لا يوجد في
عالمنا اليوم مَن يُقدِّس الجسد الإنساني كوجه إلهي للإنسان سوى المسيحية، ولو
أضفت المسيحية الأرثوذكسية بالذات؛ أكون قد سجَّلت الحقيقة التاريخية التي أتمنى
أن يحياها كل مسيحي وكل أرثوذكسي يعرف تراث وتسليم الأرثوذكسية المودَع في
صلواتنا، التي كانت، مع الأسفار المرجعية، هي الأولى التي استند عليها الآباء في
شرح الإيمان.
مَن يريد أن يشرب من ينبوع ماءٍ صافٍ نقيٍّ، عليه أن يصلي الإبصاليات لإسم الرب يسوع ( الابصالية هى ترتيلة فى الطقس القبطى للرب يسوع )، فهي صافية بعيدة عن صراع اللغات والألفاظ، سبقت عقد مجمع خلقيدونية 451م، بل سبقت مجمع نيقية 325م بعدة سنوات؛ لأن ملامح هذه القطع الفاخرة فيها صفاء ونقاء العهد الجديد نفسه.
مَن يريد أن يشرب من ينبوع ماءٍ صافٍ نقيٍّ، عليه أن يصلي الإبصاليات لإسم الرب يسوع ( الابصالية هى ترتيلة فى الطقس القبطى للرب يسوع )، فهي صافية بعيدة عن صراع اللغات والألفاظ، سبقت عقد مجمع خلقيدونية 451م، بل سبقت مجمع نيقية 325م بعدة سنوات؛ لأن ملامح هذه القطع الفاخرة فيها صفاء ونقاء العهد الجديد نفسه.
الكلمة أخذ لحمنا ودمنا
العبارة الرسولية: “الكلمة صار جسداً”، لها
شرحٌ رسوليٌ يصدم الذين يكرهون الجسد؛ إذ يقول رسول رب المجد: “ها أنا والأولاد
الذين أعطاهم الله لي”، وهي عبارة على لسان المسيح له المجد، سبقها بقوله إن الرب
“لا يستحي (أي
لا يخجل) أن
يدعوهم إخوة قائلاً أخبر باسمك إخوتي وفي وسط الكنيسة اسبحك” (عب 2: 11
– 13)،
فهو يسبِّح معنا في الكنيسة؛ لأنه رأس الكنيسة جسده الذي به يقدم التسبيح لله
الآب. أمَّا صدمة التجسد فهي
“إذ تشارك
الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له
سلطان الموت أي إبليس ويحرر (أو يعتق) أولئك الذين
خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل
حياتهم تحت العبودية” (عب 2: 14 – 15).
لقد أخذ
لحمنا ودمنا؛ لأن عبارة “اللحم والدم” كما وردت في الأسفار، تعني الإنسان كما هو
في الواقع، وليس لهذه العبارة علاقة بالخطية أو الشر كما ساد في مدارس المانوية
وشيع الغنوسية.
وعلى لسان
الرب يسوع نفسه يمدح بطرس ويقول له: “طوبى لك يا سمعان باريونا لأن لحماً ودماً لم
يُعلن لك ولكن أبي الذي في السموات”. ويقول رسول رب المجد بولس العظيم: “لم أستشر
لحماً ودماً”، بل حتى الولادة الجديدة من الله هي ليست “من دم ولا من إرادة جسد” (يوحنا 1:
13) أي ليست ولادة
جسدانية.
أمَّا
عبارة رسول رب المجد: “إن لحماً ودماً لا يقدر أن يرث ملكوت السموات ولا يرث
الفاسد عدم الفساد”، فقد سبق هذه العبارة نصٌ طويل عن تحول اللحم والدم في
القيامة، بل في السطر السابق على هذه العبارة: “وكما لبسنا صورة الترابي سنلبس
صورة السماوي”، وبعدها: “يُقام الأموات عديمي الفساد ونحن نتغير؛ لأن هذا الفاسد
لابد أن يلبس عدم فساد وهذا المائت يلبس عدم موت” (1كو 15: 41 – 54).
التحول العظيم والأخير للإنسانية في يسوع
المسيح
لقد أخذ الرب اللحم والدم؛ لأنه حسب التعليم الرسولي:
“من نسل داود حسب الجسد” (رو 1: 3)، ووُجِدَ في هيئة
الإنسان، وهي اللحم والدم والعظام؛ لأن الرب لم يحتقر الخليقة التي خلقها هو نفسه،
فهو خالق كل الأشياء، وخالق الجسد والنفس، وهو واهب الحياة لكل الكائنات (ليس
للمسيحيين فقط)،
فهو الكلمة اللوغوس رب الكون، مسيح الكون الذي جاء لكي يجمع كل شيء في كيانه
الإلهي المتجسد.
هو “من نسل داود حسب الجسد”، هذا في ولادته، ولكنه بعد أن جاز
وادي الموت، وقام حياً بالروح القدس كما شهد بذلك رسول رب المجد:” إن كان روح الذي
أقام يسوع ساكناً فيكم فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة بروحه
الساكن فيكم” (رو
8: 11)،
فقد حوَّلت القيامةُ مَن هو مِن نسل داود إلى الإنسان الجديد الذي لا ينتمي إلى
اليهود أو الأمم، بل الإنسان السابق على الخطية وشريعة موسى، “الخلقة الجديدة”،
ولذلك يبشِّر رسول المسيح الأمم قائلاً: “لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحداً
ونقض حائط السياج المتوسط (الذي كان يمنع الأمم من دخول الهيكل)، أي
العداوة (ولاحظ
قوة ودقة التعبير) مبطلاً بجسده ناموس أو شريعة الوصايا في فرائض (أي هدم
وساطة الشريعة الموسوية، والسبب) لكي يخلق الاثنين (اليهود والأمم) في ذاته أو
نفسه إنساناً واحداً جديداً صانعاً سلاماً”.
ثم يؤكد الرسول أن ذاك الذي من نسل
داود “يصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلاً العداوة به” (أفسس 2:
14 – 16).
(رجاء
مراجعة الترجمة القبطية فهي أدق بكثير من الترجمة العربية).
لقد صُلِبَ
ذاك الذي أخذ اللحم والدم؛ لكي يحوِّل في كيانه الإنسانية من آدم الأول إلى كيانه
بعد أن يحوِّل هو ذاته ذلك الكيان الإنساني الذي أخذه من القديسة مريم من فسادٍ
إلى عدم فساد، ومن موتٍ الى حياة، تحوُّلٌ تم في كيان الرب نفسه، وهو التحول الذي
جاء به الإتحاد الأقنومي.
التحول العظيم والأخير بسبب الإتحاد الأقنومي
هو تحوُّلٌ جعل الرب آدم الأخير. تحوُّل
الإنسان الأول من الأرض، أي الترابي إلى الإنسان الثاني الرب من السماء (1كو 15:
45 – 47).
لكن ذلك
التحوُّل ليس تحوُّلاً ميكانيكياً يتم بالولادة من القديسة مريم وبالاتحاد وحده؛
لأن هذا هو تحوُّلٌ يتم بالتسلط والقهر والاستبداد ونفي حرية الإرادة وسلب النمو
الإنساني، وهو تعبيرٌ عن النرجسية وليس المحبة الصادقة التي جعلت الرب يأخذ
“الفاسد” والقابل للموت؛ لكي يتركه ينمو حسب قوانين الجسد وحسب النمو الإنساني؛
لأن يسوع كان ينمو في النعمة والقامة عند الله والناس (راجع لوقا 2: 52).
لم يكن
التجسد شريعة استبداد واستيلاء وقهر، بل اتحاد ومحبة واخلاء للذات (فيلبي 2: 6).
لقد وضعت أم الشهداء هذا المعنى في سطرٍ واحد:-
“أخذ الذي
لنا وأعطانا الذي له”.
وخلف هذه
العبارة ملفات كثيرة عند أثناسيوس – غريغوريوس النزينزي – كيرلس الكبير وغيرهم من
أعمدة الايمان. وفي عبارة واحدة للقديس غريغوريوس النزينزي: “ما لم يتحد به لم
يُفتدَ ولم يخلُص”، أو إن شئنا دقة الترجمة فهي: “ما لم يأخذه ويتحد به لم
يُفتدَ”؛ لأن الفداء تم داخلياً في تحوُّل كياني يقابل فيه رب المجد الموت، القبر،
الفساد، ويبيد هؤلاء في جسده؛ لكي يتحول ذلك الناسوت القابل للموت إلى “جسد مجده” (فيلبي 3: 21)،
فقد أخضع كل شيء تحت قدميه، وأباد الموت والفساد في كيانه هو، وهو
ما نجده في رسالة أثناسيوس العظيم إلى أدلفوس، وفي الرد على الأريوسيين المقالة
الثالثة، وفي رسائل القديس كيرلس.
الإتحاد الأقنومي ليس شركة، بل هو إتحاد طبيعي
أو حسب الطبيعة
نحن نشترك في إلوهية الرب بسبب تجسده، فقد
اشترك هو في اللحم والدم، وأخذ الذي لنا. ولكن هذه هي عبارات القديس كيرلس الكبير:
“لسنا نقول
إن كلمة الله حلَّ في ذلك المولود من العذراء .. إذ صار جسداً، فلا يُقال عن حلوله
إنه مثل الحلول في القديسين، ولا نجد هذا الحلول فيه أنه يتساوى وبنفس الطريقة
كالحلول في القديسين، ولكن الكلمة إذ اتحد “حسب الطبيعة κατά φυσιν” لم يتغير إلى جسدٍ، فإنه حقق حلولاً يمكن أن يشبَّهُ بحلول نفس
الإنسان في جسده الخاص” (رسالة 17 رسائل القديس كيرلس – 1988 – مركز
الآباء ص 24 – 25).
الإتحاد
الأقنومي هو اتحادُ طبيعتين، وليس شركة طبيعية إلهية أو طبيعة إنسانية في طبيعة
إلهية؛ لأن تعبير الشركة خاصٌ بنا، وشركة الرب في اللحم والدم (عب 2:
14)، هي
خاصةٌ بالتجسد، وليست خاصة بالاتحاد الأقنومي؛ لأن الرب “وحَّدَ مع ذاته أقنومياً،
جسداً” (رسالة
4 ص 13 المرجع السابق).
وبسبب الاتحاد الأقنومي “المسيح يسوع ..
يكرَّم بسجدةٍ واحدةٍ مع جسده”، ولاحظ أن القديس كيرلس يقول بدقة:
“بإخضاع
جسده الخاص للموت، رغم أنه حسب الطبيعة هو الحياة، وهو ذاته القيامة؛ لكي بواسطة
قوته التي تفوق الوصف، إذ قد داس الموت أولاً في جسده الخاص، صار البكر من
الأموات (كو
1: 18)، وباكورة
الراقدين (1كو
15: 20)،
ولكي يعد الطريق إلى قيامة عدم الفساد أمام طبيعة الإنسان وبنعمة الله..” (المرجع
السابق ص 27-28).
فلم يكن
التجسد والصلب والقيامة تمثيلية، بل معايشة الله لكل حياة البشر، بل هي “لقد
وُلِدَ لكي يبارك بداية وجودنا ذاتها. وإذ قد ولدته امرأة وحَّد في ذاته الجسد
ليرفع اللعنة عن كل الجنس الإنساني..” (ص 34)، ولذلك يقول القديس كيرلس في الفصل
الثاني أو الحرم الثاني:
“ومَن لا
يعترف أن الكلمة الذي من الله الآب قد اتحد بالجسد أقنومياً، وهو مع جسده الخاص به
مسيحٌ واحدٌ، وأنه هو ذاته بوضوح إلهٌ وإنسانٌ معاً، فليكن محروماً” (ص 36).
وفي الفصل
أو الحرم الخامس يقول:
“مَن يتجاسر
ويقول إن المسيح حاملٌ لله وليس بالحري هو الله بالحق، والابن الواحد بالطبيعة، إذ
أن الكلمة صار جسداً واشترك مثلنا في اللحم والدم، فليكن محروماً” (ص 36-37).
الاتحاد الأقنومي والتدبير
“حسب التدبير” هي عبارة تُعدُّ من أهم مفاتيح
الفهم المستقيم للأرثوذكسية؛ لأنه (حسب التدبير) أقام الرب موتى، وهؤلاء سوف
يموتون من جديد، ولكنه أعلن قوة الدهر الآتي وقيامة الأموات قبل أن تحدث؛ لأنه –
حسب التدبير – يعطي لنا علامات الدهر الآتي مثل شفاء المرضى، رغم أننا سنموت بعد
ذلك، أو معرفة الأمور الآتية قبل أن تحدث.
بل لقد شرح الآباء معجزة إشباع الجموع
على أنها – حسب التدبير – هي علامة من علامات الدهر الجديد، حيث “الخبز النازل من
فوق من عند الآب”، أي جسد الرب ودمه، ولذلك قد يسبق الرب – حسب التدبير – ويعطي ما
سوف يُعطى كاملاً بعد القيامة مثل عطية الروح القدس الذي نأخذه الآن “عربوناً”،
ولكن في الدهر الجديد هو العطاء الكامل.
وعلى نفس
القاعدة اللاهوتية (حسب التدبير)، سبق الرب وأعطى جسده ودمه في العلية للتلاميذ
قبل أن يُصلب؛ لأن العطاء – حسب التدبير – يُعلَن في زمان العطاء وهو خميس العهد،
وعطاء قبل القيامة، ولذلك كانت كبوة كل حصان سريع الجري إلى أن هذا العطاء هو
عطاءٌ رمزي، تدل على تقسيم الرب نفسه حسب الزمان:
ما قبل وما بعد، بينما – حسب
التدبير – ما قبل، هو ما سوف يُعطى كاملاً، وما يعطى كاملاً هو ما بعد، ولذلك كان
عطاء الجسد والدم قبل سفك الدم على الصليب هو استعلان إرادة العطاء (عب 10: 10)؛
لكي يؤسِّس الفصح الجديد، وهو عطاءٌ حقيقي مثل قيامة الأموات قبل يوم القيامة، وهو
عطاءٌ يسبق فيه الرب ترتيب الزمان؛ لأن الزمان لم يعد له دورٌ في التدبير، فقد
فَقَدَ الزمان دوره لأن الإتحاد الأقنومي تم “في ملء الزمان” (غلا 4: 4)، وملء
الزمان، هو وصول الزمان إلى نهاية عمله.
فالزمان
حدد فصول الخلاص في العهد القديم، ووجود الأعياد، ولكنه بعد أن “حلَّ ملء اللاهوت
جسدياً” في يسوع (كو 2: 9)، صار لنا نحن “أنتم مملؤون فيه الذي هو رأس كل رياسة
وسلطان” (كولوسي 2: 10)، ولذلك ليس لدينا فصول “عيد أو هلال أو سبت”؛ لأن هذه هي
ظلال الأمور الآتية (كولوسي 2: 16 – 17).
وسبق
تحوُّل الماء الى خمر، تحوُّل الخبز والخمر في الوليمة السماوية.
وسبق حلول الروح
القدس على الرب نفسه، حلوله علينا في يوم الخمسين.
وسبقت قيامة الرب، قيامتنا نحن،
بل لقد صُلِبَ لكي نصلب نحن معه، ومات لكي نموت نحن معه، نموت قبل أن نموت لكي به
نقهر الموت.
هذه هي بعض
حقائق التدبير، وبعض ملامح التجسد والأخوة والأخوات ...عليكم دراسة رسائل القديس
كيرلس السكندري – تفسير إنجيل يوحنا – المسيح واحد – شرح تجسد الابن الوحيد – تجسد
الكلمة للقديس اثناسيوس – رسائل القديس ثناسيوس – الرد على الأريوسيين – وأخيراً
نشرت شبكة المعلومات المقالات الخمس ضد تجاديف نسطور وهي أدق تعليم عن كهنوت الرب
يسوع.
لقد سبَقتَ
ورسمتَ لنا – تدبيرياً – كل ملامح الدهر الجديد. جعلتَ الزمانَ يقف حائراً، فقد
خلقته لكي يشهد لك، لا لكي يحكمك.
لم تُرتِّب
خلاصاً زمانياً، بل حسب تدبير المحبة. وفي المحبة، الشِّركُ توحيدٌ، وبدون المحبة
الشِّركُ عمل الشيطان. الشيطان لا يعرف الشركة؛ لأنه لو عَرِفَ المحبة لَعَرِفَ
الله. ونحن يا رب المحبة لو تركنا المحبة؛ صرنا مرتدين عن محب البشر.
حَررِّنا
من سطوة الكلام، وسطوة الأفكار وأعطنا حرية المحبة.
د. جورج حبيب بباوي
1
مارس 2013
.coptology.com