سر الثيئوسيس - 2

الثيئوسيس فى تعليم آباء الكنيسة الشرقية 
فالقديس إغناطيوس الأنطاكى قدم الخلاص على أنه مشاركة فى الحياة الإلهية والنور والحب الإلهيين . لقد كتب عدة تعبيرات ولكن للآسف غطاها النسيان ولم تعد مستخدمة فى تأملاتنا اللاهوتية اليوم .
 وكمثل لذلك كلمة ( حاملو الروح ) ، ( حاملو الله ) ، ( حاملو المسيح ) ، ( حاملو القداسة ) . صحيح لم يذكر القديس إغناطيوس كلمة " ثيئوسيس " لكن مضمون الثيئوسيس واضح جداً فى لغته الرمزية . 
لقد شهد القرنان الثانى والثالث صراعات مُرة بين المسيحية التقليدية والهرطقة الغنوسية ، التى حاولت إختزال الفداء إلى مجرد إعادة تألية البذرة الإلهية فى الروحيين حاملى الروح ، وهؤلاء الحاملون الروح هو وحدهم ، فى نظر الغنوسيين ، المسيحيون الحقيقيون الوحيدون . ففى مواجهة هذه الضلالات ، رفع المدافعون عن الإيمان صوتهم مدافعين عن علم اللاهوت التقليدى المسيحى القائم على الرجاء ، الذى يعلم بأن الخلاص ممكن إقتناؤه للكل وليس للصفوة المختارة . 
كما أنهم علموا بأن عدم الفساد الذى سيُستعلن فى الزمان الأخير فى كل الجنس البشرى مغروس ليس فى طبيعة الإنسان بل هو من نعمة الله ، والإنسان يشترك بالنعمة فى الخلود الإلهى ، إذ أن الله خالد بطبعه أما الإنسان فخالد بالنعمة . 
وهكذا وبحسب القديس ثيئوفيلس الأنطاكى الذى كان عدواً لدوداً للفلسفة بصفة إستثنائية ، فإن الإنسان الذى سيصير غير مائت بنعمة الله يمكن أن يطلق عليه إسم " إله مُستعلن " . 
إلا أن أول كاتب يعطينا تعليماً مترابطاً ومدعماً للثيئوسيس كان هو القديس إيرينيئوس . 
ففى كتابه المشهور " ضد الهرطقات " وفى مقدمة الكتاب الخامس يقول :
[ الكلمة صار إلى ما نحن عليه لكى نصير نحن إلى ما هو عليه ] .
 وإذ يتتبع الشواهد الموجودة فى العهد الجديد يعلم القديس إيرينيئوس بأن الثيئوسيس إستُعلن من الله لحظة الخليقة كهدف نهائى للإنسان . وعند القديس إيرينيئوس أيضاً ، فإن طوباوية عدم الموت إنما هى ببساطة إمتداد للحياة الإلهية التى نتنسمها هنا ونحن فى هذا العالم نتيجة إتحادنا بالمسيح وبالروح القدس .
لقد رفض القديس إيرينيئوس فكرة " إعادة التأليه " للبذرة الروحية فى الإنسان الروحانى ، بطريقة سحرية ، كما علم بذلك الغنوسيون ، وقد دافع عن مشابهتنا لله أو تمثلنا بالله التى هى نتيجة سُكنى الكلمة الإلهى والروح القدس . وعند القديس إيرينيئوس أيضاً ، فإن لتجسد وموت الرب يسوع كليهما نفس القيمة بالنسبة لفدائنا : لقد كان أول من إستخدم كلمة ανακεφαλαίωσης أى إستقطاب كل شئ فى المسيح ( بمعنى أن المسيح صار من جديد القطب والرأس لكل شئ ) كما ورد فى رسالة أفسس 10 ، 1 : 22 .
ومن هذه الآية نتعلم إعادة إتحاد كل البشر فى المسيح ، الذى إذ صار لهم دخول إلى الآب فى المسيح ، نالوا بركة عدم الموت والمشابهة لله . هذه كانت أول محاولة لرسم إطار التعليم عن " الثيئوسيس " . 
ونفس هذه الأفكار نجدها فى كتابات ميثوديوس الأوليمبى وهيبوليتس ومعلمى مدرسة الإسكندرية الأوائل ، وعلى الأخص كلمنضس الإسكندرى وأوريجانس . وفى ذلك الوقت كان على مدرسة الإسكندرية أن تواجه تهديداً خطيراً هو الغنوسية . ولكى يفند كل من العلامتين الإسكندريين كليمنضس وأوريجانس هذا الخطأ فى مهده حاول أن يصبغ بالصبغة المسيحية التعليم النظرى لدى اليونان عن تشبه الناس بالله عن طريف المعرفة والنسك .
فمقابل هذا بشر هؤلاء الرواد بأن المعرفة الكاملة للتعليم الإلهى إستُعلنت بواسطة كلمة الله . هذه المعرفة أو " الغنوسية " المسيحية الحقيقية التى تحتضن كل كيان الإنسان هى نتيجة عاملين إثنين هما : المجهود الإنسانى ، ونعمة الله . فالمعرفة " الغنوسيس " المسيحية ، التى هى تأمل فى الوجود الأعلى ، تجعل الإنسان أقرب إلى التشبه بالله ، الذى هو مصدر كل كمال ، ويسبغ على الإنسان عدم الشهوة وعدم الموت والحكمة والحب والإتضاع والرحمة مثل الله . 
إن هذا النمط من المعرفة المسيحية كان العلامة كليمنضس أول من إستخدم للتعبير عنه الكلمة " ثيئوسيس " و " ثيئوبوييسيس " فى صيغة الفعل .
 وبحسب علماء مدرسة الإسكندرية اللاهوتيين ، فإن قمة الثيئوسيس هنا على الأرض يمكن أن تُرى فى الإتحاد الرؤيوى مع الله الذى يحدث للمتصوف أو المتأمل فى الإلهيات أو المسيحى المجاهد عموماً . ولكن على عكس الغنوسى فى الفكر الأفلاطونى الوثنى ، فإن هذا الشكل من المعرفة المسيحية الأرثوذكسية لا يجعل من المؤمن والله شيئاً واحداً ، فهو ليس تأليهاً بالمعنى الشيئ المتعارف عليه عند العامة والذى يحمل الصفات السيئة للكلمة من كبرياء وتسلط على من هم أدنى وتنزيه الإنسان نفسه عن الخطأ بينما ترصد أخطاء الآخرين ودينونتها ومعاقبتهم بشدة وبدون شفقة ورفض الحوار مع الآخرين والتمسك الأعمى بالرأى الشخصى والترفع عن مخالفة الخطاه والأدنياء والجهال ، فهذه هى صفات مُدعى التأله بالمعنى السيئ , بل بالعكس تماماً فنعمة الثيئوسيس المسيحى تهب الإنسان إتضاعاً وإنسحاقاً شديدين بسبب الإحساس بعدم الإستحقاق مقابل هذه النعمة المتسامية فى العلو . 
أما القديس أثناسيوس الكبير ( 295 – 373 ) فهو الذى وضع هذه الجملة المشهورة التى تحولت فيما بعد إلى مرد فى التسبحة السنوية : [ لأنه ( أى كلمة الله ) صار إنساناً ؛ حتى نُجعل نحن مؤلهين ] وهى ترجمة النص اليونانى كما كتبه القديس أثناسيوس . 
ولتفادى سوء فهم هذه العبارة التقليدية ، التى كان لها أثر جبار على الفكر الآبائى اللاحق ، فلابد من تقديم بعض الإقتباسات من كتابات القديس أثناسيوس نفسه التى يمكن أن تصور مفهومه اللهوتى والتى يمكن أن تساهم فى توضيح الخلفية اللاهوتية لهذه الحقبة من الزمن . 
فأول كل شئ يتكلم القديس أثناسيوس بمنتهى الوضوح عن الإتحاد والتناغم الكائن بين الكون الطبيعى المادى وبين الكون الفائق للطبيعة أو غير المادى ، هذا الإتحاد والتناغم كان موضوع الرؤيا العزيزة على قلب كثيرين من آباء الكنيسة الشرقية ، يقول القديس أثناسيوس : 
[ كمثل عازف الموسيقى الذى يلعب على مزماره ، وكمثل الفنان الذى يمزج النغمات العالية والمنخفضة والمتوسطة معاً ليخرج بنغم واحد ، هكذا المسيح الكلمة " حكمة الله " فهو يمسك بالكون كأنه آلة الموسيقى ، وينسق ما بين السمائيات والأرضيات ، وما بين الأرضيات والسمائيات ، ويُناغم كل هذه معاً ، ويقودهما بمشيئته ، ويجعل منهما عالماً واحداُ وناموساً واحداً فى الجمال والتنسيق ] – ضد الوثنيين 41
إلا أن القديس أثناسيوس لا يترك أدنى شك فى إبراز صفة الكلى القدرة للمسيح فى رؤيته المتحدة هذه للعالمين المتحدين : 
[ ولكن لأنه صالح ، فهو يدبر ويرسى الخليقة كلها بكلمته ، الذى هو نفسه الله ، حتى بحكمته وبعنايته وبعمل تدبير الكلمة ، يكون للخليقة نور ، ويتسنى لها العيش فى أمان ، ذلك لأنها تشترك فى الكلمة الذى يستمد وجوده الحقيقى من الآب ، ولأنها تتلقى منه المعونة لكى توجد ، وإلا يصير عليها ما يجوز عليها ، وذلك بسبب حفظها بالكلمة من التحلل « لأنه هو صورة الله غير المنظور ، بكر كل خليقة ، لأن به وفيه يقوم الكل ، وما يُرى وما لا يُرى ، وهو رأس الجسد الكنيسة » ( كو 1 : 15 – 18 ) ، كما يُعلم معلمو الحق فى كتاباتهم ] - ضد الوثنيين 41. 
كما أن القديس أثناسيوس كان واضحاً أشد الوضوح من جهة تأليه الخليقة وإتحادها بالله الآب من خلال الإبن ( الكلمة ) والروح القدس :   
[ بينما نزل الكلمة إلى العذراء القديسة مريم ، فإن الروح حل فيها فى نفس الوقت ، وبالروح أبدع الكلمة جسده الخاص الذى إتخذه ، وقد شاء أنه من خلال هذا الجسد يتحد بالخليقة ويقدمها إلى الآب ] - الرسالة إلى سيرابيون 1 : 25 . 
[ لذلك فإن الكلمة بالروح القدس يبارك الخليقة ويؤلها ويتبناها ويقودها إلى الآب ، وبما أن الذى يوحد الخليقة بالكلمة لا يمكن أن يكون هو نفسه جزءاً من العالم المخلوق وأن الذى يسبغ التبنى على الخلائق لا يمكن أن يكون غريباً عن الإبن ، لذلك فإن كان الروح القدس الذى يحل فينا ليس إلهاً ، فلابد أن نبحث عن " روح " آخر لكى يُتحد الإنسان بالكلمة . ولكن هذا سخف . فالروح ليس جزءاً من المخلوقات بل هو من صميم لاهوت الآب ، وفيه يؤله الكلمة الخلائق ] – إلى سيرابيون 1 : 25 . 
من هذه النصوص ، يتضح أن القديس أثناسيوس ، وهو أحد الشارحين الرئيسين للروحانية المنفتحة التى تتميز بها الشرق المسيحى ، كان يعنى الثيئوسيس أو التأليه حينما إستخدم كلمة " يجعلنا مؤلهين " . كما يلزم أن نضع فى ذهننا أن كتابات القديس أثناسيوس وعلى الأخص تعليمه عن " ثيئوبوييسيس " يجب أن تُفهم على خلفية الهرطقة الأريوسية التى شككت فى لاهوت اللوجوس حيث كان الكلمة فى نظر القديس أثناسيوس هو الله ، فإن لم يكن هو الله فلن يستطيع أن يؤلهنا أو يؤله الكون . 
ومن تعليم القديس أثناسيوس يمكننا أن نتتبع ثلاث مراحل رئيسية فى عقيدة الثيئوسيس : 
أولاً :- تأليه الطبيعة البشرية التى فى يسوع المسيح الإله المتأنس ، ثم 
ثانياً :- وكنتيجة لعمل المرحلة الأولى ، يأتى تأليه طبيعة المؤمن المسيحى المتحد بالمسيح بولادته الجديدة بالمعمودية من هذه الطبيعة التى سبق أن تألهت فى المسيح بالتجسد . 
ثالثاً :- وكنتيجة لما تم فى المرحلتين الأوليين يتم تأليه الكون كله بعد التجديد النهائى للبشرية فى الدهر الآتى . 
وكل هذه المراحل الثلاث فى الثيئوسيس تكون ( وتتضمن ) الجانب الرئيسى فى المنهج العقائدى للقديس أثناسيوس وهى تشغل المكانة المتقدمة فى تعليم الآباء الذين كتبوا أو تكلموا باليونانية عن الفداء . 
وقد أنعكست هذه التعاليم على ليتورجيات الكنيسة سواء ليتورجية الإفخارستيا أو ليتورجية التسبيح . ففى قداس القديس غريغوريوس ([1]) مستخدماً كلمة " باركتَ " للتعبري المبسط للكلمة اليونانية " باركتَ طبيعتى فيك " . وهذا تعبير ليتورجى آخر إستخدمه القديس أثناسيوس للتعبير عن عمل كلمة الله فى الطبيعة البشرية مما إنتقل إلينا نحن المؤمنين بالمعمودية ، ولكنه هو أيضاً يحتاج إلى شرح المعانى الزاخرة نفسها وراء عمل " البركة " وهى نفس المعانى التى يحملها تعبير " الثيوسيس " . 
أما فى ليتورجية التسبيح فالمرد للثيئوطوكية الخاصة بيوم الجمعة فتقول بتعبيرات أخرى 
[ هو أخذ الذى لنــا وأعطانا الذى لــــه  نسبحــه ونمجــده ونزيـــده علـــــواً
وأيضاً :- 
[هو أخذ جسدنـــا وأعطانا روحه القدوس  وجعلنا واحداً معه من قبل صلاحـــــــه ] ([2]
ولنعدد أهم الممثلين لعقيدة الثيئوسيس فى هذا المجال ، القديس غريغوريوس النزينزى ، والقديس باسيليوس الكبير ، والقديس غريغوريوس النيصى ، ثم أخص هؤلاء القديس كيرلس عمود الدين الذى كان يمثل غالباً الأساس فى تطوير التعليم عن الثيئوسيس . 
وحتى فى المدرسة المنافسة لمدرسة الإسكندرية ، وهى مدرسة أنطاكية اللاهوتية فقد ترعرعت هذه العقيدة منذ القديس إغناطيوس الأنطاكى فى القرن الأول والثانى بالرغم من الإتجاهات العقلانية التى تميز بها الفكر اللاهوتى لهذه المدرسة . ومن أهم الرواد البارزين القديس يوحنا ذهبى الفم ، والعلامة ثيئودوريت . 
حقاً نحن لا نجد مقالة منفصلة عن الثيئوسيس أو الثيئوبوييسيس لدى آباء الكنيسة الذين كتبوا باليونانية أو آباء الكنيسة الشرقية عموماً ، ولكن هذا لا ينفى الحقيقة بأن هذه العقيدة كانت مركزية وأساسية لشرح تعليمهم ، وقد أخذت موضعها بعمق فى تأملاتهم وتعليمهم الروحى . وهى عقيدة ظهرت طبيعية تقريباً لدى كل الآباء . وبنفس الطريقة نحن لا نجد مقالة منهجية عن الكنيسة ، ولكن هذا لا يعنى بأن حقيقة الكنيسة لم تكن تشكل موضوعاً مركزياً هاماً فى رؤيتهم اللاهوتية أو لم تكن جزءاً من وجودهم المسيحى اليومى وخبرتهم . إن التقوى الآبائية ، والترانيم الليتورجية والعلم اللاهوتى كل هذا كان يتغلغله الثيئوسيس بعمق ويؤثر تأثيراً ظاهراً ليكون سمة من سماتها المميزة . 
ثم أنتجت نزاعات القرون الرابع والخامس واللاحقة تفاعلاتت هامة . وأحد هذه التفاعلات توضيح عقيدة الثيئوسيس ، كما كتب أناستاسيوس السينائى ( القرن السابع ) موضحاً أن الثيئوسيس يتضمن " الرفعة إلى الأعلى ، وليس بأى حال مسخ الطبيعة البشرية أو تغييرها إلى الطبيعة الإلهية " . وقد شرح هذه الحقيقة بقوله : 
[ الثيئوسيس يعنى أن شيئاً ما قد رُفع إلى البهاء الأعلى ، ولكن هذا الشئ لم يتغير عن طبيعته ] . 
فإذا ترجمنا هذه المقولات بالتعبيرات اللاهوتية الحديثة فإننا نقول : إن عملية " الثيئوسيس " التى تحدث فى الإنسان البشرى تعنى أنه قد دخل إلى الحياة الإلهية العليا ، ولكنه لم يفقد طبيعته البشرية ، أو تجرد من صفاته البشرية وطاقاته ، بل بالعكس فإن الدخول فى التأليه هو عملية إرتقاء للبشرية نفسها ، لأن الإنسان فى هذه الحالة يصير أقرب إلى الله " الآخر " ، إلى الله " المكمل " ، أى الذى يُكمل ( وليس يغير ) الطبيعة البشرية والإنسان البشرى . 
ثم إبتداءً من القرن الحادى عشر وحتى نهاية القرن الخامس عشر نجد نهضة لعقيدة الثيئوسيس وأهم الشارحين خلال هذه الفترة كانوا هم سمعان اللاهوتى الجديد ( توفى 1022 ) . ونيقولاس ماثونى ( توفى 1165 ) ، ثم على الأخص غريغوريوس بالاماس . فمنذ هذا الوقت صار الثيئوسيس أحد التعبيرات المتداولة فى الروحانية المسيحية الشرقية . 
ثم نأتى إلى النهضة الثالثة لهذه العقيدة ، حيث يمكن ملاحظتها فى العلم اللاهوتى الأرثوذكسى المعاصر ( وعلى الأخص الروسى واليونانى ) . وأهم المروجين له : طوط بورودين ، ثيئودور ، وازنكوف ، وكارميرس ، وترمبلاس وبول إفدوكيموف وأخصهم بنايوتيس براتسيوتس ، الذى وهو يصف جوهر الثيئوسيس الذى يُعطى للإنسان يقول : 
[ إن معنى هذا الثيئوسيس هو رفعة الطبيعة البشرية إلى مجال الإتحاد الروحى الميستيكى الإلهى مع الله . وأهم لحظات الثيئوسيس هذا ، بالنسبة للجسد إنتصاره على العنصر المادى ببلوغه الروحانية وعدم الفساد والخلود ، أما بالنسبة للنفس فهو التحول الروحى الميستيكى والإتحاد بالله من خلال نعمته ] . 
الثيئوسيس والمسيحية الشرقية 
إن التقليد اللاهوتى الغربى بإعترافه بعقيدة الطبيعتين فى شخص المسيح المعلنة فى مجمع خلقيدونية ، قبل فى الواقع عقيدة الثيئوسيس للطبيعة البشرية فى يسوع المسيح الإله الإنسان ، إلا أن التقليد المسيحى الغربى لم يقبل الكلمة ذاتها " الثيئوسيس " أو أى إسم مشابه لها لوصف ذلك السر ، وصار التعبير السائد هو " التجسد " أو " التأنس " . 
أما من جهىة ثيئوسيس الإنسان ، أى سر خلاص الإنسان وتمجيده الصائرين فى يسوع المسيح ، فإن اللاهوت الغربى وعلى الأخص منذ القرن الثانى عشر كان يميل إلى التأكيد على محو الخطية ، وإصلاح ما أفسده الإنسان ، أى الفداء .
 لذلك فبدلاً من لاهوت " الثيئوسيس " الشرقى ظهرت فى الغرب عقيدة " النعمة " . فالتعبيرات المفضلة كانت " التبنى " و " التجديد " و " الحياة الجديدة " ، و " الإصلاح " ... إلخ .
 لكن كان هناك إستثناءات ذات إعتبار مثل ترتليانس والقديس أغسطينوس والقديس هيلاريون بواتييه والقديس بونافنتورا والقديس توما الأكوينى الذين تحت تأثير الآباء اليونان وعلى الأخص القديس يوحنا الدمشقى ونميسيوس إستخدموا التعبير اللاتينى Deificare ومنها الكلمة الإنجليزية Deification لتوضيح الأثر الشامل للنعمة . 
غير أنه أخيراً بدأ الإهتمام بعقيدة الثيئوسيس ينمو فى الغرب . فبمرور الزمن بدأت الإختلافات فى طريقة الكلام عن سر الخلاص والفداء بين المسيحية الشرقية والمسيحية الغربية تتزايد ، لأن تطورات معينة ، وإختلاف فهم التعبيرات ، وإختلاف مراكز التأكيد بدأت تأخذ أشكالاً خاصة لكل من الشرق والغرب . إلا ان جوهر عقيدة الخلاص والفداء ظل هو هو سواء فى الشرق أو فى الغرب . وبكلمات أخرى فإن العلم اللاهوتى المسيحى يعلم عن النعمة التقديسية الفائقة الطبيعة ، والحياة الجديدة فى المسيح النابعة من هذه النعمة ، والشركة فى الجسد الميستيكى أى السرى للمسيح ، وسُكنى الثالوث فى المؤمن المسيحى . 
ولكن فى الشرق ، بقيت وستبقى عقيدة الثيئوسيس هى النقطة الرئيسية فى عقيدة الخلاص وعقائد التقديس بالروح القدس ، وتمجيد الإنسان وقيامة البشر بالجسد والنفس ، ولم تفقد حيويتها وجديتها كما حدث فى الغرب حيث صارت عقيدة النعمة ذات صبغة عقلية شديدة على اللاهوت العقيدى فتحولت إلى قضية جدلية لاهوتية صارت تُعرف بإسم " النعمة الكافية والواقعية " ، والتعليم بإقتصار التقديس على النفس الإنسانية وحدها ( دون الجسد ) مما أدى إلى الإضرار بالنظرة المسيحية الصحيحة لوحدة كيان الإنسان ( جسداً ونفسا ً) وبشمولية الخلاص لشخص الإنسان .
 ثم تعقد الوضع جداً أثناء حركة الإصلاح اللوثرى . فقد قامت عقيدة التبرير التى لم يكن مقصوداً أن تشغل كل العلم اللاهوتى . ثم أضيفت إليها رؤية لاهوتية متطرفة عن وضع الإنسان تتسم بالتشاؤم حيث ساد التعليم بأنه بسبب الخطية الأصلية فإن الإنسان فسد تماماً وصارت طبيعته خاطئة بصفة دائمة إلى حد أنها بقيت فى الخطية حتى بعد التبرير ، لأن الخطايا – فى مفهوم حركة الإصلاح البروتستانتية – لم تُغفر حقاً وحقيقة ، بل طُويت فقط فى طى النسيان من قبل الله الرحوم بمقتضى التكفير عنها بإستحقاقات المسيح . وواضح هنا أنه فى هذه العقيدة بعدم غفران الخطية غفراناً كاملاً لم يُعد مكان لتغيير كيانى للإنسان كنتيجة لغفران حقيقى للخطايا ، ليس مكاناً لميطانواه أى تغيير للذهن داخلى حقيقى للخاطئ ([3]) مقروناً بحياة جديدة وبرجاء فى تجلى الجسد وتقديس النفس بواسطة الروح القدس ، وبالثيئوسيس بكل مراحله الشاملة. 
وعلى قمة كل هذا تقف فردية قاحلة فى علم لاهوت النعمة فى الغرب تتمثل فى الأسئلة عن : سبق التعيين ، وكفاية النعمة وحدها ، وكفاءتها للإنسان المسيحى ، وهى موضوعات إهتمام الكنائس الغربية ( وهى ليست موجودة ضمن إهتمامات العلوم اللاهوتية الأرثوذكسية ) . وهناك تضيع رؤية البعد الكنسى للنعمة ويتشوه الفهم المسيحى الصحيح لحقيقة الخليقة والكنيسة والوحى الإلهى . 
إن العلم اللاهوتى المعاصر فى الغرب يبحث الآن فى لأى وجهد شديدين عن مواقع جديدة مجددة ليتبعها .
وما يسمى بـ " لاهوت التحرر " و " الإنسان والرجاء " وغيرهما من أنواع المناهج والمدارس اللاهوتية التى تظهر فى الغرب بين الحين والآخر هى أمثلة لهذا البحث . ولكن المؤكد أنه حين تستعيد المسيحية تقليدها اللاهوتى عن " الثيئوسيس " فسيكون ذلك لصالح البشرية ككل لأن الإنسان الحديث يحتاج إلى الرجاء الوطيد وإلى الرؤية الإيجابية للحقائق المعاصرة والإسخاتولوجية . 
إن كل مجهود علمى إنسانى وعلى الأخص على اللاهوت وعلم الإنسان ، يجب أن ينتهى إلى التمجيد الإسخاتولوجى لله ، وإلا يصير عقيماً وغير معقول لإنسان العصر الحديث . 
فهل يمكن أن ندعو علماءنا اللاهوتيين أن يُظهروا جوهر مفهوم الثيئوسيس ( أو تأليه الإنسان بالنعمة ) كما هو مذخر فى ليتورجياتنا وتسبحات كنيستنا وتعاليم آباء الكنيسة وقديسيها وأن يعيدوا التعليم به وشرحه وتبسيطه على مستوى المؤمنين العابدين طالبى المعرفة والحياة الأرثوذكسيين ؟؟ 
فإن كانت هناك إستجابة فنعتقد أنه سيتبع هذا نهضة روحية شاملة بين الشعب المسيحى قادرة أن تُقيلنا وتُقيمنا من العثرات التى أصابت مجتمعنا المسيحى فى أجيالنا الأخيرة . 


الاب الراهب / باسيليوس المقارى 
ورد كملحق بكتاب دراسات فى اباء الكنيسة 


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - كتاب " الخولاجى المقدس " ، قداس القديس غريغوريوس اللاهوتى . 
[2] - كتاب " الأبصلمودية المقدسة السنوية " ، ثيئوطوكية يوم الجمعة . 
[3] - من المهم أن نشير إلى أنه بحسب التعليم اللاهوتى للكنيسة الشرقية الأرثوذكسية فإن التجسد يعنى " رفعة " كيانية ( أى جسدية ومتوافقة مع الطبيعة البشرية والكيان الإنسانى ككل ) . وهذه الرفعة تتحول أيضاً إلى رفعة وسمو أخلاقى . لذلك فالأعمال الصالحة التى يأتيها الإنسان هى شرط أساسى ، بدونه لا يكون تأليه بالنعمة . وبهذا تكون الحياة الأخلاقية والتأليه بالنعمة هما قطبا الفداء اللذان لا ينفصلان . فإذا أنتفى أحدهما ينهار كل البنيان الروحى بالضرورة . لذلك فالتأليه بالنعمة يتبعه إلتزامات كثيرة حياتية وخلقية وكيانية وشخصية .