تفسير المعجزات فى انجيل يوحنا - 8

عند آباء الكنيسة ومعلّميها 
-8 - معجزة سَير الرب يسوع على المياه 

ملاحظات إفتتاحية: 

إن معجزة سَير يسوع على المياه في إنجيل يوحنا تأتي مباشرةً بعد معجزة إشباع الجموع وترتبط بها كحدث تاريخي ولاهوتي.
 بحسب إنجيل يوحنا يعلن يسوع ذاته بواسطة ظهوره فوق الطبيعي ـ وفق ظهورات يهوه في العهد القديم ـ وسيادته على عناصر الطبيعة، وأيضًا بواسطة إعلانه عن إلوهيته بقوله "أنا هو".
 يُعطي الرب يسوع في هذه المعجزة إجابة على سؤال اليهود وحيرتهم بسبب معجزة إشباع الجموع إذ كانوا يتساءلون عن هويته، وفي نفس الوقت يمهَّد لما سيعلنه في حديثه عن الخبز السماوي (راجع يو22:6ـ28) وإعتراف بطرس (راجع يو68:6ـ69)
هذه المعجزة تنقسم إلى جزئين:
 (أ) حالة التلاميذ أثناء غياب يسوع. (يو16:6ـ18) " وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ نَزَلَ تَلاَمِيذُهُ إِلَى الْبَحْرِ، فَدَخَلُوا السَّفِينَةَ وَكَانُوا يَذْهَبُونَ إِلَى عَبْرِ الْبَحْرِ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ. وَكَانَ الظَّلاَمُ قَدْ أَقْبَلَ، وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ أَتَى إِلَيْهِمْ. وَهَاجَ الْبَحْرُ مِنْ رِيحٍ عَظِيمَةٍ تَهُبُّ". 

(ب) ظهور يسوع وإنقاذ التلاميذ (يو19:6ـ21) " فَلَمَّا كَانُوا قَدْ جَذَّفُوا نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلاَثِينَ غَلْوَةً، نَظَرُوا يَسُوعَ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ مُقْتَرِبًا مِنَ السَّفِينَةِ، فَخَافُوا. فَقَالَلَهُمْ:«أَنَا هُوَ، لاَ تَخَافُوا!». فَرَضُوا أَنْ يَقْبَلُوهُ فِي السَّفِينَةِ. وَلِلْوَقْتِ صَارَتِ السَّفِينَةُ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي كَانُوا ذَاهِبِينَ إِلَيْهَا". 

(أ) حالة التلاميذ أثناء غياب يسوع (يو16:6ـ18). 

إنصرف يسوع وحده إلى الجبل لكي يتجنب حماس اليهود القومي، فقد كانوا يريدون أن يجعلوه ملكًا أرضيًا بعد معجزة إشباع الجموع.
 ويرى القديس كيرلس الأسكندري أن إنصرافه هذا كان "تدبيريًا" إذ أراد أن يصنع "آية" ثانية: فقد {" انصرف إلى الجبل وحده" (يو15:6) بعد أن ترك التلاميذ ليهيئ الفرصة للمعجزة القادمة}[1].
أما عن السبب الذي لأجله صنع هذه المعجزة بعد معجزة إشباع الجموع، يقول القديس كيرلس الأسكندري "ولكي يدرب ذهن الرسل الضعيف على التعلّم، فقد تمم كل تلك الأمور بشكل معجزي حسبما أراده هو، دون أن تعوقه طبيعة الأشياء... لهذا وضع تحت قدميه طبيعة الماء الرخوة، رغم أن أجساد الناس لم تعتد من قبل أن تبقى فوقها، لأن كل الأشياء ممكنة بالنسبة له إذ هو الله"[2].
ثم نزل التلاميذ إلى البحر في المساء ودخلوا السفينة ـ متجهين إلى كفر ناحوم. ويخبرنا يوحنا الإنجيلي في عدد 17 أن "الظلام قد أقبل ولم يكن يسوع قد أتى إليهم".
هنا يربط يوحنا الظلام بغياب يسوع. فإن حالة التلاميذ الذين يصارعون الأمواج في الظلام بمفردهم بدون أي معونة تمثل ـ بالنسبة ليوحنا الإنجيلي ـ رمزًا لحالة "العالم" الروحية، العالم في حالة غياب يسوع أو المحروم من حضور يسوع.
 ويوضحَّ القديس كيرلس هذا الأمر قائلاً: "الأمواج العالية تتقاذف الذين ليسوا مع يسوع وإنقطعوا عنه، أو بدوا غائبين عنه، بإنصرافهم عن شرائعه المقدسة، فإنفصلوا بسبب الخطية عن ذاك القادر أن يخلص، فإن كان ثقيلاً (علينا) أن نكون في ظلمة روحية، وإن كًنا مثقلين بسبب إبتلاع بحر الملذات المرير لنا، فلنقبل يسوع: لأن هذا سيخلصنا من المخاطر، ومن الموت في الخطية"[3].
إن حالة التلاميذ كانت مثلما قال المسيح عن " الذي يسير في الظلام ولا يعلم إلى أين يذهب" (يو35:12)، وأيضًا: " إن كان أحد يمشي في الليل يعثر لأن النور ليس فيه" (يو10:11). هكذا كلمة " ظلمه " تعبر عن حالة البشر روحية الذين هم بعيداً عن يسوع " نور العالم " ( يو 12:8. 5:9. 46:12 ) ، والذين لا يؤمنون به ( أنظر يو 5:1. 19:3. 12:8 ....الخ ) .
 إن حالة التلاميذ الذين يجاهدون بغير معين في الظلمة ضد عناصر الطبيعة تمثل ، عند الانجيلي يوحنا – بغض النظر عن الحدث التاريخي – رمز لحالة العالم الروحية ، العالم المحروم من حضور يسوع . التلاميذ عند هذا الحد مثل " الَّذِي يَسِيرُ فِي الظّلاَمِ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ "( يو35:12) . و" إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي اللَّيْلِ يَعْثُرُ لأَنَّ النُّورَ لَيْسَ فِيهِ " (يو10:11 )، طبعاً على المستوى الروحي. لذلك يعلن يسوع ذاته أنه " نور الحياة "( يو 12:8) ، مخلصاً التلاميذ بطريقة فوق طبيعية .
الأمواج الشديدة والتي تصاحبها ظلمة تسببت في وجود التلاميذ في هذه الحالة الصعبة ، وبتدخل يسوع تم أنقاذهم منها ، وهذا هو الموضوع المحوري في المعجزة وليس مجرد المشي على المياه . 

(ب) ظهور يسوع وإنقاذه للتلاميذ: (يو19:6ـ21) 

عندما جدَّف التلاميذ ووصلوا تقريبًا في وسط البحر، إذ يقول الإنجيلي "فلما كانوا قد جدفوا نحو خمس وعشرين أو ثلاثين غلوة" قد رأوا المسيح ماشيًا على البحر: " نظروا يسوع ماشيًا على البحر، مقتربًا من السفينة فخافوا" (يو19:6)
إن موضوع السير على مياه البحر هو معروف في العهد القديم إذ يذكره سفر أيوب 8:9، حيث أن يهوه يُقدَّم له التسبيح، إذ أنه: " الباسط السموات وحده والماشي على أعالي البحر". أيضًا نجد سيادة يهوه على البحر في سفر المزامير (على سبيل المثال أنظر مز3:29، 10. مز17:77، 20) وكذلك في سفر إشعياء (12:17ـ133. 16:43. 10:51).
 بحسب إنجيل يوحنا الأصحاح الأول:3،10، فإن خالق الكون هو الكلمة ولأنه خالق فهو يظهر هنا في عظمته الإلهية وهو يسّود على الطبيعة بطريقة مستحيلة لأي إنسان.
 وأثناء سيره على المياه يعلن يسوع طبيعته الإلهية بطريقة غير مسبوقة في أي معجزة أخرى. ويتأمل القديس أغسطينوس معجزة سير المسيح على المياه، قائلاً:
 "يأتي يسوع ماشيًا على الأمواج، ضابطًا كل دوامات العالم التي تبتلعنا تحت قدميه، ضاغطًا على كل مرتفعاته. هذا ما يحدث، فإذ يعبر الزمن وتمتد الأجيال، تزداد التجارب، وتكثر الكوارث والأحزان، كل هذه تتصاعد لتبتلعنا، لكن يسوع يعبر واطئًا الأمواج بقدميه"[4]
أما عن مسألة أن التلاميذ خافوا حين "نظروا يسوع ماشيًا على البحر مقتربًا من السفينة"، يقول القديس ذهبي الفم: "إن الأسباب التي جعلتهم يخافون كانت كثيرة فمن جهة الوقت كان ظلامًا، ومن جهة البحر بسبب هبوب الرياح، ومن جهة المكان لأنهم لم يكونوا قريبين من الأرض"[5]
أما القديس كيرلس فإنه يؤكد أن المسيح هو المنقذ أثناء الخطر، قائلاً:
"هكذا يمنح خلاصًا عظيمًا للذين هم في خطر حينما يكون الخوف قد قطع كل أمل في الحياة"[6]
وعن توقيت ظهور المخلّص يقول أيضًا القديس كيرلس:
 "تأملوا كيف أن المسيح لم يظهر لأولئك الذين في القارب عند إبحارهم في الحال، ولا عند بدء الأخطار التي حدثت، ولكن حينما كانوا على بُعد غلوات كثيرة بعيدًا عن الأرض. فإن نعمة ذاك الذي يخلص لا تفتقدنا حالما تبدأ حالة الخطر المنذر حولنا، بل حينما يبلغ الخوف ذروته، ويُبدَّد الخطر نفسه عنيفًا جدًا، ونوجد نحن في وسط أمواج الضيقات: حينئذٍ ـ على غير المتوقع ـ يظهر المسيح، ويُبدَّد مخاوفنا، ويخلصنا من كل خطر، وبقدرته التي لا ينطق بها يبدل المخاوف فرحًا ويصير هدوء وسلام"[7].
 هكذا في عدد 20 يعلن يسوع ذاته بقوله " أنا هو εγω ειμαι " وهو تعبير يؤكد للتلاميذ ان الذي يرونه هو معلمهم ( أنظر يو 3:10-27) .
 هنا يساعد يسوع تلاميذه على إجتياز عثرة ما قاله في حديثه عن خبز الحياه ليظلوا بالقرب منه معترفين به عن طريق بطرس بأنه هو إبن الله ( أنظر يو 68:6-69 ) .
إلا ان التلاميذ ليسوا مستعدين للدخول في عمق مفهوم هوية يسوع الحقيقية ومنحصرين في العمل المعجزي الفوق طبيعي بسير يسوع على المياه . على الجانب الآخر يعلن يسوع بقوله " أنا هو " انه إله العهد القديم الذي قال " أنا الكائن ο ων " مؤكداً على ألوهيته ومفسراً حقيقة سلطانه الالهي على عناصر الطبيعة . لذا نجد في إنجيل متى في سياق المعجزة ان التلاميذ يسجدون له ويعترفوا قائلين : «بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ!». 
أما في عدد 21 يقول يوحنا الإنجيلي: " فرضوا أن يقبلوه في السفينة، وللوقت صارت السفينة إلى الأرض التي كانوا ذاهبين إليها". 
يركز القديس كيرلس الأسكندري في شرحه لهذا العدد على أن المسيح ليس هو المنقذ من الأخطار فقط بل هو المحرّر من أي تعب أو كدٍ وبقوته الإلهية يوجه السفينة إلى الشاطئ المقابل[8].
 فالمسيح إذن هو خلاصنا من كل خطر ـ كما يؤكد القديس كيرلس ـ وبحضوره تتحقق وتتم الأعمال العظيمة بما يفوق توقع الذين يقبلونه. 
يرى البعض ان هذه المعجزة تمثل إشارة إلى سر المعمودية ، بينما البعض الآخر يرى انها تماثل الضربة السابعة في سفر الخروج(13:9-35) معتبرين ان المسيح لم يجلب الموت ، الامر الذي فعله موسى النبي ، بل أنقذ التلاميذ من خطر الموت حين هبت العاصفة الشديدة .
كذلك يرى آخرون ان مباركة يسوع للخبز تتماثل مع معجزة المن الوارده في سفر الخروج ومعجزة سير يسوع على المياه تتماثل مع معجزة عبور الشعب البحر الاحمر. المسيح هنا يتفوق على موسى النبي ، بينما احتاج موسى النبي ان يشق البحر بمعونة الله لكي يعبر ، نرى هنا المسيح يسير على سطح المياه بكونه الله المتجسد . 

خاتمة 
هذه المعجزة تجيب على السؤال الذي أثير عن هوية يسوع في معجزة مباركة الخبز . هنا يظهر يسوع بالتحديد في هذة المعجزة انه يسير على المياه ، وفق العهد القديم سيادة يهوة على عنصر المياه ، ويعلن يسوع ذاته لتلاميذه بإسم يهوه " أنا الكائن " .
 بالنسبة للإنجيلي يوحنا هذه المعجزة هي تاريخية وحدثت بالفعل بدليل ان الجمع في اليوم التالي كان يطلب ان يرى يسوع . 


دكتور / جورج عوض
دكتوراة فى اللاهوت
باحث بالمركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]القديس كيرلس 1الأسكندري، شرح إنجيل يوحنا ـ الجزء الثالث، المرجع السابق، ص52. 
[2]المرجع السابق، ص53. 
[3]المرجع السابق، ص54. 
[4] القديس أغسطينوس، شرح إنجيل يوحنا، عظة6:25. 
[5]ذهبي الفم، شرح يوحنا: عظة43. 
[6] القديس كيرلس الأسكندري، المرجع السابق، ص54. 
[7]انظر القديس كيرلس الأسكندري، المرجع السابق، ص55. 
[8]راجع المرجع السابق، ص55.