“إنهم يعارضون قائلين: ولكن كيف اعتمد ونال الروح أيضاً؟
فنجيبهم: إنه لم يكن محتاجاً للمعمودية المقدسة إذ هو كليُ النقاوةِ وبلا عيبٍ، وقدوسٌ من قدوسٍ. كما أنه لم يكن محتاجاً للروح القدس؛ لأن الروح المنبثق من الآب هو معه ومساو له في الجوهر.
إنَّ الله في – محبته للإنسان – زوَّدَنا بطريق للخلاص والحياة: لأننا بالإيمان بالآب والابن والروح القدس، وباعترافنا بهذا الإقرار أمام شهود كثيرين، فإننا نغسل كل وسخ الخطية، ونغتني بالحصول على الروح القدس، ونصير شركاء الطبيعة الإلهية، وننال نعمة التبني.
وعندما وضع كلمة الآب نفسه إلى الإخلاء وتنازل ليتخذ شكلنا، كان ضرورياً أن يصير من أجلنا نموذجاً وطريقاً لكل عمل صالح. فمَن كان الأول في كل شيء ينبغي عليه أن يضع نفسه مثالاً في هذا أيضاً. لذلك، فإنه يبدأ هذا العمل (المعمودية) بنفسه، لكي نعرف قوة المعمودية المقدسة نفسها، ونعرف أيضاً النعمة العظيمة التي نحصل عليها بالإقبال إليها.
لقد جاء صوتُ الله قائلاً من نحو المسيح أثناء عماده المقدس: “هذا هو ابني الحبيب”، وكأنما بذلك كان يتبنى فيه وبواسطته الإنسان الأرضي. فإنَّ ابن الله الوحيد الحق بحسب الطبيعة، لمَّا صار مثلنا، اقتبل من جديد لقب ابن الله، ليس كأنه يناله لنفسه هو – إذ أنه في ذاته كان ولم يزل كما قلت إلهاً حقاً – بل لكي يوصِّل إلينا هذا المجد، ولذاك فقد صار لنا باكورةً وبكراً وآدماً ثانياً. لذا فكل شيء يتجدَّد فيه. ونحن إذ قد خلعنا عتق آدم، اغتنينا بالتجديد الذي في المسيح. (لو 3: 21 – 23).
ويقول أيضاً:
لقد أُعطي الروح في البدء لآدم، غير أنه لم يستقر في طبيعة الإنسان؛ لأن آدم غاص في الضلال وزلَّ في الخطية. ولكن لمَّا افتقر الابن الوحيد وهو غنيٌ، وصار إنساناً معنا وقَبِلَ روحه الخاص (من أجلنا) وكأنه يأتيه من خارج، حينئذ استقر الروح عليه، فإنْ يوحنا الإنجيلي يقول هكذا: “إنَّ الروح استقر عليه” (يو 1: 32، 33) حتى يسكن فينا أيضاً الروح من حيث أنه استقر على الباكورة الثانية لجنسنا، أي المسيح الذي دعي أيضاً لهذا السبب آدم الثاني. (تفسير يوئيل 2: 27 – PG 71 ).
ويقول أيضاً:
“ويرتاح عليه روح الله” (أش 11: 1 س). لقد سبق أن مُنح الروح في القديم لباكورة جنسنا آدم، ولكن هذا صار متهاوناً من جهة حفظ الوصية المعطاة له، واستهتر بما أُمر به، فسقط في الخطية، وبالتالي لم يجد الروح راحةً بين الناس. “لأن الجميع زاغوا وفسدوا معاً ليس من يعمل صلاحاً، ليس ولا واحد” (رو 3: 12).
ثم أن الكلمة ابن الله الوحيد صار إنساناً، ولكن دون أنْ يتحوَّل عن كونه إلهاً. فلما صار مثلنا وهو غير قابل أن ينساق نحو الخطايا، حينئذ ارتاح الروح في طبيعة الإنسان، فيه هو أولاً بصفته الباكورة الثانية لجنسنا، حتى يرتاح فينا نحن أيضاً، ويثبت في نفوس المؤمنين، محباً للسكنى فيها. وهكذا يشهد يوحنا الإلهي في موضع آخر أنه قد رأى الروح نازلاً بألفة من السماء على المسيح. فكما صرنا شركاء في الميراث مع أول جبلتنا (آدم) في الشرور التي أصابته، هكذا سنصير شركاء أيضاً في الخيرات الحادثة تدبيرياً للباكورة الثانية لجنسنا الذي هو المسيح” (أش 11: 1 – PG 70).
لماذا اعتمد يسوع؟
أولاً: شرح القديس أثناسيوس
كانت الأريوسية تركِّز كل هجومها على فكرةٍ واحدةٍ، وهي أنَّ الابنَ ليس بالطبع مِن ذات جوهر الآب، وأنه تبعاً لذلك، مخلوقٌ مثل كل المخلوقات. وبالطبع كان النص المشهور “كان ينمو في الحكمة والقامة والنعمة” (لوقا 2: 52) مِن النصوص المحببة لدى الأريوسيين.
المسيح هو حكمة الآب .. فكيف ينمو في الحكمة؟ وإذا كان الروح القدس قد حلَّ عليه، فكيف يكون هو واحداً مع الآب، ويحتاج إلى حلول الروح القدس؟ ومِن المعروف أنَّ الروح القدس كائنٌ في الله .. فكيف يمكننا أنْ نقول إنه حلَّ على الله؟ كانت هذه اعتراضات الأريوسية، وهي اعتراضاتٌ لا نزال نسمعها اليوم.
كانت مشكلة الأريوسية هي عدم التمييز بين نصوص الكتاب المقدس. ففي الكتاب المقدس توجد نصوصٌ تتحدث عن الابن الكلمة، ونصوصٌ أُخرى تتحدث عنه عندما تجسد. ويُلفت نظرنا إلى هذه الحقيقة القديس أثناسيوس في عبارة مشهورةٍ:
“يغطِّي الكتاب المقدس عدة مجالات عن حياة الرب، ويسجل الإنجيل حقيقتين عن المخلِّص؛ فهو دائماً الله والابن. لأنه الكلمة وشعاع وحكمة الآب، ولكنه يوصف أيضاً – وهذا بسبب احتياجنا – أنه أخذ جسداً مِن العذراء مريم والدة الإله، وأنه تأنَّس. هذا الوصف الشامل لهاتين الحقيقتين، يوجد فقط في الأسفار الموحى بها” (ضد الأريوسيين 3: 29 مجموعة الآباء اليونانيين مجلد 26: 385).
وهكذا، لكي نتغلب على أية صعوبةٍ تعترضنا، علينا أن ندرس النص لنُدرك ما إذا كان يتحدث عن الابن قبل التجسُّد، أم أثناء وجوده في الجسد. ولعل القارئ لاحظ أن السطر الأخير يتضمن القاعدة الأساسية التي بموجبها نقبل أو نرفض أي كتاب حتى وإن كان يحمل اسم إنجيل، وهو أن الأسفار الموحى بها تتحدث عن المسيح ابن الله، وابن الإنسان. وكل مَنْ لا يتحدث عنه بهذه الصورة، فهو ضالٌ.
ويفسر القديس أثناسيوس (لوقا 2: 52) في ضوء القاعدة السابقة
“الحكمةُ نفسها لا تتقدم في النمو، ولا تنمو في الحكمة، أي أنها لا تنمو متجهة نحو نفسها. ولكن البشرية هي التي تنمو في الحكمة؛ لأننا نرتفع قليلاً قليلاً حتى نتشبَّه بالله .. لذلك لم يقل الإنجيل إن الكلمة تقدَّم في الحكمةِ، وإنما يسوع، وهو اسم الرب عندما تجسَّد. والطبيعة البشرية هي التي تنمو كما قلنا سابقاً” (ضد الأريوسيين 3: 53 المرجع السابق: 436).
إن الاعتراف بإنسانية المسيح هو جزءٌ أساسيٌ مِن الإيمان الأُرثوذكسي. ذلك أن الابن جاء وأخذ كل ما لنا. وكان جسده ينمو مثل كل الأجساد.
لماذا اعتمد المسيح؟
يقول القديس أثناسيوس، وهو يفسر مزمور (45: 7-8) “كرسيك يا الله إلي دهر الدهور مِن أجل ذلك مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج”: إن المزمور يتحدث عن الابن في الجسد، وهذا يشرح لنا كيف يوصف القدوس بأنه تقدَّس:
“لقد قيل إنه تقدَّس؛ لأنه صار إنساناً. والذي تقدَّس هو الجسد .. وعندما يُقال الآن إنه مُسِحَ بشرياً، فإننا نحن الذين مُسحنا فيه. وعندما اعتمد كنا نحن الذين اعتمدنا فيه” (ضد الأريوسيين 1: 47 المرجع السابق: 109).
وكل غموض يُحيط بهذا النص يمكن أن يزول تماماً إذا تذكرنا قاعدةً أساسيةً في التفسير، وهي أن المسيح يمثل الإنسانية كلها. ذلك أن الجسد البشري الذي أخذه هو جسدٌ بشريٌ كاملٌ مثل أجسادنا. ولذلك، فكل ما يحدث لهذا الجسد إنما يحدث للإنسانية؛ لأن الطبيعة البشرية هي وحدها التي تقبل التغيير، وهي وحدها التي تأخذ. فإذا اعتمد الرب، فإن المعمودية هي اختبارٌ خاصٌ بناسوته. وعندما اعتمد كانت الإنسانية تأخذ فيه – يسوع – شيئاً جديداً، هو هبة وعطية الروح القدس.
إن لُب التجسد، هو أن يأخذ الابن جسداً حتى يأخذ هذا الجسد مِن الابن ومِن الآب ومِن الروح القدس كل ما هو لازمٌ لخلاص البشر. ولقد كانت البشرية محتاجةً إلى الروح القدس، ولذلك قَبِلَه المسيح كانسانٍ لكي يمنحنا إياه .. يقول أثناسيوس:
“إذا كان لأجلنا قدَّس ذاته، فإنه فعل هذا فقط عندما صار إنساناً.
ومِن الواضح أن الروح القدس نزل عليه في الأردن، وكان هذا نزولاً علينا نحن؛ لأنه أخذ جسداً. ولم يحل الروح لكي يرفع مِن مكانة الكلمة، وإنما – مرةً ثانيةً – أقول: حل الروح عليه مِن أجل تقديسنا لكي ما نشترك في مسحته، ولكي ما يتحقق ما قيل عنا …”أنتم هياكل الله، وروح الله ساكنٌ فيكم” (1 كورنثوس 3: 16).
لذلك عندما اغتسل الرب في الأردن، كنا نحن الذين اغتسلنا فيه وبه. وعندما قَبِلَ الروح، كنا نحن فيه الذين قَبِلَنا الروح. ولهذا السبب قِيلَ أنه مُسح بمسحةٍ أفضل مِن رفقائه، أي ليس مثل هارون أو داود والباقين، فهو لم يمُسح بزيتٍ، بل مُسح “بزيت الابتهاج”، وقد فسَّر الرب نفسه هذا على أنه الروح القدس. وقال القول النبوي: “روح الرب عليَّ لأنه مسحني” (أشعياء 61: 1).
والرسول يقول: “مسحه الله بالروح القدس” (أعمال 10: 38)، فكيف تم ما كُتب عنه إلاَّ عندما جاء بالجسد لكي يعتمد في الأردن وحل عليه الروح؟ وحقاً يقول الرب نفسه: “إن الروح يأخذ مما لي”، وأيضاً: “وأنا سأرسله إليكم”، ويقول لتلاميذه: “أقبلوا الروح القدس” (يوحنا 17: 7 – 14 و 20: 22).
فهو الكلمة وشعاع الآب الذي يعطي الروح القدس للآخرين. ورغم ذلك قيل عنه الآن إنه تقدَّس، والجسد الذي تقدَّس هو جسده. ومنه هو بدأنا نحن نأخذ المسحة والختم. ويوحنا يقول: “ولكم مسحةٌ مِن القدُّوس” (1 يوحنا 2: 20). والرسول يقول: “خُتمتم بروح الموعد” (أفسس 1: 13) .. (ضد الأريوسيين 1: 47 – راجع الترجمة الانجليزية ص 333 – 334 في المجلد الرابع من مجموعة آباء نيقية).
هكذا يمكننا أن نفهم معنى كلمة “لأجلنا”، أو عبارة “كنا نحن فيه الذين اعتمدنا”، ذلك أن المشترك بيننا وبين يسوع المسيح هو الناسوت وحده. وكل ما حدث لهذا الناسوت كان يحدث للطبيعة البشرية. ولذلك عندما مُسح الرب كان هذا بداية مسح البشرية بالروح القدس.
وسوف يشرح هذا، القديس كيرلس بنفس الروح وبنفس النصوص، ولا عجب في هذا الاتفاق؛ لأن الإيمان واحدٌ.
ثانياً: شرح القديس كيرلس عمود الدين
لم تكن الأريوسية قد ماتت في زمن القديس كيرلس السكندري، ولذلك اهتم القديس كيرلس بالرد على آرائها في كُتب التفسير التي كتبها قبل ظهور البدعة النسطورية، وبعد ذلك انشغل بالنسطورية تماماً. وعلى الرغم مِن أن النسطورية مختلفة تماماً عن الأريوسية، فهي لم تُنكر صراحةً ولا ضمناً لاهوت الابن، ولكنها أنكرت الإتحاد، وأثارت هي أيضاً موضوع معمودية المسيح.
يؤكد القديس كيرلس التزامه بالقاعدة الأساسية لتفسير النصوص الخاصة بالمسيح والتي وضعها سلفه القديس أثناسيوس، ويقول:
“قبل التجسُّد كان في صورة ومساواة الآب. ولكن في التجسُّد أخذ الروح القدس مِن السماء، وقُدِّس مثل الباقين .. قبل التجسُّد لا يمكن أن يَنسب أحدٌ ما أية خبراتٍ إنسانية للابن مثل الألم والجوع .. الخ. ولكن في التجسُّد يمكن أن نقول عنه إنه أخذ الروح القدس مثل كل البشر” (تفسير إنجيل يوحنا النص اليوناني الطبعة المحققة للدكتور Pusey مجلد 1: 179 فقرة 20-32).
لكن ما هي علاقة الابن وهو في الجسد بالروح القدس.
يسأل الأريوسيون هذا السؤال، ويجيب عليه كيرلس بقوله:
“الروح القدس هو في الابن، ليس مِن قبيل المشاركة مِن الخارج (1)، بل هو فيه بالجوهر” (المرجع السابق 1: 174 فقرة 1-2).
لكن لماذا وكيف حلَّ الروح القدس على الابن المتجسد طالما أن الابن – حتى وهو في الجسد – واحدٌ مع الروح القدس والآب؟
يجيب القديس كيرلس على هذا بوضوح. وسنرى أنه يؤكد إلوهية الابن ومساواته بالآب، ولكنه يؤكد أيضاً أن الروح القدس حلَّ على المسيح.
يقول كيرلس:
“إن الهرطوقي المغرم بالجدل سوف يقفز مِن مكانه، وعلى وجهه ابتسامة كبيرة ويقول لنا: “ماذا أسمع يا سادة؟ وماذا ستقولون عن هذا؟ هل لكم برهان؟ إن الإنجيل يقول إن الروح القدس نزل على الابن، بل لقد مسحه الله الآب. وهذا يعني أنه أخذ ما ليس لديه، بل إن المزمور يشهد لنا قائلاً عن المسيح: “لذلك مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج أفضل مِن رُفقائك” (45: 7)،
فهل يمكن اعتبار الابن مِن ذات جوهر الآب الكامل، وهو قد مُسح؟ لأنه عندما احتاج إلى المسحة، مُسح. وهذا دليلٌ على عدم الكمال”.
بالطبع لا يسكت كيرلس على هذا الاعتراض الأريوسي، ولذلك يسأل:
“نقول إلى هؤلاء الذي يقلبون تعاليم الكنيسة المقدسة، ويفسدون الحق الذي في الأسفار “أفيقوا أيها السكارى مِن خمركم” (يوئيل 1: 5). إذا كنت تؤمن بأن الابن هو الله، فكيف تنسب إليه عدم الكمال؟ ألا يعني هذا نسبة عدم الكمال للآب أيضاً؟ وهذا في حد ذاته هو عدم تقوى، لأن ما يُنسب للابن يُنسب للآب الذي يلده. وإذا كان الابن غير كاملٍ، فالآبُ كذلك غير كاملٍ.
ولكن الهرطوقي يحتج لدينا بقول يوحنا المعمدان: “رأيت الروح نازلاً مِن السماء” على الابن، وإنه بذلك تقدَّس مِن الخارج (2) عندما مُسح، وإنه أخذ ما ليس لديه.
إن مثل هذا الاعتراض، هو اعترافٌ صريحٌ بأن الابنَ مخلوقٌ، وإنه كُرِّم بمجد زائد أكثر مِن غيره … ولكنه تقدَّس مثل الباقين، وحصل على الصلاح مِن آخرٍ، وليس مِن ذاته. وهذا يتعارض، بل يُعَرِّض الإنجيلي للاتهام بالكذب، وبالذات ما قاله: “مِن ملئِه نحن جميعاً أخذنا”.
وكيف يكون بطبيعته مملوءاً وهو يقبل أن يأخذ مِن آخرٍ؟ لكن كيف يمكن أن نعتقد أن الله هو الآب إذا كان ابنه الوحيد مخلوقاً، وليس “الابن”؟ وإن صَحَّ كلام الهراطقة عن الابن أصبح الآب نفسه يُدعَى زوراً بالآب. والابن لا يجب أن يُسمى “الحق”، وتصبح كل ألقابه فارغة ومجرد كلمات .. لكن إذا كان الآب هو الآب حقاً، فإن ابنه الذي منه، مساوٍ له.
وإذا سأل أحدٌ: كيف تلد الطبيعة الإلهية الكاملة القداسة ذلك الذي يخلو مِن القداسة، أو أن يولد منها الابن وهو خالٍ مِن الصفات الإلهية؟ لأنه إذا احتاج إلى آخرٍ (الروح القدس)، ليمنحه القداسة كما يقولون، فعليهم أن يعترفوا علناً أنه لم يكن دائماً القدوس، وأنه صار كذلك عندما حلَّ عليه الروح القدس .. كيف هذا؟،
وهو قَبْل التجسُّد كان دائماً القدُّوس؛ لأن السارافيم يسبِّحون الثالوث قائلين: قدوسٌ ثلاثُ مراتٍ للآب والابن والروح القدس (أشعياء 6: 3). فإذا كان هو دائماً القدُّوس قبل التجسُّد، بل منذ الأزل مع الآب القدُّوس، فكيف احتاج إلى مَنْ يقدِّسه؟ لقد حدث هذا في آخر الزمان عندما صار إنساناً.
وأنا أتعجب، كيف فشلوا في إدراك هذا وهم كما يدَّعون، مُحبون للبحث عن الحقيقة؟ .. إن الرسول يقول عنه في موضعٍ معروف: “فليكن فيكم الفكر الذي كان في يسوع المسيح أيضاً .. الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب أن مساواته لله سرقةً، بل أخلى ذاته، وأخذ صورة العبد ووُجِدَ في الهيئة كإنسان” .. الخ (فيلبي 2: 5-8). هو إذاً قبل التجسُّد في صورة ومساواة الآب، لكن في التجسُّد تقبَّل الروح مِن السماء وتقدَّس. هو قبل كل الدهور القدُّوس والمساوي للآب القدُّوس، ولكنه في الزمان أخلى ذاته .. وهو الغني افتقر لأجلنا لكي بفقره نصبح أغنياء” (2 كور 8: 9).
أفتحوا آذانكم لتسمعوا برهاننا على صحة ما نقول، ولتدركوا معنى كلمات التعليم. إن الأسفار المقدسة تشهد أن الإنسان خُلق على صورة الله ومثاله .. لأن موسى يقول “وخلق الله الإنسان على صورته” (تكوين 1: 27). وخُتِمَ الإنسان بالروح القدس بعدما خُلِقَ ليكون بهذا الختم على صورة الله، وهذا ما يشهد عنه موسى قائلاً: “ونفخ في أنفه نسمة الحياة” (تكوين 2: 7).
وهكذا أُعطي الروح للخليقة الأولى، ومُنحت الحياة مِن الله الذي طبع “ختم” صورته في الإنسان. وعندما كوَّن الصانع العظيم، الله، الإنسان كمخلوقٍ عاقلٍ على الأرض، أعطاه الوصية المحيية، وظل الإنسان في الفردوس، كما هو مكتوبٌ محتفظاً بالعطية العظمى وهي الصورة الإلهية في الإنسان بالروح القدس الذي حلَّ فيه. لكن عندما سقط بحيلة الشيطان، وبدأ يحتقر الخالق، ثم رفض الناموس الذي وُضِعَ له، بكل حزنٍ سحب الله العطية التي أعطاها له، والذي خُلِقَ للحياة سمع الكلمات: “ترابٌ أنت والى تراب الأرض ستعود” (تكوين 2: 19).
وهكذا، بسبب الخطية التي دخلت إلى الإنسان، بدأت الصورة الإلهية في الإنسان تبهت، ولم تعُد بعدُ صورة البهاء، بل أخذت تضعف وتظْلَّم (3) بسبب المعصية. وعندما وصل الجنس البشري إلى انحدارٍ أعظم، وسادت الخطية على الكل، فسدت نفوس البشر، وتعرَّت الطبيعة الإنسانية مِن النعمة القديمة، وفارق الروحُ كليةً الطبيعةَ البشرية، وانحدرت البشرية العاقلة إلى حماقاتٍ لا حد لها، حتى صاروا يجهلون خالقهم(4).
لكن الله كان يُرتِّب خلاص الإنسان، ورتَّب الله أن يحوِّل الطبيعة البشرية مِن جديدٍ إلى مجد صورته الإلهية بالروح القدس؛ لأنه لم تكن هناك وسيلةٌ أُخرى لإعادة ختم صورة الله في الإنسان وإشراقها بالبهاء القديم … فكيف يغرس فينا مِن جديدٍ، النعمة التي لا تُمحى، أي غرس الروح القدس مِن جديدٍ في الإنسان … كيف وبأية وسيلةٍ يمكن إعادة خلق الإنسان إلى حالته الأولى؟
الإنسان الأول مِن الأرض، وعندما خُلق كانت له القدرة على الاختيار بين الخير والشر. كان سيداً على دوافعِه إلى الخير أو إلى الشر. لكنه بخدعةٍ دنيئةٍ، مال إلى العصيان، فسقط وعاد إلى الأرض أمه التي أُخذ منها، وساد عليه الموت والفساد ونقل العقوبة إلى كل جنسه(5) وهكذا نما الشر وتكاثر فينا وانحط فهمنا إلى ما هو أسوأ. ملكت الخطية، وتعرَّت الطبيعة الإنسانية مِن الروح القدس الذي سكن في الإنسان الأول، وسفر الحكمة يقول: “الروح القدس روح الحكمة يهرب مِن الخداع، ولا يحل في جسدٍ تملك عليه الخطية” (1: 4-5).
وعندما لم يحتفظ الإنسان الأول بالنعمة التي أُعطيت له مِن الله، كان الله الآب يُدَبِّر إرسال آدم الثاني مِن السماء، أي الابن الوحيد الذي هو بطبيعته لا تحوُّل فيه ولا تغيير، فجاء إلى عالمنا، ذاك الذي لا يعرف خطية. وكما بمعصية الأول (رومية 5: 19) صرنا تحت الغضب الإلهي، هكذا بطاعة الثاني نتحرر مِن اللعنة، وتنتهي كل شرورها. ولذلك عندما صار الله الكلمة إنساناً، تقبَّل الروح القدس مِن الآب (6 ) ولكن ذلك الذي لم يعرف خطية إذا قَبِلَ الروح القدس – كإنسان – يحفظ تلك العطية في طبيعتنا (البشرية) ويغرسها مِن جديد فينا، أي النعمة التي فارقتنا. ولهذا السبب قال المعمدان: رأيت الروح نازلاً مِن السماء واستقر عليه.
لقد فارقتنا النعمة بسبب الخطية، ولكن الذي لم يعرف خطية، صار مثلنا لكي ما يتعَّود الروح أن يحل فينا دون أن يفارقنا، لذلك هو نفسه، قَبِلَ الروح لنا، وجدَّد طبيعتنا إلى صلاحها القديم، وهكذا قيل إنه افتقر لأجلنا (2 كورنثوس 8: 9)” (المرجع السابق 1: 183-185).
والنص لا يحتاج إلى تعليقٍ. فهو يؤكد دور معمودية المسيح في الخلاص، وهو دورٌ أساسيٌ. ويمكننا أن نلاحظ كيف يمهِّد كيرلس لمعمودية الرب بشرح الخلق وسقوط الإنسانية، ثم العلاقة بين الخلق والخلاص، وإعادة الصورة الإلهية للإنسان بالروح القدس. ولقد صار هذا ممكناً فقط، عندما قَبِل آدم الثاني أن يُمسح بالروح القدس وهو القدُّوس البار الذي لم يفارقه الروح القدس بالمرة. ويؤكد كيرلس هذا في نصٍ آخرٍ:
“لقد فارق الروح القدس الإنسانيةَ؛ لأنه لم يكن قادراً على أن يحل في الفساد، ولكن الآن ظهر إنسانٌ جديدٌ بين البشر، وهو وحده الذي يجعل عودة الروح ممكنةً؛ لأن هذا الإنسان بدون خطية” (المرجع السابق 1: 184).
وقد استخدم القديس كيرلس كلمةً شائعةً في كتابات الآباء منذ القديس ايريناوس، وهي كلمة “لقد تعوَّدَ الروح القدس أنْ يحلَّ في الإنسانية منذ معمودية المسيح“. وقد ترجمت القواميس الكلمة اليونانية Poseqisqh إلى accustomed أي تعوَّد ولكن الكلمة اليونانية تُفيد البقاء والاستمرار “ففي يسوع وحده بدأ الله يُعطي مِن جديدٍ، الروح القدس لأنه باكورة ثمار الطبيعة الإنسانية الجديدة” (تفسير يوحنا 7: 39 المرجع السابق 1: 691).
وعودة الروح القدس إلى الإنسانية، بدأت بيسوع المسيح؛ لأنه البكر وبداية كل الأشياء. وكيرلس يؤكد شيئاً هاماً، وهو أن عودة الروح القدس إلى الإنسانية في آدم الثاني يسوع المسيح هي عودةٌ أبديةٌ، وليست عودةً مؤقتةً، ذلك أن البر والقداسة في يسوع المسيح هي صفة ذاتية ثابتة لا تحوُّل فيها.
وهكذا صار اتحاد اللاهوت بالناسوت في يسوع المسيح هو “الثبات” الذي نالته الإنسانية؛ لأن استحالة تغيير الصفات الإلهية في الابن جعلت قداسته وهو في الجسد قداسةً دائمةً، وهذا وحده هو ضمان عطايا الحياة الجديدة. يقول كيرلس:
“لقد وعد الله أن يُعطي الإنسانيةَ الروح مرةً ثانيةً، ولم تكن هناك طريقةٌ يمكن بها إعادة هذه النعمة إلى الإنسانية بدون مفارقةٍ، سوى في يسوع المسيح. إنها عودةٌ سببها حالة الاستقرار والثبات” stasin aklonhton أي unshaken state
لقد جاء المسيح بكل ما هو إلهي مِن أجل خلاص الإنسان. وفي نصٍ رائع فريد يؤكد كيرلس مِن جديد تعليم القديس أثناسيوس، وهو أن الإنسانية كلها موجودةٌ في يسوع بسبب الجسد الذي أخذه. يقول كيرلس:
“الروح هو روح الابن، ولم يأت إليه مِن الخارج مثل الأشياء التي تأتي مِن الله لنا نحن المخلوقات. الروحُ في الابن كما هو في الآب حسب صفات الجوهر الواحد الذي لهما … لكن قِيل إنه أخذ الروح عندما صار إنساناً وقَبِلَه كما يقبله الإنسان، وهو ابن الله الآب المولود مِن ذات جوهر الآب قبل التجسُّد، أي قبل كل الدهور. ولا خجل بالمرة إذا قال له الله الآب عندما تجسَّد: “أنت ابني أنا اليوم ولدتك” (مزمور 2: 7)؛ لأنه وإن كان مولوداً مِن الله قبل كل الدهور، إلاَّ أن الآب يقول له: “اليوم ولدتك” حتى ما نأخذ نحن فيه البنوة. لأن كل الطبيعة البشرية كانت في المسيح؛ لأنه تأنَّس. ولذلك قيل عن الابن إنه سيأخذ روحه، لكي ما نأخذه نحن فيه.
ولهذا السبب عينه قيل إنه أمسك بنسل إبراهيم، وشابه إخوته في كل شيء (عبرانيين 2: 16-17). لذلك أخذ الابن الوحيد الروح القدس، لا لأنه يحتاجه، بل لأن الطبيعة الإنسانية كلها كانت فيه. ولذلك أخذ الروح حتى ما يرفع الطبيعة البشرية مُعيداً خلقَها وتكوينها إلى حالتها الأولى … وسوف نرى مِن الأسفار المقدسة كيف حدث هذا، وكيف أن الابن لم يتقبل الروح لأنه كان محتاجاً إليه، وإنما قبله لأجلنا؛ لأن كل الأشياء الصالحة تصل إلينا منه وحده.
عندما خُدِعَ أبونا الأول آدم وسقط وعصى، لم يحفظ نعمة الروح القدس. وهكذا، فقدت فيه الطبيعة البشرية كلها نعمة الله الصالحة (7). ولم يكن الله الكلمة الذي لا تحوُّل فيه محتاجاً إلى أن يتجسَّد إلاَّ لأن تجسُّده وحده يمكن أن يحفظ الصلاح (نعمة الروح القدس) دائماً لطبيعتنا.
ويشرح المزمور هذه الأسرار عندما يقول عن الابن: “أحببت البِّر وأبغضت الإثم لذلك مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج أكثر مِن رفقائك” (45: 7). وهو يحب البِّر على الدوام – لأنك أنت يا الله الابن بارٌ، ولا يمكن أن تحيد عن البِّر. كما أنك تبغض الإثم دائماً، وبُغضة الإثم هي فيك تماماً مثل محبتك للبِّر، لذلك مسحك الله إلهك. نعم مسحك يا مَنْ فيك البِّرُ الغير المتغيِّر؛ لأنه فيك مثل بهاء طبيعتك التي لا يمكن أن تميل إلى الخطية لأنك تعرفها. ولذلك عندما تجسَّدت، حَفَظَتْ في نفسك للطبيعة الإنسانية المسحة المقدسة مِن الله الآب، أي الروح.
لقد تأنس الابن الوحيد وصار مثلنا حتى يصبح فيه بداية الصلاح كله، وتعود نعمة الروح القدس وتُغرس مِن جديدٍ هذه المرة بضمانٍ ( ararotwV أي securely) للطبيعة الإنسانية كلها.
وهكذا منحنا الابن الوحيد، والكلمة الذي مِن الله الآب مِن ثبات ( ametaptwton أي stability) طبيعته؛ لأن طبيعة الإنسان قد حُكِمَ عليها في آدم، وفقدت قوة الثبات وسقطت بسهولة في الفساد. ولكن الصلاح الأول الذي فُقِدَ، يعود كله مِن جديد إلى كل البشرية ولكن فيه. أي يسوع المسيح الذي لا يعرف التغيُّر، سوف نُمنح فيضاً مِن النِّعم الإلهية ستُحفَظ بثباتٍ لجنسنا كله.
وإذا كان هناك مِن يُفكر في عكس هذا التعليم، فليتقدم إلينا ويخبرنا لماذا دُعِيَ المُخلص آدم الثاني؟ أليس لأن الجنس البشري خرج إلى الوجود مِن العدم في آدم الأول، ولكنه سقط عندما داس الناموس الإلهي. لكن في آدم الثاني يقوم الجنس البشري ويعود مِن جديد إلى بداية جديدة متغيرة إلى حياة جديدة، وإلى عدم الفساد. لأن كل مَنْ في المسيح هو خليقة جديدة” (2 كورنثوس 5: 17)” (المرجع السابق).
يعود كيرلس إلى سؤال هام جداً لابد وقد عبر في عقل القارئ، لماذا مات المسيح على الصليب وقام؟ ويجيب على هذا السؤال في نفس النص.
يقول كيرلس:
“ولكن هذه النعمة “تجديد الروح القدس” والحياة الأبدية، أُعطيت لنا بعدما تمجَّد المسيح، أي بعد قيامته؛ لأنه حطَّم قيود الموت، وهزم الفساد. ولما قام حياً، قامت فيه كل الطبيعة البشرية؛ لأنه إنسانٌ وواحدٌ منا. وإذا أردت أن تفحص عن السبب الذي لأجله أعطى الروح القدس بعد القيامة وليس قبلها، سوف تسمع منا الإجابة: صار المسيحُ أول ثمار الطبيعة الجديدة لأن الموت لم يكن قادراً على أن يقيِّده. وعندما قام حياً، كما قلنا، صار الرأسُ، وأصبح كل الذين يعودون إلى الحياة الجديدة بعده مثل النبات الذي لا تظهر أغصانه إلاَّ بعد أن تُزرع البذرة، ويظهر الجذر الذي هو أساس كل شيء. هكذا كان مِن المستحيل بالنسبة لنا نحن الذين صار بدايتنا وجذرنا، ربنا يسوع المسيح نفسه، أن ننال الحياة الجديدة قبله. ولكنه أرانا أن فصل مجيء الروح القدس (9) قد حلَّ بعد ما قام مِن الأموات، ونفخ وقال لتلاميذه “اقبلوا الروح القدس” (يوحنا 20: 22).
لأنه بعد القيامة كان أوان التجديد على الأبواب، بل دخل مِن الأبواب، وكما منح نسمة الحياة لآدم الأول (تكوين 2: 7)، هكذا منحنا نحن نسمة الحياة روح المسيح. لذلك يقول: “أنا هو القيامة والحياة”، والروح القدس وحده هو القادر على أن يجمعنا وأن يخلقنا مِن جديد حسب الصورة الإلهية، لذلك أعطانا المُخلِّص مِن جديد، تلك العطية القديمة، وجددنا في صورته (المسيح) (غل 4: 19).
دعونا نكمِّل الموضوع. لقد وَهَبَ للأنبياء القديسين إنارةً، ومصباحَ نورٍ قويٍ مِن الروح القدس كان كافياً وقادراً على أن يقودهم إلى فهم الأسرار الخفية، ولكن الذين يؤمنون بالمسيح لا يحصلون على مصباح نورٍ مِن الروح القدس، بل بكل يقين الروح نفسه، وأيضاً سُكناه.
ولهذا السبب وحده دُعِينا “هياكل الله” ولم يُدعَ ولا واحدٌ مِن الأنبياء القديسين في العهد القديم “هيكل الله”. وكيف نفسر هذا القول الذي نسمعه مِن المُخلِّص المسيح: “الحق الحق أقول لكم لم يَقُم مِن بين المولودين مِن النساء مَنْ هو أعظم مِن يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم مِن يوحنا (متى 11: 10). وما هو ملكوت السموات سوى عطية الروح القدس الذي قيل عنه: “ملكوت السموات داخلكم” (لوقا 17: 21). لأن الروح يجد سُكناه فينا بالإيمان” (المرجع السابق 1: 692-696).
قيمة هذه النصوص
1- في تتابعٍ يظهر نور الخلاص مِن بيت لحم، حتى الصعود عبوراً بالأردن والجلجثة وجبل الزيتون. كل ما فعله الرب كان لأجل الإنسانية، وكل ما فعله كان في جسده، لأنه استودع ذلك الجسد كل خيرات وبركات السماء والحياة الأبدية، حتى يمكن أن تنتقل هذه الخيرات لنا عندما نتَّحد به في الأسرار وفي الكلمة المقدسة. والاتحاد بيسوع هو اتصالٌ بين ناسوته وبيننا، وعند ذلك فقط يمكن أن تصلنا نعمة الله.
2- يمكن لمن يُدرك أبعاد الحياة الروحية الجديدة أن يرى أن عقيدة الثالوث هي أساس كل الشرح السابق لأثناسيوس وكيرلس؛ لأن الآب في ابنه وبالروح القدس أعطانا كل شيء. نحن لا نتصل بالابن وحده، أو بالروح وحده، وإنما بالثالوث. وكلما كان إيماننا بالثالوث صحيحاً، كلما كان فهمنا للخلاص سليماً وعميقاً، ذلك أن الابن الذي هو في الآب ومِن الآب، بل الآب فيه هو الذي يمنحنا البنوة. وهي ليست منحة الابن وحده، بل منحة الآب في ابنه بالروح القدس.
3- وبعد، .. المسيحُ حاضرٌ بيننا، مسيح الأردن الذي هو بعينه رب الصليب ونور الحياة التي أشرقت بالقيامة .. هذه الحقيقة هي أساس احتفالنا كل عام، بل كل يوم – إذا شئنا – بمعمودية الرب مِن يوحنا. ولولا أن الذي بيننا شخصٌ حيٌ ساهمت أحداث الأردن والجلجثة وجبل الزيتون في تشكيل علاقته بنا، لولا هذا، لما استطعنا أن نحتفل بالغطاس. وهذا الاحتفال ليس ذكرى ماضية نستعيدها في عقولنا، بل حقيقة حية لأن اختبار الأردن هو شركة المسيح فينا، وهي شركة تؤثِّر في كل ما في داخلنا.
ملاحظة هامة عن خلق الإنسان الأول
مِن الضروري أن نشير هنا إلى أن “نسمة الحياة”، أي عطية الروح القدس التي وُهِبَتْ لآدم الأول، هي التعليم الثابت لآباء الإسكندرية. وقد شرح القديس كيرلس الأول نص تكوين 2: 7 في جواب على سؤال طيبريوس Tiberius مؤكداً أن نسمة الحياة ليست هي النفس الإنسانية (لأن هذا هو تعليم المانويين والغنوصيين)، بل هي عطية الروح القدس. ويقول القديس كيرلس إن تصور أن نسمة الحياة هي العقل أو النفس الإنسانية، يؤدي إلى الأخطاء العقائدية:
1- لأن “نسمة الحياة” هو اسم الروح القدس نفسه، فإذا قال أحدٌ إنه النفس الإنسانية، تحوَّل الروح القدس إلى مخلوق.
2- لو كان أصل النفس الإنسانية هو نسمة الحياة، لظل الإنسان الأول بلا خطية، وهو ما يكذِّبه التاريخ.
راجع النص اليوناني مع الترجمة الانجليزية الذي نشره
L.R. Wickham, Cyril of Alexandria Select Letters, Oxford, 1983 p 190-191.
د. جورج حبيب بباوي
19 يناير 2007
________________________________
(1) المشاركة مِن الخارج Kata Metochn Epakton أي علاقة خارجية مثل علاقة الخالق بالمخلوق. هناك مشاركة في الجوهر، وهي مشاركة طبيعية بين الآب والابن والروح. كما توجد مشاركة خارجية مثل حلول الروح القدس علينا.
(2) راجع نفس الحاشية السابقة.
(3) الظلام دائماً، نقيضٌ للنور، وهو حالة الابتعاد عن الله. والنور دائماً هو إشعاع الله في الكلمة أو في الروح القدس.
(4) يُلاحظ القارئ أن كيرلس مثل أثناسيوس في كتاب تجسد الكلمة، يتحدث عن سقوط البشرية على مراحل بدأت بآدم ووصلت إلى حالة أبشع عند بناء برج بابل، وبالطبع يعتبر جهل الإنسان مخالفة من أسوأ نتائج السقوط ودليلاً على الانفصال الذي حدث بين الإنسان والله.
(5) يُلاحظ القارئ أن كيرلس يتمسك بالفهم الشرقي للسقوط، وهو أننا أخذنا عن آدم الموت، وليس الذنب. وعندما يجيء الإنسان إلى العالم وهو ميت، فإن كل دوافعه وميوله تتجه إلى الشر .. هذا التعليم مختلف تماماً عن تعليم أوغسطينوس الذي لم تدخل كتاباته إلى الشرق إلاَّ في بداية القرن التاسع عشر.
(6) تمسك الآباء بهذه النقطة الهامة في كل كتاباتهم عن العلاقة بين المسيح والروح القدس: أن المسيح أخذ الروح في المعمودية، ولكنه وهب الروح للذين يؤمنون به.
(7) تظهر معالم المفهوم الشرقي الأرثوذكسي للسقوط في هذا النص مع النصوص الأخرى التي أشرنا إليها في الحواشي السابقة وهو أن السقوط كان فقدان نعمة الله.
(8) هذا العنوان للتوضيح وليس في النص الأصلي.
(9) استخدم كيرلس كلمة فصل في معظم رسائله الفصحية للإشارة إلى ربيع الحياة الأبدية.
(10) هذا العنوان ليس في النص الأصلي.