ضدّ العالم

وأنتم أيضًا إذا ما شُتمتم أو أُهنتم أو أُفتري عليكم وتَقبلتم اللّطمات، 
يجب أن تفرحوا يقينًا فى قلوبكم 
لأنّكم قد اقتنيتم أرباحًا كبيرة وضاعفتم مكاسبكم .. 
القديس مكاريوس الكبير ( الرسالة الثالثة ) 
أثناسيوس ضدّ العالم Athanasius contra mundum،
 مقولة شهيرة انتشرت عبر الآفاق عن القديس أثناسيوس، إزاء موقفه إبّان تصاعد حدّة المقاومة له شرقًا وغربًا. ولكن العبارة في حقيقتها تعبير عن حقيقة إنجيليّة بالأساس إذ تتناغم مع كلمات القديس بولس: "صُلِبتُ للعالم". 
والعالم cosmos لا يعني هنا البشر فهم محبوبو الله، إذ يبقى دومًا مُحبًّا للبشر، كما ندعوه في صلواتنا.
 العالم يعني قيم الماديّة المُجرَّدة materialism، يعني قيود السلطة والمال والجنس التي يُجمِّل فيهم الشيطان ليحافظ على شبابهم في عقولنا وخيالنا، ومن ثمّ نظل رهن شباك قيم الاستهلاك العنكبوتيّة،
يعني عبودّية الحسّ الذي يُفقد الإنسان القدرة أن يتّخذ قراره دونما ضغوط بإلحاح الشهوة، يعني رداء الظلمة الذي يُخيِّم على الجميع بظلِّه حتى يبقوا في ظلال الموت بعيدًا عن دفئ النور .. هذا هو العالم الذي علينا أن نبغضه.
 إجمالاً، هو العالم الساقط دون فداء المسيح. "لا تحبّوا العالم"، لعلّ تلك هي الدعوة الوحيدة للبُغضة!! فبُغضّة العالم يعني انفتاحنا على سرّ الحبّ الأبدي المُستعْلَن في المسيح. 
إنّ المسيحي يوم معموديّته، حينما يغطس في المياه، المُقدَّسة بالكلمة والصلاة، ويخرج، يُعْلِن للعالم أنّه منذ تلك اللّحظة ليس مِلْكًا للعالم، وأنّ تطلُّعاته المستقبليّة ليست كتطلّعات العالم؛ فالمستقبل عنده لم يعد يعني تحرُّك زمني إلى الأمام، بل تجاوز الزمن إلى الإسخاطولوجيا (الأخرويّة). 
في المعموديّة يجتاز المسيحي، الموت مع المسيح حينما يُغطَّس في المياه، وكأنّه يغرق!! ولكن يدَّ الكاهن التي تنتشله من المياه، تُعبِّر عن يدِّ الله التي تُنجّيه من الغرق ومن الموت، وتهبه حياة جديدة في المسيح القائم من الأموات.
 فالمعموديّة هي الإعلان العملي الذي يطلقه المسيحي للعالم أنّه قد مات عن الخطيئة وعن العالم المادّي، ليحيا للبرّ الذي في المسيح يسوع، أي ليحيا لملكوت السماوات، منذ تلك اللّحظة من الزمن. 
وهذا الفعل يُزعِج رئيس العالم كثيراً؛ فهو يريد أن يستولي على كلّ مخلوقٍ يطأ بقدميه أرض الحياة، في جسدٍ، يريد أن يُصيِّره ابنًا للشهوة والخطيئة والتراب والموت، يريد أن يُكبّله بقوى الماديّة الجاذبة للحاسّة الإنسانيّة غير المُهذّبة، بيد أنّ المعموديّة تُحرِّر الإنسان من بنوّة الشيطان المُزمِع أن يعلنها، ليصير آنذاك ابنًا للنور والبرّ والحياة والأبديّة. 
حينما يرى الشيطان ولادتنا من الله بالنعمة والتبنّي، ويلحظ أنّ أبصارنا لا يجتذبها بريق العالم المُنعكِس على مرآة الخطيئة، ويرى في المقابل، أعيننا مثبّته على رجاء وعد الحياة بتلك المدينة الباقية إلى الأبد؛ ملكوت النور والفرح والسلام، يبدأ في إشهار أسلحته في وجوهنا، في محاولات مستميتة لترويعنا وإرهابنا، حتى نترك الطريق الذى يعبر بنا إلى غايتنا؛ قدس الأقداس السمائي. 
لقد أعلن لنا المسيح صراحةً : 
" إن كان العالم يبغضكم، فاعلموا أنّه ابغضني قبلكم، 
لو كنتم من العالم لكان العالم يُحبّ خاصّته، 
ولكن لأنّكم لستم من العالم، 
بل أنا اخترتكم من العالم، 
لذلك يبغضكم العالم" (يو 15 : 18 – 19) 
إنَّ قيام العالم ضدّ أولاد الله، هو في حقيقته حربٌ ضروس يشنّها ضدّ الله ذاته، ضدّ فكرة انتصار الله في البشريّة رغم سقوطها القديم، ورغم انحصارها في جسدٍ ماديٍّ وزمنٍ ماديٍّ، تلك الحربّ بمثابة رد فعلٍ متواصل ومستمر على الهزيمة التي مُني بها رئيس العالم حينما دخل المسيح، متجسِّدًا، في عباءة العالم المادّي، ووطئ سلطان العالم يوم قام قاهرًا قوى الموت، ساخرًا بالزمن، مُبطلاً سريان الخطيئة، مُقيِّدًا الشيطان ..
من تلك اللّحظة والعالم، كأداة للشيطان، يحاول أن ينال من المسيح فى كنيسته، بإبعادهم عن الطريق تارةً وتزييف الحق أمامهم تارةً أخرى، وكذا بمحاولات حثيثة لإماتة وهج الحياة في قلوبهم.
 ما يزال يحاول أن يُخضِع الكنيسة لصولجانه المادِّي، مازال يهيِّئ لها سياط الضيقة إن أبت السجود، ويَنصِب لها الصلبان إن أشهرته جهارًا كظلمةٍ، بقوّة النور الكامنة فيها.
 جلّ مبتغاه أنْ تستسلم وتُحوِّل عينيها إليه عوضًا عن المسيح القائم، وتنتهج طرقه ووسائله، فتفقد قوّتها وقدرتها على الشهادة في الزمن وبين أروقة التاريخ. يريدها ألاّ تصير ملحًا منثورًا على كلّ غذاء إنساني، لئلا تصير شبعًا، يريدها أن تنزوي وتتقوقع وترهب إطلاق النور!!! 
هناك حقيقة علينا أن نتذكّرها على الدوام وهي أنَّ المسيح قد أُهين وضُرِبَ ولُطِمَ وشُتِمَ وجُرِحَ وصُلِبَ، بيد أنّ شُعلة الحياة التي جاء، ليُشعِل بها العالم، لم تنطفِئ ولم تخبو، بل مافتئت تلك الشعلة تتأجّج إذ بلغ لهبها عنان السماء، من فرط آلام المسيح المُحيية، بل وطال لهبها المحيي، الكنيسة، فتذوّقت الألم مع المُخلِّص وأحبّته لأنّها تبعت المُخلِّص، وصار صليبه هو افتخارُها، ترفعه فوق قباب الكنائس وتعانقه في صلواتها كعلامة نُصرةٍ، مستهينة بالعالم الذي وُضِع في الشرير والذي يتوعدها بالألم، كلما وقع بصره على صليبٍ مُنْتصبٍ. 
ألمنا الحقّ يكمن في مواجهتنا نار الضيقة بقطرات مجهودنا الإنساني الهشّ. ولكن إنْ طرقنا أبواب منابع النعمة، انفتحت، وفاضت مياه الحبّ والعون والسلام، لتُطفئ لهب الشيطان المرتعش. فما أجمل الألم لمن يغتسل في آبار النعمة الإلهيّة، لن تترك النيران آثارًا على روحه، ستنطفئ النيران وتنتصر الحياة. 
بل وسيخطو مسرعًا نحو النيران، وهي ستفرّ منه مهرولة إلى خلفٍ، فهي خدعة شبه الموت الذي لا يملك على مَنْ مَلَكهُ المسيح. 
"ضدّ العالم" ليست كراهية حاقدة على العالم ولكنّها موقف إيجابي من العالم، موقف من قيمه الأخلاقيّة حينما تتدنّى.
 إنّها حالة من يسيرون على الطريق الضيِّق الذي لن يتقاطع قط مع الطريق الرحب. "ضدّ العالم" تعني خيارًا للجميع بأن يعيد قراءة واقعه ليبحث هل ينعم بحريّة حَقّة أم عبوديّة مُقنّعة،
 ويبقى الخيار مفتوحًا وتبقى الدعوة قائمة من المسيح:
إلى أي فريق تنتمي، مع أم ضدّ ... الإجابة قد تعني أبديّة ضدّ المسيح، وقد تعني أبديّة مع المسيح في شركة الثالوث ... 

الاب / سارافيم البرموسي 
راهب بدير السيّدة العذراء . برموس 
الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة 
seraphimbar@gmail.com