من جهتهم في أي ناحية من النواحي: في الجهد، في السعي، في الغيرة والاجتهاد، ام في الايمان ام المحبة أو في بقية اتجاهات الفضيلة وبفحصهم لنفوسهم بكل تدقيق فانهم يغصبون انفهسم بأقصى طاقة عندهم لكي يرضوا الرب، اذ سبق أن آمنوا ووثقوا تماماً أن الله اذ هو صادق وأمين لن يحرمهم من موهبة الروح أن ظلوا إلى النهاية يخدمون الرب ويعبدونه بكل اجتهاد وينتظرونه، وانهم سينالون النعمة السماوية الممنوحة لهم. وهم لا يزالون في الجسد وينالون الحياة الأبدية.
كل حبهم نحو الرب
5- وهكذا فانهم يحركون كل حبهم نحو الرب رافضين كل شيء آخر وناظرين إليه وحده برغبة كبيرة وجوع وعطش كثير. وينتظرون دائماً قوة النعمة المنعشة والمعزية وهم لا يطلبون بارادتهم تعزية أو انعاشاً من أي شيء في هذا العالم ولا يرتبطون به، بل يرفضون دائماً الاغراءات المادية وينتظرون المعونة والحماية والتأييد من الله وحده وفي هذه الحالة يكون الرب نفسه حاضراً بطريقة خفية مع هذه النفوس التي تأخذ على عاتقها هذا النوع من الاجتهاد وعزم القلب والاحتمال، ويساعدهم ويحفظهم، ويثبتهم في كل ثمر الفضيلة.
ورغم انهم يجدون انفسهم معرضين للصراع ورغم انهم لم يتزينوا بعد بيقين الحق ولم تظهر لنفوسهم حالة الحصول على نعمة الروح وانعاش الموهبة السماوية ولم يختبروها اختباراً كاملاً بكل ملئها، وهذا بحسب حكمة الله التي تفوق التعبير واحكامه التي تعلو على الفحص، التي بها يمتحن النفوس المؤمنة بطرق متنوعة بقصد أن يحضرهم إلى محبة كاملة بملء حريتهم واختيارهم.
فانه توجد حدود ومقاييس ومراحل للاختيار الحر ولقصد المحبة ولاتجاه العقل لطاعة كل وصاياه المقدسة بأقصى ما هو مستطاع، وحينما تملأ النفوس مكيال محبتها وطاعتها فانها تحسب أهلاً للملكوت والحياة الأبدية.
ليس عند الله محاباة
6- لأن الله عادل وعادلة هي أحكامه، وليس عنده محاباه ويحاسب كل واحد بحسب النعم المختلفة التي قد منحها للبشر سواء كانت خاصة بالجسد أو بالروح، سواء كانت خاصة بالمعرفة أو الفهم أو التمييز، وهو يطلب ثمار الفضيلة على حسب ما أعطى كل واحد، وهو سيعطي كل واحد حسب ما يستحقه بحسب أعماله. انه سيأتي كما يخبرنا الكتاب "وسيجازي كل واحد حسب أعماله" (رو 2 : 6)
والأقوياء يعذبون عذاباً شديداً لأن الرحمة تغفر للمتواضعين (الحكمة 6 : 6) ويقول الرب: "أما ذلك العبد الذي يعلم ارادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب ارادته فيضرب كثيراً، ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يضرب قليلاً، فكل من اعطى كثيرا يطلب منه كثير ومن يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر (لو 12 : 47 و48)
ولكن المعرفة والفهم هي أنواع مختلفة، سواء كانت بحسب النعمة وموهبة الروح السماوية أو بحسب تعليم الكتب الالهية. وكل انسان يكون مسئولاً عن ثمار الفضيلة بحسب نسبة ما منح له من الله سواء ما منح له طبيعياً أو ما أعطى له بنعمة الله.
لذلك فكل انسان هو بلا عذر أمام الله في يوم الدينونة، لن كل شخص سيطلب منه أن يجيب عن ارادته وقصده بحسب ما قد عرفه عن ثمار الايمان والمحبة وكل فضيلة أخرى في علاقته بالله سواء كانت معرفته عن طريق كلمة الله أو عن طريق سماعها.
7- أن النفس الأمينة المحبة للحق تتطلع إلى البركات الأبدية المحفوظة للأبرار، والى المعونة التي لا ينطق بها، أي معونة النعمة الالهية التي تحل عليها. ولذلك تعتبر نفسها وكل جهدها وآلامها وتعبها انها ليست شيئاً بالمقارنة بمواعيد الروح التي تفوق الوصف.
ومثل هذا الإنسان هو المسكين بالروح الذي أعلن الرب انه مغبوط ومطوب، هذا هو الذي يجوع ويعطش إلى البر (متى 5 : 3 و6) هذا هو المنسحق القلب.
وأولئك الذين يأخذون على عاتقهم هذا القصد، والعزم والاجتهاد والتعب والاشتياق إلى الفضيلة ويثبتون في هذا إلى النهاية، فانه يوهب لهم أن يحصلوا على الحياة والملكوت الأبدي بالحق. لذلك فلا يتشامخ اذن أحد من الأخوة، على أخيه أو يرتئي في نفسه رأياً منتفخاً، بتأثير خداع الخطية لكي يفكر قائلاً مثلاً: "اني قد حصلت على موهبة روحية" لأنه لا يليق بالمسيحيين أن يفكروا هكذا فأنت لا تعرف ماذا سيكون حاله في الغد وأنت تجهل ماذا ستكون نهايته وماذا تكون نهايتك بل ليحترس كل واحد لنفسه ويمتحن ضميره في كل حين ويختبر حركات قلبه من جهة اجتهاده وسعيه من الداخل بكل قلبه إلى الله ويتطلع نحو الهدف الكامل هدف الحرية والتحرر من الشهوات والحصول على سلام الروح، وليكمل سعيه بدون توقف وبلا تكاسل بحيث لا يتكل أبداً على أي عطية روحية ولا على أي بر حصل عليه.
والمجد والكرامة والسجود للآب والابن والروح القدس إلى الأبد آمين.

العظة التاسعة والعشرون من عظات 
القديس مكاريوس الكبير 
ترجمة الدكتور نصحى عبد الشهيد