" يا معلم مَنْ أخطأ هذا أم أبواه حتي وُلدِ أعمي " ( يو 9 : 2 ) كيف إعتبر التلاميذ أن الأعمي يستطيع أن يخطئ قبل ولادته ؟
ينبغي علينا لكي ندرك مفهوم سؤال التلاميذ فيجب أن نعرف الخلفيات التعليمية لهذا السؤال.
إن سؤال التلاميذ : " يا معلم مَنْ أخطأ هذا أم أبواه حتي وُلدِ أعمي "(يو 9 : 2) ؟
هو سؤال عادي ومتوقع بالنسبة لطريقة التفكير اليهودية, تلك الطريقة التي بمقتضاها كل شيء يُقيّم ويُفهّم بإرتباطه بالناموس الموسوي.
الخطية ـ بالنسبة لليهودي ـ هي مخالفة الوصية الناموسية. وهذه الخطية تجلب للمخالف ـ قياساً بمدي حجمها وإتساعها ـ غضب الله وعقابه.
إذن التلاميذ وضعوا في حسابهم ـ كأمر مسلم به ـ أن الأعمي أو أبواه قد خالفوا الناموس, وبالتالي أدركوا هذا العمي علي أنه بمثابة عقاب الله بسبب هذه المخالفة.
فالتلاميذ ألقوا مسؤلية ما يعاني منه المولود أعمي للمولود أعمي نفسه علي أساس الفكر اليهودي بأن الجنين يمكن أن يخطئ وهو موجود في بطن أمه.
كمثال يتعلق بهذا الأمر ما ذُكِر عن عيسو في النصوص الرابونية, بأنه حاول وهو جنين أن يؤذي أخوه التوءم يعقوب.
كذلك أيضاً ينسب التلاميذ لأبوي المولود أعمي المسئولية حيث أنه في العهد القديم نجد الأعتقاد بأن عقاب الله يُمكن أن يُنقل من الآباء إلي الأبناء ( حز 20 : 5 ): " أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء الجيل الثالث والرابع من مبغضي " [ راجع أيضاً عدد 14 : 18. تث 5 : 9. مز 108: 14. أش 65 : 6 ـ 7 ].
علي الجانب الآخر, فإن حياة الإنسان ـ بحسب العهد القديم ـ ترتبط جوهرياً بقدرة هذا الإنسان علي الرؤية. فالنور يمثل جوهر الحياة. كون أنك لا تري النور يعني أنك ميت, بينما أن تمنح النور يعني أنك مُنحت الحياة.
بالتالي, المولود أعمي كان محكوم عليه بأن يعيش حالة الموت المستمرة, طالما يحيا محروماً منذ ولادته من الصلاح الجوهري للحياة, أي النور.
هذا الإنسان المولود أعمي لم يواجه فقط نتائج عماة بل في نفس الوقت عاني من الإحتقار الديني والعُزلة الإجتماعية, لأنه في نظر الجميع هو خاطيء ويحمل فوقه ـ بوضوح ـ علامات الغضب الإلهي والعقاب ولعنة الهجران الإلهي.
لأجل هذا قال له الفريسيون : " في الخطايا وُلدت أنت بجملتك وأنت تُعلمنا. فأخرجوه خارجاً " (يو 9 : 34) حالة الأعمي كانت صعبة جداً من واقع أنه ليس لديه أي رجاء للشفاء, إذ لم يسجل في العهد القديم حالات شفاء لأعمي منذ الولادة.
لأجل هذا يقول هذا الأعمي بعد معجزة الشفاء للمحققين من الفريسيين : " منذ الدهر لم يُسمع أن أحداً فتّح عيني مولود أعمي " ( يو 9 : 32 ).
علي النقيض كان موقف مريض بركة جسدا, الذي كان يأمل في أن يأتي أحد لكي يلقيه في البركة عند تحريك المياه ( أنظر يو 5 : 7 ), بينما كان الأعمي لا ينتظر إلا الموت الذي سوف يجده علي هذه الحالة من العمي.
علي الجانب الآخر, أظهر سؤال التلاميذ أنهم أيضاً مصابون بعمي روحي. مناداة الرب بالمعلم أي الرابي يا معلم, أي بلقب محترم لمعلمي الناموس, يظهر أن التلاميذ لم يدركوا بعد أن معلمهم هو هذا الاله ـ الكلمة المتجسد, الذي هو " النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتياً إلي العالم " (يو 1 : 9).
لقد ظلّ التلاميذ عميان أمام سر شخص وعمل الرب المحي. السؤال أظهر عماهم الروحي بوضوح, أيضاً لم يدركوا الأبعاد الحقيقية للخطية والسقوط, لقد واجهوا الخطية ـ كحالة معينة. وإعتبروا نتائجها الوخيمة بأنها نتائج حاسمة وجذرية ولا يمكن تغييرها, إذ لم يتطلعوا لشفائه بواسطة يسوع.
قد يكون سؤال التلاميذ نظرياً ـ شيق لاهوتياً, إلا أنه لا يلمس جوهر الأمور. لأنه لم يتركوا ولو هامش صغير للتدخل الإلهي.
الجزء الأول من إجابة يسوع : " لا هذا أخطأ ولا أبواه " أزال التساؤلات. ولكي ندرك جيداً أجابة يسوع ينبغي أن نفهمها خارج المعطيات اليهودية وتحت نور تعاليم العهد الجديد حيث الخطية لا تنحصر في مخالفة محدده للناموس. فالخطية هي ظُلمة يعيش فيها العالم ( أنظر يو 3 : 19 ), هي حالة الموت التي تسود علي الناس بلا إستثناء من بداية سقوط الآباء الأولين, هذه الحالة شوهت الإنسان المخلوق بحسب صورة الله.
هكذا عمي إنسان معين منذ الولادة مثله مثل الإنسان الممسوس, أو الأبرص, أو المقعد, أو أي مرض جسدي ونفسي, إشارة إلي سيادة الخطية والموت علي الوجود البشري. الرب لم يرفض في إجابته إرتباط الخطية بالمرض, بل رفض فقط النظرة للخطية علي أنها حالة محددة. فالذي تسبب بالعمي للإنسان ليست خطية بعينها بل السقوط وقوة الخطية التي سادت علي كل الجنس البشري.
الجزء الثاني من إجابة يسوع " لكي تظهر أعمال الله فيه.. " يحتاج إلي إيضاح حيث يبدو من الوهلة الأولي أنه يعني تركيز مفهوم عمي الإنسان في برهان مرئي لقوة الله, وعن حق إذا تسائل أحد قائلاً :
هل من الممكن أن يسمح الله بعذاب إنسان فقط لكي يبرهن ـ في لحظة ما ـ قوته ؟ هذه الرؤية بالطبع لا تتجاوب مع الواقع. إن أداة الربط " لكي " لا يجب أن تفسر كأمر نهائي ـ كما يقول ذهبي الفم ـ فالأعمي لم يُولد بهدف أن يُظهر ـ بواسطة شفاءه ـ أعمال الله, بل علي النقيض نتيجة عماه هو ظهور أعمال الله. إن يسوع بإجابته هذه يقدم ذاته كإله حقيقي, إذ يصف عمل شفاء الأعمي كعمل الله.
وبذلك أراد أن يقّوم هكذا الإنطباع الخاطئ للتلاميذ بأنه مجرد معلم حكيم للناموس. إن معلم الناموس ـ كما نعرفه من الكتابات الرابونية ـ في مثل هذا الموقف, ينشغل بتحليل هذه الحالة لكي يعرف مَنْ هو المسئول عن المرض الجسدي للمولود أعمي.
لكن يسوع بكونه الاله الحقيقي وبكونه " نور العالم " الحقيقي والفريد [ أنظر يو 8 : 12 : : 90 :5] يتخطي التشوق النظري للسؤال ويتدخل لكي يمنح النور للأعمي وأيضاً الحياة ذاتها. وفي نفس الوقت يمنح يسوع النور لأعين التلاميذ الروحية لكي يدركوا أنه هو كلمة الله المتجسد, وأن عمله هو عمل الله, بمعني عطية الحياة إلي الناس.
علي أساس كل ما ذكرناه فإن المولود أعمي يظل رمز للجنس البشري الساقط الذي خضع لسلطان الخطية والموت, والذي لا يستطيع بمفرده أن يُغير هذه السيادة, والذي ليس لديه ـ أيضاً ـ أي معرفة بوجود إمكانية لحياة تختلف تماماً نوعياً والتي لا تحمله مسئولية شخصية علي ما هو عليه.
المسيح هو بمفرده نور العالم والذي يمكن أن يُبطِل الخطية, وأن يُغير نتائجها الثقيلة علي الإنسان ويفديه ويحرره مِن العمي الروحي والموت مانحاً إياه النور والحياة. وينبغي علي الإنسان أن يدرك قيمة هذه العطية ويقبلها.
د. جورج عوض إبراهيم
دكتوراة فى العلوم اللاهوتية
وباحث بالمركز الارثوذوكسى
للدراسات الابائية بالقاهرة