تفسير المعجزات فى انجيل يوحنا - 1

تفسير المعجزات في إنجيل يوحنا عند آباء الكنيسة ومعلّميها
 -1-   مقدمة 

لقد كان العلاّمة أوريجينوس أول من فسر الكتاب المقدس بطريقة منظمة، ولدينا بعض المقاطع التفسيرية من عمله التفسيرى لإنجيل يوحنا (sc120. 157.222).
انطلق العلامة أوريجينوس أثناء تفسيره من أسس فلسفية معينة والتي بمقتضاها يرى أن هناك ثلاث مفاهيم للكتب المقدسة


* المفهوم الجسدى ويُقصد به التفسير الحرفى التاريخى.
* والمفهوم النفسى أى التفسير الأخلاقى الذي يبحث عن التعاليم السلوكية في الكتاب المقدس.
والمفهوم الروحى الذي يبرز المعنى العميق المخفى وراء الحرف.
 وعلى مفسر الكتاب المقدس أن يبحث عن المعنى الروحى ويكتشفه بواسطة المنهج الرمزى. ولأن المفهوم الروحى هو الأهم، لذا على المفسر أن يُصر عليه. 
ما يهمنا هنا كيف تناول أوريجينوس المعجزات في إنجيل يوحنا؟ 
لقد وضّح أوريجينوس على مستوى الحرف التاريخى ـ في تفسيره لإنجيل يوحنا ـ التعابير العسرة الفهم ولخص الإطار الروائى لكل مقطع من الإنجيل.
والمنهج الذي استخدمه أوريجينوس يمثل مفاجأة مدهشة للتفسير المعاصر. إذ قارن المعجزات عند يوحنا مع ما يوازيها في الأناجيل الثلاثة الأولى، واستنتج العلاقة بينهما بالنسبة لأوجه الاختلاف والتشابه.
إن ملاحظات أوريجينوس التحقيقية والأدبية قيّمة، والمنهج الرمزى الذي يطبقه بإسراف في تفسير المعجزات كان في البداية يستخدمه كمجرد دافع، ثم بعد ذلك ينصرف باستمرار إلى محتوى عقيدى ودفاعى عام وذلك خارج الإطار التاريخى لرواية المعجزة. 
على سبيل المثال في (يو36:4ـ53) عندما يفسر معجزة شفاء ابن خادم الملك، يعتبر خادم الملك هو إبراهيم الذي يتضرع إلى يسوع لكى يشفى ابنه إسرائيل المريض بمرض عضال.
 أيضًا عندما يفسر رمزيًا إقامة لعازر، يعتبر لعازر هو المسيحى الذي يريد أن يرجع إلى الحياة الأممية والذي يشار إليها في المعجزة بالقبر، بينما الأقمطة واللفائف التي رُبط بهما يشيران إلى الخطايا. والتوبة هى إمكانية خروج الإنسان من القبر حيًا.
 أما مسألة بقاءه مربوطًا حتى بعد خروجه من القبر تشير إلى مُهمة الكنيسة في أن تحل المربوطين
إن تفسير العلامة أوريجينوس له أهمية بالحرى لتاريخ التفسير والتعاليم اللاهوتية المنظمة وليست للمنهج النقدى التاريخى.
 ومن الجدير بالملاحظة أن مركز التفسير عند أوريجينوس هو المسيح وخلاص الإنسان بواسطة المسيح. وبالرغم من أن أوريجينوس يستخدم دائمًا المنهج الرمزى بطريقة تبدو متطرفة إلاّ أنه ينتهى دائمًا إلى نتائج عقيدية صحيحة. 

القديس يوحنا ذهبي الفم

أما تفسير القديس يوحنا ذهبى الفم لإنجيل يوحنا[1] وبعض الأحاديث التي ألقاها في الأعياد عن معجزات الإنجيل خاصةً إقامة لعازرفهى متوفرة لدينا. وذهبى الفم كأنطاكى أصيل ـ عكس أوريجينوس ـ أصّر على تفسير المعجزات داخل الإطار التاريخى لها واعتاد على تفسير الكلمات والتعابير على أساس ورودها في أماكن أخرى من الكتاب.
 فمثلاً عندما فسر سؤال المسيح لأمه في (يو4:2) " مالى ولك يا امرأة" أخذ يوضح هذا الأمر بشواهد إنجيلية أخرى عن أم يسوع وذلك لكى يشرح العلاقة بين يسوع وأمه، وعلى ضوء هذه العلاقة فسر سؤال "مالى ولك يا امرأة". 
على الجانب الآخر، لم يفتش هذا المفسر العظيم على أى مفهوم روحى عميق يُفترض أن يكون مخفيًا خلف النص التاريخى كما فعل أوريجينوس وبقية آباء مدرسة الأسكندرية، لكن اعتبر كل حقيقة عقيدية مرتبطة بشدة بالسياق التاريخى لها على حدة.
 هذا التوّجه التاريخى الشديد في تفسير ذهبى الفم أعطى أحيانًا ملمح دفاعى، إذ حاول هذا الأب أن يدافع عن تاريخية معجزات إنجيل يوحنا ومقارنتها بما يماثلها في الأناجيل الثلاثة الأولى منتهيًا إلى نتيجة مفادها أن الإنجيلى يوحنا كان يكمل عن وعى وإدراك الأناجيل الثلاثة الأولى بأمور حدثت في حياة المسيح لم تُكتب في هذه الأناجيل الأولى. 
لقد كان القديس ذهبي الفم ميالاً بشدة لإظهار المصداقية التاريخية لمعجزات المسيح، لدرجة أنه كان لديه ميل أو اتجاه لتجنب التفسير النماذجى، إلاّ أنه استخدمه لكى يربط عطية المسيح بالنعمة التي تُمنح للمؤمنين في الكنيسة بواسطة الأسرار [2]
إن الموضوع المحورى في تفسير ذهبى الفم هو المسيح، وأيضًا هناك بُعد آخر في تفسير ذهبى الفم هو بُعد التعاليم السلوكية الأخلاقية، فهو دائمًا يستنبط من حوادث المعجزات رسائل أخلاقية. إن تفسير ذهبى الفم هو مفيد للمنهج التحقيقى المعاصر وذلك لأن كل كلمة في النص يضعها في إطارها التاريخى ويفحصها بمفهوم دقيق. 

القديس أغسطينوس: 

لدينا أيضًا تفسير كامل لإنجيل يوحنا للقديس أغسطينوس الذي برهن على أنه ليس فقط لاهوتى عقيدى عظيم بل هو أيضًا مفسر عظيم للكتاب المقدس.
 إن العهدين القديم والجديد يمثلان لدى أغسطينوس وحدة لا انفصال فيها، إذ يُعبران عن خطة العناية الإلهية ويقودان إلى المسيح.
 في هذا الإطار، شرع أغسطينوس في ربط مقطع من إنجيل يوحنا بالعهد القديم، وبرهن على سمو العهد الجديد (في المسيح) في علاقته بالعهد القديم.
عندما فسر ـ على سبيل المثال ـ عرس قانا الجليل أظهر أن النبوة في العهد القديم لها طعم المياه لو فهمناها مستقلة بمفردها، ولها طعم الخمر لو فُهمت ونُسبت إلى المسيح.
أيضًا تفسيره لبركة بيت حسدا على أنها الشعب اليهودى والأعمدة الخمسة هم أسفار موسى الخمسة التي ليست لها إمكانية لشفاء البشر. يستطيع فقط الملاك، الذي هو المسيح نفسه أن يشفى الشعب الآتى للبركة. ولكى يربط أغسطينوس العهد القديم بالجديد وكذلك العهد الجديد بعصر الكنيسة استخدم التفسير الرمزى وقد وصفه بالسرى. 
وكمثال للتفسير الرمزى لأغسطينوس اعتبر الحجر الذي غطى قبر لعازر هو الناموس، ولعازر الميت هو الإنسان الخاطئ. وتعبير " ارفعوا الحجر" (يو39:11) تعنى "اكرزوا بالنعمة" وفي نفس السياق فإن وصية المسيح "حلّوه ودعوه يذهب" (يو24:11) تخص هؤلاء الذين لديهم سلطان حل الخطايا على الأرض (راجع مت18:18، يو23:20).
 والجدير بالملاحظة أنه بالرغم من استخدام أغسطينوس للتفسير الرمزى، إلاّ أنه لا يغيب عنه السياق المحدد للنصوص التي يفسرها. كل لفظة تفصيلية ذكرها الإنجيل لها مفهوم عميق عند أغسطينوس ويدعو القارئ دائمًا لاكتشافها. 
إن الأحداث التي ترد في الإنجيل ما هى إلاّ الغذاء الروحى الذي يقوى ويساعد القارئ لكى يصل إلى الغاية المرجوة التي هى المفهوم العميق للأحداث. لذلك فإن أعمال المسيح وخاصةً المعجزات هى كلام خاص يشير إلى أمر أعمق من ذلك الذي تُظهره لأول وهلة. إن رمزية أغسطينوس تذكرنا بأوريجينوس إلاّ أنه أكثر اعتدالاً منه. 
أيضًا البُعد الهام للتفسير الرمزى ـ السرى عند أغسطينوس، هو علم الأرقام والذي يتيح له مكانًا كبيرًا في تفسيره لإبراز الأهمية العميقة له في روايات الأناجيل. فمثلاً الستة أجران في معجزة قانا الجليل ترمز إلى ستة فترات زمنية للتاريخ البشرى حتى مجئ المسيح. 
إن هدف تفسير أغسطينوس هو الكلام عن الأساس الكتابى للتعليم العقيدى آخذًا النصوص أساسًا لذلك، لذا فإن محور عمله التفسيرى هو شخص المسيح وأهميته للإنسان الخاطئ.
 بالرغم من أن منهج أغسطينوس التفسيرى يبتعد عن مسألة النقد التاريخى، لا يمكن لأى دارس لعمله التفسيرى عن إنجيل يوحنا أن يتغافل عن أن هذا الأب شرح التعاليم اللاهوتية لإنجيل يوحنا شرحًا صحيحًا واضعًا في المركز شخص المسيح وعمله الخلاصى، بالرغم من أن تفسيره الرمزى والرقمى عادةً لا يتماثل مع المقاصد اللاهوتية ليوحنا الإنجيلى. 

مار افرام السرياني: 

إن تفسير مار إفرام السريانى لإنجيل يوحنا يمثل مساهمة هامة في علم اللاهوت الكتابى.
 لقد اتبع إفرام الطريقة النماذجية الخاصة بالمدرسة الأنطاكية، وأزال أيضًا غموض السياق التاريخى لكل نص يفسره، لكنه في نفس الوقت اعتبر الأقوال التي في الأناجيل هى بالحرى إشارات وليست رموز، بمعنى أنه ضيّق نطاق النماذج والرموز العظيمة التي تحققت في شخص المسيح وعمله وفي عصر الكنيسة.
 هكذا يرى في معجزة تحول الماء إلى خمر، أن في الخمر دخول عجيب للطبيعة البشرية في رحم العذراء. أيضًا عدم شفاء مريض بركة حسدا يشير لعدم الكفاية الخلاصية للناموس، بينما اغتسال المولود أعمى في بركة سلوان يشير إلى أن عطية المعمودية المحيية تنبع من المسيح وليس من عنصر المياه.
 لقد استند ـ في تفسيره ـ على مبدأ وحدة رسالة الكتاب المقدس ذاكرًا كلمات وتعابير منفصلة عن بعضها وربط بين معجزات العهد القديم وبين علامات العهد الجديد قاصدًا إلقاء الضوء على بعض المقاطع الإنجيلية الصعبة.
على الجانب الآخر، ينبع تفسير إفرام السريانى من التقليد النسكى الذي نشأ عليه، لقد قاده من جهة إلى نظرة نسكية للكتاب والتي ترتبط دائمًا بالصياغة الدقيقة لعقيدة الكنيسة، ومن جهةٍ أخرى إلى عدم التركيز على الأبعاد العملية والأخلاقية لرسالة الإنجيل.
 داخل هذا الإطار يشدد إفرام السريانى ـ في كل مناسبة ـ على ألوهية وناسوت المسيح (7:12)، وأيضًا على عمل المسيح الخلاصى للعالم والذي يراه مستمرًا بواسطة نشاط الرسل وبواسطة اشتراك المؤمنين في أسرار الكنيسة.
هكذا فالمياه المضطربة التي مشى عليها المسيح في البحر تشير إلى طريق الرسل التبشيرى، بينما الخبز الذي باركه المسيح حين أشبع خمسة آلاف نفس، والماء الذي تحول إلى خمر في عرس قانا الجليل هما مثالان للإفخارستيا. 
إن تفسير إفرام السريانى يمثل فهمًا أرثوذكسيًا لإنجيل يوحنا من منظار الحياة النسكية التي عاشها واختبرها. 

الدكتور / جورج عوض ابراهيم
دكتوراة فى العلوم اللاهوتية
باحث فى المركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية 


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] PG 59, 23-481. 
[2] لذا يعتبر ذهبى الفم مثل أغلب الآباء بركة بيت حسدا إشارة إلى المعمودية.