الله والفكر البشري

- ليس الله "مسألة" تبحث بالعقل المجرد:الله موضوع إيمان: "أومن بإله واحد...". ليس إذًا موضوع معرفة عقلية مجردة.
 وذلك لعدة أسباب يقبلها العقل إذا تأمل فيها موضوعياً، منها 
لو أمكن معرفة الله بالعقل، لكان العقل استوعب الله وحواه. ولكن المحدود لا يمكنه أن يسع غير المحدود. نقطة الماء لا يمكنها أن تستوعب البحر.
 العقل لا يمكنه أن يحوي الله ويحصره لأن الله مصدر العقل نفسه.
يقول جان دانيالو بهذا المعنى: "ليس الله ضمن حدود الإدراك لأنه هو الذي يكوّن الإدراك". لو كان العقل يدرك بحد ذاته الله، لكان العقل مقياس الله بينما الله هو مقياس الأشياء كلها بما فيها العقل.
فكما أن العين عاجزة عن الشخوص إلى الشمس لأن نور الشمس يبهرها، هكذا العقل عاجز عن إدراك الله، بهذا المعنى قال الكتاب: "الله ساكن في النور الذي لا يدنى منه". "العقل يحدد الأشياء التي يدركها ولكن الله فوق كل تحديد" كما يذكّرنا غريغوريوس النيصصي. من كل ذلك يتضح أن المعقول- رغم التناقض التعبيري- أن لا يدرك العقل الله، وأن الطريقة الوحيدة المعقولة للاقتراب من الله هي أن يتخلى العقل عن مركزيته، فلا يعود يعتبر ذاته مقياس كل شيء، حينئذٍ يمكنه أن يستنير بنور الله وأن يعرف الله مقياساً له وللأشياء كلها.
ومن جهة أخرى ليس الله موضوع بحث يمكنني أن أعالجه بعقلي وحسب بالاستقلال عن مواقفي الكيانية العميقة. ليس الله "مسألة" على حد تعبير غبريال مرسيل، كمسائل الجبر والهندسة مثلاً. يجدر بنا هنا أن نتوقف هنيهة لنستعرض بسرعة مفهوم المعرفة في الفكر الحديث.
لقد تجاوز الفكر الحديث ذلك التصور الوهمي الشائع الذي نعتقد بموجبه أن العقل البشري لوحة فوتوغرافية تسجل الواقع. لقد أظهرت أهم تيارات الفكر المعاصر أن المعرفة نابعة من وجود الإنسان كله. إن هذا الوجود يتفاعل مع الواقع لتكوين المعرفة. ذلك لأن الإنسان ينظر إلى الواقع من خلال اتجاهاته الكيانية، ينظر إلى الواقع من خلال ذاته. لقد بيّن ذلك، على صعيد الفيزياء النووية الحديثة، العالم الشهير هيزنبرغ وغيره (أدنغتون مثلاً). وأظهرته اختبارات عديدة قام بها علماء النفس المعاصرون وبينوا بها أن الإدراك الحسي عينه عملية انتقائية تتأثر بميول الإنسان واهتماماته. دور المواقف الحياتية هذا في المعرفة يتضح أكثر وأكثر كلما كانت هذه المعرفة تمتّ بصلة أوثق إلى الحياة. ولنأخذ على ذلك مثلاً: إن الأدلة العلمية كلها لا تكفي لإقناع إنسان ما بأن البشر متساوون أصلاً بالامكانيات وبالكرامة، وإن تعددت أجناسهم، ذلك أن الكبرياء العنصري وشهوة التسلط قد تملي عليه، رغم كل منطق، نظرة خاطئة إلى الواقع وقد تدفعه- وقد رأينا ذلك في تاريخ ليس بالبعيد- إلى تسخير العلم نفسه لتبرير مشاعره العرقية، لا بل قد تدفعه إلى إدراك حسي مشوّه للأشياء، كما أثبت Allport و Postman ذلك أخصائيان نفسيان هما 
بالاختبار الطريف الآتي:
فقد أظهرا على شاشة صورة تمثل عربة مترو في ضواحي نيويورك فيها زنجي وعامل أبيض يتشاجران، والعامل الأبيض يحمل بيده اليسرى على مستوى زناره موسى حلاقة مفتوحة. كان على الأفراد الذين خضعوا للاختبار أن يرى كل منهم الصورة ثم يروي ما رآه لشخص ثانٍ وهذا بدوره لثالث وهلمّ جرّا حتى ستة أو سبعة أفراد، ثم يُطلَب من كل من الأفراد أن يعيد ما سمعه. وقد تبين أن كثيرين من الذين أجري الاختبار عليهم كانوا يروون أن الزنجي في الصورة كان يهدد الأبيض شاهراً عليه موسى حلاقة، وهكذا سمعوا الرواية، وفقا لأميالهم العنصرية.يقولون: "دعوا الوقائع تتكلم" ولكن العالم الرياضي الشهير هنري بوانكاره أظهر (منذ بداية هذا القرن) الالتباس الكامن في جملة شائعة كهذه.
فقد أجاب أن الوقائع لا تقول شيئاً. ذلك لأن الإنسان هو الذي يعطيها معنى، لذا يمكن أن يكتشف المعنى الكامن في الوقائع أو أن يحجبه.هكذا لا تنجلي للمرء معاني الوقائع إلا إذا كان كيانه مستعداً لاقتبالها منفتحًا لها. ألَيْس تاريخ العلم نفسه شاهداً على ذلك؟ كل النظريات الجديدة التي طورت العلم ودفعته إلى الأمام، كنظريات لا فوازييه وكلود برنار وباستور وأينشتاين وفرويد حوربت بضراوة وسُخّفت من أقطاب العلم في الحقبة التي ظهرت فيها. لماذا؟ لأن أقطاب العلم هؤلاء، رغم مستواهم العقلي الرفيع، لم يكونوا منفتحين إلى المعاني الجديدة التي جلاها المكتشفون. ذلك لأن تفهم النظريات الجديدة كان يتطلب منهم ما هو أعمق بكثير من مجهود عقلي مجرد، كان يتطلب منهم إعادة نظر في عادات التفكير التي ألفوها والتي أصبحت مرتبطة بطمأنينتهم وكرامتهم. قبول الحقائق العلمية إذًا، على هذا الصعيد، مشروط بتواضع عميق وتخطٍّ للذات وقبول للمجازفة وإعادة نظر في الكيان الشخصي نفسه.
ولكن ما يصح بالنسبة للحقائق العلمية يصح إلى أبعد حد بالنسبة إلى الله. قبول الله يفترض في الإنسان التزاماً كيانياً عميقاً. ذلك التواضع أمام الواقع الذي يفترضه عند العالم اكتشاف معان جديدة، مطلوب إلى أبعد الحدود ممن شاء أن يقترب من الله. ذلك أن قبولي لله يعني اعترافي بأنني لا أملك شيئًا من ذاتي أو بالأحرى لا أملك الا عدمي طالما لا يخرج كياني من العدم في كل لحظة إلا بفعل الله.
إعترافي بالله يعني اعترافي بأنني عدم بحد ذاتي وأن كياني وكل خير فيّ ليس سوى هبة من الله وبعبارة أخرى أنني لست بموجود إلا لأن الله يحبني ويوجدني. لا يمكنني أن أقبل الله إلا إذا كنت مستعداً استعداداً حياتياً، كيانياً، للاعتراف بتبعيتي المطلقة، وبدون هذا الاستعداد الكياني لا يمكن لعقلي أن يُقر بالله لا بل سوف يحاول بشتى الوسائل أن يتهرب من هذا الاعتراف وسيتذرع بكل الحجج الممكنة لإنكار الله. مجمل الكلام: أن قبول الله يفترض استعدادي العميق لإعادة النظر في اكتفائيتي.
الله يخاطب العقل من خلال "آثاره في الكون وفي الإنسان"ولكن الله، وإن لم يكن "مسألة" تبحث وتُحل بالعقل المجرد، إلا أنه لم يدَع نفسه بلا شاهد، على حد تعبير الرسول بولس. إن آثاره في الكون وفي الإنسان تنبئ للعقل الإنساني عن وجوده. ولا أعني هنا بالعقل العقل المجرد الذي هو كما رأينا جوهر وهمي. إذ أن العقل البشري ليس بطاقة مستقلة إنما هو متأصل في كيان حي ويتأثر بالمواقف الوجودية التي يتخذها هذا الكيان. "آثار" الله علامات يخاطب الله بها ليس العقل المجرد بل الشخص العاقل الذي يمتد كيانه كله، بشفافية تامة، إلى الحقيقة المطلقة، مستعداً للتخلي عن "حقائقه" الخاصة لاقتبالها، متأهبًا لإخضاع حياته لها إذا انجلت له. تلك "السبل إلى الله" تهدي الإنسان دون أن تغتصبه اغتصابًا. فالله، إله الإعلان الكتابي، شخص حرّ يرغب في لقاء حر مع الناس.وسنستعرض فيما يلي بإيجاز كلي بعض هذه الآثار التي تهدي إلى الله

 تسلسل العلل 
كل ما يجري في الكون نتيجة لسبب أوجده. وهذا السبب هو بدوره نتيجة لسبب آخر وهلم جرّا. إذا أخذنا مثلا حيواناً وتساءلنا: لماذا هذا الحيوان حي؟ ما سبب استمراره في الوجود؟ رأينا أن لذلك أسباباً متعددة، منها ضغط الهواء وحرارته، ومنها المواد الكيماوية التي يحويها الهواء، ومنها الأطعمة التي يتناولها الحيوان وهلم جرّا. ولنختر الآن من بين هذه الأسباب العدة أحدها، مثلاً الأطعمة، ولنتساءل من أين تأتي المواد الغذائية التي تحفظ حياة هذا الحيوان؟ما سببها هي؟ فنرى أن بعض هذه المواد- وسنتوقف عندها- أعني النشوية، وهي التي تحرك جسم الحيوان وتعطيه القوة والنشاط، لا يمكن أن تأتي في النهاية إلا من النباتات. وهنا نتابع تساؤلنا فنفتش عن سبب وجود هذه المواد النشويّة في النباتات فيتضح لنا أنها تتكون من اتحاد الكربون بالمواد الكيماوية التي تمتصها النباتات من الأرض بواسطة جذورها. ونتساءل من أين يأتي هذا الكربون؟ فيجيب العلم أنه يأتي من تحليل الحامض الكاربوني أو ثاني أوكسيد الكربون الموجود في الهواء ولكن كيف يتم هذا التحليل، ما هو سببه؟ إنه يتم بتأثير مادة الكلوروفيل الموجودة في النبات. ولكن من أين للكلوروفيل هذه الطاقة على تحليل ثاني أوكسيد الكربون؟ هنا يظهر البحث العلمي أن هذه الطاقة مستمدة من الطاقة الشمسية. وبقي علينا أن نتساءل من أين تأتي طاقة الشمس هذه؟ فتجيبنا إحدى النظريات العلمية أنها ناتجة عن تفكيك ذرات الهيدروجين في الشمس. وهنا لا بد للعقل أن يتساءل عن السبب الذي يحدث هذا التفكيك وهذا السبب يستدعي بدوره سبباً آخر وهلم جرّا.
وهكذا حيثما انتقلنا في هذا الكون نجد سلاسل مرتبطة حلقاتها ارتباطاً متينا. العلم يتوقف عند اكتشاف هذه السلاسل ووصفها ومحاولة إضافة حلقات جديدة إليها. ولكن الفكر الإنساني لا يسعه أن يقف عند هذا الحد، لأنه بطبعه متعطش إلى تفسير أعمق وأشمل. لذلك فعندما نتأمل في تسلسل الأسباب نرى أنه يفترض عقلياً وجود سبب أول تستند إليه كل سلاسل الأسباب والا فقدت كل هذه السلاسل مبرر وجودها.لنأخذ مثلاً على ذلك. آلة مركبّة من دواليب كثيرة يحرك أحدها الآخر. فكل من هذه الدواليب يستمد حركته من دولاب آخر. ولكن مهما كثر عدد الدواليب، وحتى لو افترضنا أن العدد غير متناه، فهذا لا يمنع أن تكون حركة كل من الدواليب وحركة الآلة كلها مستمدة من مصدر طاقة هو في الواقع السبب الحقيقي لحركة الآلة كلها. هذا المصدر اذا ألغيناه تتوقف الآلة حتما لأن الدواليب، مهما تعددت، تصبح بدونه عاجزة عن نقل أية حركة.هكذا العلم يكتشف دوما أسبابًا جديدة يضيفها في سلاسل الأسباب إلى الحلقات المعروفة قبلاً. ولكن مهما امتدت هذه السلاسل وتعقدت فهذا لا يغني عن مصدر تستمد منه الأسباب كلها وجودها وفاعليتها.تسلسل الأسباب في الكون يستدعي إذا وجود سبب أول.ولكن ماذا نعني بعبارة "السبب الأول"؟ إننا لا نعني بها أولية في الزمان كما يتصور البعض من أصحاب المثل المشهور: من أين أتت هذه البيضة؟ - من دجاجة. والدجاجة؟ - من بيضة. والبيضة هذه؟ - من دجاجة الخ... حتى الإنتهاء إلى هذا السؤال: والبيضة الأولى؟ أو الدجاجة الأولى؟ كلا، ليست القضية في جوهرها قضية تسلسل زمني والا لما كان لها حل عقلي لأن لا شيء يمنعنا منطقيًا من أن نرتقي هكذا من بيضة إلى دجاجة ومن دجاجة إلى بيضة إلى ما لا حد له. القضية تسلسل كياني، جوهري، تسلسل الارتباط والتبعية كما اتضح لنا من مثل الآلة المذكورة آنفا. إن النتيجة الفلانية مرتبطة بالسبب الفلاني وهذا بدوره نتيجة لسبب آخر، فهذا يعني أن ليس أحد من هذه الأسباب سبباً مطلقًا، لأنه يستمد وجوده من غيره لذلك يقتضي وجود سبب مطلق، منه تنبع كل هذه الأسباب الجزئية ومنه تستمد في كل لحظة، ليس فقط في الماضي بل في الحاضر وفي المستقبل أيضاً، وجودها وفعلها، كما أن دواليب الآله تستمد في كل لحظة حركتها من الطاقة المحركة.ولكن الفرق بين تلك الطاقة التي تحرك الآلة و"السبب الأول" الذي ذكرناه هو أن تلك الطاقة المحركة هي أيضاً سبب جزئي يستمد وجوده من آخر، ولذلك ليست الا صورة لا تفي بالقصد عن"السبب الأول" الذي لكونه سبباً مطلقاً يختلف بطبيعته كل الاختلاف عن الأسباب الأخرى إذ هو ينبوع كل وجود فيما لا تستمد الأسباب الأخرى وجودها إلا منه. وهو متميز عنها جوهرياً، متعال عنها كل التعالي ولا يعقل أن يكون هذا السبب المطلق عنصراً من عناصر الكون لأن كل عناصر الكون متشابهة، متجانسة في طبيعتها، ولا يعقل أن ينسب الإطلاق لبعضها دون الآخر. لذا لا يمكن أن يكون السبب المطلق إلا جوهراً متعالياً عن الكون وهو ما نسميه الله.
أودّ أن أضيف شيئاً إلى هذا السبيل العقلي الأول إلى الله. إذا كانت القضية، كما أوضحنا، قضية ارتباط كياني فإن هذا الدليل لا يفقد قوته ولو افترضنا أن سلاسل الأسباب الجزئية امتدت في الزمن إلى ما لا نهاية له. ولكن هذا الافتراض نفسه يصطدم ببعض نظريات العلم الحديث التي تؤول إلى الاعتقاد بأن الكون له بداية زمنية. فنظرية "توسع الكون" تقول بأن الكون بدأ بالامتداد انطلاقًا من ذرة كبيرة أولى كانت تتمتع بقوة إشعاعية وأن هذه الذرة انفجرت في لحظة ما فولّدت الكون في امتداد مستمر متزايد عبر الزمن. أما نظرية فقدان الطاقة فهي تقول أن الطاقات في تحولها بعضها إلى بعض تفقد شيئاً من ذاتها بشكل رواسب حرارية. يستنتج من ذلك أن مستوى الطاقة في الكون في تدن مستمر وأنه ستأتي لحظة تفقد فيها الطاقة تماماً. ولكن هذه الطاقة التي تنتهي شيئاً فشيئاً لا بد أن تكون قد بدأت، وإلا وقعنا في تناقض منطقي بتأكيدنا من جهة أن هذه الطاقة لامتناهية (إذ إنها لم تبتدئ) ومتناهية (لأنها تنتهي). من خلال هاتين النظريتين وغيرهما يطرح العلم الحديث مسألة ابتداء الكون منذ زمن يقدّره البعض بين عشرة مليار ومائة مليار من السنين.وهذا ما يقودنا إلى عتبة سؤال جوهري: إذا كان الكون قد بدأ، فمن الذي أدخله إلى الوجود؟ وهنا لا بد لي من التنويه بالاعتراض الذي يبديه البعض بقولهم: قد يكون أوجد ذاته ولكن هذه العبارة فيها تناقض منطقي إذ تفترض أن وجوده كان سابقاً لوجوده. أما "السبب الأول"، الله، فلا يقال عنه أنه "أوجد ذاته"، لأنه بحد ذاته الوجود المطلق، أو ما كان يسميه الفلاسفة الأقدمون "واجب الوجود".
نظام الكون
ومن جهة أخرى نرى أن الكون يسوده نظام وترتيب. ذلك أن أحداثه كلها تجري بموجب نواميس محددة وشرائع ثابتة وهذا ما يجعل من العالم "كونا أي مجموعة مرتبة ومنظمة وليس "فوضى. وهذا هو أساس قيام العلوم، لأن العلم يقوم على افتراض وجود نواميس ثابتة في الكون، حتى أن الفلكي يمكنه أن يعيّن بالتدقيق الزمن الذي سوف يحدث فيه خسوف قبل حصوله بألف سنة، معتمداً على قيام نظام ثابت في الكون لا يتغير مع الزمن ولكن كيف يُفسَّر هذا النظام؟ أحداث الكون تسير بموجب نواميس، ولكن من رسم لها هذه النواميس؟ "الأحداث الطبيعية تخضع لشرائع ولكن من المشرّع؟" (أندرونيكوف).ليس عند العلم جواب عن هذا السؤال، لأنه يلاحظ وجود النظام في الكون ويبني عليه أبحاثه وتطبيقاته، ولكنه يقف عند هذا الحد، فليس من خصائصه أن يوضح مصدر هذا النظام. العلم يصف النواميس، فيفسر لنا هكذا "كيف" تسير أحداث الكون، ولكنه يبقى ضمن نطاق "الكيف" ولا يتعداه إلى مجال "اللماذا". ليس من خصائصه أن يتساءل عن أصل هذه النواميس. ولكن الفكر الإنساني المتعطش إلى الأجوبة النهائية ينفذ إلى أبعد من ذلك. إنه يتساءل عن واضع النظام للكون، عن مشرّع نواميسه.إن نواميس الكون تفسر أحداث الكون ولكنها هي بحاجة إلى من يفسرها. هذا ما يتضح خاصة عندما نرى هذه النواميس تعمل وكأنها موجهة نحو غاية وهدف.
 إن الحياة بشتى مظاهرها تضعنا أمام هذه الغائية التي تتجلى مثلاً في غرائز الحيوانات وفي تركيب أجسامها. إذا شئنا أن نبني قصراً علينا أن نضع بضعة ملايين من الحجارة كلاًّ في مكانه ولكن تركيب أقل عضو من جسمنا يتطلب ترتيب مليارات من الذرات بموجب تصميم وهدف.فهل ندّعي بأن الطبيعة أعطت لذاتها هذه النواميس ورسمت لذاتها أهدافًا؟ ولكن أنى للقوى غير الواعية التي تتألف منها الطبيعة أن تعطي ذاتها نظاماً وغاية، اللهم إلا إذا عنينا بالطبيعة ليس تلك المجموعة من القوى الآلية التي يحللها العلم، إنما جوهرًا صَنَعَه فكرُنا ونسب له صفات إلهية ليستعيض به عن الله. هكذا يبدو لنا التناقض الكامن في موقف الطبيعيين فإنهم من جهة لا يرَون في الطبيعة إلا مجموعة من القوى الفيزيائية والكيماوية العمياء ومن جهة أخرى ينسبون لهذه المجموعة فكرًا موجِّهًا يوجد نظامًا ويسعى إلى أهداف. إنهم من حيث لا يدرون يبنون لاهوتاً ولكنه،Etienne Borne على حد تعبير 
، أسوأ لاهوت، لأنه مبني على تناقض صارخ.أما إذا شئنا أن نتحاشى هذا التناقض ، فعلينا أن نقرّ بوجود فكر خلاق يفسر وحده نظام الكون وترتيبه وغائيته. بدون هذا الفكر لا يمكن لقوى الطبيعة، مهما كانت جبارة، أن تنظّم الكون، كما أن سائق السيارة إذا عُصبت عيناه لا يمكن أن يقود سيارته بشكل مرتب مهما كانت جودتها. هذا الفكر الخلاق الذي ينظّم الكون ندعوه الله.



د. كوستي بندلي
عن serafemsarof.com