لم تكن المسيحيّة، لا في أوّل نشأتها، ولا هي الآن،
ولم تكن لتكون ديانة بين الدّيانات، ولا اهتمّت بنقل صورة جديدة عن إله معروف أو جديد، ولا هي علاقة به عن بُعد، أو عبر وصايا وأحكام، ولا هي تعليم يظهر لأوّل مرّة.
هذا مع أنّ فيها شيئًا من هذا وذاك، ولكن ليس هذا هو جوهرَها والأساسَ فيها. المسيحيّة لا تقارَن، في العمق، بالدّيانات الأخرى.
طبعًا لو قورنت لوقع فيها المرء على نقاط تلاق أو تشابه والعديد ممّا ورد في هذه الدّيانات.
هذا لأنّ ثمّة بذارًا إلهيًّا نُثِر، منذ فجر التّاريخ، في كلّ الأرض، وبين كلّ الشّعوب. هذا كان ليشير ويعدّ للآتي في ملء الزّمان ولكن لم يكن هو إيّاه.
المسيحيّة فذّة لأنّها لا تأتي بالدّرجة الأولى لا بنظرة جديدة ولا بموقف جديد ولا بفكر جديد. المسيحيّة تأتي بحياة جديدة!
كلّ ما سبقها وما لحقها رتع في حياة عتيقة، من هذا الدّهر، ولو آمن بعضُه بيوم الحشر وقال بالقيامة العامّة، في اليوم الأخير.
لا جديد، لدى شتّى الدّيانات، في مستوى طبيعة الحياة الّتي للبشريّة. الدّيانات جلّها أخلاق وطقوس وعادات توفّر لأتباعها، إذا ما سلكوا فيها بأمانة، سيرةً تَعِد بالبركات هنا، ونصيبًا في الفردوس هناك، في الآتي، في اليوم الأخير.
وبين ما هو قائم هنا الآن وما سيحدث فيما بعد هناك، طبيعةُ الحياة البشريّة باقية إيّاها عند هذه الدّيانات مع بعض العلامات والبركات المدّعاة النازلةِ من فوق. في كلّ هذا، البعض يدّعي أنّه وحده في الحقّ والبعض أنّه في الحقّ على طريقته، تاركًا لديانات أخرى الظّنّ أنّها في الحقّ، هي أيضًا، كلاً على طريقته.
أمّا المسيحيّة فليست شيئًا من هذا أو ذاك ولا تنتمي إلى مثل هذا المنظور.
القيامة في المسيحيّة، قيامة الرّبّ يسوع، لم تحدث منذ ألفي عام لتكون ذات مفعول مؤجّل إلى اليوم الأخير. المسيح قام ليعطينا حياة جديدة الآن، مذ ذاك، منذ أن حصلت القيامة في التّاريخ، وإلى الأبد.
لم يَقم المسيح كما قام لعازر أو ابنة رئيس المجمع أو ابن أرملة نايين، إلى ما كان عليه قبل قيامته. هم قاموا بمعنى أنّهم استعادوا الحياة البشريّة الّتي كانت لهم قبل أن يرقدوا، ثمّ ماتوا بعد ذلك لأنّ الحياة البشريّة لا بدّ أن تؤول إلى نهاية، الحياة الطّبيعيّة في الجسد.
أمّا الرّبّ يسوع فقام إلى حياة أبديّة.لم يستعد ما كان عليه قبل موته في الجسد.القيامة إلى حياة أبديّة هي أنّ حياة الله هي الّتي بها قام الرّبّ يسوع في الجسد.
لذلك أضحى جسدُه جسدَ المجد، غيرَ قابل، بعدُ، لما كان قابلاً له قبل أن يموت، غيرَ قابل، بعدُ، للمرض والموت، ولا خاضعًا لكلّ حاجة من حاجات الجسد الماديّ. جسَدُ الرّبّ يسوع تمجّد، تروحن بالحياة الإلهيّة غير المخلوقة الّتي قام بها.
وكونُ يسوع، بعد قيامته في الجسد، أكل أو جعل جسده قابلاً لأن يُلمَس أو تُحسَّ آثار المسامير أو طعنة الحربة فيه، كما لتوما الرّسول، فما كان ذلك من باب تقرير محسوسيّة جسد يسوع بعد قيامته، بل من باب الإثبات أنّه هو إيّاه مَن عرفه التّلاميذ، وجسدُه هو إيّاه الّذي مات فيه، أي إنّ هذا هو يسوع المعلّم الّذي عرفوه.
لكن شيئًا أساسيًّا تغيّر في الجسد، أنّه أضحى جسدَ المجد، وما ظهر فيه، من جهتنا، إنما هو، لا من خواص الجسد الجديد بل من علامات محبّة الرّبّ يسوع لنا وتنازله لنتأكّد أنّ هذا الماثل أمامنا هو إيّاه مَن سبق فعرفناه، ولنأتي، بذلك، إلى الإيمان بحياة جديدة وجسدٍ ممجَّد أُعطيا بالقيامة، للرّبّ يسوع أوّلاً ومن ثمّ لكلّ البشريّة المؤمنة به وفقًا للقول الإلهيّ:
"أما كلّ الّذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولادًا لله أي المؤمنون باسمه. الّذين وُلدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله" (يو 1: 12 – 13).
الحياة الجديدة، الحياة النّابعة من جوف الله، الحياة غير المخلوقة، الحياة الأبديّة، حياة الله، هذه أُعطيت لنا بالرّوح القدس.الله يسوع في العنصرة أعطانا، من الآب السّماويّ، الرّوح القدس لكي يُجَيّر لنا الحياةَ الجديدةَ الصّائرةَ بقيامته ومواهبها.
لذا كانت العنصرة وامتدّت، بالأسرار الإلهيّة، إلى كلّ الّذين آمنوا بيسوع. نحن، بالمعموديّة، نولد إلى هذه الحياة الجديدة، وبالميرون نستمدد المواهب الإلهيّة لهذه الحياة وبسرّ الشّكر نغتذي بدفقها، بجسد الرّبّ ودمه، بالحياة الّتي فيه إلى الأبد.
إذًا نحن الّذين آمنّا بيسوع نحيا، منذ الآن، بالحياة الجديدة الّتي أُعطيناها. الأسرار الإلهيّة هي أقنية هذه الحياة إلينا والفضائل الرّوحيّة هي ثمارها وفقًا لقول الرّسول بولس:
"أمّا ثمر الرّوح فهو محبّة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان وداعة تعفّف" (غلا 5: 22 – 23).
هذه ليست أخلاقيّات ولا اجتماعيّات ولا إنسانيّات. هذه مفاعيل روحيّة. الرّوح القدس هو مَن يُنتجها لا نفس الإنسان ولا فكره.
ولولا الحياة الرّوحيّة الجديدة المستوطنة فينا لما كانت هذه الفضائل لتكون.
على أنّه ولو أقامت فينا جدّة الحياة، فإنّ لنا هذا الكنز في آنية خزفيّة (2 كو 4: 7). هذه حالنا هنا على الأرض. والجدّة تتفتّح فينا، في هذا الجسد التّرابيّ، بالتّوبة والجهاد والعفّة، بكلمة واحدة بحفظ الوصايا الإلهيّة. لذا قال السّيّد إنّ الكلام الّذي كلّمنا هو به، أي الوصايا الّتي علّمنا إيّاها، هي روح وحياة.
إذًا الجسد الّذي نحن فيه الآن، جسد التّراب والآيل إلى التّراب، قد جعله الله موطنًا لحياة من فوق. هذا معناه أنّنا نختبر حياة الله، كلّ يوم، في هذا الجسد. هذا يجعل جسدنا التّرابيّ برسم النّور الإلهيّ رغم كونه سائرًا إلى القبر. الحياة الأبديّة، إذًا، نختبرها، منذ الآن، في جسد الموت. نُقبل إلى القبر ونحن ممتلئون من حياة الله.
ما هو من التّراب لا بدّ أن يعود إلى التّراب لأنّه لا يرث الفساد عدم الفساد (1 كو 15: 50). والتّراب يعود إلى التّراب أوّلاً لكي تموت الأهواء الّتي فيه والخطيئة، ومن ثمّ لكي يُبعَث الجسدُ، إيّاه الجسد الّذي نحن فيه، في المجد ليصير جسد المجد متى حلّت السّاعة. هذا يجعلنا، بموت الجسد التّرابيّ، نستمرّ، وإلى حال أفضل، في الحياة الجديدة الّتي انزرعت فينا، في وعينا لذاتنا، وفي مزايا شخصيّتنا الخاصّة، فلا ننتقل بموت الجسد التّرابيّ إلى حالة انتظار جوفاء بل نكون إيّانا في الحياة الإلهيّة المعطاة لنا عند الله، إلى أن يكتمل كياننا بقيامة الأجساد في المجد في اليوم الأخير على مثال جسد مسيح الرّبّ. ليس الله إله أموات بل إله أحياء.
لذا بموت الجسد التّرابيّ نجدنا في عمق الحياة الجديدة، في النّور، في المجد. هذا يجعل موتنا في البشرة معبرًا إلى حياة أوفى. الجسد البشريّ التّرابيّ يبقى، إلى حدّ بعيد، معيقًا لتفتّح الحياة الإلهيّة النّورانيّة فينا. حتّى القدّيسون، ولو تروحنت وتنورنت أجسادهم التّرابيّة فإنّها تبقى ترابيّة، وتاليًا تحت علامة موت الجسد، وهذا يبقى مؤثّرًا سالبًا في انطلاق الحياة الإلهيّة في المدارج الّتي لا عوائق لها فينا، عبر الأمداء النّورانيّة.
إذًا بقيامة الرّبّ يسوع أتتنا حياة إلهيّة جديدة استوطنت فينا وصارت حياتُنا في الجسد مجالاً لتفتّحها. سلوكنا في الوصايا الإلهيّة وانخراطُنا في الّليتورجيا وتعاطينا الأسرار الإلهيّة واجتهادُنا في الفضائل الإنجيليّة ليس بقصد الاشتراك في قيامة السّيّد ولا بقصد الوصول إلى الحياة الإلهيّة الجديدة فينا بل بالضّبط بتأثير اشتراكنا المسبَق في قيامته واستيطان الحياة الجديدة في كياننا.
الإنسان، بحسب الطّبيعة التّرابيّة الّتي فيه، يتعاطى القوى الطّبيعيّة الفكريّة والنّفسيّة والجسديّة، والإنسان، بحسب الحياة الإلهيّة الجديدة الّتي انبثّت فيه، يتعاطى القوى الرّوحيّة والفضائل الحسنى.
على هذا يكون المؤمنون جماعة قياميّة لا بمعنى أنّها تتوخّى القيامة الآتية في المستقبل، بل تحيا في القيامة في الرّوح الآن، مدًّا لقيامة الرّبّ في الجسد، من حيث هم جسده، أي الكنيسة الّتي هو فيها ورأسها.
فالمجد للّذي جعلنا سماويّين على الأرض إلى أن نصير بالكامل إلى أرض جديدة وجسد ممجَّد في السّماء! المسيح قام! هذا وحده جديد التّاريخ والحقّ الأوحد! الله حيٌّ فينا! لا قيمة لشيء آخر بيننا! شرود وظلال!
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
holytrinityfamily.org