مقدمة :-
الفرق الجوهرى بين الأرثوذكسية وبين باقى العقائد
حينما يقارن المسيحى الغربى بين الأرثوذكسية الشرقية وبين الرومانية الكاثوليكية ، فإنه يبدأ عادة من المقولة المقبولة عموماً وهى أنه لا توجد إختلافات حقيقية فى العقيدة بين العائلتين إلا فى خمس نقاط كبرى . وهذه النقاط الخمس تعتبر عادة هى حجر العثرة أمام كل محاولة لإعادة الوحدة بين شقى المسيحية الكبيرين . فإذا عددنا هذه النقاط الخمس نجدها كالتالى :-
· الرئاسة الرومانية وعصمة البابا .
· عقيدة إنبثاق الروح القدس من الإبن .
· الإختلافات فى فهم سر الإفخارستيا مثل إستدعاء الروح القدس .
· العقائد المستحدثة الأخيرة المختصة بالعذراء ، مثل الحبل بلا دنس وصعود العذراء بجسدها وروحها دون إجتيازها الموت .
· بعض الإختلافات الإسخاتولوجية وخاصة تلك المختصة بالموت والدينونة ( مثل عقيدة المطهر عند الكاثوليك ) .
وترجع هذه الإختلافات لا إلى جوهر الإيمان المسيحى بل إن هذه الإختلافات الحقيقية ذات أصل تاريخى وثقافى وفلسفى ولغوى وعاطفى ، بالإضافة إلى أن جذورها فى الواقع تمتد فى الإختلاف بين العقلية الغربية وبين الروح الشرقية فى تناول المسائل اللاهوتية .
نظرة الأرثوذكسية إلى الخلاص
فالعقلية اللاهوتية الغربية عموماً ( كاثوليكية كانت أم بروتستانتية ) تتمركز فى تفكيرها ونهج تعليمها حول الخطية وآلام المسيح ( وهذه توصف بأنها نظرة متشائمة أو متمركزة حول مشكلة الشر ) . ولذلك نجد أن معظم الكتابات الروحية التقوية الغربية تدور حول الآلام ومشكلة الشر والخطية .. إلخ .
وهذه العقلية تختلف عن عقلية المسيحية الشرقية ( وعلى الأخص مسيحية كنيسة الإسكندرية بالأكثر ) ذات الحس الروحى المتفائل والتى كان جُل إهتمامها هو الحياة الأبدية ، أى النور والحب الكائنين فى الله المثلث الأقانيم وفى حضوره المبهج الحامل المحبة لخلائقه البشرية . وإننا نعتقد أن كل حوار لاهوتى أو مسكونى يجب أن يبدأ من هذا المنطلق وإلا فإنه سيبقى حواراً غير مُجدٍ ولا مُثمرٍ ولن يكون له على المدى الطويل آثار تُذكر .
إن التعبير الأساسى والمميز وحجر الزاوية لروح الرجاء هذه والتى تتميز بها المسيحية الشرقية يتمثل فى الإدراك الواعى والتأمل العميق فى المعانى الزاخرة والمتشابكة لسر الثيئوسيس فى أبعاده المتصلة بخلقة الإنسان وبالثالوث وطبيعة المسيح والروح القدس وبالإنسان والكنيسة والعالم وبالأخرويات .
والآن :-
ما هو الثيئوسيس ؟
إليك هذا الوصف الأولى للثيئوسيس : فالثيئوسيس يمكن أن يوصف بأنه عمل الله المثلث الأقانيم ، القوى والمقدس ، الذى من خلال حلول الثالوث والنعمة فى الإنسان ، وبسبب القدرة الطبيعية التى مُنحت للخليقة لتتجلى أى لتكشف مجد صورة الله التى فيها ، يمكن للشخص المؤمن أن يبلغ إلى التمثل والإقتداء بالله ، بتوسط الكلمة المتجسد ، المسيح ضابط الكل ، وبالروح القدس .
من هذا الوصف المبدئى ، يمكننا أن نميز بعض اللمحات فى الثيئوسيس :-
فمن جهة الخليقة
فالثيئوسيس يوضح أن الخليقة ( أى الإنسان ) هى بمقتضى حقيقة خلقتها بواسطة الله ، إنما تعتمد على الله لأنها سبق وخُلقت على صورة الله . لذلك فهى مُعتبرة فى نظر الله أنها حسنة وذات معنى ، وهى منذ خلقتها قد وًضعت على بداية الطريق المؤدى إلى نعمة الثيئوسيس ، أى أنها قُدر لها منذ البداية أن تتجه نحو هذه الغاية النهائية والمكملة للخلقة الأولى ، فكأنها تبتدئ من الله ( الألف ) أو الخالق ، ومنتهية إلى الله ( الياء ) ، من خلال حضور المحبة الإلهية .
ومن جهة المسيح
فالثيئوسيس يقوم على حضور اللوجوس كلمة الله فى عملية الخلقة ، فالخليقة خُلقت من خلال الكلمة ، ومنه ولأجله قد صارت ، وبسبب صفته كضابط الكل ومن أجل كرامته كإبن الله ، فنحن نُسبح الله ، الذى بتجسده وحياته وتعاليمه ومعجزاته وتجليه وموته وقيامته وصعوده قد أسس كياناً جديداً مؤلهاً ، هذا الكيان هو البشرية المجددة التى إسمها الكنيسة .
هذه الجماعة السرائرية الإسخاتولوجية ( أى التى تتكون وتلتئم حول الحضور السرائرى للمسيح ، وتتناول منه ، وتنتظر حضوره الآتى ، وتترجى حياة الدهر الآتى ) ، هى المعتبرة أنها البشرية الجديدة ، هى فى عملية نمو دائم ، وهى قائمة فى المسيح ، الذى هو الأساس والرأس لها بإعتبارها الجسد الإلهى – البشرى .
ومن جهة الروح القدس
فالجانب الروحى للثيئوسيس يتمثل فى عمل الروح القدس . فالمسيح الذى هو ضابط الكل والحامل الروح ، هو أيضاً المُعطى الروح . فروح الله مًشارك للمسيح فى عملية تجلى الإنسان والكنيسة والكون وفى إعطائهم نعمة الثيئوسيس .
ومن جهة الإنسان
فالثيئوسيس ، بحسب فهم المسيحية الشرقية ، يتضمن المشاركة النشطة من جانب الإنسان فى الحياة الروحية الباطنية وفى النور والمحبة اللذين لله المثلث الأقانيم ، الذى يساعد الخليقة فى تمثلها بالله وهو الذى يُكملها ويُعمقها . فالجهاد الروحى ركن هام وحتمى فى بلوغ الخليقة لنوال نعمة الثيئوسيس . أما فى التكميل النهائى الإسخاتولوجى للحقيقة الإلهية الشاملة ، أى فى الدهر الآتى فإن الثيئوسيس سيبلغ قمته وكماله هناك فى الأبدية .
الأساس الكتابى للثيئوسيس
أولاً :- فى العهد القديم
لقد عبر العهد القديم عن سر الإنسان حينما قدم لنا التعليم المختص بخلقة الإنسان بأن الإنسان خُلق على صورة الله ومثاله ( تك 1 : 26 ) . وبحسب آباء الكنيسة ، يتضمن هذا التمثل بالله العقل والحرية والمحبة التى مُنحت للإنسان كعطايا نالها الإنسان من الله ليكون مُقرباً من الله ومتمثلاً به .
وهذا لا يلغى طبعاً تسامى الله وتعاليه عن المخلوقات ، هاتان الصفتان الرئيسيتان اللتان يعبر عنهما بأنه " قدوس " و " سماوى " وأن جلاله وعظمته " لا يمكن الدنو منهما " : « أيها الرب ربنا ما أعجب إسمك فى الأرض كلها ، لأنه قد أرتفع عظم جلالك فوق السموات » ( مز 8 : 1 ) .
لذلك فإن تمثُل الإنسان بالله محدود بتعالى الله دائماً عن الإنسان ، وبإتكال الإنسان على الله ، وحتمية طاعته وخضوعه لسلطان الله وسيادته .
وفى هذا الإطار نستطيع أن نتطلع بأكثر قرب إلى رؤية سقوط الإنسان الواردة فى سفر التكوين (3 : 1-24) . وكثيراً ما يفسر آباء الكنيسة هذا النص بمعنى أن الشيطان المتخفى فى الحية أغوى الإنسان ليترك فكرة مشابهته لله وكأن المشابهة لله فكرة غير ملائمة بحسب خداع الشيطان ، ولذلك فعليه – بناءً على مشورة الشيطان الخادعة – أن يجاهد للمساواة مع الله فى الكرامة والسلطة والإستقلال بذاته . ومن هنا أتى سقوط الإنسان .
وهذا الإتجاه الآبائى فى التفسير يشرح جوهر الخطية الأصلية وسبب سقوط الإنسان ، " فالمشابهة لله " هى عطية من الله ، خُلق من أجل بلوغها فى الوقت المناسب ، فهى ملائمة بل وجزء لا يتجزأ من خلقة الإنسان .
لذلك فالإنسان الذى هو فى جهاد مستمر مع الحياة وفى عملية مستمرة من الشقوط والقيام ، يظل موقفه غامضاً بل متناقضاً حتى يكتشف ويؤمن أن خلاصه يكمن فقط فى الله ، الذى بنعمته وبمحبته سيجعله متمثلاً به . فالله يهب الإنسان وسائط أعلى منه ليصير متمثلاً بالله ، أى ليتمثل بالله ويقدر أن يشارك فى حياة الشركة اللصيقة بالله وبنور محبته .
وفى العهد القديم هناك نماذج من هذه المشاركة من جانب الإنسان فى حياة الله الشخصية ونوره ومحبته وحتى سلطانه :
أمثلة مشاركة إنسان العهد القديم فى الحياة الإلهية
+ فصعود أخنوخ وإيليا إلى السماء ( تك 5 : 24 ، 2 مل 2 : 1-14 ) هما صورتان للإمكانية المعطاة للإنسان لأن يصعد إلى مجال الله وأن يُحتضن داخل الشركة الإلهية المتينة والسرية .
+ ونموذج موسى مُعطى الناموس ، هو صورة لإنسان شارك فى السلطان الإلهى فصار يعلم ويحكم بإسم الله .
+ والأنبياء الملهمون الذين خاطبوا إسرائيل بإسم يهوه ، صاروا شركاء الله فى أسرار المعرفة الإلهية ورسالة الخلاص .
+ وكل شعب الله ككيان متحد ، كان على الدوام يُدعى إلى القداسة والبر أى إلى الوجود الإلهى فى الألفة والشركة بين الله والإنسان . إن قمة هذا التقليد نجده فى مز 7 ، 82 : 6 ( سبعينية ) : « أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلى كلكم ، لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون » .
+ وهناك نصوص أخرى فى العهد القديم التى تُعتبر أسا التعليم بتبنى الله للإنسان كما فى سفر الحكمة 2 : 23-25 ، 5 : 27 ، 3 : 1 وغيرها .
+ وأسفار ما بين العهدين تشهد للصراع بين إتجاهين للفكر الإنسانى وسط اليهود فى الفترة الزمنية بين إنتهاء النبوات وبين ميلاد المسيح . ففى مخطوطات وادى القمران نجد تصريحات عن تمجيد وإعلاء قدر الإنسان ، بينما نجد نصوصاً أخرى مخالفة فى نفس المخطوطات عن تحقير وتوضيع وتخطئة الإنسان .
إلا أن التقليد العام الذى تعبر عنه مخطوطات وادى القمران يفسر التوراة دائماً على أنه دعوة للإنسان إلى الكمال . أما الربيون الذين كانوا يُحقرون الإنسان ، فقد كانوا يقللون من أهمية التوراة ويسعون إلى الترويج لإفتاءاتهم التى لم يكن فيها مكان لتمثل الإنسان بالله أو للشركة مع الله .
+ ولحسن الحظ فإن فيلو الفيلسوف والمؤرخ اليهودى الإسكندرى فى نفس هذه الحقبة الزمنية إكتشف مبدأ " الثيئوسيس " .
ثانياً :- فى العهد الجديد
الثيئوسيس هو تعليم يوجد واضحاً فى العهد الجديد . فالمسافة بين الله والإنسان قد أختصرها الإله – الإنسان والوسيط الوحيد يسوع المسيح . ففى شخص المسيح قهر الرب ليس فقط الهوة الأخلاقية التى تفصل بين الكيان الخاطئ للإنسان وبين الله ، بل وإختزل أيضاً المسافة بين الله غير المحدود وبين الإنسان المحدود .
ففى كتابات القديس بولس
نجد مبادرة الله وبدون أية مشاركة من البشر ، لإعلان الخلاص فى يسوع المسيح ، ولجعل هذا الخلاص فى متناول الإنسان بالإيمان بالمسيح . القديس بولس كان أول من كشف عن هذا " الثيئوسيس " بالرغم من أن هذا التعبير بالذات لم يرد فى رسائله . ففى خطابه المشهور فى الأريوس باغوس ( الذى أفتبس فيه من كليانثيس ) ( أع 17 : 28-29 ) علم القديس بولس هكذا : « لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد . كما قال بعض شعرائكم أيضاً : " لأننا أيضاً ذريته " ، فإذ نحن ذرية الله لا ينبغى أن نظن أن اللاهوت شبيه بذهب أو فضة أو حجر نقش صناعة وإختراع إنسان » .
كما أننا نجد أساس عقيدة الثيئوسيس فى نصوص رسائل بولس الرسول التى تتحدث عن التصوف Mysticism ، وهى تلك الرسائل التى تمس موضوع الإنسان ، وموضوع الخلاص ، وطبيعة الكنيسة .
ففى تعليمه عن الإفخارستيا والمعمودية ، يقول إن كل واحد من المؤمنين يدخل من خلال المعمودية إلى حياة المسيح شكلاً وموضوعاً مما يقوده نحو الكمال ( رو 6 : 4-10 ، فيلبى 3 ، 12 ) . فمن خلال المعمودية يُدفن المؤمنون مع المسيح حتى يستطيعوا أن يعيشوا مع المسيح القائم من الأموات ليدخلوا إلى الحياة الجديدة ( رو 6 : 4-11 ) . والحياة الأبدية للمؤمن تبدأ أيضاً من المعمودية ، لكنها تبلغ كمالها بعد قيامة الأموات ، حيث يُعاد تشكيل شخص الإنسان كله سرياً ويتم تحويله بالقوة الإلهية من حالة الفساد إلى عدم الفساد والمجد والقوة وذلك بلبس الجسد الروحانى ( 1 كو 15 : 44 وما يليها ).
وفى رسالة فيلبى ( 3 : 20-21 ) يقول :-
- العدد 20 « فإن سيرتنا نحن هى فى السماوات التى منها أيضاً ننتظر مخلصاً ، هو الرب يسوع المسيح » .
- العدد 21 « الذى سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده بحسب عمل إستطاعته أن يُخضع لنفسه كل شئ » .
إن هذا التصريح للقديس بولس يدخل بنا إلى مجال جديد من التعليم عن " الثيئوسيس " الذى سيتم فى الحياة الإبدية الآخرة ، إنه التأليه الشامل أيضاً للخليقة .
ومن بين النصوص الصريحة التى تصور هذا السر ما ورد فى رو 8 : 18-22 وعلى الأخص الآية الصريحة 21 التى تقول : « لأن الخليقة نفسها أيضاً ستُعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله » .
هناك نصوص أخرى من الكتاب تتصل بسر الثيئوسيس هذا الذى سيحدث للكون فى آخر الزمان وهى : ( إش 65 : 17 ، 66 : 22 ، 2 بط 3 : 10-13 ، رؤ 21 : 1 ، متى 24 : 1-25 ، 46 ) .
ولكن الثيئوسيس يشار إليه بوضوح أكثر فى الرسالة الثانية للقديس بطرس ( 1 : 3-4 ) ، حيث " الشركة فى الطبيعة الإلهية " تأتى كأسمى عطية من الله التى تُمكن المؤمن من الهروب من المسرات والشهوات المهلكة التى لهذا العالم . ولكن صورة الثيئوسيس هنا ليست مكتملة وكاملة لأنها تصور الثيئوسيس من جانب التخلص من الأثر السلبى المختص بنظرتنا للعالم .
كما أننا نجد مزيداً من التعليم عن " الثيئوسيس " فى الأناجيل الثلاثة الأولى المسماة بذات النظرة المشتركة ( متى 5 : 1 وما بعده ، 25 : 31 وما بعده ، مرقس 1 : 14 وما بعده ، لوقا 15 : 1 وما بعده ) . فالصورة المستخدمة هنا تتحدث عن التبنى لله ، والشركة فى ملكوت الله أو ملكوت السموات ، والميطانواه أى التوبة وتغيير الذهن والقلب ، والإيمان بالمسيح ، والمحبة نحو الله ونحو كل البشر ، هذه كلها متطلبات ضرورية لهذه العطايا الإلهية السامية .
ثم يدخل التعليم عن " الثيئوسيس " إلى مرحلة جديدة من التطور من خلال كتابات القديس يوحنا الرسول ، حيث يأخذ مسحة روحية مستيكية Mystical خاصة .
فتجسد الكلمة فتح للمؤمن ينبوعاً جديداً من الخيرات والنعم السمائية العالية ، تتلخص فى الحياة الأبدية التى تُعطى منذ الآن للمؤمن الذى يقبل ويؤمن بالمسيح الرب ( يو 3 : 15 ، 1 : 10 ) . وهكذا فإنه فى عرف القديس يوحنا ، فإن الإتحاد بالمسيح هو بمثابة جسر ضرورى للإتحاد بالله . إنه حريص أن يتفادى أى فكر لتأليه الإنسان تأليهاً ذاتياً من نفسه ، فهو يميز بوضوح شديد بين الإتحاد القائم بين الآب والأبن ، وبين الإتحاد بين الله وسائر الخلائق وعلى الأخص الإنسان .
فالمسيح وحده هو الذى يقول « أنا والآب واحد » ( يو 10 : 30 ) . أما عن الإنسان من الجهة الأخرى فهو يستخدم تعبيراً آخر مثل : « شركة مع الآب ومع إنبه يسوع المسيح » ( 1 يو 1 : 3 ) و « أما من حفظ كلمته فحقاً فى هذا قد تكملت محبة الله » ( 1 يو 2 : 5 ) ، « من أعترف أن يسوع المسيح هو إبن الله فالله يثبت فيه وهو فى الله » ( 1 يو 4 : 15 ) .
هذه التعبيرات وغيرها عن الثبوت المتبادل وإن كان لا يوضح طبيعة هذا الإتحاد لكنه يوضح أن هذا الإتحاد حقيقى للكيان والحياة ، وأنه مفتوح للكل فى يسوع المسيح ، إنه " الحياة الأبدية فينا منذ الآن " ، هو ضمان الحياة الأبدية فى كمالها النهائى والأبدى والشركة الدائمة مع الله .
وبكلمات أخرى فإن من مضمون الثيئوسيس هو : سلطان الله الشخصى كخالق وكرب ، وعمله الخلاصى الممتد إلى الأبدية الذى يجلى ويغير روحياً باطنياً ( ميستيكياً ) الخلائق ، ويجعل فينا ذلك الإبن ، بسبب المفارقة بين حاضرنا وما ننتظره فى مستقبل حياتنا الأبدية والنور والحب ( كل هذا من محتوى الثيئوسيس ) .
وبنفس معنى " الثيئوسيس " ، لابد أن نفسر تعبيرات العهد الجديد الأخرى الهامة وتصريحاته التى تشير – من جهة – إلى نمط جديد لكيان الخليقة ، ومن جهة أخرى تعبر عن الضرورات والقواعد الأساسية المحددة مثل أن نولد من الله ( 1 يو 2 : 29 ) ،
" أولاد الله " " الميلاد الجديد " أو " الميلاد من فوق " ، " الميطانواه أى التوبة وتغيير الذهن والقلب " ، " التجلى " ، " لبس المسيح " ( غلاطية 3 : 27 ) ، كل هذه الأوصاف تشير إلى المشاركة فى نمط وجود المسيح الإنسان الجديد ( أف 4 : 24 ) والذى يتضمن إسترجاع صورة الله الأولى التى أعُطيت لنا فى الخلقة .
ومثلها هذه الأوصاف العميقة كما وردت فى ( 2 كو 3 : 18 ) « ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما فى مرآة تتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما فى الرب الروح » .
فمن هذه الشهادات الإنجلية ، يكون واضحاً بما يكفى أن التعليم بالثيئوسيس كما قدمه آباء الكنيسة وكما يُرتل فى الليتورجيات الشرقية ( ومن بينها التسبحة اليومية فى كنيستنا القبطية ) ليس مجرد تأملات فلسفية أو هو نتاج فلسفات وثنية تغلغلت المسيحية بمقتضى خاصية التأثر الأسموزى كما يدعى البعض ،
بل أن " الثيئوسيس " سر إنجيلى إلهى أستُعلن وقُدم لنا فى صور متعددة وهو يكون جوهر التعليم الأرثوذكسى عن الإنسان .
ومن الجهة الأخرى فالثيئوسيس ذو علاقة وثيقة بإختبار الحياة المسيحية للإنسان فى كل زمان ، وهو بهذا يجب أن يكون أساساً ضرورياً لأى حوار بين العقائد والأديان .
الاب الراهب / باسيليوس المقارى
ورد كملحق بكتاب دراسات فى اباء الكنيسة