تحقيق الوحدة المسيحية هاجس الكنائس كلها وتقارب التفاهم فيها في السنوات الأخيرة وليس ذلك فقط بسبب من ألم الانشقاق ولكن بفضل النزاهة والصدق وتعميق الدراسة.
طبعا لا يسع انسانا ان يجزم بقرب هذا الحلم لأن تلاقينا في الحق هدية من السماء ولكنا مشينا خطى كتبت علينا من فوق.
نزلت علينا انوار لاهوتيين كبار وهم أصحاب تجليات تدعمها تقوى المؤمنين المطلعين منهم والبسطاء بحيث نقدر ان نقول اننا نحيا الآن جو محبة تغلبت على العصبيات القديمة أو كادت.
المهم في هذا الجهاد ما اقتنعت به الكنيسة الكاثوليكية فاقتربت كثيرا من الكنيسة الارثوذكسية. هي لا تزال ترى ان كنيسة المسيح فيها كاملة لكنها ترى أيضاً ان لها مع الكنيسة الارثوذكسية شركة شبه كاملة. تقول شبه كاملة لأن الارثوذكسيين لم يقبلوا مجمع الفاتيكان الاول (1870) الذي حدد ان لأسقف رومية ولاية مباشرة وعالمية على الكنيسة كلها وانه معصوم عن الخطأ. ليس هنا المجال لأبسط الموقفين الروماني والشرقي.
غير ان علماء الكثلكة فهموا جميعا ان الكنيسة الجامعة لا تعني حصرا كنيسة العالم مجتمعا لكنها تعني أيضاً الكنيسة المحلية التي تتحقق في الافخارستيا (سر جسد المسيح ودمه) التي تقيمها جماعة سليمة الايمان برئاسة اسقف مستقيم الرأي. على هذا اتفقنا الآن جميعا. اذا الكنيسة المحلية أو الإقليمية جامعة وكنيسة المدى البشري الشامل جامعة أيضاً.
المدى العالمي يقوده اساقفة متساوون في اسقفيتهم وتحدرهم الرسولي وان نشأ، هنا وهناك، اساقفة متقدمون هم بطاركة العالم المسيحي واولهم في الشرق ـ حسب التعبير الارثوذكسي ـ بابا رومية لكنه ليس من رئيس تنفيذي حسب الرؤية الارثوذكسية.
لقد اوضح العلماء الكاثوليك ومنهم البابا الحالي لما كان استاذ لاهوت عقائدي في ميونيخ ان اسقف رومية لم يتدخل مرة واحدة في شؤون الكنائس الشرقية أي لم يتخذ مرة قرارا اداريا نافذا في الشرق.
استنتج من هذا الموقف الذي بات مقبولا انه لا بد من توضيح الاولية البابوية. فهل البابا حاكم عالمي ام "اول بين متساوين" كما يقول الارثوذكسيون.
راتسنغر (البابا الحالي) الذي له تقدير للارثوذكسية عظيم رأى ان الشرق في الوحدة المرجوة حقه ان يبقى اداريا على ما هو عليه أي الا يكون للبابا سلطة تنفيذية فيه وان تسوسه المجامع المقدسة فيه التي ترئس كنائس مستقلة غالبا ما تسمى بطريركيات ولا شيء يمنع ان تنشأ بطريركيات جديدة حيث الاوضاع الثقافية (كما في افريقيا مثلا) تتطلب ذلك.
مع ذلك تبقى عقبات وتساؤلات.
في حسباني ان العقبة التي تلي قضية الرئاسة والعصمة هي العقائد التي انفردت الكنيسة الكاثوليكية بتحديدها..
فقد تفردت الكثلكة بتحديد عقيدتين تتعلقان بمريم، الاولى هي الحبل بها بلا دنس والثانية انتقالها بعد مسيرتها الأرضية (ولا يقال موتها) بالروح والجسد الى السماء. الكنيسة الارثوذكسية مع إجلالها العظيم لمريم تركت الكلام عنها الى الخدمة الالهية (الطقوس) والى حرية اللاهوتيين. هذا الاختلاف يعني على الأقلّ ان حل هذه العقدة يحتاج الى بحث مشترك لئلا يبقى بعد الوحدة خلاف مذهبي بين الشرق والغرب.
بعد العقبة تأتي المساءلة وهي هذه: ماذا يحل بالطوائف الشرقية الكاثوليكية اذا وصلنا الى اتفاق كامل حول رئاسة البابا وعصمته. السؤال ناتج من ان هذه الطوائف اصبحت كل منها كنيسة متكاملة المعالم والأركان متحدة مع الكرسي البابوي.
والمعتقد الكنسي يقول ان ليس الا اسقف واحد في المدينة الواحدة فكيف تبقى ملل وتنظيمات كنسية مختلفة في هذا البلد أو ذاك.
عندنا اليوم مثلا بطريرك قبطي في مصر وبطريرك للروم الارثوذكس. من منهما سيجلس على كرسي القديس مرقس؟ ما من شك ان شيئا اساسيا يجب ان يتغير لتتحقق الوحدة اقليميا. في منطقتنا خمسة أشخاص لكل منهم لقب بطريرك انطاكيا وسائر المشرق. اذا لم يصبحوا واحدا لا نكون قد حققنا الوحدة في الإطار الإقليمي. الوضع الحاضر لا يمكن ان يستمر ونحن نتكلم عن وحدة. انا ليس عندي حل في المحافظة على سلامة اللاهوت والنظام الكنسي الموروث.
ربما اعطانا الله في المرحلة التي تنتظرنا اجوبة عن هذه المسائل المعقدة. الفكر البشري وحده لا يؤتينا حلا ولو تقدمنا كثيرا في تقارب القلوب. اعرف ان المحبة بيننا ان كانت حقا إلهية فيها كل الضوء.
في الوجود المسيحي في هذا المشرق واضح اننا تقدمنا كثيرا في معارج المحبة والتعامل الأخوي. تبقى امور رعائية عملية نحتاج الى مواجهتها معا.
حلمي الشخصي في هذه المنطقة ان نتشرق أي ان يستعيد بعض منا ما احتجب من شرقيتهم حتى يزداد تآلفنا العقلي هنا كما قوي تآلفنا الوجداني لا ليصير الكاثوليك الشرقيون جسرا بيننا وبين رومية ولكن ليكشفوا لرومية وحدة اللاهوت الشرقي.
بتأكيد رومية لاهوت الكنيسة المحلية صرنا معها على علاقة بلا واسطة، لكن امنيتنا العميقة ان يلعب كاثوليك الشرق دورا بارزا في مسيرة الوحدة انطلاقا من تراثهم الشرقي.
على هذا المعراج نحن جميعا ومعا في يد الله الذي اذا كرمنا بعطاء الوحدة يجعلنا قديسين في عينيه وهذا ما نرمي اليه في سعينا الى الاتحاد الكامل.
بقلم المطران جورج خضر،
جريدة النهار السبت 09/22/2012