أولاد الله وأولاد العالم

1- كلمة الله هي الله، وكلمة العالم هي العالم.
ويوجد فرق عظيم وفرق شاسع بين كلمة الله وكلمة العالم، وبين أولاد الله وأولاد العالم. فان كل مولود يشبه والديه.
 لذلك فان كان المولود من الروح يختار أن يعطي نفسه لكلمة العالم وللأمور الأرضية ولمجد هذا العالم الحاضر فانه يموت ويهلك، اذ انه لا يجد ما يشبعه شبعاً حقيقياً في الحياة.
 فان ما يشبعه انما هو من الروح الذي منه ولد. كما يقول الرب أن من تحاصره هموم هذه الحياة وتربطه الرباطات الأرضية، "يختنق ويصير بلا ثمر لكلمة الله" (مر 4 : 19).
وبنفس الطريقة فان الإنسان العالمي الذي تمتلكه الرغبات الجسدية، إذا حدث انه سمع كلمة الله فانه يختنق ويصير كمن لا عقل له.
 وذلك لأنه اعتاد على خداعات الخطية. فحينما يحدث أن يسمع مثل هذا الإنسان عن الله فان يحس بثقل شديد وينفر من كلام الله كأنه حديث سخيف متعب. وكأنه قد أصيب بمرض من هذا الكلام الالهي.
2- ويقول الرسول بولس "الانسان الطبيعي لا يقبل الاشياء التي للروح لأنها عنده جهالة" (1كو 2 : 14) ويقول النبي "وكان قول الرب لهم كالقيء" ([1])
 وهكذا ترى انه من المستحيل أن يحيا أي انسان الا بحسب الكلمة التي ولد منها.
ويمكن أن نشرح هذا بطريقة أخرى.
 فاذا قرر الإنسان الجسداني أن يتغير فانه أولاً يموت عن المجال الخاص به ويصير بلا ثمر في الاشياء التي كان يعيش فيها قبلاً في الشر. ولكن كما يحدث في حالة الإنسان الذي يصاب بمرض أو بحمى، رغم أن جسده يكون مطروحاً على الفراش، عاجزاً عن ممارسة أي عمل من اعمال الأرض الا أن عقله لا يكون في راحة بل يذهب هنا وهناك مهتماً ومفكراً في اشغاله، أو في التفكير في استدعاء الطبيب أو في ارسال اصدقائه لاحضاره.
 وهكذا بنفس الطريقة، النفس التي مرضت بالأهواء بسبب تعديها للوصية، واصبحت في حالة عجز فانها تستطيع أن تأتي إلى الرب وتؤمن به فتنال نعمته وتحصل على معونته. واذ تجحد سيرتها الأولى الشريرة، حتى وان كانت لا تزال ضعفاتها القديمة باقية فيها، ولا زالت غير قادرة على أن تتمم أعمال الحياة الروحية، الا انها تكون منشغلة باهتمام بالحياة في الرب، وتصلي إلى الرب وتطلب الطبيب الحقيقي.
3- أن الأمر ليس كما يقول بعض الذين ضلوا بتأثير تعاليم فاسدة مدعين أن الإنسان قد مات موتاً كاملاً ومطلقاً، وانه لا يستطيع أن يتمم أي شيء من الصلاح ولكننا نقول لهم، أن الطفل الرضيع رغم انه عاجز عن أن يتمم أي شيء، ولا يستطيع أن يمشي على قدميه ليذهب إلى امه، الا انه يصنع اصواتاً ويبكي ويحبو طالباً امه.
والأم تحن إليه وتفرح أن الطفل يبحث عنها بأنين وبكاء، ورغم أن الطفل لا يستطيع أن يأتي اليها، ولكن بسبب تفتيش الطفل الكثير عنها فانها تأتي هي نفسها إليه مغلوبة بالحنان والحب لطفلها. وتأخذه بين ذراعيها وتحتضنه وتغذيه بحب عظيم وحنان كبير. وبنفس الطريقة أن الله محب البشر في حنانه نحو الانسان، يفعل هكذا مع النفس التي تأتي إليه وتطلبه باشتياق. ولأنه يكون مدفوعاً بالمحبة، من ذاته. وبالصلاح الطبيعي الخاص به، اذ هو الكلي الصلاح، فانه يلتصق بتلك النفس ويصير معها "روحاً واحدا" كما يقول الرسول (1كو 6 : 17).
وحينما تلتصق النفس بالرب، ويعطف عليها الرب ويحبها ويأتي اليها ويلتصق بها، وتكون نية الإنسان وقصده أن يستمر بلا انقطاع أميناً لنعمة الرب فان الرب والنفس يصيران "روحاً واحداً" ومزاجاً واحداً وعقلاً واحداً، وبينما يكون جسدها مطروحاً على الأرض فان عقلها يكون بكليته في اورشليم السماوية مرتفعاً إلى السماء الثالثة، ويلتصق بالرب ويخدمه هناك.
4- وبينما يكون الله جالساً في عرش العظمة في الأعالي، في المدينة السماوية، فهو يكون بكليته في شركة مع النفس وهي في الجسد الخاص بها.
 لقد وضع صورة النفس فوق في اورشليم المدينة السماوية - مدينة القديسينن وقد وضع صورته الخاصة أي صورة نور لاهوته الفائق الوصف - في جسدها. وهو يخدمها في مدينة جسدها، بينما هي تخدمه في المدينة السماوية. لقد صارت وارثة له في السماء وصار هو وارثها على الأرض. فالرب يصير ميراثاً للنفس وتصير النفس ميراثاً للرب.
فان كان قلب الخطاة الذين في الظلمة أو عقلهم يستطيع أن يمضي بعيداً عن الجسد ويستطيع أن يتجول في أمكنة بعيدة وفي لحظة يسافر إلى أقطار بعيدة، وأحياناً بينما يكون الجسد ملقى على الأرض، يكون العقل في بلاد أخرى مع صديق يحبه، ويرى نفسه كأنه يعيش هناك معه،
 فأقول أن كانت نفس الخاطئ هكذا خفيفة ونشيطة حتى أن عقلها لا يحجزه بعد المسافات، فكم بالأولى جداً تكون النفس التي نزع الرب عنها حجاب الظلمة بقوة الروح القدس، وقد استنارت عيونها العقلية بالنور السماوي.
 وقد اعتقت تماماً من شهوات الخزي، وصارت طاهرة بالنعمة، فانها تخدم الرب كلية في السماء بالروح، وتخدمه كلية في الجسد، وتتسع في أفكارها حسبما يريد لها الرب وحيثما يريد لها أن تخدمه.
5- فهذا ما يقوله الرسول " لكي تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعلو والعمق، وتعرفوا محبة المسيح التي تفوق المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله " (أف 3 : 18، 19).
 فتأمل في الأسرار الفائقة الوصف، التي لتلك النفس التي ينزع الرب عنها الظلمة المحيطة بها، ويكشف عن عينيها ويظهر لها ذاته ايضاً، وكيف يمد ويوسع افكار عقلها إلى الأعراض والأطوال والأعماق والارتفاعات التي في الخليقة المنظورة وغير المنظورة.
فالنفس هي حقاً صنيع الهي عظيم مملوء عجباً. وحين صنعها الرب، صنعها من طبيعة ليس فيها شر، بل صنعها على صورة فضائل الروح (القدس).
 ووضع فيها قوانين الفضائل والبصيرة، والى الآن فان الرب يمكن أن يأتي اليها ويكشف لها ذاته بالمعرفة والفطنة وفي المحبة والايمان، وقد وضع فيها فهماً وملكات فكرية، ومشيئة وعقلاً مدبراً.
 وقد جعلها ايضاً لطيفة جداً وصيرها خفيفة متحركة وغير خاضعة للتعب.
 ووهبها القدرة على المجيء والذهاب في لحظة، وان تخدمه في أفكارها حيثما يشاء الروح، وبالاجمال فانه خلقها لكي يصيرها عروساً له وتدخل في شركة معه،
 لكيما يلتصق بها ويصير "روحاً واحداً" معها كما يقول الرسول "وأما من التصق بالرب فهو روح واحد" (1كو 6 : 17) الذي له المجد إلى الأبد آمين.


القديس مقاريوس المصرى الكبير
عن كتاب عظات القديس مقاريوس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) الاشارة إلى أش 28 : 13 بحسب إحدى المخطوطات القديمة المعروفة بنسخة ثيوديتون.