وحدة جوهر الآب والابن

فى المقالة الثالثة ضد الآريوسيين للقديس أثناسيوس 

مقدمة 
تمثل مقالات القديس أثناسيوس الثلاث ضد الآريوسيين خلاصة كتاباته اللاهوتية. فقد دافع فيها عن وحدة جوهر الآب والابن وأظهر من خلالها ألوهية الابن المتجسد ، وذلك فى مواجهة الأفكار والتعاليم الخاطئة للهرطقة الآريوسية التى نادت بأن الابن مخلوق وبأنه كان هناك وقت لم يكن فيه الابن موجودًا ، وأيضًا بأن الابن ليس أزليًا مع الآب. وتعتبر هذه المقالات من أهم ما كُتب على الإطلاق بالنسبة لعلاقة الأقانيم الثلاثة ببعضها ، ولهذا فهى بمثابة الأساس الراسخ لكل عقيدة الثالوث[1] فى الكنيسة. 


ولقد عالج القديس أثناسيوس طريقة التفسير غير المستقيم والخاطئ، تلك الطريقة التى استخدمها الآريوسيون لتفسير بعض آيات الكتاب المقدس، التى تشير إلى الابن فى تجسده أو تتحدث عن بنوة المسيح لله وعلاقة الابن بالآب، وذلك لتثبيت أفكارهم المنحرفة .
 ولقد قدم القديس أثناسيوس شرحًا دقيقًا لهذه النصوص الكتابية مبرهنًا بواسطتها على صحة إيمان الكنيسة بألوهية السيد المسيح معطيًا بذلك منهجًا كنسيًا لطريقة التفسير المستقيم للكتاب. 

فنجده، فى المقالة الأولى يقدم ملخصًا لتعليم البدعة الآريوسية كما تناولها آريوس فى كتابة "ثاليا"، ثم يقدم دفاعًا عن تعليم مجمع نيقية المسكونى ويفند اعتراضات الآريوسيين على هذا الإيمان النيقاوى، ثم يتناول بالشرح الآيات التالية:
 "لذلك رفّعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا" (في10،9:2)؛ " من أجل ذلك مسحك الله إلهك " (مز8،7:45)؛ " صائرًا أعظم من الملائكة" (عب4:1). 
وفى المقالة الثانية يشرح الآيات: " كونه أمينًا للذى أقامه " (عب2:3)؛ " جعل يسوع ربًا ومسيحًا " (أع36:2)؛ " الرب خلقنى أول طرقه لأجل أعماله " (أم22:8)؛ " أسسنى قبل الدهر " (أم22:8). 
وفى مقالاته الثالثة تناول بالشرح بعض آيات من إنجيل متى ومرقس ويوحنا : 
" أنا فى الآب والآب فىَّ " (يو10:14)؛ " أنت الإله الحقيقى وحدك ويسوع المسيح الذى أرسلته " (يو3:17)؛ " أنا والآب واحد ، ليكونوا واحد كما نحن " (يو30:10، 1:12)؛ " لأن الآب يحب الابن وقد دفع كل شئ فى يده "(يو35:3، متى27:11)؛ معرفة الابن لليوم والساعة والتقدم فى النعمة والحكمة (مر3:13، لو52:2)؛ "إن أمكن أن تعبر عنى هذه الكأس"، "الآن نفسى قد اضطربت" (مت39:26، يو27:12). 
وسنتناول بالبحث موضوع " وحدة جوهر الآب والابن " من خلال دراستنا لنص المقالة الثالثة فقط من هذه المقالات . 
يتابع القديس أثناسيوس الرسولى دفاعه عن ألوهية الابن فى مقالته الثالثة ضد الآريوسيين. فيذكر فى بداية المقالة الآيات التى سبق للآريوسيين استخدامها للدفاع عن آرائهم الفاسدة من جهة ألوهية الابن إنه مخلوق بل ويحصونه ضمن المخلوقات الأخرى فيقول:
 [ إنهم يدعون الرب بهذه النصوص " الرب خلقنى " (أم22:8)، " صائرًا أعظم من الملائكة " (عب2:3). ] [2]
وكان القديس أثناسيوس قد سبق فرد على الآريوسيين مفندًا آرائهم الخاطئة هذه وشارحًا لهم هذه الآيات [3] مبينًا أنها تنسحب على المسيح عند بدء خدمته الخلاصية عندما جاء فى الجسد من أجلنا ومن أجل خلاصنا . 

الضلالة الآريوسية 

ويبدو أن الآريوسيين استمروا فى تعاليمهم الخاطئة متخذين من كلمات الرب يسوع نفسه فى العهد الجديد، بعد تحريف معناها سندًا لاثبات أفكارهم فيقول : [ فإنهم بدأوا يحرفون معنى كلمات الرب " أنا فى الآب والآب فىّ " (يو10:14) قائلين كيف يمكن أن يُحتوى الآب، الذى هو أعظم، فى الابن الذى هو أقل منه ؟ ] [4]
ومبكرًا جدًا فى بداية المقالة يعطى أثناسيوس ذو الفكر اللاهوتى الثاقب تشخيصًا لهذه "الضلالة" الآريوسية ، إذ قد وضع يده على علّة وسبب هذه الأفكار فيذكر أنها ناتجة [ عن انحراف ذهنهم ، فهم يظنون أن الله مادى ، ولا يعرفون من هو " الآب الحقيقى " ولا "الابن الحقيقى " ولا ما هو " النور غير المنظور والأزلى " و " إشعاعه غير المنظور " ولا يفهمون " ما هو الكيان غير المنظور " و "الرسم غير المادى" و "الصور غير المادية"] [5]
وإذ قد وضع يده على مصدر الداء الفكرى يبدأ فى توضيح المعنى الحقيقى للآية التى أوردها يوحنا الإنجيلى عن الرب نفسه " أنا فى الآب والآب فىَّ " ويعالج الأسباب التى أدت بهم إلى انحراف ذهنهم بما ذكرنا أعلاه . 
فعند القديس أثناسيوس أن " أنا فى الآب والآب فى " لا تعنى

أ ـ " إن الواحد يفرغ ذاته فى الآخر ليملأ الواحد الآخر كما يحدث فى الأوانى الفارغة " [6]
ب ـ ولا تعنى " حتى أن الابن يملأ فراغ الآب والآب فراغ الابن " [7]. فهذا الفكر يقود إلى أن يُظن وكأن " كلاً منهما ليس تامًا ولا كاملاً فى ذاته " ذلك لأن هذه هى " خاصية الأجساد" [8].
 إن من يصدق قول الآريوسيين هذا ، هو فى الواقع لا يؤمن بالآب " الذى هو تام وكامل " ولا الابن الذى هو تام وكامل والذى هو فى نفس الوقت " ملء اللاهوت " [9]
ويركز القديس أثناسيوس على أن الابن هو مولود الآب الذاتى فإنه ليس ابنًا بالمشاركة ، الأمر الذى يحدث للقديسين عندما يحل الله فيهم ويكملهم وذلك باشتراكهم فى الابن. 
ولكى يوضح القديس أثناسيوس المعنى الصحيح للآية " أنا فى الآب والآب فىَّ " فإنه يقارنها بآية أخرى " فيه نحيا ونتحرك ونُوجد " فيقول إن الابن [ لا يوجد فى الآب المعنى الذى فى هذه الآية لأن الابن لكونه من ينبوع الآب فهو الحياة الذى به نحيا وتقوم كل الأشياء ] [10].
والنتيجة التى يصل إليها القديس أثناسيوس هى أن الحياة لا تحيا من حياة (أخرى) وإلاّ فهى لا تكون حينئذ حياة . إن [ الابن الذى يعطى الحياة لكل الأشياء ][11] . ويوضح القديس أثناسيوس أن الآية " أنا فى الآب والآب فىَّ " كما فسرها الآريوسيون يمكن أن تكون آية عامة للكل ، يستطيع أى شخص من بين البشر أن يقولها [12]
إن نتيجة هذا الفكر المنحرف هى خطيرة إذ أن هذا معناه أن [ لا يكون بعد ابن واحد لله وهو الكلمة ، وهو الحكمة ، بل يكون مثل الآخرين واحدًا بين كثيرين ] [13]

تعاليم أستريوس الآريوسى [14]
ويشير القديس أثناسيوس إلى شخص يُدعى أستيريوس ، وهو أحد أتباع آريوس ومن تلاميذه ، وينتعه أنه هو " المدافع عن الهرطقة " [15]
ويورد النص التالى مما قاله أستيريوس ليفند ما جاء به من أفكار خاطئة : [ إنه واضح جدًا أنه قد قال : " أنا فى الآب والآب أيضًا فىَّ " ، لهذا السبب فلا الكلمة التى كان يقولها هى كلمته بل حكمة الآب ، ولا الأعمال هى خاصة به بل خاصة بالآب الذى أعطاه القوة ]. وأيضًا [ إن الذى هو قوة الآب ، ينال قوة ، وأن الابن صار ابنًا فى ابن ] [16]
فخلاصة فكر استيريوس إذن هو أن الابن ليس من جوهر الله الآب ، ولذلك فهو يقول عن الابن إنه ينال القوة من الله مثل باقى المخلوقات وليس هو قوة الله ذاتها ، ذلك معناه أن الابن ليس ابنًا لله بالطبيعة بل أنه يصير ابنًا بالتبنى مثل باقى المخلوقات وهذا هو معنى كلمة " فى ابن " . أى لم يكن هو ابنًا لله أصلاً ، وكذلك لا يكون الابن هو كلمة الله بالطبيعة بل يأخذ سلطان الكلمة مثل الأنبياء الذين أتت إليهم كلمة الله وهم مخلوقون [17]

الرد على أستريوس 
وفى رده على هذا الفكر المنحرف الذى لأستيريوس يستخدم القديس أثناسيوس نفس الأسلحة اللغوية التى استخدمها أستيريوس ، فقد ذكر أستيريوس عن الرب أن الرب قال : "أنا فى الآب والآب أيضًا فىَّ " [18] . أى بإضافة كلمة " أيضًا " . لهذا وحسب ما يرى القديس أثناسيوس فإنه لو صح فكر أستيريوس عن الابن [ لما كانت كلماته هى " أنا فى الآب والآب فىَّ "، بل بالأحرى كان قد قال " أنا أيضًا فى الآب والآب فىَّ " ، وأيضًا هنا كانت ستعنى أنه لا يكون له أى شئ خاص به أو مميز به كابن عن الآب بل يكون له نفس النعمة المشتركة مع جميع المخلوقات ] [19]

أمثلة على وحدة جوهر الآب والابن 

وهنا يضع القديس أثناسيوس الرأى الصائب عن الابن وحقيقة ألوهيته إذ هو ابن حقيقى من الآب وذلك لأن كل كيان الابن هو من جوهر الآب ذاته [20]. ويعطى أمثلة من الطبيعة ليوضح وحدة الجوهر الإلهى للآب والابن فيستخدم التشبيه المعروف عن الشعاع من النور والنهر من الينبوع وأيضًا الكلمة من العقل [21]
إن وحدة الجوهر الإلهى للآب والابن هى التى تعطى إمكانية الإيمان بأن [ من يرى الابن يرى ما هو خاص بالآب ] [22].
 إن الابن هو فى الآب وذلك بسبب أن كيان الابن هو من الآب
والآب هو فى الابن حيث إن الابن هو من الآب وخاص به مثلما أن الشعاع من الشمس والكلمة من العقل والنهر من الينبوع [23]
يختم القديس أثناسيوس هذه الفقرة الهامة متمسكًا بكلمات السيد المسيح نفسه إذ يقول : 
[ وحيث إن ذات الآب وألوهيته هى كيان الابن ، لذلك فإن الابن هو فى الآب والآب فى الابن ] [24]. ويرى القديس أثناسيوس فى قول السيد المسيح " أنا والآب واحد " (يو30:10) ثم إضافته بعد ذلك " أنا فى الآب والآب فىَّ " (يو30:14)، توضيحًا لوحدة الألوهية من ناحية ووحدة الجوهر من الناحية الأخرى [25]

وحدة الجوهر وتمايز الأقانيم 

وبسبب فهمه العميق لمشاكل عصره اللاهوتية وما كان يروجه الهراطقة فيما يختص بالأقانيم الثلاثة ، على وجه الأخص ما سبق أن ردده سابيليوس الذى ظهر فى روما فى أوائل القرن الثالث وعلم بأن الآب والابن والروح القدس هم أقنوم واحد وليسوا ثلاثة أقانيم متحدين جوهريًا . وقال إن الآب أعطى الناموس فى العهد القديم ، الذى ظهر هو نفسه فى العهد الجديد باسم الابن ثم بعد صعود المسيح ظهر باسم الروح القدس ، أى أن الثالوث هو ثلاث ظهورات متوالية فى التاريخ لشخص واحد وليس ثلاثة أقانيم لهم جوهر واحد [26]، لهذا السبب إذن يستدرك القديس أثناسيوس ، وبعد أن أثبت وحدة الجوهر الإلهى للآب والابن ، وأن الآب فى الابن والابن فى الآب وأنهما واحد ، ولئلا يظن البعض أنه يتبنى فكر سابيليوس يقول بكل وضوح
 [ إذن فهما واحد ولكن ليس مثل الشئ الواحد الذى يمكن أن ينقسم إلى جزئين ، كما أنهما ليسا مثل الواحد الذى يُسمى باسمين ، فمرة يُسمى الآب ومرة يُسمى هو نفسه ابنه الذاتى ، فهذا ما قال به سابيليوس ، وبسببه حُكم عليه كهرطوقى ] [27]
يفند القديس أثناسيوس هذا الرأى موضحًا أنه بالرغم من أن الآب والابن هما واحد ، [ لكن هما اثنان لأن الآب هو الآب ولا يكون ابنًا أيضًا، والابن هو ابن ولا يكن أبًا أيضًا][28].
 الوحدانية هنا هى وحدانية الطبيعة " لكن الطبيعة هى واحدة " [29]. ولأن الابن مولود من الآب قبل كل الدهور فإن " المولود لا يكون غير مشابهًا لوالده " [30]، وهذا " لأنه صورته " [31]. وعلى هذا كل ما هو للآب هو للابن (يو15:16). 

الابن نشأ ليس غريبًا عن ألوهية الآب 

يخلص القديس أثناسيوس إلى أن الابن ليس إلهًا آخر . ويعلل ذلك بأن الابن " لم ينشأ من خارج (الآب) " [32]
إن الآب فقط هو مصدر الألوهة ، وخطورة تعاليم الهراطقة ـ فى تصور القديس أثناسيوس ـ تكمن فيما يستتبع هذا التعليم من إمكانية وجود آلهة كثيرون لو أن إلهًا نشأ غريبًا عن ألوهية الآب [33]
لذلك نراه يشدد على أنه " رغم أن الابن هو آخر غير الآب كمولود إلاّ انه كإله هو كالآب تمامًا ، فهو والآب كلاهما واحد فى الذات ، وواحد فى خصوصية الطبيعة وفى وحدة الألوهية " [34]

أمثلة من الطبيعة لتمايز الأقانيم 

ويعود هنا لاستخدام نفس التشبيهات التى استخدمها من قبل لإثبات الجوهر الواحد للآب و الابن ، ولكن ليثبت تمايز أقنومى الآب والابن ووحدة الجوهر الإلهى فيقول : 
[ إن الشعاع هو النور وليس ثانيًا بعد الشمس، ولا هو نور آخر ولا هو ناتج من المشاركة مع النور ، بل هو مولود كلى وذاتى من النور ومثل هذا المولود هو بالضرورة نور واحد ولا يستطيع أحد أن يقول إنه يوجد نوران ] [35]. ويلخص تعليمه فيما يتعلق بهذا التشبيه فيضيف فى نفس المكان قائلاً : [ فرغم أن الشمس والشعاع هما اثنان إلاّ أن نور الشمس الذى ينير بشعاعه كل الأشياء هو واحد ] [36]

اللاهوت غير قابل للتجزئة : (ما يُقال على الآب يُقال على الابن) 

وخلاصة رد القديس أثناسيوس فيما يتعلق بهذه النقطة ولدحض فكرة وجود آلهة كثيرون هى " أن لاهوت الابن هو لاهوت الآب وهذا اللاهوت غير قابل للتجزئة ولذا فإنه يوجد إله واحد وليس آخر سواه " [37]. وبسبب أن الألوهية واحدة وأنهما واحد ، لهذا يمكن أن يُقال عن الابن كل ما يُقال عن الآب (ما عدا أن كيانه يُدعى الآب) ، فمثلاً يُقال عن الابن إنه الله (كما يُقال عن الآب). 
وكان الكلمة الله (يو1:1) ، وأنه ضابط الكل " الذى كان والكائن والذى يأتى الضابط الكل وأنه الرب ، رب واحد يسوع المسيح وأنه هو النور " أنا هو النور " (يو12:8) ، وأنه يمحو الخطايا " لكى تعلموا أن لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا " (لو24:5) [38]
يرى القديس أثناسيوس فى العبارات السابقة والتى نطق بها الابن المتجسد ، والتى يمكن أن تُقال عن الآب نفسه ، أنها تقودنا لكى " نرى عندئذ الابن فى الآب " [39]

أنا والآب واحد 

ويعطى القديس أثناسيوس تحليلاً لاهوتيًا رائعًا لكل هذه العبارات فيقول: [إن كل ما يُنسب للآب يمكن أن يُنسب للابن بسبب أن الابن مولودًا منه . وكل ما يكون للابن هو نفسه للآب بسبب أن الابن مولود جوهره الذاتى ] [40]
ويعتمد القديس أثناسيوس فى تحليله هذا بالطبع على ما ورد فى إنجيل يوحنا للرب نفسه عندما قال أولاً " أنا والآب واحد " ثم أضاف " لكى تعلموا أنى أنا فى الآب والآب فىَّ " وفى تعليقه على هاتين الآيتين يورد [ لأن الابن هو مولود الجوهر الذاتى للآب لهذا يحق له أن يقول أن خصائص الآب هى خصائصه هو أيضًا ] [41]
وبالإضافة إلى هاتين الآيتين وللتأكيد على وحدة الألوهية بين الآب والابن فإن القديس أثناسيوس يشير إلى آية ثالثة وردت فى يو14 أيضًا من قول الابن المتجسد " من رآنى فقد رأى الآب " . ويرى أن فى أقوال السيد المسيح الثلاثة هذه تأكيدًا على ألوهية الابن . 
فالآية الأولى " أنا والآب واحد " تعطى هذا التأكيد ومن يدرك هذا المعنى أى أن الابن والآب هما واحد يستطيع أن يفهم معنى القول الثانى " الابن فى الآب والآب فى الابن " وهذا بسبب أن لاهوت الابن هو لاهوت الآب ومن يفهم القول بأن الآب هو فى الابن فإنه يستطيع أن يفهم معنى الآية التالية " من رأنى فقد رأى الآب " وذلك بسبب أن ألوهية الآب تُرى فى الابن [42]
ولكى يجعل القديس أثناسيوس تعاليمه أكثر وضوحًا فإنه يستعين بمثال واقعى من عصره، حيث يشير إلى صورة الإمبراطور [43]. ففى صورة الإمبراطور يوجد شكل الإمبراطور وهيئته ـ والهيئة التى فى الصورة هى التى فى الإمبراطور ، ذلك لأن ملامح الإمبراطور فى الصورة هى مثله تمامًا ، وكل من ينظر إلى الصورة يرى الإمبراطور فيها وأيضًا من يرى الإمبراطور يدرك أنه هو نفسه الذى فى الصورة .
 ومن هذا المثال الواقعى يستنتج القديس أثناسيوس أنه [ بسبب عدم اختلاف الملامح فإن من يريد أن يرى الإمبراطور بعد أن رأى الصورة يمكن أن تقول له الصورة " أنا والإمبراطور واحد " لأنى أنا فى الإمبراطور والإمبراطور فىَّ، وما تراه أنت فىَّ هذا تراه فيه وما قد رأيته فيه تراه فىَّ] [44]. ومن الجدير بالذكر أن هذا التشبيه يركز على وحدة الملامح بين الإمبراطور وصورته . 

وتأكيدًا لوحدة جوهر الآب والابن ، تلك الوحدة المُعبّر عنها إيمانيًا من خلال سجود العبادة للابن كما للآب ، يستطرد القديس أثناسيوس فيقول " فمن يسجد للصورة فهو يسجد للإمبراطور أيضًا لأن الصورة لها شكله وهيئته " [45].
 ويخلص إلى نتيجة واضحة بخصوص حقيقة وحدة جوهر الآب والابن فيكتب مؤكدًا " إذن بما أن الابن أيضًا هو صورة الآب فينبغى أن يكون مفهومًا بالضرورة أن ألوهية الآب وذاته هما كيان الابن"[46] ويستشهد بآيات الكتاب المقدس "إذ كان فى صورة الله"  (فى6:2)، "والآب فىَّ " (يو10:14). 

أنا فى الآب والآب فىَّ 

إذن فالآية " أنا فى الآب والآب فىَّ " عند القديس أثناسيوس لها شقين فالشق الأول وكما رأينا " الآب فى " والتى وضح فيه القديس أثناسيوس أن يُرى تمامًا فى الابن بسبب أن "الابن هو من جوهر الآب ذاته " . والشق الثانى " أنا فى الآب " ويدافع به أيضًا عن كمال ألوهية الابن . 
فيؤكد أن [ كيان الابن ليس هو جزء من هيئة هذه الألوهية بل إن ملء ألوهية الآب هو كيان الابن ] [47]، وما يرد أن يصل إليه القديس أثناسيوس هو أن " الابن إله كامل "[48] ولذلك أيضًا هو مساوٍ لله . وبسبب هذه الألوهة الواحدة والكاملة فإن الابن المتجسد " لم يحسب المساواة بالله غنيمة " [49]. فعبارة " أنا فى الآب " تعنى لدى القديس أثناسيوس [ أن ألوهية الابن وهيئته ليست شيئًا آخر عن ألوهية الآب ] [50]
إن وحدة جوهر الآب والابن هى التى تعطى لعمل المسيح فى الجسد ذلك البعد الخلاصى الذى عبّر عنه القديس بولس قائلاً " كان الله فى المسيح مصالحًا العالم لنفسه " (2كو19:5).
 ولهذا فإن القديس أثناسيوس يستطرد مباشرة بعد هذه الآية فيقول [ لأن الابن هو من جوهر الآب ذاته ، الذى به تصالحت الخليقة مع الله ] [51]
وخلاصة القول فإن كلمات السيد المسيح " وأنا فى الآب " حسب ما يرى ويفسر القديس أثناسيوس معناها [ أن الابن يوجد ويُرى داخل ألوهية الآب . وهيئة ألوهية الآب التى فى الابن تُظهر الآب فيه ] [52]. ونتيجة لهذا [ فالآب هو فى الابن ، ومن ناحية أخرى فإن ذات الآب وألوهيته فى الابن تُرينا الابن فى الآب (أنا فى الآب) وتوضح أنه غير منفصل عنه على الإطلاق ] [53]
بسبب وحدة الجوهر بين الآب والابن فإن أعمال الابن هى أعمال الآب أيضًا . وبالمثل فإن ما يُقال عن الآب يُقال عن الابن أيضًا . 
وما يُقل عن الابن هنا لا يُعطى له كهبة أو كمشاركة وذلك لأن كيان الابن نفسه هو المولود الذاتى لجوهر الآب ..[54]
فالآيتين " أنا فى الآب والآب فىَّ " و " أنا والآب واحد " يعطيان معنىً واحد ويدلان على وحدة الجوهر الإلهى ، " فالابن هو كالآب تمامًا لأن له كل ما هو للآب " [55]

الفرق بين قولنا إن " الله خالق " وإن " الله أبٌ " 

يشرح القديس أثناسيوس الفرق بين القولين . فعندما نقول " الله خالق " فإن هذا لا يعنى ولا يلزم بوجود علاقة كيانية بين الله وبين مخلوقاته فطبيعة الله تختلف بالمرة عن طبيعة المخلوقات ، وليس هناك ارتباط زمنى بين وجود الله ووجود المخلوقات " فالخالق موجود قبل وجود مخلوقاته "[56] وكان هناك وقت لم تكن فيه المخلوقات موجودة بينما الله الخالق واجب الوجود . 
أما قولنا إن " الله أبٌ " فيتضمن فى المقام الأول وحسب رأى القديس أثناسيوس ، الآتى : 
1 ـ الإشارة ضمنًا إلى الابن [لذلك فعندما يُذكر الآب يُشار ضمنًا أيضًا إلى الابن معه ] [57]
ويرى القديس أثناسيوس فى قول " إن الله أبٌ " تأكيدًا لفهمنا لعبارة السيد المسيح " أنا فى الآب" لهذا يستطرد قائلاً [حينما تدعو الله أبًا فنحن نعنى فى الحال وجود الابن فى الآب][58]
2 ـ بخلاف عبارة " الله خالق " والتى لا تُلزم بوجود علاقة كيانية بين الله ومخلوقاته فإن عبارة " الله أبٌ " تلزم وجود علاقة كيانية ووحدة فى الجوهر بين الآب والابن
ومن الجدير بالملاحظة أن القديس أثناسيوس وهو يفرّق بين التعبيرين قد أشار إلى الفارق الزمنى فى علاقة الله كخالق والمخلوقات [ لأن الخالق موجود قبل وجود المخلوقات] هذه العلاقة استخدمها الآريوسيون وطبقوها على علاقة الآب بالابن فقالوا " إنه كان هناك وقت لم يكن فيه الابن موجودًا " ، ورد عليهم القديس أثناسيوس بقوله المشهور [ إنه لم يكن هناك وقت كان فيه الابن غير موجود ] وهذا بسبب وحدة الجوهر وبسبب الولادة الذاتية للابن من الآب . 
3 ـ نتيجة حتمية للعلاقة الجوهرية بين الآب والابن أن " من يؤمن بالابن يؤمن بالآب أيضًا " [59]
غير أن هذا لا يعنى بالطبع أن من يؤمن بالآب والابن ، له إيمانين أو أنه يؤمن بإلهين بل سيكون له " إيمان واحد بإله واحد " [60] وذلك لأن من يؤمن بالابن يؤمن بالآب أيضًا "لأنه يؤمن بما هو خاص بجوهر الآب " [61]
وهذا الإيمان الواحد يُعبّر عنه بالسجود والعبادة والإكرام للإله الواحد ، أو كما يقول القديس أثناسيوس : 
[ إذ أن الألوهية هى واحدة ، ولذلك فالإكرام والسجود اللذان يُقدمان إلى الآب فى الابن وبه هما واحد ، ولهذا فالذى يسجد إنما يسجد لإله واحد لأنه يوجد إله واحد وليس آخر سواه ] [62]

ا.د. جوزيف موريس فلتس 
دكتوراه فى العلوم اللاهوتية  
وباحث بالمركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية بالقاهرة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 Stulianou G. Papadopoulou, Patrologia B/ Aqhnai 1990. s 311. 
2 القديس أثناسيوس الرسولى : ضد الآريوسيين المقالة الثالثة : مركز دراسات الآباء القاهرة 1994، فصل 23ص9. 
3 راجع القديس أثناسيوس الرسولى : ضد الآريوسيين المقالة الأولى ، مركز دراسات الآباء 1984 بالقاهرة فصل 13 ص 98 وأيضًا المقالة الثانية، مركز دراسات الآباء 1987. فصل 14 ص 9، فصل 19 ص72، فصل 21 ص99. 
4 المقالة الثالثة : فصل 23 ص 10. 
5 المرجع السابق ص10. 
6 المرجع السابق ص 11. 
7 المرجع السابق ص 11. 
8 المرجع السابق ص 11. 
9 المرجع السابق ص11. 
10 المرجع السابق ص 11. 
11 المرجع السابق ص 11. 
12 المرجع السابق ص 13. 
13 المرجع السابق ص 13. 
14 أستريوس : اشتهر باسم استريوس السفسطائى ، مات بعد سنة 341م . كان أحد المدافعين بشدة عن تعاليم آريوس وكان يعلم بها. تتلمذ على يد لوقيانوس الإنطاكى. حضر مجمع عُقد فى إنطاكية سنة 341 لتثبت قرارات مجمع نيقية 325 وللتأكيد على إدانة الآريوسية. كتب تفاسيرًا وعظات على المزامير وأيضًا الكتاب الذى أشار إليه أثناسيوس فى مقالته الثالثة ومعروف بالسندغما، وقد سجل لنا جيروم قائمة كتاباته فى كتابه De Vir III . 94. لمزيد من المراجع عن كتاباته وبعض مقتطفات من أقواله أنظر : 
1- The Oxford Dictionary of the Christian Church, second edition by F.L. Cross and E.A. Livingstone. Oxford university press 1990. p. 110; 2- E. Groh: Early Arianism, A view of salvation, Fortress press. Philadelphia 1981. 
15 المرجع السابق ص 11. 
16 المرجع السابق ص 11، 12. 
17 المرجع السابق : الملاحظة رقم 6 ص 12. 
18 المرجع السابق ص 11. 
19 المرجع السابق ص 13. 
20 المرجع السابق ص 13. 
21 المرجع السابق ص 13، 14. 
22 المرجع السابق ص 13. 
23 المرجع السابق ص 14. 
24 المرجع السابق ص 14. 
25 المرجع السابق ص 14. 
26 المرجع السابق ملاحظة رقم (7) ص 14. 
27 المرجع السابق ص 14. 
28 المرجع السابق ص 14.
29 المرجع السابق ص 14. 
30 المرجع السابق ص 14. 
31 المرجع السابق ص 14. 
32 المرجع السابق ص 14. 
33 المرجع السابق ص 14. 
34 المرجع السابق ص 15.
35 المرجع السابق ص 15. 
36 المرجع السابق ص 15. 
37 المرجع السابق ص 15. 
38 المرجع السابق ص 15. 
39 المرجع السابق ص 16. 
40 المرجع السابق ص 16. 
41 المرجع السابق ص 16. 
42 المرجع السابق ص 16. 
43 المرجع السابق ص 16. 
44 المرجع السابق ص 17. 
45 المرجع السابق ص 17. 
46 المرجع السابق ص 17. 
47 المرجع السابق ص 17. 
48 المرجع السابق نفس الفقرة ص 17. 
49 المرجع السابق نفس الفقرة ص 17. 
50 المرجع السابق نفس الفقرة ص 17. 
51 المرجع السابق ص 17. 
52 المرجع السابق ص 17. 
53 المرجع السابق ص 17. 
54 المرجع السابق ص 18. 
55 المرجع السابق ص 18. 
56 المرجع السابق ص 18.
57 المرجع السابق ص 18. 
58 المرجع السابق ص 18. 
59 المرجع السابق ص 18. 
60 المرجع السابق ص 18. 
61 المرجع السابق ص 18. 
62 المرجع السابق ص 18.