أن إعلان الله الشخصي عن ذاته قد تمّ عبر ظهورات إلهية، بطرق مختلفة أمام البطاركة والأنبياء في العهد القديم، وبصورة خاصة بواسطة ابنه المتجسد في العهد الجديد (عب1: 1-2).
فهل يمكن لله أن يظهر طبيعته الإلهية للبشر أو للملائكة؟ وهل يمكن لهؤلاء أن يروه وأن يعرفوه وأن يصنعوا شركة معه؟
التضاد في تعابير الكتاب المقدس والآباء عن رؤيا الله والشركة معه: على التساؤلات المتعلقة بهذا الموضوع يجيب الكتاب المقدس بعبارات متضادة فمن جهة يؤكد:
"وقال لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش" (خر33: 20 )
"ويكون متى اجتاز مجدي إني أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتى أجتاز. ثم أرفع يدي فتنظر ورائي. وأما وجهي فلا يرى" (خر33: 22)
"فقال أخرج وقف على الجبل أمام الرب. وإذا بالرب عابر وريح عظيمة وشديدة قد شقت الجبال وكسرت الصخور أمام الرب ولم يكن الرب في الريح. وبعد الريح زلزلة وبعد الزلزلة نار ولم يكن الرب في النار. وبعد النار صوت منخفض خفيف" (1ملو19: 11-12)
"الله لم يره أحد قط. الابن المولود الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر" (يو1: 18و 1يو4: 12) .
"وليس أحد يعرف الابن إلا الآب. ولا أحد يعرف الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له" (مت11: 27 ويو6: 46، 10: 15).
"الذي وحده له عدم الموت ساكناً في نور لا يُدنى منه الذي لم يره أحد من الناس ولا يقد أن يراه..." (1تيمو6: 16)
بينما من جهة أخرى يظهر بوضوح:
"فدعا يعقوب اسم المكان فنئيل قائلاً لأنني نظرت الله وجهاً لوجه ونجيت نفس" (تكوين32: 12).
"ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه كما يكلم الرجل صاحبه" (خر33: 11).
"أما أنا فبالبر أظهر أمام وجهك وأشبع عندما يتجلى لي مجدك" (مز17: 15)
"طوبى لأنقياء القلب لأنهم سيعانيون الله" (مت5: 8)
"والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً" (يو1: 14)
"وتغيرت هيئته قدامهم وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور" (مت17: 2).
"ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح" (2كور3: 18).
"الله قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة لكي نصير بها شركاء الطبيعة الإلهية" (2بطر1: 4)
"وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يو17: 3)
إذن من وجهة نظر معينة الله هو غير قابل لأن يرى أو يُقترب إليه أو تصنع أي شركة معه، بينما من وجهة نظر أخرى هو قابل للمعرفة وللمشاركة وللرؤية وللوصول إليه.
هذا التضاد يظهر أيضاً عند الآباء القديسيين.
فالقديس مكاريوس المصري مثلاً، يقارن ما بين الله والطبيعة الإنسانية فيقول: "هو الله بينما هي ليس الله، هو السيد وهي الأمة، هو الخالق وهي الخليقة، وليس هناك أي شيء مشترك بين طبيعته وبينها". وهو نفسه يتكلم في موضع آخر من كتاباته عن تحول النفس إلى طبيعة إلهية (أي تأله النفس بالنعمة)
نعطي كمثال آخر القديس غريغوريوس اللاهوتي الذي، من جهة، يرفض إمكانية معرفة جوهر الله وحتى بالنسبة للملائكة. لكن من جهة أخرى يصرح بأن ملكوت الله هو رؤية الثالوث الأقدس، وبأن الوحدة مع الله تتجاوز كل معرفة.
من أمثلة التضاد الواضح عند الآباء أنهم تارة يسمّون الله بجملة من الأسماء ويقولون عنه الكثير من الأسماء (Ανώνυμος) وتارة أخرى يصرحون أنه لا يصح أن يطلق على الله أي اسم ولذلك يقولون عنه الذي ليس له اسم (πολυώνυμος) .
والحقيقة أنه يوجد تضاد في التعبير ولكن ليس من تناقض البتة كما سنرى.
تكتفي الآن بالإشارة إلى أن هذه الأسماء الإلهية التي يتكلم عنها الآباء، إنما تحاول أن تصف ما يصدر عن الله، بينما هو في جوهره غير قابل أن يسمى.
هكذا نقول عن الله أنه الوجود والحياة والصلاح إلخ... لأن هذه جميعاً تنشأ عنه. لكننا نعلن بطريقة أخرى أنه ليس الحياة ولا الصلاح ولا الوجد إلخ... لا بمعنى أن هذه ليست عنده، بل لأنه متجاوز لكل هذه.
الموقف الغربي من قضية معرفة الله ورؤيته
إن موقف الكنيسة الغربية الكاثوليكية عامة، والذي ورثته عن اللاهوتيين المدرسيين (السكولاستيك)، هو التشديد على إمكانية معرفة الله معرفة أكيدة بواسطة المخلوقات على نور العقل البشري الطبيعي.
وهذه المعرفة ليست معرفة بالمعنى الخاص، أي ليست بواسطة صورة الله الخاصة أو رؤيته المباشرة، بل معرفة تشبيهية قياسية (analogique).
ويقصد اللاهوتيون الكاثوليك من هذه المعرفة إطلاقهم على الله ما يستخلصونه من المخلوقات من المدارك والأفكار، معتمدين في ذلك على ما يجدونه من شبه بينهما، وعلى ارتباط المخلوقات بالله على أنه علّتها الفاعلة والمثالية. وهكذا فعلاقة الشبه هذه هي أساس كل معرفة طبيعية لله.
وبخصوص رؤيا الله نفسه فتقول الكنيسة الكاثوليكية مع الآباء عامة في أن الإنسان لا يستطيع أن يعرف أو يرى أو يدرك كيان (جوهر) الله في هذه الحياة. لكنها تختلف معهم حول إيمانها بالمعرفة الفائقة الطبيعة لكيان (جوهر) في الحياة الأخرى.
وكمثال على ذلك فقد قال البابا بنديكتوس الثاني عشر في مرسومه العقائدي:
Benedictus Deus سنة 1336 "إن نفوس القديسين ترى الذات الإلهية رؤية عيانية وجهاً لوجه، دون واسطة من المخلوقات تكون بمثابة موضوع منظور. بل هو الجوهر الإلهي يظهر نفسه لها مباشرة سافراً واضحاً جلياً". وقد دعم اللاهوتيون الباباويون هذا الرأي بآيات من الكتاب المقدس، أهمها.
فإننا ننظر الآن في مرآة، في لغز، لكن حينئذ وجهاً لوجه (1كور13: 12).
نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو (ايو3: 2 ومتى5: 8).
وكذلك بأقوال من الآباء تتكلم عن رؤية لله واضحة في الحياة الأخرى. لكن هذه الآيات والأقوال لا تتكلم، في الواقع، عن رؤية جوهر الله ذاته في الحياة الأخرى، بل مجده الطبيعي وجهاً لوجه أي بصورة أفضل تتناسب مع تغيير أوضاعنا في تلك الحياة.
ويتفق البروتستانت مع الكاثوليك بشأن إمكانية معرفة الله عن طريق خليقته، معرفة تشبيهية قياسية، كأن يقولون مثلاً: "إن معرفتنا بالله تقوم تنزع كل ما يجعل حداً له تعالى من عقولنا، وبنسبة كل فضيلة إليه إلى درجة غير متناهية، وكذلك كل صفة ظاهرة في أعماله. وبما أننا نشابهه لأننا أولاده ننسب غليه صفات طبيعتنا الروحية والعقلية إلى درجة غير محدودة".
وهم مثلهم لا يعتقدون بإمكان رؤية الله أو معرفته المباشرة في هذه الحياة. وغالباً لا يعيرون هذا الموضوع اهتماماً يذكر اللهم إذا استثنينا الدراسات حول موضوع الظهورات الإلهية في الكتاب المقدس والتي يعتبرونها كشفاً إلهياً خاصاً لا علاقة له بموضوع التأله والقداسة المرفوض من قبلهم.
لأنهم يشددون على الخلاص بالإيمان وحده، ويعتبرون أن الإنسان هنا على الأرض لا يمكن أن يصل إلى مرحلة القداسة التامة لأنه يحيا في الجسد الضعيف.
موقف الآباء عامة من قضية معرفة الله ورؤيته
إن أول انطباع تعطيه كتابات الآباء القديسين عن الله هو شعورهم بالرهبة والجهل والذهول.
فمثلاً يرفض أفرام السوري أن يبحث في معرفة الله، لأن غير الممكن للطبيعة الاقتراب منه هو مخيف.
ويقول القديس كيرلس الأورشليمي: إن الاعتراف بالجهل معرفة عظيمة في الأمور التي تتعلق بالله.
ولعلنا لا نبالغ إن قلنا بأن السمة البارزة التي تميز طريقة تعبير معظم الآباء في حديثهم عن الله هي تنزيههم إياه تعالى، عن كل ما يمكن أن يخطر على بال بشر من تصورات وأفكار أو تشبيهات وهو ما يسمى باللاهوت التنزيهي.
كمثال على هذا التعبير نقدم قولاً للقديس يوحنا الدمشقي يلخص نظرة الآباء الذين سبقوه: "إنه من المستحيل أن يقول الإنسان ما هو الله بحسب الجوهر. لذا من المناسب أن نتكلم عن الله بطريقة تنزهه عن كل ما هو معروف. فالله ليس واحداً من الكائنات، لا لأنه ليس بكائن، بل لأنه فوق الكائنات، وحتى فوق أن يكون كائن".
وبصدد العبارات الكتابية والآبائية التي تشكل القسم الأول من التضاد المشار إليه في البداية ، يتفق الآباء على أن المقصود منها هو عدم إمكانية رؤية الله أو معرفته بحسب جوهره. لأن الجوهر الإلهي هو قطعاً وبصورة مطلقة غير قابل لأن يرى أو يدرك أو يشارك من المخلوقات، بمن فيهم القديسون والملائكة سواء في هذه الحياة أم في الحياة الأخرى:
واضح أن الله يوجد، ولكن ما هو بحسب الجوهر والطبيعة فهذا بالكلية غير مدرك وغير معروف (يوحنا الدمشقي)
إنه لم يجد أحد من الناس قط، ولن يجد أبداً ما هو الله بحسب الطبيعة والجوهر (غريغوريوس النزينزي).
إن "المعرفة" بالنسبة للأرواح غير المتجسمة هي ما تعنيه كلمة رؤيا بالنسبة إليها. ومع ذلك فلا الملائكة ولا رؤساء الملائكة يعرفون جوهر الله. ولا حتى يبحثون أن يعلموا ما هو الله بحسب الجوهر، كما فعل افنوميوس، ولكنهم يمجدونه ويسجدون له دون انقطاع (يوحنا الذهبي الفم).
أما القسم الثاني من التضاد والذي تعلنه الآيات التي تتحدث عن إمكانية رؤيا الله ومشاركته فهي تشير عند بعض الآباء إلى تنازل الله إلى ضعف الذين رأوا، وظهوره لهم بطرق يستطيعون قبوله:
لو أن اشعياء وحزقيال أو الأنبياء الآخرون قد رأوا فعلاً جوهر الله ذاته، لما كان رآه كل واحد منهم بطريقة مختلفة.
لأن الله يقول لهوشع: "وأنا كثّرت الرؤى وبيد الأنبياء مثلت أمثالاً" (هو 12: 11). هذا يعني أنني لم أظهر جوهري بل (بواسطة الرؤية) تنازلت نحو ضعف الذين رأوا (يوحنا الذهبي الفم)
إن الله بحسب جوهره غير مدرك. ومع أنه يظهر بحسب مسرته ويرى. إلا أننا لا نراه كلاً متناه، بل بحسب القياس الذي يظهر به لنا. أي أنه يكيف هذه الرؤيا بحسب إمكانيتنا للفهم /للقبول/ (ابيفانيوس القبرصي)
هذا التنازل الإلهي إلى مستوى ضعفنا، يسميه آباء آخرون انحدار لقوى الله إلينا. ولهذا نستطيع أن نعرفه وأن نراه من خلال هذه القوى، بينما يبقى جوهره غير مدرك ولا مقترب إليه:
نحن نقول إننا نعرف إلهنا من خلال قواه، من جهة، لكننا نرفض إمكانية الاقتراب إليه بالجوهر من جهة أخرى. لأن قواه (ενέργειαι αυτού) تنحدر نحونا، أما جوهره فيبقى غير مقترب إليه (باسيليوس الكبير).
يصدق السيد عندما يخبر بأن أنقياء القلوب سوف يعاينون الله. كذلك لا يكذب بولس عندما يظهر بكلمته المعروفة بأن الله لم يراه أحد قط ولا يقدر أن يراه. لأنه بالطبيعة غير مرئي. لكنه يصبح مرئياً بواسطة القوى التي بها يرى ما حوله (غريغوريوس النزينزي)
الله قابل للمشاركة بحسب قواه الناقلة، لكنه غير قابل للمشاركة ولا بأي شي من جهة جوهره (مكسيموس المعترف)
هذه القوى بحسب الآباء هي ذاتها ما سماها الكتاب
"وجه الله الذي يرى" (تك 32: 30، خر33: 11)
ومجده الذي يعاين (عدد12: 7-8، مز17: 15، يو1: 14، 2كور3: 8)
ونوره الذي يضيء (مت17: 2، مر9: 3، لو9: 29)
وملكوته الذي يأتي (لو17: 20، 9: 27، مت1: 17، مر1: 15)
وحياته الأبدية التي يعطي (يو3: 15-16)
والتي هي نفسها معرفة الله (يو17: 3)
أو رؤيا الله (يو6: 40)
أو مواهب أو نعم الله (رو12: 6، 1كور12: 4-31).
وبالتأكيد فهذه القوى هي غير مخلوقة لأنها إلهية:
إن الإلهي هو فعلاً نار، غير مخلوق، وبدون بدء، وغير مادي. وهو أيضاً غير قابل للوصف ولا للتغير، فهو لا ينطفئ ولا يموت ولا يمكن إدراكه بالكلية لأنه يتجاوز كل المخلوقات (سمعان اللاهوتي الحديث)
لكن هذا لا يعني أنها غير قابلة للرؤيا، فقد رآها البطاركة والأنبياء والرسل والقديسون في حياتهم الأرضية، بعد وصولهم بمساعدة هذه القوى إلى درجة عالية من الحياة النقية والطاهرة من الأهواء وبالتالي إلى الامتلاء من مواهب الروح القدس أي من هذه القوى. لأنه يستحيل معرفة الله أو رؤية قواه الإلهية إلا بمساعدة هذه القوى: "وبنورك نعاين النور" "لأن الله الذي قال أن يشرق نور من الظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح" (2كور4: 6).
وهذا النور فصلني عن كل كائن مرئي وأعطاني رؤية غير المخلوق، ووحدني مع غير المخلوق وغير الفاسد، وكل ما هو قابل للرؤية بلا حدود (سمعان اللاهوتي الحديث).
موقف الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة بصدد رؤيا الله ومعرفته، إذن، كان واضحاً منذ البداية ولا سيما بعد صراع آبائها القديسين في القرن الرابع مع الهرطوقي افنوميوس وتشديدهم ضده بأن الجوهر الإلهي لا يمكن أن يرى البتة. أما في الحياة الأخرى، فقد كان واضحاً أيضاً، إن ما سنراه في تلك الحياة ليس الجوهر الإلهي بل المجد الإلهي أي القوى الإلهية عبر طبيعة المسيح البشرية.
في الحياة الأُخرى سوف نرى المسيح ملتحفاً بالمجد الإلهي، وعندها فرؤيا الله سوف تصير وجهاً لوجه. لأن الله صار إنساناً، ولذا سوف نراه في (عبر) طبيعة المسيح البشرية (يوحنا الذهبي الفم)
وهذا المجد الإلهي كما يوضح القديس كيرلس الاسكندري هو المجد الأبدي للمسيح أي هو المجد المشترك مع الآب والروح القدس
موقف القديس غريغوريوس بالاماس
: في القرن الرابع عشر هاجم بعض أعضاء الوسط الثقافي في القسطنطينية (1)، المتهم بقضايا فلسفية، طريقة الحياة الروحية لرهبان جبل آثوس والتي تشدد على ممارسة صلاة يسوع والتنقية الداخلية، وإمكانية رؤية المجد الإلهي في هذه الحياة.
فاضطر المتوحد غريغورويوس بالاماس، بناء على طلب رفقائه الرهبان أن ينبري للدفاع عنهم شفاهاً وكتابة.
كما عقدت عدة مجامع في القسطنطينية للنظر في الموضوع وكان من نتاج هذه المعركة اللاهوتية التي انتصر فيها القديس بالاماس، والتي تركزت بصورة خاصة حول طبيعة النور الذي رآه الرسل الثلاثة على جبل التجلي، أن توضحت وجهة النظر الأرثوذكسية المتعلقة بمشكلة إمكانية الشركة مع الله وأخذت صياغة واضحة.
وهذه الصياغة التي بلورتها كتابات القديس بالاماس وقرارات المجامع المذكورة المتفقة مع رأي الآباء القديسين منذ أقدم العصور، تتلخص بأن الله عندما يصنع معنا علاقة لا يشترك معنا بحسب جوهره وليس بحسب أقانيمه الثلاثة بل بحسب قواه أو فعالياته غير المخلوقة.
ولذلك فنعمة الروح القدس التي تنحدر إلينا ليست جوهره الإلهي، لكنها أيضاً غير مخلوقة بل هي نعمة إلهية أزلية صادرة عن الجوهر الإلهي وغير منفصلة عنه.
هذه النعمة كجميع القوى التي تصدر عن الله، هي مظاهر أو تجليات للوجود الذي يسمو على كل الوجود، أو كما يسميها القديس غريغوريوس بالاماس: "صلات الوجود الإلهي بكل ما هو ليس الله".
وذلك لأن العالم الموجود لا يستطيع أن يرتفع إلى مستوى الجوهر الإلهي، بل فقط إلى الاستمداد من هذه القوى المنبعثة عنه. وطبيعي أن العالم نفسه قد خلق بحسب قوى الله وليس بحسب جوهره وإلا لكان أزلياً مثله. واله يخلق ويعمل بواسطتها فتتخلل الكل: "به نحيا ونتحرك ونوجد" (أعمال17: 28)
بديهي إن وظيفة هذه القوى ليست فقط في علاقتها مع الخلائق، لأن الله بغض النظر عن وجود الخلائق التي كان يمكن أن لا توجد، تجلى دائماً وقبل الدهور بهذه القوى التي تشع أزلياً منه.من هنا نفهم معنى عبارة الرسول بولس: "الذي وحده له عدم الموت ساكناً في نور لا يُدنى منه" (1تيمو6: 16).
هذا النور هو نفسه المجد الإلهي أو قوى الله أو فعالياته المنبعثة من عمق وجوده، والتي بها ظهر يسوع متجلياً على الجبل أمام الرسل. إنه النور المنبعث من وجه الله والذي أضاء وجه موسى.
إنه ملكوت السماوات الذي فيه يضيء الأبرار كالشمس، والذي يستمد منه الذين يحيون مع الله، ومنذ الآن، غبطتهم وحيويتهم وسلامهم. أما حياتهم الكاملة والمعاينة باستمرار المجد الإلهي فتحصل في الحياة الآتية.
مع ذلك يوجد تقدم مستمر إن كان في هذه الحياة، أو في الحياة المستقبلية في اقتبال النور الإلهي، ولكن بدون أن تستطيع الخليقة ولا مرة واحدة رؤية الجوهر الإلهي.
ما رآه الأنبياء والرسل والقديسون، بحسب بالماس، هو نور أو مجد الله، وبما أن نور الله إلهي فهو أزلي غير محدود أي غير خاضع لأبعاد الزمان والمكان ولا قابل للإدراك والوصف من الكائنات المخلوقة.
فكيف استطاع هؤلاء المخلوقون أن يروا الله وأن يصفوا ما رأوا؟
جواب القديس بالماس هو أن هؤلاء المغبوطين قد تخلصوا لفترة قصيرة من خاصية الزمان والمكان وذاقوا واقع الأبدية. ولهذا لا يمكن وصف رؤيتهم بأنها مجرد رؤية حسية أو عقلية. إنها مشاركة للإنسان ككل (نفساً وجسداً) لغير المخلوق، وهذه المشاركة التي تتجاوز حدود الطبيعة المخلوقة تفترض وحدة الشخص الإنساني مع الله الذي فوق كل إدراك وفوق كل عقل.
يقول القديس بالاماس: "إن المشارك للفاعلية الإلهية يصير هو نفسه إلى حد ما نور. إذ يتحد مع النور، وبفضله يرى بوضوح ما لا يمكن أن يراه الذين ليس عندهم هذه النعمة. لأنه يتجاوز ليس فقط الحواس البشرية بل وكل ما يمكن أن يدركه العقل (الذهب).
فأنقياء القلب يعاينون الله الساكن فيهم كنور، والذي يعلن لمحبيه المحبوبين". وبعبارة أخرى فالنور غير المخلوق يشع في الإنسان ككل ويجعله يحيا في شركة الثالوث الأقدس. وهذه الشركة مع الله التي سوف يتلألأ بها الأبرار هي نفسها غبطة الدهر الآتي أي حالة الخلائق المتألهة التي يصبح فيها الله الكل في الكل، لا بحسب الجوهر، بل بحسب الفاعلية أي بواسطة النعمة غير المخلوقة أو النور غير المخلوق.
وباختصار "فالنور غير المخلوق هو المشاركة في النعمة الإلهية التي يعرّف بها الله عن نفسه لأولئك الذين يتحدون معه فيتجاوزون حدود الكائن المخلوق".
وتعطى خبرة هذه المشاركة لكل واحد حسب قياسه إذ يمكن أن تكبر أو تصغر حسب استحقاق الذين يذوقونها. وهذه الرؤية الكاملة للألوهة التي يشعر بها كنور غير مخلوق هي سر اليوم الثامن المتعلق بالدهر الآتي حين سنرى الله وجهاً لوجه. وبالإجمال فكل المستحقين الذي يتحدون مع الله سوف يرون منذ حياتهم الحاضرة "ملكوت الله قد أتى بقوة" كما رآه التلاميذ على جبل ثابور.
استناداً إلى ما سبق نستطيع القول أن الأسماء الكثيرة التي نعطيها لله إنما تشير إلى قوى أو فاعليات الله. فواحدة منها نسميها الحياة لأنها صانعة للحياة، والأخرى الصلاح كونها نبع الصلاح، وأخرى الوجود لأنها منشئة الوجود، وغيرها النور لأنها تعطي إمكانية رؤيا النور الإلهي... إلخ...
أما جوهر الله نفسه فسيبقى متجاوزاً لأي قوة أو عمل، ولهذا ليس هناك أي اسم يصح أن يطلق على هذا الوجود السري الفائق على أي وجود. وعلى سبيل المثال فالأنا في الإنسان ليس فكراً أو شعوراً أو حركة إلخ... رغم أن هذه جميعها تصدر عنه. وواقعياً ليس هناك أي اسم يمكن أن ينطبق عليه. مع ذلك نحن مضطرون أن نطلق عليه لقباً يأخذ دور الاسم. فكم بالأحرى هو جوهر الله!!!.
مناقشة النقد الغربي لموقف القديس غريغوريوس بالاماس
لقد أبدى بعض الكتّاب الغربيين آراءهم في النزاعات العقائدية للقرن الرابع عشر، فرأوا في موقف القديس بالاماس من النور الإلهي والقوى الإلهية هرطقة مستحدثة، بينما أظهروا أعداءه كمدافعين عن التقليد المشترك للشرق والغرب.
وقد تمحور انتقاد هؤلاء للقديس غريغوريوس بأنه علّم، حسب زعمهم بوجود فرق حقيقي بين الجوهر الإلهي وبين القوى أو الفاعليات الإلهية، مما يتنافى مع بساطة الله.
وفي الواقع فالقديس بالاماس يميز بين الجوهر والقوى التي يعتبرها صادرة عن الجوهر أو الطبيعة المشتركة للأقانيم الثلاثة، لكنه لا يعلّم البتة، أن هناك تركيباً واختلافاً في الألوهة لأن الجوهر والقوى، بحسب بالاماس، ليسا جزئين مختلفين في الله بل هما طريقتان مختلفتان لوجود الله، في جوهره وخارجاً عن جوهره. وهكذا يبقى الله بالكلية غير مقترب إليه بحسب جوهره ويشارك فعلياً بحسب النعمة.
وكما تعلمنا من الإعلان الإلهي ومن الآباء السابقين فبساطة الله هي بساطة تضادية، تماماً ككل الأمور التي تخص الله. أي أنها لا تمنع التمييز لكنها لا تقبل الانقسام أو الانفصال في الكائن الإلهي.
فمثلاً يرفض الغربيون التمييز بين الجوهر والقوى الإلهية بحجة البساطة، ولا يرفضون التمييز بين الجوهر والأقانيم الإلهية، أو بين الأقانيم ذاتها بسبب الحجة عينها؟
وحتى في واقعنا المخلوق ألا يبقى الفكر البشري بسيطاً رغم ما فيه من إمكانيات وما يصدر عنه من نشاطات؟ هكذا فإمكانيات الله الكامنة اللانهائية وفعالياته غير القابلة للحصر تبقى متحدة مع جوهره.
لهذا يتكلم القديس غريغوريوس أحياناً عن عدد لا متناه من القوى أو الفعاليات، وأحياناً أخرى عن قوة أو فاعلية واحدة. من هنا فتضادية الله غير القابلة للإدراك ليست فقط بين الجوهر والأقانيم، أو بين الجوهر والقوى، بل هي أيضاً بين القوى ذاتها. لذا يمكن القول أنه يوجد عدد لا متناه من القوى والفعاليات عند الله أو أن يقال يوجد عنده تعالى، قوة أو فعالية واحدة. لأن فعاليات الله غير المتناهية في العدد والتنوع هي واحدة كونها حركة الله الواحد وقوته الواحدة (مثال الشمس)
وهنا لا بد من أن نذكر بأن التعليم حول القوى الإلهية والذي نجد جذوره في الكتاب المقدس وعند الآباء الأقدمين لم يكن نتيجة لتأملات فلسفية بل كان ثمرة خبرة حياة مع الله، اكتشف فيها القديسون أن مشاركتهم لله لم تكن بحسب جوهره الذي لا يمكن أن يُرى أو يُقترب إليه، بل كان بحسب نعمته التي التي اختبروا وذاقوا أنها إلهية لأنها ربطتهم مباشرة بالإله غير المخلوق وغير المدرك. وهذه الخبرة وحدها يمكن أن تفسر التضاد في الرؤية الإلهية والذي أشرنا إليه في أعلى.
وأخيراً يبقى أن نطرح على النقاد الغربيين للقديس غريغوريوس ثلاثة أسئلة حاسمة وردت أفكارها عند القديس أثناء نزاعه مع مضادي عصره، وهي التالية:
1- إذا أنكرنا المعرفة والرؤية أو المشاركة المباشرة لله أثناء الحياة، فكيف يمكن أن نفسر النصوص الكثيرة في الكتاب المقدس وعند الآباء التي تؤكد هذه المشاركة؟
إلى هذه النقطة يشير القديس غريغوريوس فيقول: "لقد تسلّمنا من اللاهوتيين الموقرين كِلا الأمرين معاً، وهو أن جوهر الله غير قابل للمساهمة وأنه إلى حد ما قبل. وبأننا نشارك في الطبيعة الإلهية ولا نشارك البتة. فيجب إذن أن نحافظ على كلا الأمرين وأن نضعهما في مكانهما اللائق من العبادة الحسنة.
2- إذا اعتبرنا أن القديس غريغوريوس مبتدع بسبب كلامه عن القوى الإلهية الصادرة عن الجوهر الإلهي والمتحدة معه. فهل الآباء الذين تكلموا عن القوى أو الفعاليات الإلهية، قبله، كالكبادوكيين، وديونيسيوس المكنى بالأريوياغي، ومكسيموس المعترف، ويوحنا الدمشقي، وسمعان اللاهوتي الحديث هم مبتدعون أيضاً؟
3- إذا رفضنا التمييز بين الجوهر الإلهي وبين القوى أو الفعاليات الإلهية فنحن مجبرون أن نقر بأن مواهب الله ونعمه، المعطاة من أجل خلاص الإنسان، هي مخلوقة وعندها فكيف يستطيع أن يخلّص الإنسان ويؤلهه من ليس إلهياً؟
وألا تفصل هذه النعم المخلوقة بين الله والإنسان أكثر بما لا يقاس فيما لو كانت هذه النعم غير مخلوقة؟
وهنا نصل إلى النقطة المحورية التي كانت تشغل بال الآباء في صراعهم مع هراطقة كل العصور والتي على أساسها كانوا يقوّمون أية هرطقة. وهي أن المسيح قد أتى لخلاص البشر وتأليهمم، ولهذا فكل ما يتفق مع هذا الخلاص والتأليه يتفق مع استقامة الإيمان، وكل ما يعوقها هو حتماً ضد الإيمان. وقد لخّص غريغوريوس بالماس هذا الموقف نفسه ضد هرطقة عصره بالعبارة التالية:
إما أن نقبل التمييز بين الجوهر وبين الفعاليات، بينما هم مجبورون بناءً على أساس فكرتهم الفلسفية عن بساطة الله أن يدرجوا مجد الله ونعمته ونور التجلي بين الخلائق. وإما يجب أن يرفضوا جذرياً هذا التمييز، وعندها يضطرون أن يطابقون بين ما هو غير قابل للمعرفة وبين ما هو ممكن أن يعرف وبين عدم القابلية للمشاركة وبين القابلية لها، وبين الجوهر والنعمة.
وفي كلتا الحالتين يصبح تأله الكائن المخلوق مستحيلاً، ومعه كل إمكانية فعلية للمشاركة مع الله.
الأب جورج عطية
orthodoxonline.org
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أول هؤلاء كان الراهب برلعام الكالفري الأصل، الذي درس في روما، وتعود أن ينظر إلى اللاهوت من خلال معطيات فلسفية وعقلية. ولذلك كان من البديهي أن يهزأ بعد زيارته لجبل آثوس، بطريقة رهبانه المسماة بالهدوئية. والتي فيها يشددون على ممارسة الصلاة الذهنية بصورة دائمة ويؤمنون أنه من الممكن أن يرى النور الإلهي. من هؤلاء المهاجمين أيضاً اكنذينوس الذي ترجم إلى اليونانية الخلاصة اللاهوتية (لتوما الاكويني)، وكذلك الكاتب "نيكيفوروس غريغوراس". وللمزيد عن هذه المرحلة راجع سيرة القديس غريغوريوس بالاماس.