أزمنة الشهادة !!!

المسيحيّ، في نهاية المطاف، هو شهيد محبّة المسيح!
 كلّ الحكاية حكاية حبّ! الشّاهد والشّهيد واحد.
الإيمان هو معاينة يسوع، بالكلمة، في عمق القلب.
 "إن اعترفت بفمك بالرّبّ يسوع وآمنت بقلبك أنّ الله أقامه من الأموات خَلَصت" (رو 10: 9).
 المُشاهِد، بنعمة روح القدْس، أسيرُ الشّوق الإلهيّ، يشهد بالفم ويشهد بالدّم، متى شاءه ربُّه.
 "أنتم شهودي يقول الرّبّ" (إش 43: 10).
يسوع، معلِّمَنا، علّقوه على خشبة. ليس تلميذٌ خيرًا من معلّمه.
 "كلّ مَن يعترف بي قدّام النّاس أعترف أنا أيضًا به قدّام أبي الّذي في السّموات" (مت 10: 32). "مَن يحبّ نفسَه يُهلكها ومَن يُبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبديّة" (يو 12: 25)! 
في زمن النّعمة، المسمّى بـ "تاريخ الكنيسة"، كلّما وهنت شهادة الكلمة واحتقنت شهادة الدّم، غُيِّبَ الإيمانُ واستغرب بنو الكنيسة، في عمق القلب، عنها.
 الشّهادة ضرورةُ وجودٍ حتّى لا يَفتُرَ المؤمنون ونبيد!
سلام العالم غربةٌ عن روح الله. إن صلّينا من أجل سلام العالم، في كلّ آن، فليس ذلك طلبًا للسّلام الّذي يعطيه العالم، بل للسّلام الّذي يعطيه يسوعُ، بنا، للعالم!
 الكشفُ أنّه في العالم سيكون لكم اضطرابٌ، فيما الوعد السّيّديّ هو هذا: "سلامي أُعطيكم لا كما يعطيكم العالم".
 سلام العالم يجعلكم تحبّون العالم ويجعل محبّة الله تنحسر من نفوسكم حتّى الجحود ونسيان الله .
 زمن البَرَكة، كما تجلّى في تاريخ الكنيسة، كان، بالأحرى، قرينَ زمنِ اضطهادِ العالم لنا! واقعُ العالم أنّه يُدخلنا في مساومات لا حصر لها وفي باطنيّةٍ قتّالة وتلفيقٍٍ مُضْنٍ.
 سلام العالم يجعلنا، وضعًا، دهريّين، جبناء، حتّى لَيَندُر أن تجد، في مناخ سلام العالم، مَن يقول حقَّ الإنجيل، زلالاً، خوفًا على مصالحه، ومَن هو مستعِدٌّ لأن يموت من أجل يسوع، خوفًا على حياته!
 الحقّ، في إطار سلام العالم، أسيرُ الباطل أو قتيلُه أو أقلّه، ويسوع، في الإطار عينه، مستعادٌ إلى القبر، ولا قيامة له بيننا، ولا مَن يحدِّث كيانيًّا ووجوديًّا عنها! 
ليس العصرُ الذّهبيّ، في تاريخ الكنيسة، زمنَ الممالك المسيحيّة، شرقًا وغربًا، بل زمنُ شهاديّة القرون المسيحيّة الثّلاثة الأولى. 
الممالك المسيحيّة، في العمق، أَفسدت أو فتكت، بعامة، بروح الشّهادة، أو أوهنتها، إلاّ ما انحفظ، هنا وثمّة، منها، لا سيّما بوساطة بعض الرّهابين والنّسّاك والأوساط المتأثّرة بهم.
 وما سماحُ الرّبّ الإله بزوال هذه الممالك إلاّ مؤشِّرًا لكونها قد أضحت عثرة لكنيسة المسيح!
المحكوميّةُ استبانت، بعامة، أنسبَ، لحفظ استقامة الرّأي، من الحاكميّة! شئنا أم أبينا، فرحُ الرّبِّ لم يأتِ إلى العالم إلاّ بالصّليب
هذا يجعل أنّه في بطن الظلم والضّيق الّذي يعانيه المؤمنون في المسيح، يستقرّ فرحُ الرّوح القدس في نفوسهم!
 السّلام، بمعنى غياب الاضطهاد، ليس دائمًا مفيدًا للمؤمنين، وهو يبدو استثناءً ولا يُعطَى إلاّ قليلاً! فإن طال وزاد عن حدّه تعرّضت النّفوس لتجربة الخوَر والبطر! المناخ الأسلَمُ، روحيًّا، كما يبدو في القراءة القويمة لتاريخ الكنيسة، كان أن يبقى المسيحيّون على قدر من الضّيق، من جهة العالم، وأن يضيِّقوا، هم، على أنفسهم، بالنّسك والصّلاة، ما أمكن، حتّى يثبت فيهم التّوتّرُ إلى الحياة الأبديّة، وحتّى تنفرج دواخلُهم عن الرّاحة الحقّ الّتي تنزل عليهم من فوق، من روح الله، من عند أبِ الأنوار! 
تاريخ النّعمة في الكنيسة تاريخ شهادات نَحَتْ، بعامة، على الزّمن الشّهاديّ الأوّل.
 مفاعيلُها كانت، إلى تنقيتها نفوسَ الشّهداء من أدران النّفس والجسد وإضفائها أكاليلَ الحياة على مَن استُشهدوا لاسم المسيح، عن وعي أو عن غير وعي منهم، أقول مفاعيلها كانت أنّها كرّست غلبةَ مسيحِ الرّبّ، بالرّوح، مرّة بعد أخرى، على أمير هذا العالم، من حيث إنّ الشّهداء لم يُنكروا المسيح حتّى الموت، فانبثّ روحُ القدس مكثّفًا، بالأكثر، في الأرض، وأحيى المواتَ بين النّاس وحرّك النّفوس وفتح أعين العميان في قلوبهم! 
من هنا كلام الأوّلين الصّارخ والصّريح، في شأن شهادة الشّهداء. 
بالنّسبة لترتوليانوس المعلّم (+ 197 م) مثَلاً، "دم المسيحيّين هو بذار الكنيسة". والقدّيس يوستينوس الشّهيد (+ 160 م) يؤكّد أنّه رغم أنّ الشّهداء كانت تُقطع رؤوسُهم ويُصلَبون ويُلقَون للوحوش وفي النّار، فإنّ العذابات، إذ اقترنت بثبات هؤلاء الشّهداء، كانت تدفع النّاسَ، بالأكثر، وبأعداد متزايدة، إلى اقتبال الإيمان وعبادة الله باسم يسوع.
أوريجنيس المعلّم اعتبر، من ناحيته، في زمانه (+ 248 م)،
 أنّ المسيحيّين كانوا يَعتبرون أنّه من المعقول والمَرْضِي لله أن يكابدوا الألم التماسَ الفضيلةِ وأن يتعرّضوا للعذاب طلبًا للتُقى، حتّى أن يموتوا من أجل القداسة لأنّه كريمٌ في عين الله موت أبراره.
 وكانت لترتوليانوس المعلّم هذه الصّرخة في وجه مضطهِدي المسيحيّين: "وحشيّتكم مجدُنا"! من جهة أخرى، في رسالة حول مجد الشّهادة، من العام 255 م، أنّ السّماء تتشرّع لدمائنا... وأعظم الإكليل إكليل دم الشّهداء! 
إلى ذلك، كان ثمّة حثٌّ على الشّهادة بين المسيحيّين، وإعدادٌ واستعدادٌ للموت من أجل يسوع. هذا شَغَل العقول والقلوب بقوّة! في رسالة للقدّيس كبريانوس القرطاجي (+ 250 م) إلى المدعو فرتوناتوس كلام معبِّر في هذا الصّدد: "هيّا بنا، نحن الّذين، بإذن الله، أعطينا المعمودية الأولى للمؤمنين، نُعِدّ كلَّ واحد لمعمودية أخرى، أيضًا،... يقوم بها الملائكة ويَفرح بها اللهُ ومسيحُه... وتضمّنا، للحال، إلى الله إذ نخرج من العالم.
في معمودية الماء يتلقّى المرء غفران الخطايا، أمّا في معمودية الدّم فيتلقّى إكليل الفضائل. هذا ما علينا أن نحتضنه بشوق... بالصّلوات والتّضرّعات... لنصير عشراء الله أيضًا...". 
وترتوليانوس المعلّم، في رسالة إلى الشّهداء، صدح بكلام من روح ونار لمّا قال:
 أيّها الشّهداء المبارَكون... روحُ القدس دخل معكم إلى السّجن... العالم هو السّجن الحقيقيّ... لقد خرجتم من السّجن ولم تدخلوا إليه... انتقلتم إلى موضع آمن... المكان عتمة لكنّكم أنتم نور... فيه قيودٌ لكنّ اللهَ جعلكم أحرارًا... الرّوائح هناك مزعجة لكنّكم أنتم الطّيب... سجنُكم معتزَل كمعتزل يسوع ويوحنّا... ولو كان الجسدُ مقفَلاً عليه فكلّ شيء مشرَّع للرّوح... لا تشعر السّاق بالسّلاسل حين يكون الذّهن في السّموات... تخوضون، الآن، صراعًا، اللهُ فيه الرّقيبُ والرّوحُ القدس المدرِّبُ، والجائزةُ إكليلٌ أبديّ ذو جوهر ملائكيّ ومواطنيّةٌ في السّموات ومجدٌ أبديّ. 
هذا كان المناخَ الوجدانيّ للمسيحيّين، يومذاك، هنا وثمّة، وهذا ما كان يعتمل في عقولهم وقلوبهم. "الحياة لي هي المسيح والموت ربح".
هكذا انسكب روحُ القدس غزيرًا في العالم من تلك الفتحة في تاريخ الكنيسة. ومن بركات دم الشّهداء وروح الرّبّ عاش المؤمنون قرونًا ولا زلنا. يومها عرفنا القداسة حياة جديدة في الرّوح وتعاقبت الأجيالُ على معرفتها، فصارت الشّهادة، أبدًا، علامةَ السّلامة والعافية جيلاً بعد جيل، ولا زالت وستبقى. الشّهادة للمسيح، في كلّ أمّة وزمن، إن ضمرت، ذبُلَ الإيمانُ وغرق النّاس في مستنقع ما لا ينفع! 
الثّورة الشّيوعيّة، في المدى السّلافي، بخاصة، وأقصد، على نحو أدقّ، الرّوسيّ، سبعين من السّنين دامت. دماءٌ غزيرةٌ انسكبت فيها ودموعٌ! آلامٌ وصرخاتٌ تعالت حتّى أعلى السّموات! أكبادٌ تمزّقت! مآسٍ حدثت.
 كلّ هذا موجِع ولا أوجع! ولكنْ، حقّ علينا أن نتساءل: ألم يكن إصبعُ الله في كلّ ما جرى؟ أكان ذلك غريبًا عن تاريخ حركة الرّوح في كنيسة المسيح؟ ألم نقرأ في رؤيا يوحنّا اللاّهوتيّ (الاصحاح 12) أنّ التّنّين ذهب ليصنع حربًا مع باقي نسل المرأة الّتي وَلدتْ الابنَ الذَّكَر، الّذين يحفظون وصايا الله وعندهم شهادة يسوع المسيح؟ ألم نقرأ في الاصحاح 14 أنّه هنا يكمن صبرُ القدّيسين الّذين يحفظون وصايا وإيمان يسوع؟! 
إذًا الثّورة البلشفيّة كانت، بالأحرى، عملَ التّنّين للقضاء على نسل المرأة المتسربلة بالشّمس والقمرُ تحت رجلَيها (12: 1)، وما قدر التّنّين عليها! احتشد الرّوحُ، بالأكثر، في بلاد الرّوسيّا وفي كلّ العالم. اليوم بلاد الرّوسيّا مخزنٌ مشحون بروح القدس!
 الله لا يُشمَخ عليه! لو لم تُعلَّق بلاد الرّوسيّا على الصّليب سبعين سنة لكانت، اليوم، تافهة، كنسيًّا، تفاهةَ أكثر أوروبا الغربيّة، إلاّ الجزر القليلة من الشّهود الّذين يعانون اليوم مؤمرات عملاء إبليس هنا وثمّة، في تلك البلاد! 
وما حصل بالأمس ويحصل في العراق ومصر ونيجيريا وسواها من ضَرْبٍ لعُزّل المسيحيّين وفتكٍ بهم في بيوتهم وكنائسهم لا همَّ لنا أن نعرف مَن يقوم به.
 نعرف مَن يحرّض عليه! الشّيطان يزأر طالبًا مَن يفترسه. عملاؤه مضلَّلون وهم لا يعلمون! مصارعتُنا ليست مع لحم ودم بل مع أجناد الشّرّ الرّوحيّة في السّماويّات (أف 6: 12).
لا سلاح لنا غير الحقّ والبرّ وإنجيل السّلام والإيمان وخوذة الخلاص وسيف الرّوح! لا جديد تحت الشّمس! فقط ثمّة غربلة تحدث! لا بين بين بعدُ! مَن ليس معي فهو عليّ! من زمان والمسيحيّون يُضطهَدون! غيرهم يَضطهدهم! اضطهادٌ من الدّاخل! أهواؤهم تضطهدهم! كلّ العالم يضطهدهم! المستهدَف مسيحُهم فيهم! يضطهدونهم بالقتل الجسديّ، بالإرهاب المسلّح، بالإرهاب الفكريّ! هذا كان ولا يزال وسيستمر! يظنّون أنّهم سيقوون علينا بالسّلاح؟ نعرف أنّنا سنقوى عليهم بالمغفرة!
 "اغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون"!
 يظنّون أنّهم يخرسوننا بالإرهاب؟ إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ! يأتوننا بالكراهية نأتيهم بالحبّ! يَسْخرون منّا نبكي عليهم! يشاؤون إفناءنا نصلّي لأجل توبتهم! لا تقدرون أن ترفسوا مناخس! هذا زمان الرّضى حتّى نصحو! يوم يموت مسيحيٌّ أو مسيحيّون، هنا وثمّة، لأنّهم للمسيح، فهذا بنعمة من فوق.
 نحن أضعف، كبشر، من أن نواجه حقدَ الشّرّير وعنفَه. ولكنْ لأنّنا للمسيح هو يقوّينا. تحسبوننا أقزامًا، ونحن كذلك، في ذواتنا، لكنَّ روحه كفيل بتحويلنا إلى جبابرة لأنّ رجاءنا عليه! حيٌّ هو الله الّذي أنا واقف أمامه! لا قيمة، بعدُ، لكلامٍ سياسيّ يتردّد هنا وثمّة. 
لا يهمّنا، بعدُ، أن نعرف الدّوافع ولا أن نحلِّل المعطيات كما يحلِّلها المحلِّلون! يكفينا أن نرى وأن نعرف أيَّ روح يفتك بخراف المسيح! دماء المسيحيّين، في المسيح، غفّارة لخطاياهم وتوّابة لمَن سلّموا أنفسَهم لروح الغريب!
 "وسيمسح اللهُ كلّ دمعة من عيونهم والموتُ لا يكون فيما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع (رؤ 21)!!! 
روح الرّبّ يحرّك المياه الرّاكدة! الشّهادة تستفيق! والشّهداء المحدَثون يعانقون شهداء البارحة! تلك نعمةٌ فوق نعمة يُضفيها العليّ على أحبّته، يَقلع بها كلَّ زرعٍ لم يزرعه الآب السّماويّ ويفجّر روحَ الرّبّ في مَن يشتاقون إلى مجيئه حتّى تمتلئ المخازن السّماويّة قدّيسين! "أيّها الرّبّ يسوع، تعالَ!" 

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما 
holytrinityfamily.org