أولاً : حياة القديس يوحنا ذهبى الفم وكتاباته
فى سنة 347م مات الوالى Secondus سيكوندس قائد الجيش الرومانى بسوريا ، تاركًا زوجته الشابة Anthusa أنثوسا وطفلين ـ ابنة سرعان ما انتقلت إلى جوار أبيها ، ورضيع فى شهوره الأولى يُسمى يوحنا .
فكرست أنثوسا حياتها فى جدية لتربية ابنها لينشأ غصنًا حيًا وفعّالاً فى كرم الرب ، واجتهدت فى تثقيفه بعلوم ومعارف عصره فى إنطاكية . وإنطاكية هذه كانت مدينة عظيمة على نهر العاصى، يرجع تأسيسها إلى القرن الثالث قبل الميلاد ـ وكانت مركزًا مهمًا للتجارة والتبادل الثقافى بين الشرق والغرب ، وثالث مدينة فى الامبراطورية الرومانية بعد روما والأسكندرية. (الآن هى بلدة قليلة الأهمية فى تركيا) . وبعد تدرب يوحنا على البلاغة والمنطق عمل بالمحاماة . وإذ ابتسمت له الدنيا ابتسم لها هو أيضًا وانجذب إلى ملاهيها ومسارحها وأنديتها . ولكن كانت يد الله تعمل فى حياته ، فبعثت إليه بصديقه القديم ، رفيق الصبا، باسيليوس ( وهذا غير باسيليوس الكبير ) الذى بدأ يستميله نحو حب الله ، فانجذب يوحنا ، واشتاق لو كرّس كل حياته للتعبد ودراسة الكتاب المقدس، فترك المحاماة وتلقفه مليتيوس أسقف إنطاكية الذى منحه سر العماد وهو فى حوالى الثالثة والعشرين من عمره وأقامه قارئًا Anagnostes .
عاش يوحنا ناسكًا ، يحب الله ويهيم فى التسبيح له ، يكثر الصلاة ويقلل الطعام ، يفترش الأرض وينام القليل ، وكان صديقه باسيليوس يحثه على أن يعيشا معًا فى الحياة الرهبانية ، ولكن نحيب أمه المستمر عاقه عن تلبية طلبه .
وإذ خلا كرسيان فى سوريا ، اتجهت الأنظار حالاً نحو يوحنا وصديقه باسيليوس للسيامة ، وبينما رضخ باسيليوس للسيامة هرب يوحنا منها لشعوره بعدم القدرة على تسلم العمل الأسقفى . هدأت عاصفة رسامته أسقفًا ، لكن سرعان ما تنيحت والدته فخلا له السبيل للإنطلاق نحو الحياة الرهبانية .
ترهب يوحنا فى أحد أديرة إنطاكية لمدة أربع سنوات قضاها فى التأمل والصلاة والدراسة ، ممارسًا لحياة الشركة ، وانطلق بعد هذه الفترة إلى الوحدة لمدة عامين ـ حرم نفسه خلالهما من النوم بصفة تكاد تكون مستمرة ، يدرس إنجيل المسيح بشغف ـ فانهارت طاقته وأصابه نوع من الفالج فأحس بعجزة عن الاستفادة من هذه الحياة وعاد إلى الكنيسة بإنطاكية ، وكأن يد الله قد ألزمته من خلال مرضه بالعودة إلى الخدمة والكرازة فى نضوج روحى .
عاد يوحنا إلى إنطاكية ، فتلقفه أسقفها مليتيوس بفرح ، ورسمه شماسًا برتبة دياكون ، وبعد خمسة أعوام فى خدمة الدياكونية ، وبالتحديد سنة 386 م ، وفى كنيسة القديس بولس بإنطاكية أحنى يوحنا ركبتيه أمام المذبح لكى توضع اليد عليه ، وينال موهبة الكهنوت بيد فلابيانوس خليفة مليتيوس .
فى سنة 397م رقد Nectarius نكتاريوس أسقف القسطنطينية ، فاجتمع الشعب مع الإكليروس يتداولون أمر اختيار خلف له ، وشاءت عناية الله أن يُختار القس يوحنا بطريركًا على القسطنطينية . وإذ وُضعت عليه اليد الأسقفية بدأ الراعى الجديد يعلن حبه لشعبه ، ساعيًا إلى خلاص الناس ، لم تبهره عظمة عاصمة الشرق فى ذلك الحين ، ولامظاهر الحفاوة التى لاقاها ، ولاسمو مركزه ، ولاقربه من البلاط ، إنما شغله أمر واحد: الكرازة .
وكان الثمر سريعًا فبدأت النفوس تشتاق إلى كلمة الله ، وزحفت الجموع تتزاحم أمام منبره ، ولقد تعلق الامبراطور أركاديوس وزوجته أفدوكسيا بالبطريرك الجديد يوحنا . ويرى البعض أن هذه الصداقة قد دامت فى قوتها إلى ذلك الوقت الذى أرسل فيه إليها ق. يوحنا يرجوها أن ترد حقلاً كان قد اغتصبته من أرملة ظلمًا ، فلم تجبه بشئ . وصادف أنه فى يوم عيد الصليب وكانت الأمبراطورة قادمة إلى الكنيسة ، أن أمر البطريرك بغلق الباب فى وجهها ومنعها من الدخول ، فاحتدت جدًا ، ولما عادت إلى القصر أخذت توغر صدر زوجها الأمبراطور لكى ينتقم لها من البطريرك ، وبقيت أفدوكسيا تغلى فى قلبها ، حتى وجدت مشكلة الأخوة الطوال فرصة لتحقيق مآربها .
الأخوة الطوال ( دعوا كذلك بسبب طول قامتهم ) هم الأب أمونيوس وأخوته الثلاث ديوسقورس ، ويوسابيوس ، وايفثيميوس . هؤلاء الأخوة اتسموا بالروحانية والنسك وبإعجابهم الشديد بكتابات أوريجينوس ، إذ وجدوا فيها لذتهم بل غايتهم فى الانطلاق فى تأملات روحية إلهية عميقة فى الوقت الذى تحفز فيه كثير من الرهبان ضد كتابات العلامة أوريجينوس من حيث أنها تشغل فكر الناسك بتأملات قد تدفعه إلى الانشغال بها عن جهاده النسكى ، وقد أخذتهم الغيرة والحماس فى مطالبة البطريرك ثاوفيلوس الأسكندرى ( الـ 23 ) بحرم كتب أوريجينوس ، أجاب البطريرك الأسكندرى لطلبهم . فأعتبر الأخوة الطوال هذا التصرف من البابا جبنًا واستهتارًا بالعقيدة ومجاملة على حساب الحق ، ومن هنا بدأت التحديات العلنية بينهم وبين البابا الأسكندرى والتى أدت فى النهاية إلى عقد مجمع فى الأسكندرية تقررفيه حرمانهم ، فاضطر الأخوة الطوال إلى الهروب إلى فلسطين ومنها إلى القسطنطنية حيث التقوا فيها بالبطريرك يوحنا وتوسلوا إليه أن يعمل على مصالحتهم مع البابا ثاوفيلوس .
أرسل القديس يوحنا إلى بابا الأسكندرية يخبره بالأمر ، طالبًا الصفح عن الأخوة الطوال ، ومن المؤلم أن رسالة يوحنا أثارت غضب ثاوفيلوس بدلاً من رضاه ورد عليه برسالة يتهمه فيها بالتستر على البدع وبتحريض الرهبان للتمرد عليه . وإذ ساءت العلاقات بين البطريركين ـ وجدت أفدوكسيا الأمبراطورة أن الفرصة مناسبة للانتقام من يوحنا فأصدرت الأمر الأمبراطورى بدعوة البابا ثاوفيلوس للحضور إلى القسطنطينية لعقد مجمع عاجل لمحاكمة البطريرك يوحنا . وعُقد المجمع فعلاً فى قرية السنديان سنة 403 م ولقد ذكر المؤرخ بلاديوس نص قرار المجمع : " إذ أتهم يوحنا بجرائم كثيرة ، وقد رفض الحضور ، فإن القوانين تأمر بحرمانه ، هذا ما فعلناه . لكنه أيضًا أساء إلى جلالة الأمبراطور ، لذا نطلب عزله عن كرسيه " .
عرف البطريرك قرار المجمع وكان عليه كقبطان ماهر أن يطوى شراعه لأن ساعة هبوب الريح قد جاءت ، فخرج بهدوء إلى الميناء بصحبة ركب من الجنود ، وبعد رحلة بحرية شاقة استرت سبعين يومًا ، وصلوا إلى كوكوزة فى أقصى بلاد أرمينية . وهناك دخل الأب منفاه الأخير منهك القوى . وفى كوكوزة تألم القديس كثيرًا بسبب قسوة الجو ، وفى 14 سبتمبر سنة 407 م أغلق الذهبى الفم فمه وأسلم روحه فى يدى الله وبعد 31 عامًا من نياحته أعاد الأمبراطور ثيودوسيوس الصغير جسده إلى القسطنطينية فى احتفال مهيب ، محاولاً بذلك التكفير عما فعله والديه .
هذا وتعيد له كنيسة القسطنطينية والكنائس الأرثوذكسية الخلقدونية فى 13 نوفمبر من كل عام بينما تعيد له كنيستنا القبطية فى 26 نوفمبر .
كتاباته
لقد فاق يوحنا ذهبى الفم كل الآباء الكنسيين بضخامة تراثه الأدبى . ترك لنا (17) مجلدًا فى سلسلة الآباء Migne اليونانية ( من 47 ـ 64 ) ، وهذه المجلدات تحتوى مصنفات تتناول مواضيع عملية متعددة تمتاز معظمها بالنهج الوعظى مثل :
1 ـ المواعظ التفسيرية الخاصة بالعهد القديم . وبالعهد الجديد .
عظات عقائدية ودفاعية . عظات أخلاقية .
عظات خاصة بالأعياد الليتورجية . عظات فى ذكرى الشهداء والقديسين .
2 ـ المؤلفات اللاهوتية :
فى الكهنوت ، فى الحياة الرهبانية ، فى تعليم الأطفال ، عن الألم .
3 ـ الرسائل : أهمها رسائله إلى أولمبيا الشماسة .
4 ـ وليتورجية القديس يوحنا ذهبى الفم .
ثانيًا : التبنى
جرت العادة عند الأقدمين ، ولاتزال إلى الآن ، أن يتبنوا أولادًا لأنفسهم . فيتمتع هؤلاء البنون بجميع الحقوق البنوية من وراثة وغيرها كأنهم أبناء حقيقيون . تمامًا مثلما حدث فى تبنى ابنة فرعون للطفل موسى ( خر2 ) . وكانت المرأة قديمًا ، إذ لم يكن لها ولد تعطى جاريتها زوجة لرجلها ، فإذا وُلد له منها بنون ، تبنتهم سيدة الجارية وحسبتهم بنين لها ـ كما صنعت سارة مع هاجر ( تك 16 ) . وإذ حدث أن رجلاً لم يكن له إلا ابنة وحيدة ، يمكنه أن يعطيها زوجة لعبد معتوق ، ويتبنى أولادها ليرثوه ويحيوا اسمه بعد موته .
وكان التبنى أمرًا مشهورًا أيضًا عند الرومانيين واليونانيين وقد سّن لهم حكامهم فيه شرائع مخصصة توضح كيفية احتلال مركزالابن فى وضع شرعى ، كما تعبر عنه الكلمة اليونانية التبنى H Uioqesia .
أما التبنى فى المسيحية ومن وجهة نظر القديس يوحنا ذهبى الفم فهو
1- غاية التجسد الإلهى
ففى التجسد الإلهى قدمت لنا الطبيعة الجديدة الداخلية ، ليكون الإنسان الداخلى على شبه المسيح نفسه متمثلاً بالله .
" صار ابن الله ابنًا للإنسان ، لكى يصير أبناء الإنسان أبناء لله " In Joan , P.G. 59 : 79.
ولذا صارت العلامة المميزة للمسيحيين الحقيقيين ليست هى فى الأساليب والأشكال الخارجية ، إنما فى تجديد القلب وسلام الأفكار والمحبة والشهوة السماوية للرب .
هذه الطبيعة الجديدة ليست من صنعنا البشرى ، لكنها طبيعة جديدة قدمها لنا الله " كل الفضل هنا لصاحب الدعوة ، وما على المدعويين إلا الطاعة " .In 1Cor. P.G.61:1 .
2- عمل الثالوث القدوس
إن عمل القدرة الإلهية هو عمل الأقانيم الثلاثة مجتمعة ، فالآب يريد والابن يتمم والروح يبارك . فى تعليق للبار يوحنا على قول الرسول بولس " إذ سبق فعيننا للتبنى بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته لمدح مجد نعمته ... "( أف 5:1،6) يقول القديس [ أما تلاحظ أنه لايتحقق شيئًا خارج المسيح ؟ وأيضًا خارج الآب ، واحد سبق فعين ، والثانى يقربنا إليه ] In Eph. hom.1 .
فالآب قد عين كنيسته لتنال البنوة من خلال الابن ، والروح القدس يعطينا أن نمدح هذه النعمة . هذا التعين بالطبع غير الإرادة . فمن جهة الإرادة الله يريد أن الجميع يخلصون ( 1تيمو4:2 ) لكن بسابق علمه يعرف الذين يقبلونه ويؤمنون به ويثبتون فيه .
فى موضع آخر يقول الذهبى الفم [ كما يسهل علينا أن نغطس برؤسنا ونقيمها ثانية ، هكذا يسهل على الله أن يدفن الإنسان القديم ويظهر الجديد . هذا يحدث ثلاث دفعات لكى تعلموا أن ما يتم إنما هو بقوة الآب والابن والروح القدس ] In Joan , hom. 25 .
3- نناله بالإيمان بالمسيح
فالإيمان بالمسيح ينقلنا من حالة العداوة مع الله كثمرة للخطية إلى حالة البنوة التى بها نقتنى حياة المسيح الإلهية داخلنا . ومهما بلغ جهاد الإنسان أو أخلاقياته أو سلوكه فلا يقدر أن ينعم بالبنوة لله بغير التمتع بالإيمان بالمسيح .
فى شرحه لغلاطية ( غلا26:3 ) " لأنكم جميعًا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع "يقول خطيب المدينتين [ لأنكم جميعًا أبناء الله ياللعجب ! انظر ! يالعظمة الإيمان ! هنا يوضح الرسول ذلك تدريجيًا ، قبلاً أظهر أن الإيمان يجعل منهم ( الأمم ) أبناءً لابراهيم . الآن يبرهن أنهم أبناء لله ( لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح ) مادام المسيح هوابن الله وأنتم قد لبستموه ، واقتنيتموه داخلكم ، وتشكلتم على مثاله ، صرتم أقرباء له وواحدًا معه .. ] Comm. on Gal. ch. 3 .
فأولاد الله الجدد وُلدوا ليس من دم ( الجنس الإسرائيلى ) ولامن مشيئة جسد ( بالتزاوج غير الشرعى مع الشعوب الأخرى ) ولامن مشيئة رجل ( بالدخول إلى الإيمان اليهودى ) بل من الله ( الولادة الروحية التى بالإيمان بالرب يسوع المسيح ) .
4- يبدأ بالمعمودية ويكتمل بالقيامة
فى سر المعمودية ننال الميلاد الجديد وننعم بالبنوة للآب . أما عن كيفية حدوث ذلك يقول المغبوط يوحنا [ ليس بأم وأب ، ليس باجتماع بشر، ولا بآلام المخاض نُولد ثانية ، ولكن من الروح القدس تُصنع أنسجة طبيعتنا الجديدة ، وفى الماء تُشكل ، ومن الماء نُولد سرًا كما من الرحم ... الرحم يحتاج إلى زمن كثير يتشكل فيه الجسد ، أما الماء والروح فمنهما تتشكل حياة الروح ، فى لحظة ، فى طرفة عين ] ( كتاب الحب الإلهى جـ 7 ص48) .
وأيضًا [ لاتتعجب من حدوث هلاك وولادة فى المعمودية . هذا هو عمل النار ، تصهر الشمع وتستهلكه ، تحل العناصر المعدنية فى الأرض وتخرج ذهبًا ، قبل العماد كنا أرضًا ، وبعده نصير ذهبًا ، الإنسان الأول من الأرض ترابى ، والإنسان الثانى الرب من السماء ] In Colos , hom.7 .
هذه البنوة لله الآب التى بدأت فينا بالمعمودية تكتمل عندما نبلغ كمال الروح بالقيامة من الأموات حيث بها يتمجد الابن بكليته نفسًا وجسدًا ، وعلى مستوى أبدى .
بمعنى آخر أننا بالمعمودية صرنا أبناء لله ، ولكننا ندرك كمال بنوتنا حين نقوم من الأموات ونتسلم الميراث الأبدى . يقول الطوباوى يوحنا فى تفسيره ( رو23:8 ) " وليس هكذا فقط بل نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا نئِنُّ فى أنفسنا متوقعين التبنى فداءَ أجسادنا ".
[ إن باكورة الروح الذى نلناه يدفعنا لهذا الأنين الداخلى المملوء رجاءً . هذه الباكورة العظيمة للغاية لاتقف عند غفران الروح لخطايانا وإنما أيضًا تهبنا البر والتقديس ، وقد ظهرت هذه الباكورة فى عصر الرسل بإخراج الرسل للشياطين وأقامة الموتى خلال ظلهم ( أع 15:5 ) وثيابهم ( أع 12:19 ) . إذن لنتوقع التبنى كقول الرسول ... ولكن كيف يكون هذا ونحن قد نلنا البنوة لله فعلاً ؟ أننا نتوقع كمال مجد البنوة بقيامة الجسد من الأموات ، كقول الرسول " الذى سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده " ( فى 21:3 ) ، " لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد ، وهذا المائِت يلبس عدم موت " ( 1كو53:1) ] . In Rom. hom. 14
5- حقوق التبنى
أ ـ التمتع بالرعاية الأبوية
يقول صاحب الفم الذهبى [ إن كان الله يهتم بهذه الأمور التى خُلقت لأجل الإنسان " طيور السماء وزنابق الحقل " اهتمامًا عظيمًا ، فكم بالأكثر يهتم بنا ؟ إن كان يهتم هكذا بالعبيد فكم بالأكثر بالسيد ؟ ] وذلك فى تعليقه على الآية " فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس لأن آباكم السماوى يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها " ( مت 31:6،32 ) . In Mat. hom. 33
فالله يهتم بابنه ليس فقط بروحه وجسده أو حتى بأكله وشربه وملبسه، وإنما يهتم حتى بطيور السماء وزنابق الحقل التى خلقها لأجله .
ويضيف [ الله هو الذى ينمى أجسادكم كل يوم وأنتم لاتدركون ، فإن كانت عناية الله تعمل فيكم يوميًا ، فكيف تتوقف عن اشباع احتياجكم ؟ إن كنتم لاتستطيعون بالتفكير أن تضيفوا جزءًا صغيرًا إلى جسدكم فهل تقدرون بالتفكير أن تهتموا بالجسد كله ] Opus Imper.16 .
أبوة الله لنا هذه تظهر بالأكثر حينما نتعرض لهجمات مرة من الشيطان مقاوم الحق . لذا فى شرحه لمتى ( 19:10،20 ) " فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون ... لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذى يتكلم فيكم " يقول [ الله لايسمح لنا فى حياتنا الروحية بالتجارب إلا بقدر ما نحتمل . إنه يسمح بالتجربة ، مطالبًا إيانا ألا نقلق ولا نهتم كيف نتصرف ولا بماذا ننطق ، لأن روحه القدوس هو الذى يعمل فى المتضايقين معلنًا مجد المسيح ... ] . In Mat. hom.33
ب ـ التمتع بروح البنوة
يرى القديس يوحنا أن قول الرسول [ " إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف بل أخذتم روح التبنى الذى به نصرخ ياأبا الآب " ( رو 15:8 ) اشارة إلى العهد القديم حيث لم ينل اليهود روح البنوة إنما بنوالهم الناموس مجردًا عاشوا تحت تهديدات العقوبة فى خوف كعبيد ، أما فى العهد الجديد فلم تعد مكافأة الوصية أمورًا زمنية ولاعقابها زمنيًا ، إنما قُدمت الوصية للبنين ، ليكون الله نفسه هو مكافأتنا ، ننعم به أبًا أبديًا ، نناديه ( أبا ) وهى كلمة آرامية تُوجه لمناداة الأب . وهى تعنى أيضًا الآب فى اللاتينية وكأن الكنيسة تكرر الكلمة إذ تصرخ بلغة اليهود " أبًا " وبلغة الأمم " الآب " ، فهى كنيسة واحدة تضم أعضاء من اليهود والأمم يشعر الكل بأبوة الله لهم بلا تمييز ... ] . In Rom. hom. 14
هذه البنوة يشهد لها الروح القدس نفسه الذى يسكن فينا ، إذ يقول الرسول " الروح نفسه أيضًا يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله " ( رو 16:8 ).
ولكن قد يعترض البعض على القول بأن اليهود لم ينالوا روح البنوة والرسول بولس يؤكد فى (رو4:9) " إن الذين هم إسرائيليون لهم التبنى والمجد والعهود ... " فالتبنى هنا بمعنى أن الله اشتاق أن يتبناهم له ليكونوا كأهل بيته وخاصته ، فعندما دعا الله موسى للعمل وسط شعبه قال له " فتقول لفرعون هكذا يقول الرب ، إسرائيل ابنى البكر ، فقلت لك اطلق ابنى ليعبدنى فأبيت أن تطلقه ، ها أنا أقتل ابنك البكر " ( خر 22:4 ) . وعندما قدم الله لشعبه وصايا تميزهم عن الوثنييين كان قول الرب : " أنتم أولاد الرب إلهكم " ( تث1:14 ) . لكن إسرائيل لم يستطع أن يمارس البنوة لله بل مارس العصيان ( إش 2:1 ) " اسمعى أيتها السموات وأصغى أيتها الأرض لأن الرب يتكلم . ربيت بنين ونشأتهم أما هم فعصوا علىَّ " وغير مقدم له كرامة البنوة ( مل 6:1 ) " الابن يكرم أباه والعبد يكرم سيده فإن كنت أنا أبًا فأين كرامتى . وإن كنت سيدًا فأين هيبتى قال رب الجنود " .
جـ ـ التمتع بالميراث
إذ ننال روح البنوة ، نحسب أبناء الله لنا حق الميراث الأبدى ، وكما يقول الرسول " فإن كنا أولادًا فإننا ورثة أيضًا ، ورثة الله ووارثون مع المسيح " (رو17:8 ) ولفم الذهب تعليق رائع على هذه الآية يقول فيه :
[ أضاف إلى قوله إننا ورثة الله ( ووارثون مع المسيح ) لاحظ طموحه ، فإنه يريد أن يقترب إلى السيد ، فحيث أنه ليس كل الأبناء ورثة أظهر أننا أبناء وورثة أيضًا ، ولما كان ليس كل الورثة ينالون ميراثًا عظيمًا أبرز هذه النقطة بكوننا ورثة الله . مرة أخرى إذ يمكن أن نكون ورثة لله ولكن ليس ورثة مع الابن الوحيد أظهر أن لنا هذا أيضًا ] . Ibid.
وأى ميراث لنا يا أحبائى ؟ هذا الى حاول القديس بطرس أن يصفه لنا فقال بكلمات قليلة " لميراث لايفنى ( لأنه ليس ميراثًا أرضيًا بل سماويًا ) ، ولايتدنس ( إذ يختلف عن الميراث الأرضى الذى يمكن أن يُغتصب بالخداع أو بالاختلاس كما يمكن أن يتبدد بالإسراف ) ، ولايضمحل ( إذ لايزول جماله ولايفقد بهاؤه ) ، محفوظ لنا فى السموات ( أى هو موضوع عناية الله وحراسته يحفظه لأجل أولاده ) . ( 1بط 3:1 ) .
ولذا فى تعجب يقول الذهبى الفم : [ انظروا إلى طبيعتنا كيف انحطت ثم ارتفعت ؟ فإنه ما كان يمكن النزول أكثر مما هوى إليه الإنسان ولايمكن الصعود إلى أكثر مما ارتفع إليه المسيح ورفعنا معه ] . ( كتاب الحب الإلهى ص737 ) .
وأيضًا [ انظر سمو هذه الكرامة فما هو للابن الوحيد بالطبيعة ينالونه الأولاد بالنعمة ] In Rom. hom . 15.
ومعروف أن ما للابن بالطبيعة أنه " وارث لكل شئ " ( عب 2:1 )
6- واجبات التبنى
أ ـ الأقتداء بالآب
إن كنا فى مياه المعمودية ننال التبنى ، فإننا بأعمال الحب التى هى ثمرة روحه القدوس فينا نمارس بنوتنا له وننمو فيها ونزكيها .
فأبوته لنا تدفعنا للحب ، والحب يزكى بنوتنا له . يقول بطريرك القسطنطنية [ هذا هو السبب الذى لأجله ندعوه فى الصلاة أبًا،لا لنتذكر نعمته فحسب وإنما من أجل الفضيلة فلا تفعل شيئًا غير لائق بعلاقة كهذه ]. In Rom. hom 19
وفى موضع آخر يقول [ بالمعمودية لم يجعلنا ملائكة ولارؤساء ملائكة ، بل أبناء الله المحبوبين لديه .. إذ تذكر هذا أظهر حياتك مستحقة لحب ذاك الذى دعاك. أظهر مواطنتك لذاك العالم السماوى وللكرامة التى أعطيت لك اعلن بوضوح أنك مواطن فى المدينة السماوية . لاتهتم بالأرضيات ، فإن كان جسدك لم ينتقل بعد إلى السماء إلا أن رأسك ماكث هناك فى الأعالى ] In Mat. , hom. 12:4
بكلام آخر إن غاية الله فينا أن يرانا أولاده نحمل صورته فينا ونتأهل لنصير على مثاله فنحسب كاملين كما هو كامل . يقول البطريرك العظيم [ أننا نبقى كأولاد الله ليس فقط خلال النعمة وحدها وإنما أيضًا بأعمالنا . ليس شئ يجعلنا شبه الله مثل استعدادنا للصفح عن الأشرار وصانعى الإثم، وذلك كما سبق فعلمنا عندما تحدث عن نفسه أنه يشرق شمسه على الأبرار والصالحين ] . In Mat. , hom. 19:11
ولقد سبق وأوضح يوحنا المعمدان لليهود بطلان الاتكال على بنوتهم الجسدية لإبراهيم طالما هم لايحملون إيمان ابراهيم الحى ولايسلكون على منواله . فالله قادر أن يقيم أولادًا له من الحجارة . وقد أقام فعلاً إذ أخرج من الأمم التى تحجرت قلوبهم أبناء لإبراهيم بالإيمان بالسيد المسيح . هكذا إن كنا نعتمد على بنوتنا لله فيلزمنا تأكيد هذه البنوة بالمحبة العاملة .
ب ـ الإنقياد بروح الآب
فى تعليق لرئيس أساقفة القسطنطينة على قول الرسول بولس " لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله "( رو14:8 ) جاء فيه [ الآن فإن هذه أيضًا أعظم كرامة . ولهذا لم يقل " لأن كلَّ الذين يعيشون بروح الله " ، إنما يقول " لأن كلَّ الذين ينقادون بروح الله " ، مُظهرًا أنه يستخدم سلطانًا على حياتهم ( يقتادهم ) كربان يقود سفينة ، أو سائق مركبة على زوج من الفرس، فهو لايقود الجسد فقط وإنما النفس أيضًا ، يملك عليها ... لأنكم وإن نلتم المعمودية لكن لاتنقادون بالروح فأنكم تفقدون الكرامة التى نلتموها وسمو بنوتكم ] . In Rom. hom. 14
فنحن كمؤمنين بالرب يسوع اعتمدنا بإسمه وصرنا أعضاء فى جسده السرى وبالتالى انتقلنا إلى البنوة لله . هذا المركز هو لنا بغض النظر عن حالتنا . غير أنه إن سلكنا بما لا يليق بأبينا السماوى نكون غير ثابتين فيه ، وفى هذه الحالة لاتنتفى عنا البنوة بل تتحول إلى دينونة أعظم ، فقد يسئ الابن لأبيه وقد يحرم من الميراث ويُطرد من حضرة أبيه لكن نسبه لأبيه يبقى مبكتًا لضميره كل حياته ، ويصير كمن هوليس ابنًا ويحسبونه هكذا .
فى المعمودية نُوهب الميلاد الروحى الجديد ، ويبقى الروح القدس بمواهبه وعطاياه سندًا لنا يغذى حياتنا الروحية لكى نبلغ ملء قامة المسيح. فنحن [ لانقدر أن نجرى فى طريق الله إلا محمولين على أجنحة الروح ] In Mat. P.G. 57:30
وكما أنه ليس هناك أقوى من الذى يتمتع بالعون السماوى ، هكذا أيضًا ليس هناك أضعف من الذى يُحرم منه ] In Paralyt. P.G.51.51. .
جـ ـ قبول تأديب الآب
يسمح الله لأولاده بالتجارب والضيقات أثناء جهادهم على الأرض ، لا للأنتقام ولاللدينونة وإنما لمساندتهم ، فهو لايعيننا بلطفه بنا فحسب خلال الترفق ، وإنما أيضًا بتأديبنا لأجل نفعنا الروحى ، لأجل تقديسنا ، ولأجل مشاركته فى حياته المجيدة لأن من يتألم معه يتمجد أيضًا معه .
[ هل لأنك تعانى من أتعاب كثيرة تظن أن الله تركك ، وأنه يبغضك ؟ إن كنت لاتتألم يكون بحق قد تركك ، لأنه إن كان الله يؤدب كل ابن يقبله، فمن لايسقط تحت التأديب لايكون ابنًا . ماذا نقول ؟ ألا يسقط الأشرار تحت الضيق ؟ حقًا يسقطون .. هم ينالون عقاب شرهم ولايؤدبون كأبناء .. لاتستطيع القول بأن إنسانًا بارًا يعيش بلا ضيق ، حتى وإن لم يظهر عليه إذ يلزم بالضرورة لكل بار أن يجتاز الضيق ] . يقول الأب المختبر للالآم فى شرحه للعبرانين (7:12 ) " إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين ... فأى ابن لايؤدبه أبوه ". In Hebr. hom. 29:2
وتأديب الله يقدم لنا فى البداية نوعًا من الحزن ، لكن كلما دخل الابن فى النضوج أدرك أن التأديب هو سر نجاحه وبهجة قلبه الأكيدة . [ الذين يتناولون الدواء المر يخضعون أولاً لشئ من الأمتغاص ، لكنهم يشعرون بالراحة بعد ذلك ، هكذا هو التأديب فى بدايته فإنه يبدو للحزن مع أنه فى حقيقته غير ذلك ] Ibid. 30 :1
أخيرًا التأديب هو علامة البنوة فالآب يهتم ببنيان ابنه الشرعى ، ولايبالى بالنغول* [ إن كان عدم التأديب علامة خاصة بالنغول ، إذن يليق بنا أن نفرح بالتأديب كعلامة شرعية بنوتنا ] Ibid.29:3 .
بركة القديس يوحنا ذهبى الفم تكون معنا ولربنا المجد الدائم . آمين .
دياكون/ مجدى وهبه +
المتنيح / القمص صموئيل وهبة
________________
* النغل هو الابن غير الشرعى . وقد حرمت الشريعة دخوله فى جماعة الرب .... إلى الجيل العاشر من أحفاده ( تث 2:23 )