الحرية

الحرية ضد العبودية.هل تعني ان الانسان يعمل بما يخطر بباله ؟ .
قد تخطر بباله شهواته وما ارتضاه من مجتمعه الذي ليس بالضرورة مجتمعا حسنا . هل اذا كان تحت ضغط رغباته السيئة هو حر؟
ثم هل نحن احرار في مجتمع مستبد نطيع قوانينه السيئة. هل الحرية ان نتمرد عليه بتشكيلنا جماعة ثائرة ؟
ثم هل انت حر باستقلالك عن مجتمعك ام انت كذلك بموآزرة الناس فتكون مع كل الناس ضد الحكم متوقعا حكما جديدا وساعيا الى ظهوره او تكوينه.
في المستوى الاول من الخطاب الواصف لمواقفنا وأعمالنا العمل الحر خيار ناتج عن نية معيّنة . «انّما الاعمال بالنيّات».
بلا نية ليس من خيار. هناك انسياق الرغبة مع كل طاقاتها بلا موقف. النفس، عند ذاك، واقعة تحت ضغط من ذاتها. تتحمل قسرية والقسرية ضد الخيار.
الحرية اذًا حركة تبدأ بالالتزام اي هي امام غاية اختارتها في سعيها الى القيم اي لا تقوم على الكيفيّة المتفردة.
معنى هذا انها خاضعة للمعقولية لاعتبارها ان العقل مكان الحقيقة ولو تأذى احيانا بما هو ضدّه وخضع للجهل وباعتباره واحدا عند الذين لم يتزعزعوا بعد جهود وسعي. يبقى ميزانا اي من تحلّى به وازن للأشياء فتختار انت العدل لتقرب من الحقيقة.
فيك تسير القيم وتبقى لصيقة العقل وتسير انت الى القيم فلا يطغى عليك شيء ولا تتفلت من ميزانك الداخلي وتتقبل فيك مناقب تقدمك وتحررك من وطأة الأهواء اللاواعية والتي لا يضبطها العقل.
هذه الروحية ان عشتها مع الناس تصبح سياسة او فلسفة للسياسة. بها نتجاوز الجماعة المنغلقة ونقيم ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي .
اذًا الحرية تصبح حريات ناس يتعايشون ويتعاونون لبناء ما نسميه الحق الطبيعي والحريات العامة والديموقراطية التي لا تقوم على العدد وحسب ولكن على القيم التي يحملها عدد من الناس.
الديموقراطية حركة وتطهر. هي حكم أقرب ما يكون الى كنيسة.
في دنيا السياسة الكتاب التأسيسي هو الأخلاقيات الى نيكوماكس لأرسطو وهو بحث يدور حول الفضيلة والسعادة . والفضيلة عند المعلّم الأول كما سماه العرب تعني عند ارسطو الامتياز.
والبحث عن الفضيلة او الامتياز يتصدى لموضوع العلاقة مع العدل اي الوسط بين حد وحد. فالفضيلة في الوسط والحصافة او التعقل او الحكمة هي السياسة. والوحدة بين المناقب والسياسة سقطت فيما بعد.
برغم كل ما جاء به ارسطو عن الحكمة والامتياز ليس عنده مفهوم عن الحرية اذ ليس عنده مفهوم عن الذات والذاتية والتاريخ الماورائي لمفهوم الحرية جوهريا هو تاريخ وحدته مع الذاتية.
وما قد يفسّر خلوّ الفكر الأرسطي من الحرية ان الفلسفة اليونانية اهتمّت بالمدينة ولم تهتم بالشخص القائم في ذاته . اجل عندها احرار وعبيد ولكن كل هذا تنظيم اجتماعي.
ما قيل باختصار يدل على ان الحرية مسألة فلسفية اساسا وبقيت كذلك اذا اعتبرنا ان الله وحده هو الحر المطلق اي اذا رأينا ان كل عمل يقوم به الانسان عامله في الحقيقة الرب.
اذا قلت ان الله وحده سبب كل شيء في الكون وبخاصة عند الانسان العاقل تجعل الناس جميعا عبيدا لله. اذا لم تضرب إطلاقية الله لا يمكن ان ترى ان الانسان عنده شيء من الوجود.
كيف يجتمع الله والانسان؟ هل لهما ان يتشاركا ؟ هل من إمكان لهذه المشاركة، هل الانسان مسؤول؟ هذا هو وحده السؤال عن الحرية.
هكذا تطرح الفلسفة السؤال والفلسفة ليست مجال الجواب.
اللاهوت هو مدى الجواب.
إقرار الحرية هو إقرار المسوؤلية، اي النظر في موضوع رفض الانسان للشريعة الخلقية. المسؤولية هي إمكان رفض وإمكان تمرد ليسيطر الانسان بقوته الخاصة على الوجود.
الواقع البشري ان الناس لهم ان يسيروا مع الله ولهم ان يقولوا له لا. اذكروا رواية سفر التكوين حيث قالت الحية لحواء: «الله عالم انه يوم تأكلان من ثمرة شجرة الحياة تنفتح اعينكما وتكونان مثل الله عارفي الخير والشر» الترجمة الفلسفية لهذا الكلام ان اغراء الحية لآدم وحواء ان يصيرا مثل الله مختبرين كل شيء غير آبهين بقول الله وبطاعة هذا القول.
تأليه الانسان لنفسه مستقلا عن الكلمة الالهية هو حرية الرفض وجعل كل قوة الانسان صادرة عنه.
واذا سمحتم ان استعير عبارة من الخبرة السوفياتية هؤلاء هم جمعية الذين لا إله لهم كما كانت تسمى في روسيا الشيوعية. هنا تتخذ لفظة الحرية معنى التحرر من الله وإشرافه علينا وانصياعنا له.
ماذا اذا لم يبقِ الله نفسه مطلقا في تنازله عن إطلاقيته ليجعل الانسان شريكه في الوجود الخلقي .في الحقيقة، في إكمال ذاته،
يقول القديس غريغوريوس النيصصي ان يكون الإنسان قد خُلق على صورة الله يعني ان عنده حرية مثل حرية الله .
والله كامل الطهارة وحريته تنفي عنه كل شر. لذلك كانت حريتنا في تصور القديس غريغوريوس تشبّهًا بكمال الله اي ليست هي التردد بين الخير والشر ولكنها التصاق بالخير فقط . كان غريغوريوس النيصصي يقول، قول يسوع: «كونوا كاملين كما ان أباكم كامل» تعني ان تسعوا الى الكمال. أُعطيتم هذه الحرية للسعي الى وجه الله.
يوسفني اني كثيرا ما سمعت هذا : لماذا جعلنا الله أحرارا اي قادرين على الخطيئة ؟ 
في الحقيقة ان الحرية التي منحك الله اياها مقررا لأعمالك بمشاركة إرادتك كلمة الله ومشيئته هي التي تخرجك من عالم الحيوان الى دنيا العقل.
ليس الإنسان حيوانا ناطقًا فقط ولكنه ايضا حيوان حر. لذلك لم يبقَ في مملكة الحيوان. ليس خاضعا لسلطان الغريزة فقط. هو حاكمها بما يعرفه عن الله.
كيف نفهم ان صورة الله في الانسان هي الحرية ؟. لا يفهم هذا في تقديري الا اذا اعتبرنا ان الله الكلي القدرة قبل منذ خلق الانسان ان يجعله شريكه في القدرة. كذلك هو شريكه في خلق الجمال الفني. من هنا، قول علماء الجماليات ان الفنان خالق. الفنان لا ينسخ الخلق ولو استمد ذوقه منه او تشبه بالطبيعة كما يقول ارسطو. غير ان الفنان ليس مجرد مسجّل للطبيعة في اتيانه بالموسيقى او الرسم او الشعر وغيرها من الفنون. الفنان من بعد اتصاله بالطبيعة منشئ لشيء مستوحى منها ولكنه ليس اياها.
على هذا المثال نقول ان الانسان العادي منشئ للروعة الخلقية التي تبثّها نفسه والخُلق ثمرة النعمة اي الهبة الإلهية والجهد البشري معا.
عندما يقول بولس الرسول: «مشيئة الله قداستكم» لا نفهم من هذا ان الرب يهبك قداسته دون استعدادك لتقبلها ودون ارتضائك النعمة. كيف يلتقي العطاء الإلهي والتقبّل البشري لهذا العطاء أمر يفوق تصورنا اذ لم نعطَ رؤية التقاء الهبة الإلهية وانفعالنا بهذا العطاء.
بالمقابل لا نفهم كيف تلتقي النعمة النازلة علينا ورفض هذه النعمة. كيف ننقطع عن الله اذا انقطعنا. الحرية مفتوح عليها مصراع الخير ومصراع الشر.
النفس البشرية غاية في التعقيد الى ان تلبس ربها لباسا كاملا فتحل فيها البساطة وهي وصلتنا المباشرة بالرب وبالناس.
هذه الرؤية الصافية في القلب البشري عبّر عنها يسوع الناصري بقوله: «وتعرفون الحق والحق يحرركم». الحق في انجيل يوحنا حيث أتت الآية ليس مجرّد الاستقامة او العدل هي ان نحب الله حبا كبيرا ولا يظل فينا ميل الى غيره فإن الله لا يحررك من نفسه لأنك لولا انعطافه تموت. انت تتكون روحيا من احتضانه اياك.
عند هذا التأمل تواجهنا مسألة الخطيئة وهنا يجيء كلام المسيح: «من عمل الخطيئة صار عبدًا للخطيئة ومن عمل البر صار عبدا للبر».
هناك ملازمة بين الخاطئ وما يرتكبه وملازمة بين البار وما يأتي به من برارة.
الإنسان ينهل من القداسة التي أحلّها الله في نفسه فيستقيم بها وينهل من الشر الذي استقرّ فيه فيتشوه. الحرية تعني لنا حركية القداسة والخطيئة تعطيل الحركة الداخلية التي الرب هدفها.
اجل تتحرك النفس بشتى المعارف والمشاعر وتصعد وتهبط. ويعود المرء في ذاته الى الله او يعود عن الله في ذاته فيتذمّر داخليا بمعنى انه يبقى بلا إله. يسكن في عزلة خطاياه عن الحق بحيث ساغ القول ان النفس ماتت في هذه الحال الى ان يعيدها الله الى بهائها برحمته وعند ذاك، تستعيد حريتها من الخطيئة الى حرية ابناء الله واقتباس النور من جديد.
أطروحة كنيسة الآباء اننا صرعى اهوائنا والأهواء جذور الخطايا وهي كامنة في الذات. فأنت لا تحارب الخطيئة بما يبدو منها قولا او فعلا ولكنك تحارب الأصول المغروسة فيك. فالمهم ان تعرف كوامن الكذب او الشراهة او البغض او الغضب وتلك هي الأهواء
 وقد وضع آباؤنا القواعد لضرب جذور الشهوات وتحدثوا عن الصلاة والتقشف وقراءة الكلمة وجملةً عن النشاط الروحي الداخلي الذي يقصي الهوى فتكتسب، اذ ذاك، التحرر من هذه القوى الضاغطة وتأتي افكارك وأعمالك من ذاتك المنعتقة بعد ان كانت اداء انحراف.
الحرية لا تدلّ فقط على عمل مفاجئ تنتقيه. هي لا تذهب ان تمرست بالفضيلة التي تؤتيك اعمالا متشابهة. الحرية لا تنافي ما اعتدت عليه من اعمال صالحة تتكرر اذ يكون الحسن الروحي قد تأصل فيك.
انت تأتي دائما من الله اذا اكتسبت فضيلة وانت فيها حر من ضدها. الإنسان الساطع بهاءَ قداسةٍ يظلّ شاعرا بحريته. عبارة «عبدا للبر» التي اقتبسناها من انجيل يوحنا ليست تكبيلا للمرء. لا يُسجَن احدنا في الفضيلة. الثبات في الخير ليس جمودا. يوجد تحرك ضمن الثبات الروحي.
هذا جملةً ما كان في المسيحية التراثية مع تلاوين مختلفة في الشرق والغرب.
فالغرب يشدد كثيرا على الإرادة كتمرين على الخير والشرق الأصيل في النسك يشدد على تقوية التقوى والامتلاء من الروح القدس اي على نشاط القلب. في الاقليمين هذين تظل الحرية تقود الاحساس الروحي والقادرة على محو الرذائل.
هذا كان القول المسيحي جملةً والمراسَ المسيحي وبعد القناعة بالحرية تؤتي هذه انضباطا محييا للذات واعمالها.
الآن ماذا يقول الإسلام؟ السؤال الذي طرحه الفكر الإسلامي انطلاقا من القرآن اساسا هو هذا من يخلق الفعل البشري. كان الاتفاق على ان الله خالق الأفعال ولكن لا بد بعد هذا من تدقيق
فقال القدريون ان الحساب على النيات والمقاصد وقال اهل الجبر ان الله خالق الفعل وهو مسؤول عن كل عمل. والانسان تنسب اليه الأفعال على المجاز.
يستند أهل الجبر على ما ورد في سورة الشمس فجاء فيها: «ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها» القدريون يستشهدون بالآية الثالثة من سورة الإنسان: «انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا».
مهما يكن من أمر هذا السجال اللاحق للبعثة النبوية فالاسلام قائم على الحساب في يوم الدين وتاليا قائم على المسؤولية الشخصية امام اختيار الأعمال ورفضها.
اجل يقوم الإسلام على سلطان الكامل لله على الوجود والمسلمون اليوم يعيشون خارج النقاش التاريخي الذي اوردناه ويقوم هذا على التوبة عن المعاصي وعلى الاستغفار. والله هو الرحمان الرحيم وهل من رحمانية او رحمة بلا وجود خطيئة اي بلا ارتكابها وعيا او كرها.
المسلمون يعيشون في احساسهم بالغفران الإلهي يقابله من جهتهم معرفتهم للارتكاب او الاستعطاف اي انهم مدركون لمعنى الحرية وأبعادها.
بايجاز نقول
ان الانسان الحر لا يخضعه شيء ولا انسان ولا وضع طارئ او وضع دائم. 
هو الكائن المستقل عن كل غرض وكل شيء عابر واذا وجد نفسه عند طارئ عبدا للخطيئة له ان يكسر قيوده بالنعمة التي يلتمسها في كل حين. الحر هو من آمن قبل كل شيء انه حر وليس ما ينتزع منه حريته خارج حريته ذاتها.
الحرية ليست فقط اجتيازا للفرد او للشخص. انها ايضا حياته في الوطن. انها بروز المواطن ازاء سلطات الدولة. الحرية لا تمارَس الا اذا حماها القانون والقانون يصدر عن الشعب ممثلا بمجلس النواب ونكون قد انتقلنا من حكم الفرد الذي هو الملك الى حكم الأمة الحرة، هذا بالمبدأ.
بسبب هذه الرؤية كان شعار الثورة الفرنسية «حرية، مساواة، اخوّة». وبسبب ذلك بعد ان كان القوم رعايا الملك صاروا يُدعَون مواطنين وباللغات الأجنبيّة اهل المدينة Citoyens أو Citizens.
الحرية تُعطَى ليس فقط لكل منهم ولكن لكل البلد مجتمعا والدولة بعد ان صارت دستورية، خاضعة لنصوص أمست نظاما يتمتع به الجميع.
طبعا تشدّ الدولة سلطانها فتقمع ولكن يبقى صراخ الأحرار حتى يتحرر الحكم من غطرسته ويذكر انه ما جيء به ليُخدَم بل ليخدم ويصبح لغة الله للناس.
ان ترى الى الناس جميعا احرارا من موقع سلطتك ليس امرا ممكنا ما ما لم تنطلق من هذه القناعة ان الشخص يجد نفسه معتقا من كل قيوده بما فيها قيد السياسة لأن الله بحبه أعتقه ليكون شبيهًا به.
أرجو ان أكون قد بيّنت ان الحديث في الحرية ليس فلسفة وحسب وليس قولا في الديموقراطية التي تبقى على عظمتها نظاما بشريا
ولكن الحرية قول في الله، لغته منه اليك لتصبح لغته منك اليه والسلام.


المطران جورج خضر
محاضرات (28/08/2012) 
فندق لوكريون – برمانا 
حلقة آيانابا 27 لاتحاد العالمي المسيحي للطلبة – إقليم الشرق الاوسط

georgeskhodr.org