اذا أعطينا لعبارة ” الايمان ” معنى عاماً، يشمل كل أنواع القناعة التي لا ترتكز على بداهة حسية أو عقلية، نرى أن الايمان، بهذا المعنى الواسع، ملازم لكل مرافق الحياة وانه، كما يقول المفكر الماركسي والمحلل النفسي الذائع الصيت اريك فرّوم، ” مطلوب في كل لحظة “.
فمثلاً كل معرفة للعالم الخارجي مبنية، كما بيّن الفيلسوف المعاصر موريس مارلو بونتي، على ” ايمان ” بأن هذا العالم الخارجي الذي ندركه بالحواس موجود بالفعل، وليس وهماً كما يبدو للمصاب بمرض الفصام. هكذا فالادراك الحسي نفسه، الذي يبدو لنا نموذج كل بداهة ( ” لقد رأيته بعينيّ ” )، والذي تستند اليه كل معرفة عادية أو علمية للكون، يستند بدوره الى قناعة مسبقة صميمية بأن الكون موجود وبأننا متصلون به ومقيمون فيه.
ثم ان العلم، عندما يحاول أن يفسر الكون، ينطلق من هذا ” الايمان ” بأن العالم قابل لتفسير،بأنه ذو بنية عقلانية تجعل العقل قادراً على فهمه وادراكه. هذا صحيح خاصة في أيامنا حيث العلوم الفيزيائية كثيراً ما تعتمد، في تقدمها، على أبحاث نظرية مجردة ( كنظرية النسبية مثلاً ) يصعب تثبيتها اختبارياً ولكنها تقود الى نتائج مدهشة على صعيد التطبيق. ثم ان النظريات العلمية التي تكوّنها العلوم الطبيعية على أساس الاختبار ليست لها البداهة المنطقية التي ل ( 2 + 2 = 4 ).
انها ترجيحات قوية ليس ألاّ تبنى على ملاحظة الوقائع واجراء التجارب. فنظرية التطور، مثلاً، وان كان معظم العلماء متفقين عليها، ليست موضوع يقين مطلق.
فهذا النوع من اليقين، كما قلت سابقاً، لا يتوفر الاّ في ميدان الرياضيات، لأن العقل، في هذا الميدان، يتعامل مع افتراضاته ولا يتخطى دائرتها. أما اذا شاء العقل أن يلاقي العالم الخارجي – وهذا هو شأن العلوم الطبيعية على أنواعها – فلا بدّ له أن يخرج من ذاته وبالتالي أن يتخلى عن ضمانة اليقين المطلق، الرياضي، ليستبدله بنوع من ” الايمان “. بهذا المعنى قال كير كغارد بحق : ” ان اليقين المطلق هو برهان على أن المرء لم يجد سوى ذاته “.
هذا وعلى صعيد آخر، فان كل نضال سياسي في سبيل تطوير المجتمع جذرياً يفترض ” ايماناً ” بالانسانية وبطاقاتها، ” ايماناً ” بأن البشر قادرون، اذا توفرت لهم ظروف مؤاتية، على تخطي علاقات التسلط والصراع بينهم في سبيل تشييد نظام اجتماعي تسوده مبادىء المساواة والعدالة والمحبة؛ هذا النضال يفترض، كما بيّن الفيلسوف الشيوعي روجيه غارودي، ” ايماناً ” بأن للتاريخ البشري معنى تصاعدياً من شأنه أن يكتمل بتوحيد الانسانية عبر ازالة الحواجز الطبقية.
هذه القناعة، عند المناضلين السياسيين، وان استندت الى تحاليل علمية، تتخطى العقلانية بمعناها المحدود ( عقلانية 2 + 2 = 4 )، تلك التي يصبو اليها العلم.
ولذا رأينا جاك مونو، في كتابه الشهير ” الصدفة والضرورة “، يرفضها باسم علمويته الضيقة التي ترفض خطأ كل قياس للحقيقة غير مقياس النهج العلمي.
اما على صعيد العلاقات الانسانية ، فيلعب ” الايمان ” أيضاً دوراً أساسياً.
ذلك أن كل التزام من شخص تجاه شخص آخر مبني على ثقة ( والايمان، في أساسه، ثقة، كما تشير العبارة نفسها : آمن به أي أمّن له، أمّنه على نفسه )، ثقة لا يدعمها أي يقين حسي أو عقلي؛
فالصديق يؤمّن صديقه على أثمن ما لديه مع أنه يستحيل عليه، كما يقول ألان ريشاردسون، ان يبرهن أن هذا الصديق لن يطعنه في اليوم التالي في ظهره ( بالمعنى الحقيقي أو المجازي ) ؛
والمحب يربط نهائياً حياته بمن يحبه، واثقاً بأنه سيبادله حبه وأمانته؛ والوالدان يكرسان ذاتيهما لأولادهما واثقين بأن تربيتهما ستثمر فيهم، لا بل أن ” ايمان ” الوالدين بالطاقات الكامنة عند ولدهما شرط أساسي، كما يقول فروم، لتحقيق هذه الطاقات. ” المحبة، يقول هذا المفكر، هي أن يخاطر الانسان بنفسه دون ضمانة، أن يسلم نفسه دون تحفظ، راجياً أن محبته ستولّد المحبة عند المحبوب.
المحبة فعل ايمان، ومن كان قليل الايمان كان قليل المحبة “. ومن مقومات العلاقات الانسانية، الوعد الذي به يلتزم المرء تجاه الآخرين. لقد قال نيتشه أنه يمكن تجديد الانسان بقدرته على الوعد. ولكن الوعد يفترض ” ايماناً ” بوجود نواة في شخصيتنا تستمر رغم الظروف المتقلبة التي نجتازها ورغم التغييرات التي تطرأ على آرائنا ومشاعرنا. على هذا ” الايمان ” بأنفسنا تستند وعودنا، وعليه أيضاً تستند ثقتنا بأن الآخرين سيبقون كذلك ثابتين في مواقفهم الأساسية ولن يخيبوا رجاءنا.
ليس اللّه موضوع بداهة حسية أو عقلية
اذا كان ” الأيمان ” بمعناه الواسع، ملازماً لكل مرافق الحياة، فانه، بمعناه الدقيق، موقف لا بد منه في علاقتنا باللّه. ذلك كان معرفتنا للّه لا يمكن أن تكون سوى ” يقين في اللابداهة ” على حد تعبير الأب روكبلو، وذلك للأسباب التالية :
اللّه لا يمكن أن يكون موضوع بداهة حسية لأنه يفوق العالم الحسي.
ان حواسنا لا تعطينا عن الكون سوى صورة نسبية، ناقصة، يحددها تكويننا العضوي : فانها ترينا مثلاً أجساماً ممتلئة،
العلم يكشف أن القسم الأكبر من الأجسام مؤلف من فراغ؛ كذلك ما يبدو لنا ألواناً وأصواتاً انما هو، في نظر الفيزيائي، ذبذبات لا تختلف الاّ بدرجة تواترها، تلتقط حواسنا منها ما تستطيع أن تلتقطه بموجب تكوينها وتترجمه الى أحاسيس تختلف نوعيتها باختلاف الأنواع الحية، بحيث أن النحل مثلاً، الذي لا يرى الأشعة الحمراء التي نراها ولكنه مقابل ذلك يبصر الأشعة فوق البنفسجية التي لا نبصرها، له رؤية للكون تختلف عن رؤيتنا، تبدو له مثلاً بموجبها أوراق الأشجار، كما بيّن دومر، ذات لون رمادي مائل الى الصفرة…
فاذا كانت الحواس عاجزة عن أن تكشف لنا جوهو الكون المادي عينه فكيف لها أن تعلن لنا حقيقة اللّه الذي يفوق الكون ؟
ولكن اللّه لا يمكن أن يكون أيضاً موضوع بداهة عقلية : وذلك :
لأنه لو كان موضوع بداهة عقلية لكان العقل امتلكه، حواه، أحاط به كما يحيط بكافة
البداهات المنطقية. ولكن اللّه تحديداً ( اذا صح التعبير ) هو من لا يمكن للعقل أن يحويه لأنه أساس العقل ومكوّنه، لأن العقل اليه يستند في عملياته كلها ومنه يستمد طاقاته. بهذا المعنى كتب الأب دانيالو في كتابه ” اللّه ونحن ” :
” ليس هو ( اللّه ) ضمن حدود الادراك، لكن هو الذي يكوّن الادراك “.
لذلك لا يمكن أن يكون اللّه ” مسألة ” Probleme ، كما أوضح غبريال مرسيل، لأن المسألة يمكن للعقل أن يحلّها، ان يسيطر عليها، اذاً أن يكون مقياسها.
ولكن اللّه مقياس العقل كما انه مقياس كل شيء، فأنىّ للعقل اذاً أن يكون مقياس اللّه. كيف للعقل أن يكون مرجعاً لتأكيد حقيقة اللّه، طالما كل سعي له الى الحقيقة انما هو مستمد من اللّه نفسه ؟
بهذا المعنى كتب الأب دانيالو : ” معرفة اللّه لا تعني ان احوي اللّه في عقلي، بل بالعكس أن أعرف اللّه مقياساً لي “. لذا فكما يقول المفكر واللاهوتي الارثوذكسي المعاصر بول افدوكيموف :
” اللّه وحده هو مقياس حقيقته، انه وحده حجة كيانه “.
ما يحويه العقل هو ما يمكن حصره وتحديده. ولكن اللّه لا حدود له ولا حصر، لذا لا يمكن للعقل أن يحويه. بهذا المعنى يقول أحد آباء الكنيسة العظام، القديس غريغوريوس النيصصي ( القرن الرابع ) ” ان اللّه فوق كل تحديد.فمن فكر ان اللّه شيء محدد يخطىء اذا اعتقد ان هذا الشيء المحدد الذي عرفه هو اللّه “.
هنا تكمن، كما بين الفيلسوف الشخصاني المعاصر جان لاكروا، الحقيقة الجزئية التي يحويها الالحاد. ذلك ان الالحاد برفضه اللّه يرفض بالفعل دوماً تصورات عن اللّه، تلك التصورات التي لا بد للعقل البشري في محدوديته أن يعتبر بها عن تلمسه للّه اللامحدود.
وهكذا يكون الالحاد، من حيث لا يدري، شاهداً لحقيقة اللّه المطلقة التي تفوق كل تصور عقلي، ودافعاً للمؤمنين الى تخطي تصوراتهم عن اللّه واعتبارها مجرد تلمسات لحقيقة لا يرنى منها الا في ذهول العقل، كما قال النيصصي :
” ان الافكار تخلق أصناماً للّه، الذهول وحده يحدس شيئاً “.
ولذا فعلى المؤمن أن يتحاشى الخلط بين اللّه وبين تصوراته – التي لا بد منها – عن اللّه، والاّ وقع في الصنمية، وتعبّد لأفكاره الخاصة عوض أن يتعبد للّه. هنا يكمن أحد وجوه الفرق، الذي يشدد عليه الفكر الديني الحديث، بين ” الايمان ” “والاعتقاد” . فالاعتقاد يتناول دائماً تصورات معينة عن اللّه، بينما الايمان هو تجاوز لهذه التصورات، لا بالاستغناء عنها، بل بتخطّيها نحو الكائن اللامدرك الذي تشير اليه وتحجبه بآن واحد.
لا يمكن للعقل ان يحوي اللّه بل، بالعكس، كما بين جان لاكروا، أن من أبلغ الدلائل على اتصالنا الكياني باللّه، الكائن اللامحدود، تلك الحركة اللامتناهية التي تجعل العقل البشري لا يتوقف عند حقيقة ادركها، سواء أكان ذلك في ميدان العلم أو غيره، بل أن يعيد النظر فيها ويتجاوزها، ساعياً الى حقيقة مطلقة لا يدركها أبداً ولكنها تستقطبه بلا انقطاع. ان شكه الدائم بما وصل اليه من حقائق لهو الدليل، يقول لاكروا، على اتصاله بحقيقة مطلقة، حقيقة اللّه، لا يمكنه استيعابها – ولذا فهذا ليس بالبرهان الرياضي على وجود اللّه – ولكنها تتجلى فيه عدم ارتياح الى سائر الحقائق الجزئية التي يدركها. كيف يمكن اذاً للعقل أن يحيط باللّه وهو المدفوع باستمرار، بفعل اللّه، الى تخطي ذاته ؟
من جهة أخرى، ان العقل لا يمكنه أن يدرك اللّه لأنه من عناصر هذا الكون ولذا فهو صالح لادراك ما في الكون من عوامل وقوى ولكنه عاجز عن ادراك من هو بطبيعته متعال عن الكون، متميز جذرياً عنه وان كان حاضراً فيه وفاعلاً في صميمه. العقل مثلاً يستدل من ظاهرة سقوط الأجسام على وجود جاذبية الأرض، كما يستدل من المدّ والجزر على وجود جاذبية القمر.
ولكن الأرض والقمر عنصران من عناصر الكون، تماماً كسقوط الأجسام أو المدّ والجزر. هكذا فالعقل، في سعيه العلمي، ينتقل بين أشياء الكون، رابطاً بين ظاهرة وظاهرة وبين حدث وحدث. العقل ينتقل بطلاقة من سبب الى سبب، طالما ان هذه الأسباب عوامل طبيعية أو انسانية، عوامل من هذا الكون.
انه بتنقله بينها وربطها بعضها ببعض، انما يبقى في وجوه الطبيعي، لأنه، وهو من الكون، يتوافق مع عناصر هذا الكون ويحيط بها تدريجياً. ولكنه اذا أحسّ، في تطوافه بين تلك العناصر وادراكه لترابطها وانسجامها وترتيبها، أن تفسيرها الأخير يفترض وجود سبب أول ترتبط به كل الأسباب، عند ذاك لا بدّ له أن يضطرب ويحتار. ذلك لأنه، وهو من الكون، لا يمكنه أن يتصور سبباً ما الاّ على شاكلة أسباب الكون، بينما ” السبب ” الأول الذي يحدسه ( بفعل النفحة الالهية الكامنة فيه ) لا يمكن الاّ أن يكون – رغم التسمية الواحدة – مختلفاً قطعياً عن الكون والأسباب الكامنة فيه، والاّ لما استطاع أن يكون علة هذا الكون والمرجع الأخير لوجوده.
واذا بالعقل مضطر الى قفزة لا قدرة له عليها، اذ المطلوب منه أن ينسلخ عن مجال أفكاره وتصوراته المحدودة التي هي مناخه المألوف وأداة ادراكه لهذا الكون الذي هو متأصل فيه، ليقر بواقع يفوق كل خبرة وتصور.
ان هذا الانسلاخ هو صورة عن الموت، ولا يمكن أن يتم بصورة كاملة الاّ باجتياز الانسان للموت الطبيعي الذي هو أداة تحرره من مقاييس الكون ومحدوديتها. بهذا المعنى قال اللّه لموسى في سفر الخروج : ” أما وجهي فلا تستطيع أن تراه لأنه لا يراني انسان ويعيش ” ( خروج 33 : 20 ) .
وقد كتب الفيلسوف المعاصر اتيان بورن بالمعنى نفسه : ” ليس اللّه بديهياً، لا من جهة البداهة الحسية ولا من جهة البداهة العقلية. لا يستطيع أحد، دون أن يموت، أن يرى اللّه، لا بأعين الجسد، ولا بنظر النفس “.
صحيح ان اللّه، على حد تعبير الرسول بولس، ” لم يترك نفسه بلا شاهد ” ( أعمال 14 :17) ” لأن غير منظوراته قد أبصرت منذ خلق العالم اذ أدركت بالمبرؤآت ” ( رومية 1 : 20 ). فان آثاره بادية في الكون وبنوع خاص في هذا الترتيب المذهل الذي يتجلى في انتظام الكائنات من أصغرها الى أكبرها، من الذرة الى النظام الشمسي، وفي التركيب المعقد المنسّق الذي يسمح للكائنات الحية بالاستمرار في البقاء وبتخليد النوع، وفي الخط التصاعدي الذي سلكه التطور انطلاقاً من سحب الهيدروجين والهيليوم الأولى الى ظهور الحياة ثم الى ظهور الفكر.
هذا الترتيب يشير بوضوح الى فكر خلاّق، اذ أنّى للمادة، التي هي مجموعة جسيمات وطاقات، أن تكون لها ذات تمكنها من توحيد وتنسيق العناصر التي تتكّون منها ؟ ولكن آثار اللّه في الكون لا تقود حتماً اليه، اذ أن لا قياس بين اللّه وآثاره. فترتيب الكون مثلاً، وان كان مدهشاً، فهو بعيد عن الكمال، مشّوب بالاضطراب والعثرات والقسوة والدمار، يبدو في كثير من الأحيان وكأنه يتجاهل الانسان ويسحقه، بينما الانسان هو آية التركيب الكوني. واذا بترتيب الكون يكشف اللّه ويحجبه بآن واحد. واذا بالخلائق تبدو تارة كلمات يخاطب اللّه بها عقل الانسان وقلبه ( ” السموات 1تذيع مجد اللّه والفلك يخبر بأعمال يديه “. المزامير )،
وطوراً تبدو صامتة لا تشير الاّ الى محدوديتها ( ” ان الصمت الأبدي للفضاءات اللامتناهية يخيفني ” – باسكال ) .
كذلك للّه آثار في النفس الانسانية، آثار يمكن للعقل أن يتقصاها ليكتشف الخالق.
ومنها خاصة هذا التوق في الانسان الى تحقيق مطلق لذاته على كل الأصعدة من معرفة وقدرة وجمال وعدل وخير وحب وسعادة وخلود. فكما أن العطش الجسدي عند الكائنات الحية يشير الى وجود الماء في الطبيعة، هكذا فغليلنا اللامتناهي الذي لا يمكن لأية خبرة في الكون أن ترويه يشير الى ينبوع لا متناه متعال عن الكون.
ولكن أنّى لنا أن نتصور هذا الينبوع فيصبح هكذا بداهة لعقلنا ؟
فأننا ان شئنا أن نتصوره، أحدرناه، وهو اللامحدود، الى مستوى اختباراتنا المحدودة وجعلنا منه صورة لرغباتنا وأمانينا الضيقة وضمانة لها، متناسين ان اللّه ليس الكائن المطلق الاّ لأنه يتجاوز كل ما نتصوره ونحلم به ولأنه يدعونا بالتالي الى تحقيق لذواتنا يختلف جذرياً عن كل نماذج النجاح والسعادة التي نتخيلها ويتعالى عن كل الآمال التي يمكن أن نعقدها.
لا بدّ للعقل اذاً أن يضطرب ويحتار لأن عليه أن يتجاوز كلّ تصوراته وأن يقنع بأن تحقيق أمنيتنا العميقة لا يتم الاّ من خلال تخطي كل أمانينا الراهنة ومروراً بفشل الكثير من آمالنا وبنوع خاص بذلك الفشل الجذري، المريع، فشل انحلال كياننا الحاضر بالموت. في هذا ” الليل المظلم ” وحده، على حدّ تعبير الروحيين، أي في صمت التصورات والرغائب، يلاقى اللّه، لأنه ” أعظم من قلوبنا ” على حد تعبير الرسول يوحنا ( 1 يو 3 : 2) ولأن ” ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر ما أعدّه اللّه للذين يحبونه ” ( 1 كو 2 : 9 ) .
هكذا رأينا أن العقل يشير الى اللّه ولكنه لا يستطيع، بشكل من الأشكال، أن يحيط به محولً اياه الى بداهة منطقية، ” لأن ما يستطيع العقل أن يستولي عليه لا يمكن أن يكون اللّه “. عندما يستشعر العقل اللّه، يستشعر أنه أمام حقيقة تضطره الى تخطي ذاته.
يقول الأب دانيالو : ” ان لقاء اللّه يضطر العقل الى تحول جذري، الى التخلي عن مركزية ذاته. هذا التحول هو بالضبط معرفة اللّه “. هذا ما كان النيصصي قد عبّر عنه بقوله : ” العقل يدرك أن المعرفة الحقّة لذاك الذي يسعى اليه، ورؤيته الحقة، تكون بأن يرى أنه غير مرئي وبأن يعرف أنه يتعالى على كل معرفة…”. عند ذاك يكون تخلي العقل عن مركزيته، لا انتحاراً للعقل واستقالة له، بل خضوعاً لمتطلبات العقل نفسها. وبعبارة أخرى، فالأمر المعقول الوحيد هو أن لا يكون اللّه قابلاً لأن يحد بالعقل، لذا ” فلا شيء أكثر عقلانية من هذا التنكر للعقل ” الذي تفرضه مجابهة اللّه، حسب تعبير باسكال.
فاذا قبل العقل أن ينفتح لذلك الواقع الالهي الذي يفوقه وأن يتجاو ز باتجاهه محدودية أفكاره وتصوراته كان بالفعل منسجماً مع نفسه، متوجاً لتلك الحركة التي نوهنا عنها أعلاه والتي تدفعه بلا انقطاع الى تخطي ذاته باتجاه حقيقة مطلقة تستقطبه دون أن يدركها أبداً. لذا فالعقل لا ينقض بل يكتمل اذا تخطى ذاته بالايمان. هذا ما أوضحه أحد المفكرين المعاصرين معلقاً على فكر كير كغار : ” يمكن أن نستشعر ما هو المعنى الحقيقي لضياع العقل :
فكما أن الحب يفرض على المرء أن يفقد ذاته ليجدها، هكذا فشهوة العقل الحقيقية هي أن يضيع ويخلص في حركة واحدة. هذه الشهوة تدعى الايمان. “.
لقد قلنا ان اللّه، بنظر غبريال مارسيل، ليس ” مسألة “، ويضيف هذا الفيلسوف أن اللّه ” سر” ولكن المقصود بالسر، اذا استعملنا هذه العبارة للاشارة الى اللّه، ليس مجرد المجهول؛ السرّ الالهي هو تلك الحقيقة التي تجعل الأشياء كلها قابلة للفهم والادراك وذات معنى، ولكنها تبقى هي خارج متناول الادراك لتفوقها وسعتها، كما ان الشمس تجعل كل شيء منظوراً ولكن لا يستطاع النظر اليها، لا لأنها مظلمة بل على العكس لأن نورها الساطع يحجبها عن النظر. يقول الكتاب بهذا المعنى أن ” اللّه ساكن في النور الذي لا يدنى منه ” .
انه لا يختبىء وراء غيوم “الغيب” ليحيرنا، انما نوره الباهر يمنع نظر العقل من التحديق اليه. يقول مارتين دارسي بهذا المعنى : “لا يمكن للمرء أن يرى اللّه… كما أنه لا يستطيع أن يحدّق في شمس الظهيرة. يمكن أن يلقي عليه نظرة، وهو يحمي عينيه، أو أن يعرفه بانعاكاسه على الأشياء. هذا ما يوحي بوجود… معرفة لوجود اللّه جانبية أو غير مباشرة…”.
معرفة اللّه، كمعرفة كل حقيقة كيانية تتطلّب استعداداّ كيانياً
لقد وصفنا حتى الآن علاقة العقل بقضية اللّه وكأنها علاقة عقلية مجردة، أو كأن العقل يتخذّ فيها مواقف يمليها عليه المنطق وحده، مواقف مستقلة عن الكيان الانساني الشامل بما فيه من ميول ومشاعر وارادة.
وبعبارة أخرى وصفنا علاقة العقل بقضية اللّه، وكأن هذه القضية نظرية مجردة كقضايا الجبر أو الهندسة. ولكن هذا ليس بصحيح ككل، لا في أبعاده العقلية وحسب بل الشعورية أيضاً، وتتطلب منه جواباً شاملاً يرتبط فيه موقف العقل الى جد بعيد بالموقف الشخصي العام.
والجدير بالقول ان هذا صحيح، ليس فقط بالنسبة لقضية اللّه، بل بالنسبة لمعظم القضايا. فالحقيقة في معظم الأحوال، تفترض، ليعترف بها، التزاماً كيانيا، لا سعياً عقلياً وحسب. صحيح ان الانسان قادر أن يرى الحقيقة اذا نظر اليها بعقله، ولكن المهم ان يريد ان ينظر. وقد قال الفيلسوف لابورت : ” لا يرى المرء الاّ ما ينظر اليه، وهو ينظر الى ما يشاء أن يتطلّع اليه “.
هكذا فموقفنا من الحقيقة لا بدّ وأن يتأثر، في معظم الأحوال، برغباتنا.
هذا يصح حتى بالنسبة الى الرؤية الحسية. فالانسان يرى من الكون ما يهمه، ويؤل المعطيات الحسية بموجب حاجاته وميوله. فكلنا يعلم اننا كثيراً ما لا نسمع من حديث يجري بقربنا الاّ ما يسترعي اهتمامنا، وان كلمات هذا الحديث تسمع أحياناً مشوهة لحاجة أو ميل في النفس. وقد أثبتت اختبارات علمية قام بها علماء النفس، خاصة بعد سنة 1945 ، دور الموقف الحياتي في الادراك الحسي، وفقد وجد لافين وشاين ومورفي أن أشخاصاً جائعين، اذا وضعوا أمام رسوم غامضة، يرون فيها، بنسبة أكبر من غيرهم، أشياء تتعلق بالطعام، أي أشياء تلائم حاجتهم الحاضرة. ووجد برونر وغودمان أنه اذا طلب من أطفال أن يقارنوا بين أحجام قطع نقدية وقطع مستديرة من الكرتون مساوية لها بالحجم، نجد معظمهم – وخاصة أولاد الطبقات الفقيرة – يضخمون حجم القطع النقدية، وذلك بسبب القيمة الشعورية التي للنقود عندهم وخاصة عند المحرومين منهم.
وقد قام اللبورت وبوستمان بالاختبار الطريف التالي:
لقد أظهرا على شاشة صورة تمثل عربة مترو في ضواحي نيويورك فيها زنجي وعامل أبيض يتشاجران، ويبدو العامل الأبيض حاملاً بيده اليسرى على مستوى زناره موسى حلاقة مفتوحة.
كان يطلب من كل فرد من الذين أخضعوا للاختبار أن يرى الصورة ثم يروي ما رآه فيها لشخص ثان وهذا بدوره يرويها لثالث وهلم جراً حتى الستة أو السبعة أفراد. وقد تبين أن كثيرين من الذين أجري عليهم الاختبار كانوا يصفون الصورة على انها تمثل زنجياً يهدد رجلاً أبيض شاهراً عليه موسى حلاقة، مما يدّل على أن هؤلاء سمعوا ما روي لهم وفقاً لميولهم العنصرية.
هذا المنظار الكياني الذي يلعب دوراً في المعرفة الحسية، كما رأينا، ليس غريباً عن ميدان الحقائق العلمية نفسها. فالسعي العلمي لا يستقيم ولا يثمر الاّ اذا كان البحث العقلي فيه مقروناً برغبة صميمية في تقصي الحقيقة وتقبلها، ولو خالفت الأهواء، ولو تعارضت مع الأفكار المسبقة والآراء المألوفة، ولو تطلبت جهداً ومشقة. هكذا فالنشاط العلمي يربط سعي العقل بمجهود الارادة.
وهذا يعني ان اقتبال حقيقة علمية أو رفضها لا يعود للعقل وحده. فتاريخ العلوم يبيّن ان نظريات علمية عظيمة أخصبت العلم ودفعته الى الأمام شوطاً بعيداً، كنظريات كوبرنيك في الفلك، ولافوازييه في الكيمياء، وباستور في علم الحياة، وانشتاين في الرياضيات، وفرويد في الطب النفسي، حوربت بضراوة من أقطاب العلم آنذاك، وذلك بسبب عجز هؤلاء الكياني عن تخطي نظريات ألفوها وتبنوها حتى صارت جزءاً من كيانهم وأصبحت اعادة النظر فيها جرحاً لكرامتهم ومجازفة تهدد طمأنينتهم.
وقد بيّن فرويد ان النظريات العلمية التي اصطدمت بأعنف مقاومة كانت تلك التي جرحت كبرياء الانسان في الصميم : أي نظرية كوبرنيك التي اضطرته الى التخلي عن الاعتقاد بأن أرضه مركز الكون، ونظرية داروين التي اظهرت ارتباطه بعالم الحيوان من حيث أصله، ونظرية التحليل النفسي التي كشفت له انه ” ليس سيداً في بيته ” لأنه واقع تحت تأثير قوى لا واعية نابعة عن عقله الباطن.
فاذا كان الموقف الشخصي، الكياني، يؤثر في ادراك الحقائق العلمية عينها، فهو يلعب ، ولا شك، دوراً أهم فيما يتعلق بالحقائق التي لها صلة بالحياة أوثق وأكثر صميمية، أي فيما يتعلق بالقيم الأخلاقية والروحية.
فان تلك الحقائق، التي ترسم للسلوك طريقه وتبرز معنى الوجود وغايته، تتحدى أنانيتنا المتأصلة في أعماق النفس، المغتذية برواسب الأوهام الطفلية التي كانت تجعل منا مركز الكون. انها تتطلب منا تنكراً لتلك الأنانية، واعترافاً صميمياً بأننا لسنا محور الوجود، واقراراً متواضعاً بأننا لا نكتمل الاّ اذا تخطينا ذواتنا بالانفتاح والمشاركة.
وبعبارة أخرى، فان قبول تلك الحقائق الخلقية والروحية يتطلب منا اعادة نظر شاقة، وأحياناً أليمة، في الكثير من مواقفنا الكيانية العفوية. فمن كان غير مستعد لاعادة النظر تلك، فالحقائق الخلقية والروحية، بالنسبة اليه، لغو وهراء :
” ألم يقل لايبنيز انه لو كانت الهندسة تعارض أهواءنا بقدر ما تعارضها الأخلاق، لكنا نعتنا براهين اقليدس وارخميدس بأنها أوهام ؟ ”
فكيف يمكن لانسان أن يقتنع مثلاً بأن البشر كلهم، على تعدد أجناسهم، وجدوا ليعيشوا كاخوة متساوين في الكرامة الانسانية الواحدة، ان لم يكن هذا الانسان قد تحرر قلبه من الكبرياء العنصري وشهوة التسلط، فمن كان غير متحرر من تلك الأهواء رفض فكرة تساوي البشر في الكرامة كأنها حماقة. لا بل قد يفلسف هذا الانسان موقفه العنصري ببراهين لها في الظاهر طابع علمي ولكن العلم الصحيح يتنكر لها ( هكذا حاولت المانيا النازية أن تسخر علم الحياة لتبرير نظرياتها العرقية، وهكذا أسيء تأويل نتائج روائز الذكاء في اميركا لتبرير احتقار الزنوج ) .
كذلك أنيّى لرجل هاجسه الأساسي الربح بأية وسيلة أن يقتنع بضرورة الاستقامة في المعاملات والاخلاص للمبادىء، ولو قدمت لاقناعه أقوى الحجج ؟
أم كيف السبيل لمن كان همّه الأكبر تكديس الأموال أن يعتنق مبدأ العدالة الاجتماعية ولو حاولوا أن يظهروا له علمياً بأنها في ” خط التاريخ ” ؟ أم كيف يمكن لانسان أن يقتنع بسمو التضحية ونكران الذات اذا كان، في قرارة نفسه، لا يقيم وزناً للغير ولا يهتم الاّ بذاته ؟
ولكن هذا الارتباط الوثيق بين مواقفنا الفكرية ومواقفنا الكيانية، الذي أوضحته تيارات الفكر المعاصر على أنواعها، من نيتشه الى الفلسفة الوجودية، ومن ماركس الى فرويد، هذا الارتباط وارد بشكل خاص فيما يتعلق بموقف الانسان من قضية اللّه .
ذلك لأن اعترافي باللّه يعني انني لست أملك شيئاً من ذاتي أو بالأحرى لا أملك الاّ عدمي طالما أن كياني لا يبرز من العدم في كل لحظة الاّ بفعل اللّه.
اعترافي باللّه يعني اعترافي بأن كياني ليس سوى هبة من اللّه وبعبارة أخرى انني لست موجوداً الاّ لأن اللّه يحبني ويوجدني. لا يمكنني، بالتالي، أن اعترف باللّه الاّ اذا كنت مستعداً استعداداً حياتياً، كيانياً، للاعتراف بتبعيته المطلقة. وبدون هذا الاستعداد الكياني لا يمكن لعقلي أن يقر باللّه، لا بل سوف يحاول بشتى الوسائل أن يتهرب من هذا الاقرار وسيتذرع بشتى الحجج لانكار اللّه.
كوستى بندلى
من كتاب السبل الى الله