الوحدة الداخلية

أن تستوحد، لغة واصطلاحا معا، هي ان تلتمس وحدتك بالله.
هو الذي يهبك وحدتك به.
فان انعزلت عنه لا تظن انك قد وصلت الى وحدتك. خارجا عن ربك انت مبعثر أو مشتت أو في كثرة داخلية أي توزع باطني.
وانت لا تصير الى كل هذا الا لكونك خشيت اللصوق به، ذلك اللصوق الذي يجعلك متحدا به عن طريق المحبة.
المحبة تفترض اثنينية ذاتك وذات اخرى . الاثنينية طريقك الى الوحدة التي هي تجاوز العدد. وحدانية الحب تجعل الاثنين واحدا في اللامنظور وغير المحكي. المحبة هي المقولة الواحدة التي تتجاوز انت بها العدّ حتى يصح قول الحكمة: "نحن روحان حللنا بدنا". 
في الوظيفة امسى الروحان روحا واحدة... ولكنهما تتوقان الوحدة. ليس المهم تعدد الكيانين بعد ان توحدا في الحب. المهم الحركة الوظيفية وان ترى ويرى الناس انكما امسيتما فكرا واحدا بمعنى التحرك الروحي الواحد.
من هذا القبيل يواجهنا السؤال: ما هو التوحيد في الله.
شغلني السؤال كثيرا حتى اهتديت الى هذا ان وحدة الله في ذاته وانه يفيض كيانه علينا بسبب من حبه لذاته وللكائنات التي ابدعها. لا يسوغ ان ننسب اليه ان محبته مبدعة ان كانت هذه فقط صفة فيه. يجب ان تكون ذاته هي المحبة ليبدع. 
المعنى المتحدي هو هذا: ان الرب لا يتصف بالحب. انه هو الحب لأن الحب عند الخالق كيانه وعند المخلوق فيض هذا الكيان.
هذا لنقول إن الحب داخلي ويأتي من النفس وتتكون هي به. ليس هو تراكم ناس جمعتهم المصلحة. هؤلاء يتشتتون أو يتخاصمون في العصبة التي تبدو جامعة لهم.
التلاقي في مدى واحد لا علاقة له بالمحبة. هي تلاقي قلوب قد يكون اصحابها بعيدين بعضهم عن بعض. والتلاقي الكبير كثيرا ما يصل الى الوحدة والى التوحيد حتى الانصهار. وهذا يسكبه الله على قلوب تتقارب واذا تقاربت كثيرا يصبح هو وحدتها.
استهللت هذا المقال بعنوان "الوحدة الداخلية". المتراكمون بعضهم على بعض أي المتلاقون في مكان واحد ليسوا متحدين بالضرورة.
الوحدة تنبثق من القلوب اذا تقاربت واذا عظم التقارب يصير وحدة. هذه نعمة من الله يهبها من يشاء ولا يقوى شيء عليها.
فاذا انسكب الرب برضاه على ناس يلهبهم حبا ويصيرون نفسا واحدة على تعدد اجسادهم. الوحدة ليست حزبا اية كانت طبيعته أو مضمون قوله، فالتفسخ كان دائما يكمن في وحدة الحزب أو الثورة.
اذا تاقت الكثرة الى الواحد تصبح روحا واحدة ويزول العدد وقوة العدد. البشر ليسوا واحدا بسبب من تجمعهم لأن كل انصهار من هذا النوع مؤقت اذ لا عمق فيه وما من دائم الا الحب والحب لا يصدر من تراكم الناس وتلاقيهم ولكن من روح علوية جاءتهم وجعلتهم واحدا.
فالتنظيم أي تنظيم لا يؤلف وحدة وجود أو وحدة تعاون، هو قسري بطبيعته لأنه املاء. وما من تنظيم في التاريخ المعاصر لم ينفرط. ان أية جماعة لم تتحد حتى تصير كنيسة أو شبه كنيسة يجذبها الخصام. الطوابير السياسية أو العسكرية لا فعل لها الا اذا سيرتها أوامر. هذه هي الطاعة الكذوب في الانسياق الى الخوف.
هذه الدنيا لا تقوم لها قيامة الا بالعنف أي بالبغض وتستمر الشعوب بالحروب انتصرت أو انغلبت اذ في بدء الانسانية كان القتل وبقي الحاكم الرئيس للعالم.
الخطيئة فاعلة في كل مكان حتى يظهر من يدعو القلة الى التوبة. والمجتمعات تتمزق باستمرار. لذلك قال داود النبي: "نجني من الدماء يا الله، إله خلاصي".
متى يعي الانسان ان لا حياة له الا اذا جلس حول مائدة الرب.
النخبة الروحية القليلة هي الخالصة والنعمة التي تحمل تخلص البشر اذا احبوها.
واذا صفا هؤلاء بالاسترحام والتوبة يبدأ الكون الجديد الذي تنحته النعمة وحدها ويحييه اللطف الإلهي النازل علينا من الروح.
النعمة تدعونا بإلحاح الى ذاتها واذا عانقتنا فنحن الى روح جديدة في كل انسان والى عالم جديد يكونه الأبرار. اما الاشرار فيبيدون انفسهم ويدمرون العالم.
العالم الجديد ينشئه الله بحبه لخلائقه. هو لا يريد ان يبقى وحده. فالله يمد نفسه الى خلائقه لينشئ بهم كونا جديدا. وما لم نهتد الى هذا الكون نبقى عتاقا حتى نهترئ. واذا تجملنا كثيرا يصبح كل منا انسان الله أي حبيبه. غير ان هذا يفترض ان نجدد انفسنا من الداخل.
الانسان داخله. ومن داخله تستمد بهاءك وأهل الداخل يصيرون امة الله ويعمرون الكون الجديد. ليست الاشياء الظاهرة مهمة عند هؤلاء. هم ساعون الى عمقهم الذي الله ساكنه.
المسعى ان نصير جميعا متكونين من داخل نفوسنا اذا الله سكنها. هذا معنى قولنا اننا امة الله التي تكونت حجارتها كلها من الرب الذي يبني عالم القلوب.
ما من عمارة روحية لهذا العالم بمواد العالم. وخارج الكون الداخلي ليس من شيء. ولكن ليس من عالم داخلي فيك الا هذا الذي ربك بانيه. وتبنيه مع الذين يحبون الله. هؤلاء يعملون مع ربك ليبنوك. فأنت تبنيك يدا الله وهما نعمته. والله لم ينته خلقه في اليوم السادس.ما كان هذا الا اشارة لاستمرار الخلق.
وهذا لا يعني مجموعة الناس والخلق فحسب. ان هذا يعني خلق ربك لقلبك. والقلوب اذا تحابت تصبح الكون الجديد. 

المطران جورج خضر 
2- مارس – 2013 
newspaper.annahar.com