الشّعوب المحسوبة متديِّنة، عبر التّاريخ، كانت، تَعتبر، أبدًا، أنّ آلهتها تحارب حروبها، وأنّها، أي تلك الشّعوب، تحارب حروب آلهتها.
الغيرة، في الوجدان الدّينيّ التّاريخيّ، كانت تبلغ ذروتها بالقتل باسم الله ومن أجل الله، وباقتبال الموت، في ساحة المعركة، لأنّها معركة الله!
عندما توجّه البابا أوربانوس الثّاني إلى الحملة الصّليبيّة الأولى بالقول: "هذا ما يريده الله!"، جعل نفسَه، روحيًّا، سليل رئيس الكهنة قيافا، الّذي حرّض الشّعب، باسم الله، على أن يصرخوا لدى بيلاطس، في شأن الرّبّ يسوع: "اصلبه، اصلبه... دمه علينا وعلى أولادنا"! تلك كانت ردّة فظيعة إلى الوثنيّة!
لنقلْها بوضوح وببساطة: بعدما كشف مسيح الرّبّ، في ذاته، لنا، الهويّة العميقة لله، أنّه محبّة، بات علينا أن نغيِّر موقفنا التّاريخيّ تمامًا.
أوّلاً: لا أعداء لله!
وثانيًا: كلّ ما سبق أن قيل في شأن حروب النّاس من أجل الله لا يعدو كونه ضروبًا من الإسقاطات البشريّة على الله، والاستعارات الّتي لا يمكن اعتبارها، بحال، تبريرات لنزعة حبّ القتل بين النّاس على أساس أنّ ثمّة قتلاً لله ومن أجل الله!
لعلّنا نظنّ، كما هو شائع، أنّ الوثنيّة تقول بتعدّد الآلهة، فيما الدّيانات الموحِّدة بالإله الواحد. هذا، بعامّة، صحيح، ولو عرفت الفرعونيّةُ، مثلاً، عبادةَ الإله الواحد.
ولكنْ، هذا صحيح في الشّكل لا في المضمون.
ليس الموضوع أنّ الله واحد، فإذا قلتَ به أصبتَ، وإذا قلت بعشر آلهة أو عشرين أو مائة كنتَ عابدَ أوثان. هذا غير دقيق.
الله، أصلاً، لا يُعَدّ ولا يُحصى، لأنّ مَن عدَّ الله فقد حدَّه، ومَن حدَّه أطاحه إلهًا، وعبَدَ مخلوقًا عوض خالق! أمّا الأوثان، في حقيقتها العميقة، فإن هي سوى اختراعات، أو قل تجسيدات لما في قلب الإنسان من نوازع. وما هي الأمور، في قلب الإنسان، الّتي تُعتبر الأوثانُ تجسيدات لها؟
هي ما نسمِّيه نحن، في تراثنا الكنسيّ، الأهواءُ. وهذه لها مشتقّاتها.
فهناك، في الإنسان، ثمانية أهواء أساسيّة فاعلة: الشّراهة والزّنى والبخل والغضب والحزن والكسل والعُجب والكبرياء.
وهناك رأس واحد لهذه الأهواء، منه ينحدر كلّ هوى وإليه يكون مآله. هذا الأصل هو ما نسمّيه "حبّ الذّات" أو "عشق الذّات" أو "عبادة الذّات".
فإنّ ثمّة خللاً حدث في تاريخ البشريّة جعل الإنسان يتحوّل من "حبّ الله" إلى "حبّ الذّات"، ومن "عشق الله" إلى "عشق الذّات"، ومن "عبادة الله" إلى "عبادة الذّات".
وإذا ما صحّ أنّ الكون، كما نعرف ما نعرفه منه، اليوم، نشأ، فعلاً، من انفجار كونيّ هائل، يسمِّيه العلماء "Bing Bang "، فإنّ الإنسان، كما تمثَّل في التّاريخ، إلى اليوم، نشأ من انفجار كيانيّ، من نوع من الـ"Bing Bang " الكيانيّ، نعبِّر عنه، في تراثنا الكنسيّ، بلفظة "سقوط". هذا أبرزَ الإنسان محبًّا لذاته وعابدًا لها، ولمّا يكن، من قبل، كذلك، لأنّ الله سبق فخلق الإنسان، في البدء، حسنًا!
بناء عليه، كانت الوثنيّة، في أساسها، أن يحيا الإنسانُ لذاته وفق حركة الأجرام الفلكيّة الأهوائيّة الدّاخليّة الّتي نجمت عن سقوطه، في قرارة نفسه، ومن ثمّ عن تغرّبه عن الله وفردوسه. أمّا الأوثان الّتي اختلقها، في العالم الخارجيّ الّذي انوجد فيه، فإن هي سوى تصاوير وتعابير، مادّيّة وفكريّة، لآلهته، أي لأهواء نفسه ومشتقّاتها، الّتي صار خادمًا لها وعابدًا، من دون الله، وصولاً إلى عبادة الإله الجديد الأكبر لديه الّذي هو ذاتُه! عمليًّا، في اندراج الإنسان في حركة عبادة الذّات هذه يجده في خطّ الشّيطان، الّذي هو معلّم عبادة الذّات، ومَن بثَّ، تحت علامة الحيّة، كما ورد في سِفر التّكوين، فِكرَ وهوى ونَفَسَ عبادة الذّات في الإنسان! بذلك انوجدت البشريّة الشَّرود، في انصرافها عن الله، مرَوِّجةً لفكر الشّيطان وعابدةً له وخادمة في العالم!
إلامَ يبلِّغنا هذا التّحديد للأمور؟
إذا لم يكن الله ليُعَدّ، فما معنى القول إنّ الله واحد؟
معناه أنّه كامل. وحده الكامل واحد، بسيط، ولا يتجزّأ. وكيف يتجلّى كمال الله بعدما كشفه الرّبّ يسوع المسيح، في ذاته، لنا؟ في المحبّة!
الله، كما عرفناه، كامل لأنّه محبّة كاملة. كلّه محبّة! لم يُقَل عنه إنّه يُحِبّ، بل إنّه محبّة. هذا لأنّ المحبّة ليست لديه صفة أو ميزة.
عند النّاس، الإنسان كيان ذو صفات أو مزايا. عند الله الأمر يختلف. الكيان والمحبّة واحد! الله محبّة متكوننة، متأقنمة (من أقنوم أي من شخص).
محبّة الله كيانُه، إيّاه. لذا قيل: "الله محبّة"! هذا ليس توصيفًا. هذا تحديد لله، لا في ذاته، طبعًا، لأنّه فوق أن يُحَدّ، بل في كشفه ذاتَه لنا، وفيما بيننا.
إمّا أن نعرف الله محبّةً وفي المحبّة أو لا نعرفه البتّة! مَن يحبّ يعرف الله، ومَن لا يحبّ لا يعرف الله، قالت رسالة يوحنّا الأولى.
على هذا، مَن وحَّد الله فقد عرفه محبّةً وأحبّه حبًّا كاملاً، لا نقص فيه ولا زغل. أحبّه بالمحبّة الّتي أحبّه الله بها! هكذا يتجلّى الإيمان بالإله الواحد بين النّاس، وإلاّ لا معنى لإيمانهم ولا قيمة. كلامًا في الهواء، إذ ذاك، يكون! ومتى أحبّ المرءُ اللهَ من كلّ القلب ومن كلّ النّفس ومن كلّ الذّهن ومن كلّ القدرة، أحبّ قريبه، تلقاءً، كنفسه. أتحده بذاته. بغير هذه المحبوبيّة، كلّ إيمان تنظير قاتل!
وما الإيمان بتنظير بل علاقة حيّة بالله، تتجلّى ثقةً به واتّخاذًا لكلمته وتسليمًا له وسلوكًا في إثره بغير تثريب! بعد ذلك، تحقّ الشّهادة أنّ الله واحد لأنّنا نكون قد عرفناه واحدًا كاملاً، بمحبّتنا له، في المحبّة! تكون محبَّته لنا قد ملأتنا محبّة له ولأحدنا الآخر وجعلتنا واحدًا. في نهاية المطاف، المحبّة نعمة من فوق، تُعطى لمَن يريد ويطلب أن يسلك في وصايا الله!
مَن هم أعداء الله، والحال هذه؟ ليس لله أعداء بل أحبّاء، وإلاّ ما أوصى الرّبُّ يسوع بأن "أحبّوا أعداءكم"! الإنسان يعادي الله. الله لا يعادي أحدًا. ومن ثمّ، لا يقتل ولا يكلِّف أحدًا بالقتل باسمه! مَن كان لله كان مثلَه في تعاطي المحبوبيّة. ومَن لا يحبّ أعداءه ليس في الله ولا منه ولا له!
أكثر مَن يُزعَم أنّهم أعداء الله هم ضحايا الجهل والغرور! لذلك، هم، بالأحرى، ضالّون لا أعداء. كيف يكونون أعداء لله وهم لا يعرفونه، إلاّ إذا قلت: "الإنسان عدوّ ما يجهل"؟ جهلهم، إذ ذاك، فكريًّا يكون، وما الله بفكرة. هؤلاء أعداء مَن يتصوّرون أنّه الله وليس هو إيّاه! لذا عداوتهم لله لغوٌ صبيانيّ! "قال الجاهل، في قلبه، ليس إله"! أكثر مواقفهم ردود فعل على رموز لله فاسدة في مجتمعهم أو التّاريخ؛ ولعلّها صدى لتنشئة لم تكن سويّة أو قويمة! التّشويه لديهم، إذ ذاك، مردّه الانحراف المتناقَل بقوّةِ المؤسّسات الاجتماعيّة! الاتّجاهات، في وجدان الإنسان، أقوى من المنطق!
ولكنْ، إذا كان لا بدّ لنا من أن نتكلّم على أعداء لله، بالمعنى الصّارم للكلمة، فهؤلاء إلى أهل بيت الله ينتمون!
هؤلاء في الكنيسة وليسوا منها. لهم مظهر كنسيّ لكنّهم خوارج. يعرفون الله بأقوالهم وينكرونه بأفعالهم، لا عن ضعف بل عن فساد في الطّويّة! يعبدونه بشفاههم ويمسخونه بقلوبهم.
ورد الكلام عليهم في الأسفار المقدّسة أنّهم محبّون لأنفسهم، غير محبِّين للصّلاح. يحبّون المال. متعظِّمون، مستكبرون، دنسون. بلا حنوّ ولا رضى ولا نزاهة. حسّاد. شرسون. خائنون. ضامرو الحسّ. محبّون للذّات دون محبّة الله. لهم صورة التّقوى، لكنّهم منكرون قوّتها. لا حرمة لديهم لا لتعليم ولا لقانون ولا لعبادة. نفسانيّون لا روح لهم. مزاجيّون، أهوائيّون. محابون للوجوه من أجل المنفعة (يهوذا 16). مستهزئون، سالكون بحسب شهوات فجورهم. أناس فاسدة أذهانهم ومن جهة الإيمان مرفوضون ( 2 تيموثاوس 3). خوف الله ليس أمام عيونهم (مزمور).
هؤلاء ولو قالوا بإله واحد، وعبّروا بالكلام عن العقيدة قويمًا، فلا يصلحون شهودًا لله. شهادتهم زور لأنّهم يعبدون جمًّا من الآلهة ويقيمون ربوة من الأوثان. مجدُهم إلههُم. بطنُهم إلههُم. مالُهم إلههُم. شبقهُم، ألعابُهم، أفكارُهم، اختراعاتُهم، رغائبُهم... لا عدّ لأوثانهم لأنّ أهواءهم جبٌّ لا قرار له! هؤلاء ولا أيسر لهم أن يتعاطوا قتلَ الأجساد باسمِ الله ومن أجل الله، ادّعاءً، لأنّهم إذ عبدوا ذواتِهم ألغَوا الله فيهم وفتكوا بعباده؛ وحلّلوا، لفساد قلوبهم، الفسادَ والإفساد، واستغلّوا ما ومَن وقع، في الأرض، تحت أيديهم!
هؤلاء وحدهم أعداء الله ومشوِّهو صورتِه ومزوِّرو روحِه والعابثون بكلمته، الّذين مجدُهم في خزيهم، ويُسَرُّون بالّذين يَفسدون؛ الّذين يُجدَّف على اسم الله بسببهم! أمّا مساكين الأرض الّذين قُتلوا ويُقتَلون باسم الله فعديلُهم وكافلُهم ابنُ الله، ولو كثرتْ خطاياهم، لأنّه زعيم المقتولين باسم الله، الآتي ليخلِّص ما قد هلك! إذا ما كان جوفُ أعداء الله جبَّ موت، فأحشاء مسيح الرّبّ رحمات تضمّ كلّ المظلومين المضلَّلين في الأرض!
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما