اللاّهوت

إنّ اللاّهوت هو كلمة الله،
 والتي تفهمها النفس النقيّة المُتّضعة الروحانيّة المتجدّدة، إذ ليس هو كلمات الذهن المزخرفة بفنون أدبيّة والمعبّر عنها بروح عالميّة وقانونيّة.
 وكما أنّ التماثيل البديعة لا تتحدّث، هكذا فإنّ الكلمات المصطنعة لا تقدر أن تخاطب روح الإنسان، إلاّ إذا كان المستمعون عالميين للغاية، يفتتنون بالحديث الساحر.
 إنّ اللاّهوت المشروح كأحد… العلوم يختبرُ البُعد التاريخي، تلك الأشياء التي يمكن استيعابها خارجيًّا.
 ولأنّ النسك الآبائي والخبرة الداخليّة غائبان، فإنّ هذا اللاّهوت مملوء بعدم اليقين والتساؤلات. 
إذ أنه من خلال العقل لا يستطيع الإنسان أن يلتقط الطاقات الإلهيّة، إن لم يمارس أولاً العمل النسكي، ويحيا في تلك الدائرة الإلهيّة، حتّى يتسنّى للنعمة الإلهيّة أن تُفعّل تلك الطاقات في حياته.
 إنّ من يظن أنّه بإمكانه أن يقترب من الأسرار الإلهيّة من خلال نظريّة خارجيّة علميّة، يشبه ذلك الأحمق الذي يريد أن يُطالع الفردوس من خلال تليسكوب.
 بينما أولئك الذين يصارعون على شاكلة الآباء يمكنهم أن يصيروا لاهوتيين من خلال زيارة نعمة الروح القدس.
 إنّ كلّ الذين يحوزون التعليم الخارجي ولكن مع استنارة النفس الداخليّة، يمكنهم أن يصفوا الأسرار الإلهيّة ويفسّروها بشكلٍ صحيح، كالعديد من الآباء القديسين.
لذا فإنّ مَنْ لم تربطهم صلة روحيّة بالآباء الأطهار ويريدون أن يأخذوا على عاتقهم عمل الكتابة والترجمة، سوف يسيئون للآباء ولأنفسهم، وكذلك للناس، من خلال ضبابيّتهم الروحيّة.
 لذا فإنّه ليس حسنًا أن يعمل أحد باللاّهوت من خلال لاهوتيات آخرين، لأنّه سيصير كرجلٍ عقيم يتبنّى أطفال آخرين، ويُقدّمهم كأطفالٍ له مُدّعيًّا أنّه أبٌ لأسرة كبيرة.
 لقد التقط الآباء القديسون الكلمة الإلهيّة والخبرة الشخصيّة من الداخل، من قلوبهم؛ لقد كانوا نتاج صراع روحي ضدّ الشرّ ولهيب الإغواء، والتي اعترفوا بها تواضعًا، أو كتبوها، من فرط محبّتهم، لنفع آخرين. لم يحتفظوا بهذا الحبّ لأنفسهم، عالمين أنّ التواضع، كما كلّ النعم الإلهيّة هي من الله.
 إنّ من يقدمون النعم الإلهيّة وكأنّها منهم، هم الأكثر تبجُّحًا والأقل تقوى، في العالم كلّه، وذلك لأنّهم فهموا الله وأنفسهم بشكلٍ خاطئ. 
وهم بهذا حرموا ذواتهم من النعمة الإلهيّة …
 إنّ الشاكرين دومًا لله على كلّ شيء، والذين ينظرون إلى ذواتهم باتضاعٍ معتنين بخليقة الله بلطفٍ، يمكنهم أن يتحدّثوا في اللاّهوت وهم أكثر اللاّهوتيين إيمانـًا، وإن كانوا جهلاء.
 إنّهم كالرعاة الجهلاء الذين يرصدون تغيُّر المناخ في القرى، ليل نهار، ومن ثمّ فهم فلكيون أكفاء. إنّ أولئك الذين يحيون في بساطة قلب ونقاوة وأفكار طاهرة، وقد اقتنوا تلك البساطة والنقاوة داخليًّا، يمكنهم أن يتأمّلوا في الأمور التي فوق الطبيعة بيسرٍ، لأنّ كلّ شيء بسيط بالنسبة لله.
 فإنّه لا يستخدم قدرات للأمور الفائقة للطبيعة تفوق تلك التي للطبيعة، ولكن نفس القوّة لكلّ الأشياء. إنّه كائن بسيط للغاية ولقد أعلن لنا الابن ذلك على الأرض من خلال بساطته المقدّسة.
 حينما تأتي النقاوة للإنسان مصحوبة بإيمانٍ حارٍ وتقوى، فإنّ الثالوث الأقدس يجد له مسكنًا داخلنا.
ومن خلال تلك الاستنارة يمكن للمرء بسهولة أن يجد المفاتيح للمعاني الإلهيّة، ويستطيع أن يُفسّر روح الله بطريقة سهلة وطبيعيّة، دون أن يُسبّب إرهاقًا ذهنيًّا.
 وتبعًا للنقاوة أم الخداع الذي يحوزهم المرء، يمكنه أن يتبنّى تفاسير على شاكلته، الواحد نافع بينما الآخر مُضرٌّ. أحيانًا قد يتسبّب الشخص في الضرر لسبب انعدام أو قلّة خبرته، وإن كانت نواياه طيّبة.
على سبيل المثال، فقد لا يعرف أحدهم أن النبيذ الأبيض يمكن أن يتواجد منفصلاً عن الأحمر، فيصبّ عليه صبغة حمراء ليبدو حسنًا، وبهذه الطريقة يمكنه أن يسمّم الآخرين. وإن كان المرء مخادعًا أو عديم الخبرة، ولكن يعمل من قبل المنطق والعدل البشري، سوف يُخطّئ روح الله ومن ثمّ يؤذي نفسه وآخرين.
من خلال العدل والمنطق البشري، سمعنا عن تذمُّر فعلة الساعة الأولى والثالثة من النهار، في الإنجيل، والذين رأوا أنه قد تمّ التعامل معهم بطريقة غير عادلة. بينما، الله، حامل قلوب البشر، من قبل عدله الإلهي، قد كافأ عُمّال الساعة الحادية عشر ومن أجل المعاناة التي نالتهم قبل أن يحصلوا على العمل.
 وقد كان من الممكن أن يعطي الله أولئك العمّال أجرٌ أعظم، من قبل صلاحه الإلهي، المملوء من الرحمة والحبّ، لأنّ أولئك المساكين قد عانت نفوسهم الكثير، وقد نالهم الأرهاق والتعب أكثر من الآخرين الذين قد عانوا جسديًّا لعدة ساعات.
إننا نحن البائسين لا نستطيع أن نحدّ العدل الإلهي في عقولنا الضيّقة، كما أنّ لطفه الإلهي غير المحدود لا يمكنه أن يُستوعب داخل محدوديّة محبّتنا. لذا فإنّ محبّة الله كانت محدودة بإعطاء الجميع ما تمّ الاتفاق عليه من أجرٍ، حتى لا يتسبب بفضيحة أولئك الذين أحبّوا ذواتهم أكثر من أخوتهم البشر. إذ قد قال لهم:
 “يا صاحب ما ظلمتك، أما اتفقت معي على هذا المقدار …” فقد كان يعني “أنا سيّد بمحبّة فائقة وعدل إلهي، لا يمكنكم أن تستوعبوه”. وليس “أنا سيّد ولا أعبأ بكلام أحدٍ”.
 لأنّ الله أبونا ونحن أولاده، والجميع يعرف عن محبّته الأبويّة؛ لقد صلب ليفتدي، ولكي يستعيدنا مجدّدًا للفردوس.
 إن استطعنا الخروج من بوتقة ذواتنا، يمكننا حينئذ أن نتحرّر من جذب الأرض ونرى كلّ شيء على حقيقته، بأعين إلهيّة، بوضوح ويقين. لذا فإنّ من الضروري على المرء أن يترك العالم ساعيًا للصحراء، لكي يُصارِعُ في تواضعٍ، بصلاةٍ وتوبةٍ، وأن يُهجَر من قبل أهواءه، وأن ينزع عنه الصدأ الروحي، ويتحوّل إلى موصِّل جيّد لكي يستقبل النعمة الإلهيّة ويصير لاهوتيًّا بحقٍّ.
 إن لم ننزع الصدأ عن أسلاكنا الروحيّة، سوف يحدث دائمًا انقطاع في التيار المملوء بالنظريّات العالميّة، والشكوك والتساؤلات. وقتها سوف نتوقّف عن الحديث في اللاّهوت، إذ نوجد في حالة عالميّة، وقتها سنتحدّث في إطار التاريخ، أو سنفحص الأمور من وجهة نظر قانونيّة أو رياضيّة.
 مثلاً، سوف نهتم كم مسمارًا استخدم لصلب المسيح وكم عدد الجنود الحاضرين الصلب دون الولوج إلى جوهر الأشياء:
 أنّ المسيح صُلب من أجل خطايانا الخّاصة، لكي يخلِّصنا، وقد عانى أكثر من معاناة كلّ الشهداء مجتمعين. وبالرغم من عونه للشهداء بقوّته الإلهيّة، لم يستخدم تلك القوّة من أجل ذاته، محتملاً ألمًا رهيبًا، حبًّا، راضيًا بتثبيت يديه ورجليه.
 ليس بالأمر المهم معرفة إن كانت قدميّه سمرتا معًا أم كلّ واحدة منفردة، بقدر معرفة أنهما سمرتا وأنه عانى من الألم، شاربًا الخلّ، لكيما يجمّلنا من جديد للفردوس، لكي نبقى بقربه للأبد، كأبٍ محبٍّ.


الأب باييسيوس الآثوسي +

ترجمة: الاب سارافيم البرموسي

راهب بدير السيدة العذراء برموس
الكنيسة القبطية الأرثوذكسيّة
seraphimbar@gmail.com