ما بعد الفصح

لكي يكون الفصح الّذي احتفلنا به فصحًا حقّانيًّا،
 لا يمكن إلاّ أن يكون كلُّ يوم، بعد الفصح، فصحًا.
كلّ يوم، منذ قيامة الرّبّ يسوع المسيح، بات عيدًا!
 ليس العيد احتفالاً محضًا، بما للاحتفالات من مراسم ومباهج يُعَدُّ لها وتُوَدَّع لتُستَقبَل، من جديد، في السّنة التّالية، ولا هو احتفاءٌ بذكرى عَبَرَتْ ولم يبق منها غير المغزى، أو بمَن حلّ وارتحل. 
صحيح أنّ العيد يأتي في زمن، كلّ ما قبله يتكثّف إليه، وكلّ ما بعده ينقله طيبًا، ولو إلى حين.
 لكن العيد، في المسيح، صار، بالضّبط، واقعًا كيانيًّا جديدًا يدوم، حدثًا تغييريًّا في مستوى الخلق برمّته، فصحًا، عبورًا من العتاقة إلى الجدّة، من حياة تموت إلى موت يحيي. صار حياة جديدة!
قام المسيح في الجسد بعدما مات في الجسد عينه. وما مات، في الجسد، إلاّ لأنّه، بدافع الحبّ، أراد أن يتّحد بمعاناة البشريّة. 
الصّليب، صليب الرّبّ يسوع، في أدقّ تحديد، هو تعبير عن منتهى الحبّ الإلهيّ للبشريّة.
 لا محبّة أصيلة، عميقة، ولا أعمق، تُلْتَمَس، إلاّ في وحدة الألم! ليس هكذا كان حال الإنسان عند الخلق. لا، الألم ليس من الله.
 ولكن هكذا صار حالُ الإنسان بعدما انتهى، في التّاريخ، مسمَّرًا على صليب الألم والموت لأنّه بَعُدَ عن محبّة الله وانقطع عنها.
 لم يعد عشيرَ الله محبةً. يوم كان الإنسان يغتذي من محبّة الله، في ما يقولون عنه "فردوسًا"، لم يكن ثمّة مكان لألم أو لموت.
 ولكنْ، بعدما أدار الإنسان ظهره لله، واستغنى عن محبّته، وهذا ما نسمّيه، في كلّ حين، خطيئة، دخل في دائرة استحدثتها فِعلتُه، عنيت بها دائرة الموت. هذا جعل كلّ ما في حياة الإنسان عاملَ موت، فكان الألم الدّاخليّ ووجع البدن وأمراض النّفس وعلل الأجساد، من حيث إنّ القلب صار مريضًا نجيسًا.
 بإزاء هذا الواقع المستجِدّ للإنسان، كان الإنسان، بإزاء نتيجة من اثنتين: إمّا أن يضمحل لأنّه مخلوق، وإمّا أن يبادر الرّبُّ الإله الخالق إلى استعادته وإحيائه لكي لا يفنى. نحن لا نؤمن بخلود نفس الإنسان في ذاته، وإن كنّا نؤمن أنّه، قبل مسيح الرّبّ، كان هناك بعض بقاء يستمرّ، لكنّه يكاد يكون بلا قيمة تُذكَر!
وكان الحلّ هو تجديد البشريّة، كخلق مائت، وإخراج حياة جديدة، تمامًا، بنعمة من الله، وبمثابة خلق جديد منه.
هذا كان، فقط، لأنّ الله محبّة، كلّه محبّة، والمحبّة خلاّقة أبدًا ولا موت في المحبّة.
ولكن كيف؟ كيف يصنع السّيّد الرّبُّ الإنسانَ جديدًا؟ أيفكّكه ويعيد تركيبه من جديد؟ هذا ما كان يمكن أن يكون حلاّ، لأنّ الإنسان، بالمواصفات الّتي شاءه الإله الخالق أن يكون عليها، كان ليعود إلى إدارة ظهره لربّه كما فعل أوّل مرّة، وهذا معناه سقوطه، من جديد، في ما سبق أن سقط فيه أوّلاً.
 إذًا، ما الحلّ؟ ما لم تكن لدى الإنسان مشيئة الخروج من الخطيئة، وبالخطيئة من المعاناة والموت، فلا شيء ينفع!
 لذا عمد الرّبّ الإله إلى ما لم يكن ليخطر ببال إنسان.
 هذا هو السّرّ – الفائق الإدراك – الّذي كان مكتومًا في الأزمنة الأزليّة، ولكن ظهر الآن... بيسوع المسيح له المجد إلى الأبد (رو 16: 25، 26، 27)!
 فلقد غيَّر السّيّد الرّبّ طبيعة الموت باقتباله الموت! الموت، قبل يسوع، كان نهاية حياة الإنسان على الأرض، أمّا، بعد يسوع، فقد صار تتويجًا لحياة الإنسان، في المسيح، على الأرض، إلى حياة أبديّة! كيف حقّق الرّبّ الإله ذلك؟
 أَعدَّ البشريّة، بعد شرودها عنه، في مسار طويل المدى، عن طريق الوعد والعهد والثّواب والعقاب، في هذا الدّهر، لمجيء المخلّص. والمخلِّص كان الرّبّ يسوع المسيح، ابن الله، أو كلمة الله، وهو إيّاه الله، في الجوهر.
 هنا، حتّى لا تختلط الأمور في أذهاننا، نميِّز، في الله، بين الجوهر والشّخص. شخص الله الآب غير شخص الله الابن، ولكنْ جوهرُ هذا وذاك واحد. إذًا، لأنّ الجوهر واحد، فإنّ كلّ ما للآب كان للابن، وكلّ ما للابن كان للآب.
هذا معناه أنّ المخلِّص هو الله الابن لا الله الآب، رغم أنّ الخلاص، كفعل إلهيّ تحقّق في البشريّة، هو من العمل الواحد، وتبعًا للإرادة الواحدة الّتي للآب والابن... على هذا شاء الله، بمحبّته، أن يتجسّد ابنُ الله من امرأة، تُعتبر بمثابة زهرة البشريّة، هي مريم البتول، بالرّوح القدس الّذي حلّ فيها. هذا الحدث، في تاريخ محدّد ومكان محدّد وضمن ظروف محدّدة، كان مخفيًّا عن عيون النّاس.
 فكان يسوع، ابنُ الله المتجسِّد، إنسانًا كغيره من البشر إلاّ في الخطيئة، إذ لم يكن ممكنًا أن يَعرف خطيئة، لأنّه هو عينُه الله، والخطيئة انقطاع عن محبّة الله! يسوع عانى كلّ ما عانته البشريّة، لجهة نتائج الخطيئة، من حيث الألم والموت.
 عاناه، تدبيرًا، من باب توحيد نفسه بالبشريّة، محبّةً بالبشريّة، لإخراج البشريّة من المعاناة. وبعدما رسم معالم طريق الخلاص، بالوصيّة الجديدة، وأَبان أنّه
 "ليس بأحد غيره الخلاص" (أع 4: 12)،
 وأعطى البراهين أنّ ما يقوله صادق، بما أتاه من آيات وعجائب، تتراوح بين الأشفية وطرد الأرواح الخبيثة والسّلطة على عناصر الطّبيعة وإقامة الموتى، أقول بعدما رسم يسوع معالم طريق الخلاص، ذاق الموت على الصّليب كَبَارّ.
موت الرّبّ يسوع كان تمام قصدِ الله، والتّجلّي الأكمل لمحبّته للبشر. فإذ مات يسوع في الجسد، وهو الإله المتجسّد، صار الموت، به، واقعًا جديدًا، مختلفًا عمّا كان عليه قَبْلَه. الموت، موتُه، صار، على مثاله، تكوينًا، ذا مدى إلهيّ وإنسانيّ معًا. يسوع اختبر الموت كإنسان، وبه، أي بالموت، بلغت حياتُه على الأرض مداها، أي نهايتها، لكنّه، كإله، جعل الموت فصحًا، عبورًا إلى حياة جديدة، إلى حياة أبديّة، هي الحياة عينها الّتي لله!
هذا حقّقه الرّبّ يسوع، بشخصه، له المجد. ولكن كيف جيَّر ما حقّقه للنّاس؟
 بأمرين متلازمين: بالإيمان وبالرّوح القدس.
 بالإيمان، أي بمعرفة يسوع، بطاعته. وهذا يتأتّى، في العمق، لمَن يحبّون الحقّ، بالكلمة الإلهيّة ونعمة الله. فإن أيقن المرء ممّا قاله يسوع وفعله، أنّه، أي يسوع، هو في الحق وسلّم به وله، والتزم ما أوصى به، طبعًا، ليس من دون عون من فوق،
فإنّ الرّوح القدس، إذ ذاك، يسكنُ فيه. في الحقيقة، لنكون أكثر دقّة، الرّوح القدس يسكن فيه بالمعموديّة، سرّيًّا، ويتفعّل فيه بحفظ الوصيّة. هذا يجعل الإنسان، بالرّوح القدس، شريكًا في موت المسيح وقيامته.
موت المسيح في الجسد بمعنى الموت الفعليّ في الجسد، ولكنْ المفضي إلى حياة أبديّة، وقيامة المسيح بمعنى خبرة كلّ ما يمكن أن يَعبر به الإنسان على الأرض من نجاح وفشل، من ضيقات وانفراجات، من أحزان ومسرّات، من عافية ومرض، من قلق وارتياح، من خوف وطمأنينة، أقول القيامة بمعنى خبرة كلّ هذا ونظيره كمواقع كيانيّة لحضور الله الخفيّ وعمله، في حياة الإنسان، نحو سيرة قدّوسة، بالتّسليم والاتّكال الكاملَين على الله، إلى حياة تصبّ، بالموت عن هذا العالم، بالجسد، في مصبّ النّور الإلهيّ والحياة الأبديّة!
كلّ هذا يفضي بنا إلى واقع جديد للعيد. العيد لدينا يمسي دخولاً في حياة جديدة!
 ولكنْ أَن يأتي العيد ويذهب فهذا لا قيمة له ولا معنى في ذاته لأنّه لا يغيّر الواقع العميق للإنسان في شيء.
 طبعًا، في الزّمن يتكثّف الجهد، من جهة الإعداد للعيد، إلى التماس جدّة الحياة، وينكبّ الإنسان على تجديد المسعى المرتجى وشحذ الهمّة إلى الحياة الجديدة، لأنّ كلاّ منّا، بتأثير معوقات وملهيات وتجارب الحياة الدّهريّة، عرضةٌ للتّبلّد والتّهاون والإهمال، لذا يتركّر الهمّ، كلّ الهمّ في العيد، على انفراج تكثيف المسعى التّوبويّ عن مسرى دؤوب إلى تمثّل صليب المسيح، أي الاقتداء به، في كلّ حين، بلوغًا إلى قيامة تستقرّ فينا، شيئًا فشيئًا، لا كحدث، بل كحالة تثبت وتدوم.
ما لم تتحوّل القيامة فينا إلى حالة فإنّنا نتعاطى القيامة، إن تعاطيناها، كحالة وثنيّة. القلب الّذي لا يتغيّر إلى فوق، كلُّ ما يأتيه، خارجيًّا، تزكيةٌ لما يملك عليه من أهواء النّفس والجسد. بلى، الله يمكن تعاطيه وثنيًّا، وهذا أخطر الوثنيّة، لأنّ المرء، إذ ذاك، يعبد الأوثان، أوثانَ نفسِه، باسم الله!
ولكنْ قد أتت السّاعة الّتي لم نعد نعبد فيها الله، كما قال يسوع، لا في هذا الجبل ولا في أورشليم. إذ السّاجدون الحقيقيّون يسجدون للآب بالرّوح والحقّ لأنّ الآب طالب مثل هؤلاء السّاجدين له. الله روح، والّذين يسجدون له فبالرّوح والحقّ ينبغي أن يسجدوا (يو 4: 21، 23، 24).
اليهود، قديمًا، كانوا يُعيِّدون، محرقاتٍ وتقدماتٍ وذبائحَ وأغاني وموسيقَى. رغم ذلك قال لهم الرّبّ الإله بنبيِّه عاموص:
 "بغضتُ، كرهتُ أعيادكم... ليَجْرِ الحقّ كالمياه والبِرُّ كنهر دائم" (عا 5).
 العيد عيدٌ نحو تغيير في القلب، في السّيرة. فكيف إذا حلّ ملء الزّمان وتجسّد ابن الله وأعطانا روحَه ووصيّة حياة جديدة؟ لا قيمة، بعد، لعيد إلاّ في إطار التّوبة الكاملة إلى الحياة الجديدة والسّيرة الجديدة الّتي صارت لنا بالرّبّ يسوع المسيح، ممتدّةً إلى حياة الكمال الإنجيليّ في القداسة!
الفصح، الّذي عبرنا به، هو، بالضّبط، الخطُّ الفاصل بين وثنيّة العيد والعبادة بالرّوح والحقّ، بين الدّهريّة والأخيريّة، بين العتاقة والجدّة، بين المسرّات الشّقيّة والحزن البهيّ، بين حياة تتناقص باطّراد حتّى الموت وحياة تتنامى باطّراد إلى الحياة الأبديّة، عبورًا بالموت، بين التأبلس (من إبليس) والتّألّه! ثمّ لا حياد في الإلهيّات. إمّا هذا وإمّا ذاك. علِمنا أم لم نعلَم!

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
holytrinityfamily.org