في دقة الطبيب الحكيم يشهد لوقا الإنجيلي أنه “لما تمَّت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سُمي يسوع كما تَسمَّى من الملاك قبل أن حبل به في البطن” (لوقا 2: 21).
اليوم الثامن يوم الدهر الجديد
اليوم الثامن له مكانٌ خاصٌ في التدبير، هو يوم تجلي الرب على جبل طابور (لوقا 9: 28)، وهو اليوم الثاني بعد السبت؛ لأن السبت هو السابع، وفي أول الأسبوع، أي في اليوم الثامن قام الرب من القبر.
هو علامة زمانية على الدهر الجديد، وهو ذلك اليوم الذي ينتهي فيه عهد ابراهيم، كما يلاحظ القارئ الفطن أنه هو اليوم الذي يدخل فيه سكين الشريعة جسد يسوع لكي يُسمى في نفس اليوم مع الختانة: “المخلص” من أحكام الشريعة.
في العظة الثالثة على إنجيل لوقا (2: 21 – 24) يشرح القديس كيرلس السكندري أن القوات السماوية نالت عطفاً خاصاً من الآب، وأُعطيت “حظوة في أن تكون أول مَن يبشر به”، ثم يقول: “اليوم نراه مُطيعاً لشرائع موسى أو بالحري نرى من هو الله والمشرع لكل الشرائع، يخضع لشريعته، ويشرح بولس الحكيم حقاً هذا السبب لكي نعرف أننا نحن أنفسنا عندما كنا أطفالاً كنا تحت عبودية أركان العالم، ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الشريعة لكي يفتدي الذين هم تحت الشريعة” (غلا 4: 4 – 6).
إذن المسيح افتدى من لعنة الشريعة الذين كانوا خاضعين لها لأنهم كانوا غير قادرين على القيام بكل فرائضها.
وكيف افتدانا ؟ بإكمالها أو بتعبير آخر لكي يحرر من خطية آدم، خضع هو عنا لله الآب لمطالب الشريعة لأنه مكتوب (رو 5: 19) “لأنه بعصيان الإنسان الواحد صار الكثيرين خطاة، هكذا أيضاً بطاعة الواحد سيصبح الكثيرين أبراراً”؛ لذلك أحنى عنقه للشريعة في شركة معنا جميعاً حسب تدبير الخلاص؛ لكي يكمِّل كل بر، لأنه أخذ صورة العبد، وحُسِبَ بشراً من البشر بسبب تجسده كخاضع للشريعة، بل أنه في مناسبةٍ دفع نصف شاقل لجامعي الضرائب، رغم أنه حرٌّ، وكابنٍ ليس مطالباً بدفع الضريبة. لذلك أيضاً إذا رأيته يخضع للشريعة ويحفظ الشريعة لا تغضب ولا تحسب الابن الحر ضمن العبيد، بل تأمل في دقة وجمال التدبير”.
الخضوع للشريعة
دقة القديس كيرلس لا تختلف عن دقة الإنجيلي لوقا، لأن الخضوع هو:
1- خضوع الواحد الذي يمارس الطاعة من أجل العصاة (رو 5: 19).
2- هو في شركة معنا حسب تدبير الخلاص، وهو لذلك يكمِّل ما عجز عنه البشر.
هذا لا يعني خضوع العهد الجديد برمته للشريعة؛ لأن إكمال الناموس بواسطة الرب معناه وصول الناموس الى نهايته أو غايته؛ لأن غاية الناموس هي المسيح، فهو (أي الناموس) مؤدِّب الى أن يجيء الوقت الذي تتحرر فيه الإنسانية من وساطة الفرائض.
ولذلك يقول القديس كيرلس في نفس العظة: “يقول بولس المبارك الختان لا ينفع وعدم الختان (الغرلة) لا تنفع (1 كو 7: 19)، فهل كان الله العلي الحكيم عندما أمر موسى بأن يعاقِب كل من لا يختتن لا يهدف إلى لا شيء لأن الختان لا ينفع – كما قال بولس؟
ولكن هذه الممارسة الى رمزٍ مملوءٍ بسرِّ سوف يستعلن في اليوم الثامن عندما تظهر حقيقة اليوم الثامن؛ لأن المسيح قام في اليوم الثامن وأعطانا الختان الروحي عندما أمر الرسل القديسين بأن يذهبوا ويتلمذوا جميع الأمم ويعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس (متى 28: 19)، ولذلك نحن نؤكد أن الختان الروحي يتم بشكل تام في زمان المعمودية المقدسة عندما يجعلنا المسيح شركاء الروح القدس … لأن المسيح يختنَّا جميعاً بقوة الروح القدس، ليس بتطهير الجسد، وإنما بقطع النجاسة التي في نفوسنا” (راجع عظات القديس كيرلس على انجيل لوقا ص 56 – 57)([1]).
الختان في اليوم الثامن
في اليوم الثامن تم ختان المسيح، وكما قلت أخذ اسمه لأننا ننال الخلاص به وفيه ونحن “فيه خُتنَّا ختاناً غير مصنوع باليد بقطع الجسد الخاضع للشهوات، أي بختان المسيح، لأننا دُفنَّا معه في المعمودية التي فيها قد قمنا معه” (كولو 2: 11)، وكما أنه مات لأجلنا وقام لأجلنا، هكذا أيضاً خُتِّن لأجلنا، لأنه مات، ونحن نموت معه وفيه، نموت عن الخطية ليس لأنه (المسيح) قد أخطأ، لأنه لم يخطئ ولم يوجد في فمه غش (1 بط 2: 22)، ولكن بسبب خطايانا، وكما أننا نموت معه عندما مات هكذا نقوم معه”.
وبعد ذلك يؤكد القديس كيرلس أنه بعد “ختانه، هذه الممارسة قد انتهت؛ لأنها أدت السبب الذي لأجله أعطيت وهي أن تكون رمزاً للمعمودية ولذلك نحن لا نمارس الختان” (راجع ص 57).
غاية الختان حسب شرح القديس كيرلس السكندري
أولاً: فصلت ما بين أولاد ابراهيم، وخصَّتهم بهذه العلامة دون غيرهم، فصارت ختماً Seal يميِّزهم عن سائر الشعوب.
ثانياً: كانت رمزاً للمعمودية الإلهية؛ لأنه في العهد القديم كان كل من يختتن يُحسب ضمن شعب الله عندما ينال هذا الختم Seal وهكذا كل من ينال المعمودية يتكون المسيح فيه ختماً يجعله ضمن شعب الله الذي نال التبني.
ثالثاً: الختان هو رمز للإيمان؛ لأن النعمة التي ننالها بالإيمان تقطع وتُميت كل القوى الشهوانية التي تقاتلنا والتي تصدر عن شهوات جسدانية بسكين الايمان الحاد وبأعمال النسك التي لا تدمر الجسد، بل تطهِّر القلب لأننا نختتن بالروح لا بالحرف كما شهد بولس الالهي (رو 2: 29)” (المرجع السابق).
التسليم الذي نقله القديس كيرلس السكندري عن العلامة اوريجينوس
اهتم القديس جيروم بنقل عظات العلامة اوريجينوس على انجيل لوقا (39 عظة) الى اللغة اللاتينية. ما يجب أن نلاحظه أن التسليم الكنسي ظاهر لمن يدرس بعناية، فهو سُلِّم بذات الكلمات وبذات الأساس اللاهوتي.
وعندما جمع أستاذ الآباء السابق في جامعة كامبريدج G. Lamp المصطلحات اليونانية في كتابات الآباء، ظهر بشكل أوضح من قبل، أن كل الكلمات اللاهوتية الخاصة بالصلاة – السرائر – الثالوث – الحياة النسكية – الرب يسوع، تظهر عند أوريجينوس – أثناسيوس – ديديموس – كيرلس الكبير، وأن نفس الشرح اللاهوتي يؤكد أن التسليم الكنسي هو مرجعية الآباء.
في العظة 14 على انجيل القديس لوقا وحسب ترجمة جيروم: “عندما مات المسيح “مات للخطية” لأنه هو نفسه لم يكن خاطئاً لأنه لم يخطئ ولا وجد في فمه غش” (2 بط 2: 22). لقد مات لكي بموته عن الخطايا نحن الموتى لا نعيش بعد للخطية والرذيلة، لذلك يقول الكتاب: “إن كنا قد متنا معه، فنحن سنحيا معه” (رو 6: 8). “ونحن قد ختنا معه وبعد الختان نلنا تطهيراً كاملاً، ولذلك ليس لنا حاجة إلى ختان الجسد. وانتم تعرفون لماذا خُتِّن لأجلنا. اسمعوا التعليم الواضح من بولس لأنه يقول: “كل ملء اللاهوت يحل فيه جسدياً، وأنتم مملؤون فيه .. وفيه قد ختنتم بختان غير مصنوع باليد عندما خُلع جسم البشرية([2]) في ختان المسيح؛ لأننا دُفنَّا معه في المعمودية ومعه قد قمنا بالإيمان بعمل الله الذي أقامه من الأموات” (كو 2: 9 – 12) لذلك موته وقيامته وختانه قد تم لأجلنا” (عظة 14: ص 56).
القارئ المدقق سوف يرى أن شرح القديس كيرلس هو نفسه شرح العلامة أوريجينوس لأنه تسليم كنسي واحد.
ملاحظتان ذوات دلالة عقائدية لكل من أوريجينوس والقديس كيرلس
الأولى: هي أن المسيح له المجد مات للخطية، وهذا جزء جوهري من عمله كمخلص، فقد جاء لكي يميت الموت والخطية، فهو لم يمت كخاطئ حسب زعم بعض الشيع الإنجيلية.
الثانية: إننا كما متنا معه وقمنا معه، كذلك أيضاً خُتنَّا معه، بل وحسب عبارة الرسول “فيه”. وهنا لا يجب الإقلال من عمل المعمودية التي تجمع كل مؤمن وتوحِّده بشعب الكنيسة وتعطي له كل امتيازات العضوية كما كان الختان يفعل في العهد الأول أي العهد القديم، وكما كان غير المختتن يُمنع من الاشتراك في الفصح اليهودي، كذلك سارت الكنيسة على نفس القاعدة، وهي منع غير المعمدين من التناول.
أخيراً
إذا كان الرب قد أكمل الشريعة بحياته وموته، فإن بعث الشريعة من جديد لوضع الشريعة فوق رقاب الناس هو عودة الى العهد القديم وهي عودة تخلع كل جذور المسيحية الأرثوذكسية.
د. جورج حبيب بباوي
coptology.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) راجع تفسير إنجيل لوقا للقديس كيرلس الكبير – سلسلة نصوص آبائية 116 – المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية بالقاهرة – 2007 – ص 42 – 46.
([2]) “جسم خطايا البشرية” لم ترد في الأصل اليوناني وأضيفت في الترجمة البيروتية للإيضاح، ولكن كل القراءات “جسم البشرية” وحرفياً σώμα της σαρκός وهو تعبير دقيق يعني:
1- الجسد البيولوجي الطبيعي الذي سوف ينحل بالموت (راجع كو 1: 22).
2- الجسد الذي في شكله الإنساني العادي حسب الطبيعة لم يعد صالحاً للحياة الجديدة.
3- وأخيراً لا يجب التمييز بين σώμα جسد و σαρκας لحم flesh هذا غير معروف عند بولس والآباء.