ما سوف أقدمه هو المفهوم الأرثوذكسي للخطيئة الجدّية المتفق مع جوهر التراث المسيحي الشرقي المستقيم الرأي
ليست الخطيئة الجدّية خطيئة إنسان فرد انتقلت فى ما بعد إلى ذريته. إنما هى خطيئة الإنسانية كلها فى تاريخها الراهن. فإن " آدم" (ومعنى هذ العبارة: الترابى). قد خُلِق كحالة وسطى بين العالم الطبيعى والعالم الروحى، خلق من نفس وجسد. فهو من ناحية يرتبط بالعالم الطبيعى من جهة الجسد الترابى، ومن جهة أخرى ينتسب إلى العالم الروحى من جهة بدئه الروحى.
فالإنسان خُلق مغايرًا لجميع المخلوقات الأخرى. فبينما أن جميع الحيوانات خُلقت نفسًا وجسدًا من عناصر أرضية، وبأمر إلهى. فبالنسبة للإنسان: فقد خلق الله آدم كما جاء فى سفر التكوين
(وَجَبَلَ اَلرَّبُّ اَلإِلَهُ آدَمَ تُرَاباً مِنَ اَلأَرْضِ وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً) (تكوين 2: 7).
وخُلقت المرأة من ضلعٍ من أضلاعه:
(فَأَوْقَعَ اَلرَّبُّ اَلإِلَهُ سُبَاتاً عَلَى آدَمَ فَنَامَ فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأ مَكَانَهَا لَحْماً. وَبَنَى اَلرَّبُّ اَلإِلَهُ اَلضِّلْعَ اَلَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ اِمْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ. فَقَالَ آدَمُ: { هَذِهِ اَلآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هَذِهِ تُدْعَى اِمْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ اِمْرِءٍ أُخِذَتْ}) (تكوين 2: 21 - 23).
وهكذا تتبدى لنا العلاقة الوثيقة التى تربط الإنسان بالأرض وبالله. وما تميزت به طبيعته الجسدية والروحية. والمفهوم المسيحى السليم للإنسان، أنه يتكون من الروح والجسد مع، فى وحدة وتنسيق وانسجام وترابط وثيق.
ومن العقائد الأساسية فى الكنيسة المسيحية أن الجنس البشرى يرد فى أصله إلى " آدم وحواء" فهما يمثلان الإنسانية كلها (وقد كان من عادات الشرق القديم أن تسمّى الذرية باسم الشخص الذى كان يُعتقد أنها تحدّرت منه: فمثلاً: كلمة " إسرائيل"، وهى لقب أُعطى ليعقوب، أصبحت تشير إلى ذريته كله، إلى الشعب الإسرائيلى عبر التاريخ، الذى ينتسب إلى يعقوب كما إلى أصله).
وهذه العقيدة يشهد بها الكتاب المقدس، وهى أصل لازم وسابق للخلاص:
(دَعَا آدَمُ اِسْمَ اِمْرَأَتِهِ « حَوَّاءَ» لأَنَّهَا أُمُّ كُلِّ حَيٍّ) (تكوين 3: 20).،
(وَجَبَلَ اَلرَّبُّ اَلإِلَهُ آدَمَ تُرَاباً مِنَ اَلأَرْضِ وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً.. فَأَوْقَعَ اَلرَّبُّ اَلإِلَهُ سُبَاتاً عَلَى آدَمَ فَنَامَ فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأ مَكَانَهَا لَحْماً) (تكوين 2: 7، 21).،
(وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ اَلنَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ اَلأَرْضِ وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ اَلْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ) (أعمال الرسل 17: 26).،
(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ وَهَكَذَا اِجْتَازَ اَلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ اَلنَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ اَلْجَمِيعُ. فَإِنَّهُ حَتَّى النَّامُوسِ كَانَتِ الْخَطِيَّةُ فِي الْعَالَمِ. عَلَى أَنَّ الْخَطِيَّةَ لاَ تُحْسَبُ إِنْ لَمْ يَكُنْ نَامُوسٌ. لَكِنْ قَدْ مَلَكَ اَلْمَوْتُ مِنْ آدَمَ إِلَى مُوسَى وَذَلِكَ عَلَى اَلَّذِينَ لَمْ يُخْطِئُوا عَلَى شِبْهِ تَعَدِّي آدَمَ اَلَّذِي هُوَ مِثَالُ اَلآتِي. وَلَكِنْ لَيْسَ كَالْخَطِيَّةِ هَكَذَا أَيْضاً اَلْهِبَةُ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ وَاحِدٍ مَاتَ اَلْكَثِيرُونَ فَبِالأَوْلَى كَثِيراً نِعْمَةُ اَللهِ وَاَلْعَطِيَّةُ بِالنِّعْمَةِ اَلَّتِي بِالإِنْسَانِ اَلْوَاحِدِ يَسُوعَ اَلْمَسِيحِ قَدِ اِزْدَادَتْ لِلْكَثِيرِينَ. وَلَيْسَ كَمَا بِوَاحِدٍ قَدْ أَخْطَأَ هَكَذَا اَلْعَطِيَّةُ. لأَنَّ اَلْحُكْمَ مِنْ وَاحِدٍ لِلدَّيْنُونَةِ وَأَمَّا اَلْهِبَةُ فَمِنْ جَرَّى خَطَايَا كَثِيرَةٍ لِلتَّبْرِيرِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ اَلْوَاحِدِ قَدْ مَلَكَ اَلْمَوْتُ بِالْوَاحِدِ فَبِالأَوْلَى كَثِيراً الَّذِينَ يَنَالُونَ فَيْضَ النِّعْمَةِ وَعَطِيَّةَ اَلْبِرِّ سَيَمْلِكُونَ فِي اَلْحَيَاةِ بِالْوَاحِدِ يَسُوعَ اَلْمَسِيحِ. فَإِذاً كَمَا بِخَطِيَّةٍ وَاحِدَةٍ صَارَ اَلْحُكْمُ إِلَى جَمِيعِ اَلنَّاسِ لِلدَّيْنُونَةِ هَكَذَا بِبِرٍّ وَاحِدٍ صَارَتِ الْهِبَةُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ لِتَبْرِيرِ الْحَيَاةِ) (رومية 5: 12 18).
(أَلَيْسَ أَبٌ وَاحِدٌ لِكُلِّنَا؟ أَلَيْسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ خَلَقَنَا؟) (ملاخى 2: 10).
فحسب الكتاب المقدس، فإن حالة الإنسان الأصلية كما يتبين لنا مما قاله سفر التكوين فى:
(رَأَى اَللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً. َكَانَا كِلاَهُمَا عُرْيَانَيْنِ آدَمُ وَآمْرَأَتُهُ وَهُمَا لاَ يَخْجَلاَنِ) (تكوين 31: 3، 2: 5).،
لا يمكننا أن نستنتج أن آدم خُلق فى حالة مطلقة من الكمال الأخلاقى والفكرى.
أن الآية الأولى لا تتحدث عن الكمال الأخلاقى والفكرى للإنسان، بل تشير إلى أن حالة الإنسان الأولى قد صيغت وشُكّلَت بحيث تلائم الغاية التى خلق من أجلها الإنسان.
والآية الثانية، أيض، لا تشير إلى الكمال المطلق للإنسان الأول (آدم) بل إلى حالة البر التى خُلق عليها الإنسان قبل التفتح الخلاقى لقواه.
ثم أن بولس الرسول يقول:
(وَتَلْبَسُوا الإِنْسَانَ اَلْجَدِيدَ اَلْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اَللهِ فِي اَلْبِرِّ وَقَدَاسَةِ اَلْحَقِّ) (أفسس 4: 24)
لا يشير على آدم الأول، بل إلى الإنسان الجديد كما يتضح من:
(هَكَذَا مَكْتُوبٌ أَيْضاً: { صَارَ آدَمُ الإِنْسَانُ الأَوَّلُ نَفْساً حَيَّةً وَآدَمُ الأَخِيرُ رُوحاً مُحْيِياً }. لَكِنْ لَيْسَ الرُّوحَانِيُّ أَوَّلاً بَلِ الْحَيَوَانِيُّ وَبَعْدَ ذَلِكَ الرُّوحَانِيُّ. الإِنْسَانُ الأَوَّلُ مِنَ الأَرْضِ تُرَابِيٌّ. الإِنْسَانُ الثَّانِي الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ. كَمَا هُوَ التُّرَابِيُّ هَكَذَا التُّرَابِيُّونَ أَيْضاً وَكَمَا هُوَ السَّمَاوِيُّ هَكَذَا السَّمَاوِيُّونَ أَيْضاً. وَكَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ التُّرَابِيِّ سَنَلْبَسُ أَيْضاً صُورَةَ السَّمَاوِيِّ.) (ا كورونثوس 15: 45 - 49).
هنا يميز الرسول بولس بين الإنسان الأول - كإنسان ترابى - تقوم حياته على أسس طبيعية، وبين آدم الثانى الذى منه يبدأ ملكوت الروح. وهو أمر لم يكن من الممكن أن يحققه بسبب الخطيئة. ولكنه يتحقق فى المسيح يسوع.
ومن أجل ذلك فإن الآباء يؤكدون بكل قوة نسبية الكمال الذى خُلق عليه الإنسان الأول، ويقارنون فى تعاليمهم بين الحياة على مستوى آدم الأول، وبين الحياة فى الرب يسوع المسيح. كذلك يميزون بين " حسب الصورة" و" حسب الشبه".
وهذه العلاقة يصيغها القديس باسيليوس الكبير صياغة فلسفية، فيلاحظ أن الصورة ليست شيئًا آخر غير الشبه بالقوة (Dunamei)، وأما الشبه فهو الصورة بالفعل (Energeia). وعندما يقارن الآباء بين الخلقة والفداء، فإنهم يرون بوجه عام أن الفداء بالمسيح يسوع هو استحضار وإعادة بناء صورة الله فى الإنسان..
فالقديس غريغوريوس النيصى يقول: " أن نعمة القيامة ليست إلا إعادة الإنسان إلى حالته الأصلية" (Apokatastasis). فإنهم يشددون على القول بأن حالة الإنسان الأول فى الفردوس لم تكن كاملة.
ولكن كان ينقصها هبة البنوة والحياة الروحية فى المسيح والتى صارت لنا فيما بعد بالفداء. وعلى ذلك فإن آدم خُلق لكى ينمو فى الحياة الروحية ويصير قديسا وبارًا متشبها بالله. وفى هذا يتعارض الفكر الأرثوذكسى مع الفكر البروستانتى الذى يرى أن الإنسان خُلق كاملاً جسدًا وعقلاً.
ولو أن الإنسان - كما يقول البروستانت - خُلق كامل، فكيف نفسر سقوط الإنسان وهو كلى القداسة؟.
ويذهب الكاثوليك إلى القول: بان البر الذى كان لآدم الأول، هو هبة فوق الطبيعة، بينما يذهب البروستانت إلى القول بأنه بأنه كائن فى التكوين الطبيعى للإنسان.
وكلا الرأيين يجانبان الصواب.
فالكاثوليك يربطون البر بجوهر الإنسان رباطا خارجيا ميكانيكيا.
وهذا يقتود إلى البيلاجية، والتى بحسبها لا تفترق حالة الإنسان قبل وبعد السقوط.
ومن ناحية أخرى، يجعل الخطيئة الأصلية مجرد فقدان للهبات المضافة، ويؤدى إلى القول، بانه منذ البداية، لا يوجد تناسق وتناغم بين الجسد والروح، وأن الجسد والروح يوجدان من البداية فى حالة صراع.
وأما البروستانت، فإذا كان من الصواب أنهم وضعوا البر الأصلى فى الطبيعة، فإنهم أخطأوا فى إبعادهم النعمة الإلهية التى بها تتقوى الطبيعة البشرية.
ولا يمكن القول بأن الإنسان فى الفردوس، من حيث هو تام الصلاح والبر، ليس فى حاجة إلى نعمة الله. إن ما يُروى فى سفر التكوين على أنه حصل لآدم، إنما يمثّل لما تعيشه الإنسانية التاريخية كلها. بعبارة أخرى ليس آدم سببا لمأساة البشرية، إنما هو صورة لهذه المأساة.
2- إنها عبارة عن موقف هو أصل كل الخطايا
لذا فالأصح استعمال عبارة " الخطيئة الأصلية" بدل عبارة " الخطيئة الجدّية".
إذ أن الخطيئة فى آدم ليست خطيئة ارتكبها هو فانتقلت منه إلين، ليست خطيئة موروثة عن الجدّ الأول، إنما تمثّل الموقف الذى هو، لدى كل إنسان، سواء الآن وفى فجر الإنسانية، أصل الخطايا كلهتا وجُذرها.
3- هذا الموقف هو محاولة الاكتفاء بالذات
ما هو هذا الموقف؟.
إنه محاولة الإكتفاء بالذات. إنه، كما يقول اللاهوتى الأرثوذكسى الكبير " أوليفيه كليمان": انحراف نرجسى للحب المخلوق. أى تركيزه المهووس والمهلك على الذات. إنه إرادتى بأن أمتلك ذاتى عوض أن أتقبل ذاتى هبة من آخر.
فى حين أن الخبرة الإنسانية بمجملها تبين أننا إنما بالآخرين نوجد.
فالطفل لا يتلقى الحياة وحسب من والديه، إنما هو بحاجة إلى حبهما ليستمر فى الوجود ولينمو على كل الأصعدة من جسدىّ وعقلىّ ونفسىّ.
هذا وإننى محتاج، طيلة حياتى، إلى محبة الآخرين وتقديرهم وثقتهم كى أحيا وأنمو وأنطلق وأسعد.
وموقف الإكتفاء الذاتى الذى هو صلب " الخطيئة الأصلية" هو أن أريد الاستيلاء على الحب وجعله ملكا لى أتصرف به كيفما أهوى، فى حين أن الحب لا يؤخذ أخذًا بل يُقبل هبة من آخر. هذا ما عبر عنه قطف آدم للثمرة الوحيدة التى حُرّمت عليه فى الجنة، بينما كانت الأشجار كلها موضوعة مجانا تحت تصرفه.
إنها إرادة الإنسان بأن يكون هو نفسه المنبع الأول لكل شئ ومصدره، عوض أن يكون فى تواصل مع هذا المنبع يستمد منه وجوده ويتلقى منه الكائنات كلها.
لماذا محاولة الاكتفاء بالذات هذه؟.
إنها نابعة من حذر أساسى حيال الآخر. إذ، نتخيله، على صورتن، كائنا يكتفى بذاته ولا يرى فى غيره من الكائنات سوى ذريعة لتسلطه ومتعته المنفردَين.
فنحاول أن نقلّد هذه الاكتفائية بعد أن نكون أسقطناها زورًا على الله وألطقناها به، فى حين أنها غريبة بالكلية عن الإله الثالوثى، الإله المحبة، وأنها بالفعل صورة شيطانية عن الله. لذا نرى الشيطان بصورة الحية، فى رواية سفر التكوين، يقدمها لآدم وحواء على أنها نموذج إلهى يحسن الاقتداء به:
(بَلِ اَللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ اَلْخَيْرَ وَاَلشَّرَّ)(تكوين3: 5). هذه الإكتفائية التى تدفعنى إلى اعتبار ذاتى مصدرًا لكل شئ هى التى يعبر عنها سفر التكوين بعبارة " معرفة الخير والشر":(وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ اَلْخَيْرَ وَاَلشَّرَّ) (تكوين3: 5). والمقصود بالطبع ليس التمييز بين الخير والشر - وهو من خصائص العقل الممنوح للإنسان على صورة الله - بل سلطان تقرير ما هو الخير وما هو الشرّ. أى التحكم بالمقاييس الخلقية وفق الهوى.
4- إنه يرتبط بخوف الإنسان من الموت
هذا الموقف الإكتفائى، الذى يشكّل، كما قلن، جوهر" الخطيئة الأصلية" مرتبط، لدى الإنسان، بخوف من الموت. ذلك أن الإنسان يطمح ويتوق بطبيعته إلى اللامتناهى، ولكنه يصطدم، فى الواقع، بمحدودية كل شئ، تلك المحدودية التى يشكّل الموت تعبيرها الأقصى.
هذا التناقض بين واقع الإنسان وتوقه أمر لا مناص منه، والله يخاطب عبره الإنسان ليقول له أن معنى وجوده لا يمكن أن يكون فى ذاته هو، إنما هو فى الله، وأنه لا يستطيع بذاته أن يبلغ ملء ذاته، إنما ينبغى له أن يتلقّى هذا الملء مجانا من الله، وذلك عبر اعترافه العميق بمحدوديته.
هذا هو " الفقر الروحى": (طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ)(متى 5: 3) ووضع رجائه فى الله وحده.
ولكن الإنسان، وقد ضعضعه وبلبله التناقض الذى يعانى منه، يتصوّر بأن الله يتلاعب به، فيبتعد عنه ويحاول أن يجد لتناقض وجوده حلاً هو بالفعل أسوأ الحلول. ألا وهو بأن ينكر محدوديته ويتخيل بأن بوسعه أن يسعد ذاته بذاته، بمعزل عن الله.
هكذ، ينحصر ضمن جدران عزلته، يغلق على ذاته دون الله، وبالتالى دون سائر الكائنات إذ لا يرى فى هذه إلا ذرائع لمتعته وتملكه وسلطانه بدل أن يتعامل معها بمحبة ورعاية واحترام لأنها مثله خلائق الله.
بهذه الإكتفائية يتوهّم الإنسان بانه اكتسب مناعة ضد الموت، وأصبح بمأمن من خطره. فى حين أنه، بالحقيقة، ينقاد بها إلى لعبة الموت من حيث لا يدرى.
ذلك أنه بانقطاعه عن الله وعن الكائنات خلائقه - تلك التى لا يستطيع أن يقبلها على حقيقتها إلا إذا تقبلها من الله، أى تقبلها هبة إليه وليس ملكا له فى حال من الأحوال - بهذا الانقطاع يجعل نفسه بمعزل عن منابع الحياة، يحرم نفسه من فرح المشاركة وغناه، يجفّ ويختنق روحي، يصبح بالفعل ميتا وهو لا يزال على قيد الحياة، يجهض تحقيق إنسانيته، يقيد ذاته ويستلبه، وبعبارة واحدة:
(وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ) (عبرانيين 2: 15).
أى الذى جعل نفسه (الإنسان) فى العبودية خوفا من الموت. أى أنه (الإنسان) يعيش روحيا كالأموات لأنه لم يجرؤ على مواجهة واقع فنائيته.
ولكن هناك لحظات تنتاب هذا الإنسان بين الحين والحين، فينقشع فيها الوهم وتواجهه الحقيقة فى كل عريها.
وإذ، بالموت الذى يحاول عادة أن يتناساه، يتراءى له على أنه نهاية حتمية لوجوده تلقى بظلها الثقيل على كل ذلك الوجتود وتفضح تفاهة السدود التى نُصبت بغية الإحتماء منها:
(فَقَالَ لَهُ اَللهُ: يَا غَبِيُّ هَذِهِ اَللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ فَهَذِهِ اَلَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟) (لوقا 12: 20). إنها لحظات يائسة يتراءى له الموت فيها كارثة لا تُعوَّض، لأنه، بانقطاعه عن الله، حرم نفسه من الرجاء وترك للموت الكلمة الأخيرة.
ذلك هو المعنى المزدوج للتحذير الوارد فى سفر التكوين: (لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ) (تكوين 2: 17). أى:
أ - أن الإنقياد إلى موقف الاكتفائية يجعل من الحياة نفسها ضربا من الموت، موتا وجوديا..
ب - أنه يجعل من الموت الجسدى كارثة نهائية لا تعوّض.
هذا وأن اختبار الموت على هذه الصورة على أنه نهاية مطلقة للوجود ومفرغا إياه من أى جدوى، ذلك الاختبار الذى هو، كما رأين، وليد محاولة الإكتفاء بالذات، قد يقود من جهته إلى التمادى فى تلك المحاولة.
ذلك أن إحساس الإنسان بأنه سجين " نهائية مغلقة"، يتعارض بعنف مع " غريزة الأبدية" التى زرعتها فيه صورة الله. فيندفع، نتيجة تلك المعاناة، إلى مزيد من الإنحراف بغية التهرب من مواجهة بؤسه، فيهرب، كما علّم الآباء، إلى الطمأنينة الزائفة التى يستمدها من الانقياد إلى الأهواء، متوهما من خلاله، أنه امتلك المطلق واكتفى بذاته. فى حين أنه لا يتوصل بالفعل، عن هذه الطريق، إلا إلى تعميق اغترابه وبالتالى مأساته. مما يدفعه إلى تكرار محاولته اليائسة للاكتفاء الذاتى.
وهكذا دواليك فى دوامة جهنمية يَضْحى أسيرها.
5- ما معنى " انتقال" الخطيئة الجدّية؟
ليست القضية - كما سبق وبينا - قضية خطيئة ارتكبها أحد الأسلاف وانتقلت منه إلينا. فالإنسان، فى المنظور الأورثوذكسى لا يولد مذنبا. إنما هى قضية مناخ خطيئة نولد فيه وننشأ ونحيا.
إن المواقف المؤذية التى يتخذها الأهل والمربون، والعلاقات الإنسانية المشوهة والمفسدة بالكذب والاستعلاء والجور والاستغلال والكراهية والحسد وما شابه ذلك، والبنى الاجتماعية والسياسية الظالمة، وكل ذلك يطبعنا منذ نعومة أظارنا ويدفعنا بدورنا إلى ارتكاب أغلاط وأخطاء وآثام تضاف بدورها إلى سلبيات الإنسانية فتثقلها. إن البشرية لشبيهة بجسم حىّ تترابط كافة أعضائه وتتأثر بعضها ببعض. بما أننا، كما يقول الرسول بولس: (أَعْضَاء بَعْضُنَا لِبَعْضٍ)، فإننا متضامنون مع الجنس البشرى من حيث الأخطاء التى راكمها عبر تارخه المأساوى.
6- ما معنى " السقوط"؟
بالواقع، وخلافا لتصوّر شائع - برز بنوع أخصّ فى الكثلكة التقليدية - لم يكن هناك أولاً كمال تمتع به آدم. ثمّ خسره بعد ذلك وخسره من جرّاءه الإنسان.
ليست القضية قضية تعاقب زمنى. إن صورة " ما قبل" و" ما بعد"، كما وردت فى قصة الخلق فى سفر التكوين، تترجم بالواقع وجهين للوضع البشرى هما بمثابة وجهين لعملة واحدة. فما هو " قبل" يمثل رغبة الله بالنسبة للإنسان، المصير الذى أعده له والذى زرع إمكانية تحقيقه فى صميم الكيان البشرى (تلك هى صورة الله فى الإنسان).
ولكن هذه الرغبة الإلهية لم تتحقق حتى الآن فى حيز الواقع، إنما تحقيقها - الذى دشّن فى الكلمة المتجسد يسوع المسيح عبر حياته وصليبه وقيامته وصعوده - سوف يتم فى نهاية الأزمنة، بعد صيرورة طويلة ومخاض عسير يترتب فيه الإنسان أن يستثمر بنفسه مواهب الله، أن يصنع نفسه إذا صحّ التعبير، إنما عِبرَ تقَبل ذاته من الله وتحقيق الطاقات التى يوقظها الله فيه. ذلك هو معنى التمييز بين " الصورة" و" الشبه" كما أوضحه التقليد الآبائى الشرقى.
فالإنسان، أصلاً وأساسً، " صورة الله"، ولكن هذه الصورة لن تتحقق، لن يصبح الإنسان " على شبه الله ومثاله" فعل، إلا عبر صيرورة ومعاناة تتطلب مساهمته الحرّة وجهده المتواصل. بعبارة أخرى، ينبغى للإنسان أن يجد ذاته الحقيقية عبر رحلة طويلة وشاقه، محفوفة بالأخطار.
فالكنيسة الأرثوذكسية ترفض كل عقيدة للنعمة تنقص من حرية الإنسان.
وتستعمل الكنيسة تعبير (SYNERGEIA) و" التآزر" للتدليل على الصلات بين النعمة الإلهية وحرية الإنسان. والرسول بولس يقول:
(فَإِنَّنَا نَحْنُ عَامِلاَنِ مَعَ اَللهِ وَأَنْتُمْ فَلاَحَةُ اَللهِ بِنَاءُ اَللهِ) (1 كورونثوس 3: 9).
فليس بوسع الإنسان أن يحقق الشركة الكاملة مع الله بدون مساعدة الله، ولكن ينبغى له أن يساهم هو أيضا فى هذه العملية. وعلى الرغم من أن ما يفعله الله أعظم بكثير مما يمكن ان يفعله الإنسان، فإن عليهما كليهما الإسهام فى العمل المشترك. فالله ينتظر الإنسان كى يفتح الباب (هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي) (رؤ 3: 20)
فهو لا يحطمه. ونعمة الله تدعو الناس جميعًا لكنها لا ترغم أحدًا.
فالإنسان بوسعه أن يعثر على الله إذا ما نظتر إلى صميم قلبه هو، إذا عاد إلى نفسه لأن: (وَلاَ يَقُولُونَ: هُوَذَا هَهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ لأَنْ هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ) (لوقا 17: 21).
الدكتور كوستى بندلى