لماذا انزعج كارل ماركس من هذا؟
اذا كان الرب عند المؤمن مصدر الوجود من ينكر عليه حقه باللجوء إلى الله سوى من اعتقد مثل ماركس ان الله اختراع الحاجة الإنسانية ؟
الفقير إلى الله ليس من اضطر إلى هذا الشعور بسبب من فقره ولكنه من أحس بدافع عميق من ذاته ان الرب يشبعه حياة ولا يغنيه من مال.
وهب انه يأتيه من فاقة فما الخطأ في ذلك ؟ الرب يأخذنا اليه من حيث نحن.
فاذا أخذنا من جوع كما يرى ماركس فماذا يزعج ماركس؟
هل يعني اننا اخترعناه لأننا لمسنا اننا في حاجة اليه؟ هل الحاجة تستثير الخيال بالضرورة أم أن ما تطلبه موجود؟
لماذا يصر الماركسيون على اننا اخترعنا الله اختراعا لكوننا نبتغي قضاء حاجاتنا؟ من قال لهم ان هذه الحاجة ليست قائمة في الانسان وفي قلبه أو أعصابه وهل القلب والأعصاب وهم؟ وهل يريدون دليلا أعظم أو اقوى من دليل القلب؟
دائما يصدمني عند الملحدين أو الشاكين أو المتقلب ايمانهم ادعاء اللجوء إلى العقل كأنه في الحقيقة رجوع إلى العقل في حين ان ما يسمونه كذلك خيارات اختاروها وأوهموا الناس انها خيارات العقل.
عند الملحدين كذبة كبيرة هي ايهامهم الناس ان ما ليس من الايمان من بنات العقل في حين يمكن ان يقال من بنات الخرافة.
واذا افترضنا ان ما كان خارج الايمان هو من العقل من قال ان كل عقل راجح؟ ليس من عقل في المطلق. هنا عقلي أو عقلك اي هو منسوب إلى كل ما في داخلي أو داخلك. ليس من كيان واحد في الناس جميعا ترجع انت اليه.
كل عقل متعلق بصاحبه بكل ما فيه من معتقدات مسبقة ومن تخيلات وأوهام. ليس من مقياس واحد ثابت اسمه العقل. كل العقول تأتي من دين ورثته أو خياراتها السياسية.
كذبة المتشككين قولهم إنهم يريدونك ان تعود إلى العقل. عندما ينكرون الايمان يريدونك في الكفر وهو ايمان اختاروه لأنفسهم.
الكافر قرر ان الله غير موجود وفي الحقيقة عنده إله آخر هو العقل أو المال أو الحزب أو الجنس. ليس من انسان غير مشدود إلى ما هو غيره.
لا يقوم دين الا بإله هو غيرك. من هنا قولنا اننا فقراء إلى إله ليس فقط يغنينا بنعمته، لكنه يقيمنا من كل عدم نقع فيه اذ كل ما عداه عدم.
"طوباكم ايها الفقراء" ورد كلام يسوع هذا في انجيل لوقا ويقول المفسرون ان في هذا تطويبة الفقراء.
واذا كان الفقر بحد نفسه ليس نعمة فلماذا قال السيد هذا القول؟
الجو الذي كان سائدا في فلسطين لما تفوه يسوع الناصري بهذا الكلام ان الفقراء كانوا ايضا فقراء إلى الله. ربما كان بعض منهم حتى اليوم كذلك. أما اذا كان بعض منا قد استغنى (أي صار غنيا) فلنا ان نفتقر إلى الله اي نعتبره وحده الوجود وان كل شيء آخر حقيقي بسبب هذا الوجود.
صعب على الأغنياء ان يحسوا أنهم فقراء إلى الله. هذا يتطلّب منهم ان يشعروا حقيقة ان كل ما اقتنوا ليس بشيء. ان يصبح المال لا شيء للغني أعجوبة اذا حدثت عنده، قد تكون السماء نزلت عليه. يكون، وكأنه، قد صار مثل المسيح عاريا على صليبه. يكون الله أمسى عنده كل الوجود. يتحقق عند ذاك، فقره إلى الله.
لا يصبح الانسان هكذا الا اذا انسلخ عن عشق الوجود. من عرف الشوق الالهي ووقف عنده لا يحتاج إلى شيء آخر اذ يصير له ربه ملء القلب.
معنى ذلك انك اذا احببت شخصا أو شيئا آخر لا ينثلم بذا حبك الوحيد لله. أدنى ما في هذا انك لا تساوي بين محبتك لله ومحبتك للمخلوقات من حيث القدر وان كان الحب واحدا في نوعيته.
كيف يكون القلب كله لله وتضم اليك اشخاصا أو اشياء من الوجود؟ أظن ان هذا جوابه عند القديسين لأن العاديين من الناس يميلون إلى الشرك.
ولا يقع في الشرك من استحوذ عليه مجد الله حتى لا يستطيع ان يرى وجها آخر اذ الحب لا ينقسم.
الفقر إلى الله يبدأ من نعمته القادرة ان تجعلنا نراه وحده. وهذا من المبدأ القائل ان الرب مبدئ الحياة الالهية فينا. والفقر كامل اذا كانت النعمة كاملة. ومعنى ذلك ان تؤمن ان ليس فيك ما يضاف إلى الله اذ هو مبدئ الوجود وكل الوجود.
اذا استطعت ان تخلي نفسك من ذاتك تكون قد دعوت الرب إلى ان يصبح ملء ذاتك. عند ذاك يزول التحير بينك وبينه أو بين ما لك وما له.
الذين تجاوزوا العقل المحض إلى الرؤية الإلهية يقولون : هذا سؤال لا يرد عند من اتحدوا بربهم في الرؤية. ربما ساغ ان يبقى سؤالا فلسفيا.
بطل ان يكون سؤالا روحيا لأنك انت والله تصبحان روحا واحدا كما أكّد بولس.
ويزول السؤال الفلسفيّ: كيف يصير الاثنان واحدا لنصير امام التأكيد الروحي: انت والله مسيتما واحدا في الحب.
وبعد الحب لا حاجة إلى تأكيد شيء لأنه هو النور الذي به نشاهد كل شيء.
المطران جورج خضر
جريدة النهار
20 - 4 - 2013