كرازة المحبة

   ليست الكرازة تسويق كلام ولا إقناع بمعتقدات. بيع الأفكار ليس عمل كرازة لأن الله ليس فكرة. الله كائن. قبل أن تسمع عنه أنت بحاجة لأن تراه وتسمعه. صحيح أنّ المسيح لم نعد نعرفه حسب الجسد بعد ولو عرفناه قبلاً كذلك (2 كو 5: 17)، إلاّ أنّ جسداً جديداً يُرى فيه ويُسمع. هذا الجسد هو الكنيسة، هو أنا وأنت. الجسد الجديد ليس لحماً ودماً. فقط قائم في اللحم والدم. الجسد الجديد يُرى ويُسمع ولكن بعين القلب وأذنه، بالحسّ، بالكيان. إذا لم تعاين مسيح الربّ في مَن يُفترَض بهم أن يكونوا شهوداً له فإنّ الكلام عنه أكثر الأحيان، لا دائماً بالضرورة، يكون، من زاوية كيانية، بارداً. نقول لا دائماً لأنّ لله، في كل حال، طرقاً لا نعرفها. هو الداري بقلوب الناس، صياداً لها بكلمة ومن دون كلمة. هذا شأنه وهذه حكمته. أما شأننا نحن، ما كُلِّفنا نحن به من جهة الشهادة له، من جهة الكرازة بكلمته، فهذا في خلفية معاينته فينا يكون. هذا إذا ما كان للكلمة التي نتفوّه بها أن تُحرِّك الكيان لا الأفهام وحدها. العقول قد تنتشي ولكن لا يتنزّل من مخزونها إلى القلب شيء إلاّ بالمعاينة. الله يُرى فينا، في صدقيتنا. في سلوكنا في كلمته تستبين مصداقيتنا، معرفتنا له. لذلك الكرازة بالصوم والصلاة تكون أولاً، بالمحبّة الباذلة الأصيلة غير المغروضة. المحبّة لا تطلب ما لنفسها. كرازة الصمت المشبع بحضور الله هي الأرضية الصالحة لبذر الكلمة الخلاصية. نحن لا نقتحم وجدان الناس بقوّة المنطق، بالعنف البياني، بالكلام المصنّع (2 بط 2: 3).

 الناس متى عاينوا يسوع فيك أصيلاً تنفتح كياناتهم تلقائياً إلاّ المعاندون. يصطادهم المسيح فيك. هو يعطيك إياهم لتقدّمهم له. يتبعونه فيك. يكونون مستعدّين لأن يتركوا شباكهم وكل شيء ويسيروا في إثره معك. الكلام، إذاً، يأتي من قوّة حضور النعمة الإلهية لمسيحك فيك. إذا كنت أنت على هذه الحال من الشفافية لسيّدك لا تعود أنت المتكلّم بل روحه فيك. تُمسي أنت كما تقول الأم غفريليا متفرِّجاً عليه في نفسك. كلامه يكون بقوّة وسلطان. أنت لا تعود تحسب كيف تنصب بذكائك وتخطيطك فخاخاً للناس لتوقعهم في شباكك كالكتبة والفرّيسيين المرائين الذين يطوفون البحر والبرّ ليكسبوا دخيلاً واحداً (متى 23: 15). ولا يكون سيِّدك، إذ ذاك، هو المتكلِّم فيك وحسب، بل لا بدّ أن تجري آياته على يديك، أيضاً، بشكل أو بآخر لأنّه قيل: "هذه الآيات تتبع المؤمنين. يُخرجون الشياطين باسمي ويتكلّمون بألسنة جديدة... ويضعون أيديهم على المرضى فيبرأون" (مر 16: 17 – 18). الربّ، في كل حال، يعمل مع الذين يكرزون بالكلمة ويُثبِّت الكلام بالآيات التابعة" (مر 16: 20). كل الذين كرزوا بالإنجيل عندنا، من الرسل القدّيسين إلى الآباء، أقاموا في النقاوة والصوم والصلاة، واستبان فعل روح الربّ في عملهم حتى الإثمار. بغير ذلك يكون العمل من صنع البشر، مجرد استعباد للناس واستعمار ، بقوّة كلام الناس.  أما الكَرَزَة الأصيلون فمن غير معدن، من معدن روح الله أولاً. لذلك لا يهابون المخاطر ولا توقفهم تهديدات الناس. روح الربّ فيهم يجعلهم أقوى من كل قوى الناس والظلمة.
 دونكم مثلاً معبِّراً القدّيس إبراهيم الرهّاوي (29 تشرين الأول). هذا أُوفد إلى بلدة استغرق سكانها في وثنياتهم ولم يقبلوا كلمة الإنجيل. أول ما فعله أنّه أقام في الصلاة يئنّ ويتنهّد في روحه للظلمة التي كانوا قابعين فيها. كان يصلّي هكذا:
 "أيّها السيّد! ردّ هذا الشعب الضال إليك. افتح أعين قلبه. أضئه بنور نعمتك لكي... يعرفك أنت الإله الحقيقي وحدك".
 بقي كذلك مقيماً في الصوم والصلاة إلى أن احتدّت روح الربّ فيه. دكّ الأصنام. انقضّوا عليه. أشبعوه ضرباً. ألقوه خارج البلدة. عاد في منتصف الليل. أقام مصلّياً باكياً مسترحماً الله. من جديد هجموا عليه. رجموه. ظنّوه مات. ألقوه بين الأقذار. في منتصف الليل عادت روحه إليه. صرخ "ربّي لماذا تصرف وجهك عنّي؟ أتوسّل إليك! ألقِ بناظر رأفتك على هذا الشعب المسكين. عاد ودخل تحت جنح الظلام. أخذ يسبِّح الله. بقي ثلاث سنوات يحتمل الضرب والتعيير. وبتواضع إبراهيم وصبره ومحبّته ودموعه ثبت. محبّته كانت في ازدياد وقساوة قلوبهم في تضاؤل. بدأوا قليلاً يسمعونه. وكان يخاطبهم بروح القوّة حيناً والوداعة أحياناً. الشيوخ عاملهم كآبائه والشباب كإخوته والصغار كأولاده رغم ازدرائهم له واحتقارهم. أخيراً بالصلوات والدموع نفذت النعمة الإلهية إلى قلوبهم. اعترفوا بإله إبراهيم إلهاً حقيقياً وحيداً. عمّدهم. علّمهم الإنجيل سنة كاملة. ثمّ في ليلة لا يدرونها تركهم لاهتمام الأسقف وعاد إلى نسكه.
        الكرازة بالإنجيل اليوم بحاجة إلى محبّة كبيرة تفيض من فوق في مَن يكرزون لتنسكب على الذين لا يعرفون المسيح. المسيحيّون تسبّبوا لغيرهم في جراح كثيرة في التاريخ باسم المسيح. هذه لا زالت نُدُبها (آثار الجراح) في الذاكرة تَسِم المسيحيّة بما هي براء منها، تشوّه صورتها. وهذه لا تُتجاوَز إلاّ بنعمة دفّاقة من فوق. والنعمة الإلهية قنواتها نفوس أفرغت نفسها وأخذت صورة عبيد وأقبلت على عمل الله في محبّة وتصميم، ثابتة راسخة في غيرتها، مقيمة في الصوم والصلاة والدموع حتى يحرِّك الربّ الإله الأكباد، أكباد الذين ضلّلهم المضلِّل، حتى يزيح الربّ الإله الحجر عن باب القبر ويدعو لعازر الناس أن يخرج من الظلمة إلى النور. هذا بحاجة إلى نفوس كبيرة في اتضاعها، قويّة في استشرافها لضعفها، راسخة في إيمانها بيسوع ولا شيئيتها. الرسل برسم أن يستاقوا أنفسهم، في غربة عن أنفسهم وروح العالم، إلى ربّهم منتظرين أن يسمعوا صوت مَن كلّم إشعياء لما قال: "مَن أُرسل ومَن يذهب من أجلنا" (إش 6: 8)، ليجيبه كل منهم: "هانذا أرسلني". الكرازة بالإنجيل، في كل حال، عمل الله في مَن يبصرون ويسمعون ويريدون أن يشهدوا (1 يو 1: 1- 4). هذا كلّه مطروح، لعمري، على ضمائر المسيحيّين اليوم إلى أن يستفيقوا من سكرهم بما للعالم والناس!

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
19 حزيران 2005
holytrinityfamily.org