تفسير المعجزات في إنجيل يوحنا - 5

تفسير المعجزات في إنجيل يوحنا  عند آباء الكنيسة ومعلّميها 
- 5-  معجزة مباركة الخبز ” إشباع الجموع” 

ملاحظات إفتتاحية: 
إن معجزة إشباع الجموع تنتمي إلى عرض متسع ينفرد به الإصحاح السادس، هذا العرض يصل إلى ذروته من خلال معجزتين قام بهما المسيح، بالإضافة إلى حديث للمسيح يُعلن فيه ذاته في الجليل،



 وكذلك وصف رد فعل اليهود والتلاميذ على هذا الإعلان. يحتوي هذا العرض على أربعة أجزاء: 
أـ نص مباركة الخبز وإشباع الجموع (يو1:6ـ15). 
ب ـ نص معجزة سير المسيح على المياه (يو16:6ـ21). 
ج ـ نص حديث المسيح الهام عن خبز الحياة (يو22:6ـ59). 
د ـ وصف رد فعل التلاميذ واليهود (يو6:6ـ71). 
نستطيع أن نرى في هذا العرض المتسع هذه المواضيع الأساسية: 
أ ـ المسيح يمنح الحياة بطريقة عجيبة (المستوى الخلاصي). 
ب ـ يمنح المسيح الحياة لأنه هو نفسه الحياة ذاتها إذ هو الله (المستوى الخريستولوجي). 
ج ـ التلاميذ واليهود عامةً لم يكونوا يدركون أن شخص الرب يسوع هو مُعطي الخلاص وحده، إذ كانوا محبوسين في قناعاتهم ورغباتهم الشخصية. وفي نهاية الإصحاح السادس يعترف التلاميذ بلسان بطرس بثقتهم في شخص المسيح: " يا رب إلى مَنْ نذهب. كلام الحياة الأبدية عندك، ونحن قد آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي" (يو68:6ـ69). 
إن نص مباركة الخبز وإشباع الجموع: يحوي الأقسام التالية: 
أـ مقدمات معلوماتية (يو1:16ـ4). 
ب ـ المسيح والتلاميذ (يو5:6ـ10). 
ج ـ إجراء المعجزة (يو11:6ـ13). 
د ـ رد فعل التلاميذ واليهود ونتائجه (يو14:6ـ15). 

أـ مقدمات معلوماتية

في (عدد1) يترك المسيح أورشليم بعد تصادمه مع اليهود عقب معجزة شفاء المقعد يوم السبت، المُشار إليها في الإصحاح الخامس، ثم يصل إلى بحيرة مدينة طبرية التي بُنيت سنة 26 بعد المسيح بواسطة هيرودوس أنتباس في غرب ميناء جينيسارت وسميت هكذا تقديرًا للإمبراطور طيباريوس كما يخبرنا يوسابيوس المؤرخ.
وكان المسيح قبل هذه الآية قد صنع من قبل آيتين: معجزة عُرس قانا الجليل (تحويل الماء إلى خمر) الواردة في (يو1:2ـ11) والثانية "شفاء ابن خادم الملك" الواردة في (يو46:4ـ54).
 أما الآية الرابعة فهي مباركة الخبز وإشباع الجموع الواردة في (يو1:6ـ15) والتي يصفها الإنجيلي يوحنا وصفًا رائعًا ـ هذه المعجزة صنعها في إطار نشاطه المتسع في منطقة الجليل:
 " وتبعه جمع كثير لأنهم أبصروا آياته التي كان يصنعها مع المرضى" (يو2:6)، لذا تمثل هذه المعجزة قمة نشاطه هناك، وهذه المعجزة تواجه اليهود بمسألة "من هو المسيح"، "وما هو معنى عمله الإعجازي" (أنظر يو14:6، 15، 30، 31، 41، 42، 52، 60). 
والإجابة على هذه المسألة قد قدمها الإنجيلي في حديث المسيح عن " خبز الحياة"، حيث يعلن ذاته أنه "الخبز النازل مِن السماء" (يو50:6). أيضًا في (عدد2) يخبرنا الإنجيلي أنه تبعه (جمع كثير) بسبب معجزات الشفاء التي صنعها.
 إذن سر تبعية الجموع ليس لأنهم عرَّفوا حقيقة شخص المسيح لكن لأن المسيح ـ في نظر الجمع ـ يغطي إحتياجاتهم المعيشية، ونجد هذا في الأعداد 22ـ25 كما يشرحها القديس يوحنا ذهبي الفم[1]، أن غياب الإيمان الحقيقي والفهم من جانب الجمع الذي تبع المسيح يبدو أيضًا من إستخدام صفة "كثير" والتي تُستخدم دائمًا في إنجيل يوحنا عندما يتحدث عن الإيمان الخاطئ لليهود. 
والجدير بالملاحظة أن الإنجيلي يستخدم صفة "كثير" في سياق الحديث عن قساوة اليهود وعدم إيمانهم بالرغم من الإيمان الظاهري: انظر مثلاً (يو23:2. يو60:6، 66. يو31:7. يو30:8. يو 20:10، 41ـ42. يو45:11. يو9:12ـ13، 42).
 فالإيمان الحقيقي وفق التعاليم اللاهوتية للإنجيل الرابع يمكن أن يحدث بعد قيامة المسيح وعطية الروح القدس، هذا هو الوضع العادي وإن كان هناك قليلون قد أمنوا بالمسيح أثناء خدمته على الأرض.
 أما "الكثيرون" فكانوا يرفضون تعاليم المسيح وشخصه ويظلون غير مشاركين في الحياة التي تنبع منه (راجع يو9:1ـ12).
 إن الموقف الإيجابي العميق الصحيح تجاه المسيح وآياته التي يفعلها قد ذكره الإنجيل في يو29:6. " هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله"، أي الإعتراف بوحدة الجوهر بين المسيح والله الآب وبأنه مُرسل من الآب. 
إن صعود المسيح إلى "الجبل" مع التلاميذ في عدد3 يشير بطريقة غير مباشرة إلى جبل سيناء حيث إستلم موسى الوصايا، لذا يمثل هذا الصعود عنصرًا في المقارنة بين موسى والمسيح في سياق المعجزة (راجع خر20:9، 15:24، انظر يو17:1). 
كان الإصحاح الخامس قد قدم المسيح بشكل نبوي إذ أشار المسيح إلى موسى كشاهد نبوي له: " لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني. فإن كنتم لستم تصدقون كُتب ذاك فكيف تصدقون كلامي" (يو46:5ـ47). 
إن المقارنة المباشرة بين المسيح وموسى تصير بواسطة معجزة مباركة الخبز وإشباع الجموع والتي فيها يظهر أنه يعطي ما هو أعظم من المن (خر16) وفي الحديث عن خبز الحياة حيث المسيح يختلف جذريًا من جهة الطبيعة في شخصه وعطيته عن موسى (انظر يو32:6ـ35، 49ـ51).
 والجدير بالملاحظة أن مقارنة يسوع بموسى لم نقتصر فقط على الإصحاح السادس (انظر يو19:7ـ23. يو28:9ـ33)، وكذلك مقارنة يسوع بأمثلة أخرى من العهد القديم مثل يعقوب (انظر يو11:4ـ14) وإبرآم (انظر يو52:8ـ58).
 أيضًا مسألة أن المسيح يجيء إلى مكان ويظل ثابتًا فيه ثم بعد ذلك يقبل إليه الجمع هو أمر معتاد عند يوحنا، إذ يضع يسوع تعليميًا لاهوتيًا في مركز الرواية.
 أما تحرك المسيح في عدد 11 فهو لكي يبارك الخبز ويعطيه للتلاميذ، وكذلك في عدد 15 تحرك لكي يتجنب نتائج موقف خاطئ تجاه شخصه (راجع يو17:11، 38، 45). وإنه أمر شيق في حديث الإنجيلي عن قيامة لعازر أن يظل المسيح من يو17:11 حتى عدد37 في نفس المكان بينما مرثا ومريم واليهود يتحركون نحوه كل في دوره، وهكذا فإن المسيح هو الشخص المحوري في أثناء سرد المعجزة. 
إن ملاحظة عدد4: أن عيد الفصح يقترب يضع الرواية في سياق لاهوتي عن موت المسيح الكفاري وتأسيس سر الإفخارستيا ـ كما يرى البعض ـ حيث أن الحمل الذي صار ذبيحة هو المسيح نفسه. 
أما في حديثه عن خبز الحياة والذي يأتي بعد معجزة إشباع الجموع فإن المسيح يعلن ذاته على أنه خبز الحياة النازل من السماء، ويقدم جسده ذبيحة لخلاص العالم (انظر يو33:6، 35،38ـ40. يو51:47).
 داخل هذا الإطار اللاهوتي للحديث فإن المسيح يعطي غفران الخطايا، كما ورد أيضًا في الأناجيل الثلاثة الأولى في إطار العشاء السري (انظر مت26:26. مر22:14. لو19:22) حيث يتم الربط بين موت المسيح وحضوره في الخبز والخمر الإفخارستي، والأبعاد الخلاصية لموت المسيح الكفاري والإشتراك الإفخارستي في جسده ودمه. 

ب ـ المسيح والتلاميذ (يو5:6 ـ10): 

فرفع يسوع عينيه ونظر أن جمعًا كثيرًا مُقبل إليه فقال لفيلبس من أين نبتاع خبزًا ليأكل هؤلاء” (يو5:6). 
لقد كان الرب يسوع موجودًا على الجبل فرفع عينيه ورأى جمع من الناس يصعدون إليه. الرب يسوع هنا يختلف عن الجمع، إذ هو موجود في مكان أعلا.
 ووصف الجمع بأنه "كثير" لا يدل على الكم فقط بل يدل أيضًا أن هذا الجمع يطلب في شخص المسيح أن تُسد له كل الإحتياجات اليومية التي يحتاجها، وبالرغم من أنه يعاني من الجوع في واقع الأمر، إلا أنه لا يعرف شيئًا عن الحياة الأبدية التي يعطيها المخلص.
لذلك، بواسطة المعجزة وحديث الرب عن خبز الحياة، سيحدث إنتقال من المستوى الجسدي للإحتياجات اليومية إلى المستوى الروحي لنوال الحياة الأبدية. 
يبادر المسيح إلى إبراز مشكلة إطعام الجمع وذلك بسؤاله الذي طرَّحه على فيلبس: " من أين نبتاع خبزًا ليأكل هؤلاء".
 لذا يرى القديس كيرلس الأسكندري أن هناك مفارقة بين قول المسيح هذا وقول موسى في سفر العدد13:11 "من أين لي لحم حتى أُعطى جميع هذا الشعب"[2].
 والسبب الذي جعل المخلص يطرَّح هذا السؤال هو أن يضع التلاميذ في مواجهة مع المشكلة لكي يُدركوا مدى ضعفهم أمام هذه الحالة الصعبة ليختبر إيمانهم.
 هكذا أراد أن يظهر لهم قدرته التي لا يحدها أي ظروف مادية، ويعلن بهذه الطريقة مجده. والقديس كيرلس يشرح مبادرة المسيح قائلاً: " مرة أخرى، يتيح المسيح لتلاميذه درسًا آخرًا أكثر سموًا، هو أنسب ما يكون للقديسين، لكي يحثهم على قهر الجُبن في ما يتعلق بحب الضيافة أثناء الضيقات الشديدة"[3].
 والجبل العالي عند القديس كيرلس له دلالة لاهوتية، إذ يقول:
إن أولئك الذين يطلبونه بغيرة صالحة وإيمان، يراهم الله بسابق علمه، كما من جبلٍ، أي من سابق عِلمه الإلهي العالي، بحسب ما قاله بولس: " لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة إبنه...فهؤلاء دعاهم أيضًا" (رو29:8ـ30)[4].
 أما لماذا سأل الرب يسوع فيلبس، على الرغم من أن بقية التلاميذ كانوا واقفين بجواره وملاصقين له؟ يجيب القديس كيرلس، قائلاً: " كان فيلبس مستفسرًا ومحبًا للتعلّم، لكنه لم يكن فائق السرعة في القدرة على الفهم الفوري للأمور الإلهية"[5].
ويؤكد القديس كيرلس هذا الأمر بقوله إن فيلبس بعدما تجمعت لديه دروس عديدة تخص ألوهية المسيح، إلا أنه يسأل الرب قائلاً: " يا رب أرنا الآب وكفانا" (يو8:14).
لذا أراد يسوع أن يمتحنه كما يقول النص لكي يُدرِّبه على الإيمان. ورد فعل فيلبُس: " لا يكفيهم خبز بمئتي دينار" يدل على أنه كان ينظر إلى المال كوسيلة وحيدة، غير مدرك لقدرة الله التي تستطيع إنجاز كل شيء بشكل يثير العجب.
والوفرة الفائقة لعطية يسوع والتي نراها فد عدد 13 تأتي في تضاد لضعف فيلبس في إيجاد حل لمشكلة إشباع الجموع. وعن طريق هذه المعجزة يعطي الرب الإجابة الشافية لسؤاله "من أين نبتاع خبزًا لهؤلاء" بقوله " أنا هو خبز الحياة" في عددي 9،8: " قال له واحد من تلاميذه وهو أندراوس أخو سمعان بطرس. هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان. ولكن ما هذا لمثل هؤلاء". 
وملاحظة يوحنا الإنجيلي بأن أندراوس هو واحد من تلاميذ يسوع، تدَّل على أنه بالرغم من أن التلاميذ كانوا دائمًا بالقرب من يسوع، إلا أنهم ما زالوا لا يفهمون معلمهم.
 ويرى القديس كيرلس أن عدم إيمان التلاميذ قد أظهر قدرة المخلص بشكل كبير، وأنه قد تمم عمل محبته نحو الجموع بغنى فائق[6]. وبالرغم من أن كلٍ من أندراوس وفيلبس في الأصحاح الأول ليوحنا (يو41:1، 45) إعترفا بأن يسوع هو المسيا، إلا أن إيمانهما كان سطحيًا ولم يتعمق بعد، كما يبدو من عدم قدرتهم على إدراك يسوع في حديثهما معه قبل حدوث المعجزة.
 وهنا نتذكر أيضًا مرثا وبطرس، بالرغم من أنهما أعترافا بالمسيح (انظر يو68:6، 69. يو27:11)، إلا أنهما عمليًا كانا غير ثابتين في إيمانهما. أما بعد قيامة الرب وعطية الروح القدس فقد أدرك التلاميذ مجد الله في كل ما تممه المسيح من معجزات، وصار إيمانهم به عميق وثابت. 
حسنًا أراد أندراوس بملاحظته التي ذكرها الإنجيلي يوحنا " هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان" أن يجد مخرجًا لحل مشكلة إطعام الجمع، وفي نفس الوقت تدَّل هذه الملاحظة على عدم إدراكه لحقيقة الرب يسوع؟ وماذا يستطيع أن يفعل؟ 
كما تُذكِّرنا معلومة أن الخبز من شعير، بمعجزة مباركة خبز الشعير بواسطة إليشع النبي (انظر 2ملوك42:4ـ44) كما يقول ذهبي الفم (PG59,241).
وسؤال أندراوس: " ما هذا لمثل هؤلاء؟" يتماثل مع ما قاله خادم إليشع: "هل أجعل هذا (الخبز) أمام مئة رجل" (2ملوك34:4).
 هنا يظهر الفرق الكبير بين المسيح وإليشع، فالمسيح قُدِمَ له خمسة خبزات فأشبع خمسة آلاف رجل، أما إليشع فأُعطِيَ له عشرون رغيفًا فأشبع مائة رجل فقط. 
في عدد10: " فقال يسوع إجعلوا الناس يتكئون. وكان في المكان عُشب كثير. فاتكأ الرجال وعددهم نحو خمسة آلاف".
 يعطي الرب المبادرة لحل مشكلة إطعام الجمع، تلك المشكلة التي لا حلَّ لها في نظر التلميذين بسبب صعوبة الظروف المادية المحيطة بهم. ويبدو أن أمر المسيح بأن يجعلوا الناس يجلسون كان غير مفهوم بالنسبة للتلاميذ. وملاحظة يوحنا " وكان في المكان عُشب كثير" تشير إلى صورة الرب يسوع كراعٍ صالح يقود الخِراف إلى الحياة الأبدية (انظر يو10:10، 28) وإلى (مزمور1:23ـ 2): " الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء في مراعٍ خضر يربضني". 
وصورة الشعب الجالس على العُشب تأتي في مقابل مسيرة الشعب في البرية تحت قيادة موسى النبي. ولكي يشدد على عظمة المعجزة يذكر الإنجيلي عدد الرجال خمسة آلاف فيما عدا طبعًا النساء والأطفال، كما هي عادة اليهود في الإحصاء، إذ يحسبون الرجال فقط[7]

جـ ـ إجراء المعجزة: (يو11:6)

"وأخذ يسوع الأرغفة وشكر ووزَّع على التلاميذ وأعطوا المتكئين. وكذلك من السمكتين بقدر ما شاءوا". 
إستخدام فعل "شكَرَ" في إطار الحديث الإفخارستي الوارد في نفس الإصحاح عن خبز الحياة يجعلنا ننظر للمعجزة ونفهمها فهمًا إفخارستيًا.
 هكذا فعل "شكر" في إنجيل يوحنا هو بمثابة مصطلح يدل على الإفخارستيا أي الشكر الذي أتمه الرب، لذا نرى في عدد 23 من نفس الإصحاح يقول يوحنا "جاءت سفن من طبرية إلى قرب الموضع الذي أكلوا فيه الخبز إذ شكر الرب".
 والجدير بالملاحظة أن القديس كيرلس الأسكندري يرى أن الشكر هنا يعني البركة، إذ يقول {لكن جدير بنا أن نلاحظ أنه بدلاً من " شكر" يقول متى البشير "بارك" (مت19:14).
 ولكن كتابات القديسين لا تتعارض بأي حال من الأحوال، لأن بولس سوف يوضح أن كلا الأمرين واحد، قائلاً " كل طعام الله جيد، ولا يُرفض شيء، إذا أُخذ مع الشكر لأنه يقدس بكلمة الله والصلاة" (1تي4:4،5). لكن ذاك الذي يُقدس بالصلاة في توسل، وهو ما نفعله دائمًا على المائدة، هو بالتأكيد يتَباَرك}[8]
إن يسوع بنفسه يوزع الخبز الأمر الذي شدَّد عليه يوحنا الإنجيلي، لكي يعلن أن يسوع هو نفسه الخبز الذي يمنَح لمن يتناوله الحياة الأبدية، وإقتصر دور التلاميذ على تجميع بقايا الطعام لكي يتحققوا بهذه الطريقة من مدى عظمة هذه المعجزة.
كذلك تمت البرهنة على أن يسوع ليس مثل أي نبي في العهد القديم بل هو يمتلك السلطان المطلق على صنع المعجزة. 
فالمقارنة بين هذه المعجزة والضربة الثامنة للمصريين أيام موسى (انظر خر1:10ـ20)، توضح مدى عظمة يسوع، فموسى أصاب المصريين، الذين كان لديهم وفرة في الأطعمة والأغذية، بالقحط، بينما يسوع يمنح الطعام الوفير للذين لم يكن لديهم طعام ليأكلوا.
 والوفرة الغنية للخبز الذي منحه يسوع يظهر من الملاحظة التي ذُكرت حين قال: "بقدر ما شاءوا".
 وهذا الأمر هو الرد العملي على حيرة فيلبس حين قال ليسوع: " لا يكفيهم خبز بمئتي دينار ليأخذ كل واحد منهم شيئًا يسيرًا" (يو7:6). وعندما نقارن أيضًا بين هذه المعجزة ومعجزة المَنْ (انظر عدد22:11، خر16:16)، وكذلك معجزة إليشع النبي (انظر2ملوك42:4ـ44) نتحقق من الفيض والوفرة في المعجزة التي أتمها يسوع. 
إن يوحنا الإنجيلي بنفسه يفسر معجزة "إشباع الجموع" لاهوتيًا في حديثه عن خبز الحياة، الحديث الذي يشمل أربعة أبعاد أساسية وهامة لفهم المعجزة، هذه الأبعاد هي: 

يمنح يسوع الحياة الأبدية بواسطة آلامه الخلاصية مقدمًا جسده ذبيحة لأجلنا، والخبز الوفير في المعجزة يشير لهذا الأمر، إذ أن الخبز يرمز إلى الحياة " إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يو15:6). 
آلام يسوع ترتبط بالإفخارستيا، فالرب المصلوب الذي أعطى جسده وسكب دمه لكي يمنح الحياة للبشر، هو نفسه حاضر في الإجتماع الإفخارستي، وفي كل مرة يمنح جسده ودمه للمؤمنين: " مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (يو54:6). 
الحياة الأبدية التي تُمنح من خلال ذبيحة وآلام يسوع هي علامة للعصر الأخروي الذي تحقق بمجيء المسيح وهكذا أنهى فترة الناموس (انظر يو17:1). عطية يسوع لا تتفوق على عطية موسى من جهة الكم فقط، ولكن بالحري من جهة النوعية، خاصةً إنها تقود إلى الحياة الأبدية: " ليس كما أكل آباؤكم المنْ وماتوا. مَنْ يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد" (يو58:6)

4- يسوع الذي بواسطة آلامه وحضوره الدائم في الإجتماع الإفخارستي يمنح عطية الحياة الأبدية ليس هو نبي مثلما رآه اليهود في (يو14:6)، إنه الآتي من فوق" النازل من السماء" (يو33:6، 38، 50، 51، 58)، الذي أرسله الآب (يو29:6، 32، 38، 44، 57). إنه " الخبز الحقيقي" (يو32:6)، خبز الحياة (يو35:6)، إنه إبن الله الذي هو واحد في الجوهر مع الله (يو37:6، 40، 44، 46، 57)، كما انه إبن الإنسان، أي الذي أخذ الوجود البشري الضعيف، وهو الذي يفعل دائمًا إرادة الله الآب (يو38:6ـ40)، والي يمنح الحياة الأبدية، لأنه هو الحياة ذاتها بحسب الطبيعة الإلهية. (انظر يو33:6، 35، 39، 40، 47، 48). 

عدد12: ”فلما شبعوا قال لتلاميذه إجمعوا الكِسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء”.هنا يأمر يسوع تلاميذه أن يجمعوا ما بقى من طعام بما أن كل الجمع قد شبع. هكذا يتحقق التلاميذ من حجم المعجزة ويرون مجد يسوع (انظر يو11:2، 15:11). أما السبب في جمع ما تبقى من طعام، كما قال يسوع " لكي لا يضيع شيء" يتجه ناحية ما قاله هو نفسه في عدد27 " إعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية". 
أما في عدد 13: ”فجمعوا وملأوا اثنتى عشرة قُفة من الكِسر من خمسة أرغفة الشعير التي فضلت عن الآكلين”.نجد هنا أنه لا يوجد أي ذِكر لبقايا السمك. الخبز فقط له أهمية إفخارستية، لذلك كان يجب أن يجمع التلاميذ بقايا الخبز " لكي لا يضيع شيء". 
أما عدد الإثنى عشر قُفة بالإضافة إلى أنه يدل على حجم المعجزة، فهو يشير أيضًا إلى الإثنى عشر رسولاً تلاميذ الرب. 
ويقول القديس كيرلس: {وبجمع الكِسر يتأكد الإيمان بأنه كانت هناك وفرة من الطعام حقًا، وليس مجرد خداع نظر لعيون المشتركين في الوليمة أو الذين يخدمونهم} ويستمر قائلاً: {إن المسيح هو رئيس أولئك الذين يؤمنون به، وإنه يُطعم الذين يأتون إليه بالطعام الإلهي والسماوي؟}[9]
يرى القديس كيرلس أيضًا أبعادًا أخرى للخمسة أرغفة من الشعير والسمكتين، إذ يقول: {بالأرغفة الخمسة يشير إلى كتاب الحكيم جدًا موسى ذي الأسفار الخمسة، أعني الناموس كله، الذي كان بمثابة الطعام الأغلظ، أي بالحرف والتاريخ. لأن هذا ما يلمح إليه لفظ "الشعير". لكنه يشير "بالسمكتين" إلى ذلك الطعام الذي حصلنا عليه بواسطة الصيادين، أعني، الكتب الشهية جدًا التي لتلاميذ المخلص، ويقول أنهما إثنتان، إشارة إلى الكرازة الإنجيلية والرسولية، التي أشرقت في وسطنا، وكلاهما مخطوطات الصيادين وكتاباتهم الروحية. هكذا فإن المخلص إذ يخلط الجديد بالقديم، والناموس بتعاليم العهد الجديد يقوت أنفس المؤمنين به، بالحياة التي هي بلا شك الحياة الأبدية"}[10]

د ـ رد فعل اليهود (يو14:6ـ15): 

عندما رأى الجمع الرب يسوع وهو يتمم معجزة إشباع الجموع، إعترفوا قائلين: " إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم" (يو14:6). يستند التطلع اليهودي للنبي الآتي على نص (تثنيه 15:18) " يقيم لك الرب إلهك نبيًا من وسطك من إخوتك مثلي. له تسمعون". لقد قال القديس كيرلس الأسكندري عن الذين آمنوا به بسبب هذه المعجزة، أنهم من اليهود الذين كانوا مقيمين بعيدًا عن أورشليم، وأنهم: " بسبب معجزة واحدة يمجدونه، ويقررون بنبلٍ أن إدراكهم له يجب أن يتم بإيمان بلا تردد"[11]
لقد رفض يسوع لقب "نبي" وكذلك لقب "ملك" مع كل النتائج السياسية المترتبة على ذلك، وذلك بإنصرافه إلى الجبل وحده: " وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكًا، إنصرف أيضًا إلى الجبل وحده" (يو15:6).
 ويعلق القديس كيرلس الأسكندري على هذا الأمر، قائلاً: "هرب من الذين أرادوا أن يعطوه الكرامة التي يستحقها ورفض مملكة تعتبر أعلى جائزة أرضية، على الرغم من أنها بالنسبة له لم تكن في الحقيقة أمرًا يشتهيه، لأن له المُلك، مع الآب على كل الأشياء"[12].
 لقب "نبي" وكذلك لقب "ملك" لقبان مرفوضان من المسيح لأنهما يُعبران كلاهما عن ملمح حماس اليهود للتحرر من الإحتلال الروماني. هكذا يرفض المسيح لقب "نبي" وكذلك لقب "ملك" بالمفهوم الخاطئ الذي ساد على فكر اليهود في ذلك العصر.
 وفي حديثه عن خبز الحياة عقب هذه المعجزة يعلن الرب يسوع ألوهيته وبالتالي عظمته مقارنةً بموسى النبي، ويميز على المستوى الكياني بين عطيته الشافية وبين العطية التي أُعطيت للشعب بواسطة موسى: " الناموس بموسى أُعطي أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" (يو17:1).
وبالرغم من تشابه هذه المعجزة مع معجزة المَنْ في القديم، وبالرغم من نبوة موسى الواردة في سفر التثنية15:18، " يقيم لك الرب إلهك نبيًا من وسطك من إخوتك مثلي"، إلا أنه من الواضح أن الرب يسوع وعطيته هما أعلا من كل مقارنة مع المعطيات البشرية. 
هكذا اليهود، الذين كانوا شهودًا لمعجزة الرب، لم يصلوا إلى إدراك ألوهية شخصه، ولم يدعوا الرب يسوع ذاته لكي يعلن لهم مَنْ يكون، بل نظروا إليه على أساس تطلعاتهم وإحتياجاتهم الشخصية. ولأن المخلّص سوف يغطي كل إحتياجاتهم المعيشية ـ بحسب إعتقادهم ـ لذلك كانوا عازمين أن يُنصّبوه ملكًا عليهم معتبرين أنه هو الماسيا المنتظر الذي يمنح العطايا المادية وأنه المحرر القومي لهم، ليتحرروا من نير الإحتلال الروماني (انظر مر47:11ـ50). 
لقد بحثوا عن الرب يسوع مرة ثانية لكي يسد إحتياجاتهم المعيشية، وذلك عندما رحَّل يسوع عنهم (انظر يو24:6ـ26). وبدافع هذه الإحتياجات يطلبون أن يريهم آية قياسًا على معجزة المَنْ في سفر الخروج، لكي يؤمنوا (انظر يو30:6ـ31)، بالرغم من أنهم كانوا شهود عيان لهذه المعجزة.
 لكن المسيح كُليّ المعرفة يعرف ميول اليهود السياسية والقومية التي عززتها معجزة إشباع الجموع التي أتمها، وكذلك يعرف فهمهم السيئ لشخصيته وعمله من جانب هؤلاء اليهود، فيمضي أيضًا إلى الجبل وحده، لكي يتجنب نتائج سوء الفِهم هذا.
وهكذا كما أن مملكة المسيح ليست من هذا العالم، هكذا فإن عطيته تفوق كل العطايا المادية. فهو لا يمنح فقط حلولاً جذرية للمشاكل الأرضية بل يتخطاها مانحًا الحياة الأبدية. لم يأخذ الرب يسوع تلاميذه حين ذهب إلى الجبل، لأن هؤلاء لم يكونوا قد أدركوا بعد شخصيته الحقيقية. وبالرغم من إنفراد المسيح الظاهري وهو على الجبل ، إلا أنه لم يكن وحده لأنه في شركة دائمة مع الآب وهو متحد به بلا إنقطاع. (انظر يو16:8، 29. 32:16). وعن السؤال الذي فرض نفسه على الجميع: "مَنْ هو يسوع"؟ تمت الإجابة عليه في الآية التالية: سير المسيح على المياه، وفي حديثه عن خبز الحياة: إنه إبن الله. 

هـ ـ نتائج

الإشارة الواضحة إلى ألوهية يسوع في نص المعجزة نجدها في حوار يسوع مع فيلبس ومعرفة الرب المسبّقة لإتمام معجزة إشباع الجموع، وكذلك حدوث المعجزة فعلاً وإشباع الجموع: خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأطفال بخمسة أرغفة من الشعير وسمكتين وتبقي أثنتى عشر قفة، كل هذه تشكل إشارات واضحة إلى ألوهية المسيح.
هكذا فإن هذه المعجزة تفوق معجزة إليشع في العهد القديم في الكمية والنوع، إذ يُظهر الرب سلطانه وسيادته الذاتية وليس كمجرد أداة في يد يهوه مثل أي نبي في العهد القديم وكون أن المسيح "يشكر" قبل تحقيق المعجزة، فهذا يُظهر وحدته مع أبيه. 
والشكر من جانب الرب، بالرغم من أن أصله هو العُرف اليهودي السائد على مائدة الطعام، إلا أنه يمكن أن يُفسر كمثال للشكر المسيحي (الإفخارستيا)، الذي بمقتضاه فإن الذي يشترك في المائدة، ينال المسيح نفسه وعطيته الإلهية أي الحياة الأبدية كخبز، كما صرّح هو نفسه في الجزء الإفخارستي من عظته عن خبز الحياة.
 ويُستنتج من إرتباط هذه المعجزة مع حديث الرب يسوع عن خبز الحياة، أن ق. يوحنا الإنجيلي يرى في مثال الخبز شخص يسوع الكائن الأزلي وطبيعته الإلهية، وكذلك يرى ذبيحته الحية فوق الصليب. ومن ناحية أخرى فإن المعجزة تُظهِر، الوفرة الأبدية لعطية الرب يسوع، فهو يمنح عطايا يهوه التي هي منذ الأزل، يمنحها في الحاضر، ويتخطى بوضوح معجزة المَنْ في الخروج، فالمَنْ لا يفدي من الموت، بينما خبزه الذي هو ذاته يقود إلى الحياة الأبدية ويعطيها. كذلك فإن الرب يسوع يرفض لقب "نبي" و "ملك" بالمفهوم اليهودي الأرضي لأن مملكته ليست من هذا العالم. بهذه الطريقة يشدد القديس يوحنا الإنجيلي على عدم كفاية الإيمان الذي يريد تغطية الإحتياجات الشخصية بدون أن يسموا إلى الإعتراف بشخصية الرب يسوع الحقيقية. 

الدكتور / جورج عوض ابراهيم
دكتوراة فى العلوم اللاهوتية
باحث فى المركز الارثوذوكسى للدراسات الابائية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] انظر ذهبي الفم PG 59, 239. 
[2] انظر القديس كيرلسالأسكندري، تفسير إنجيل يوحنا، الجزء الثالث، مركز دراسات الآباء، أغسطس 98، صـ37. 
[3]المرجع السابق، صـ32. 
[4] المرجع السابق، صـ33،32. 
[5] المرجع السابق، صـ34،33. 
[6] المرجع السابق، صـ37،36. 
[7]كيرلسالأسكندري، المرجع السابق، صـ40. 
[8] القديس كيرلسالأسكندري، شرح إنجيل يوحنا، الجزء الثالث، مركز دراسات الآباء، أغسطس98، ص32ـ43. 
[9]كيرلسالأسكندري، المرجع السابق، ص44. 
[10]كيرلسالأسكندري، المرجع السابق، ص43ـ44. 
[11] القديس كيرلسالأسكندري، شرح إنجيل يوحنا، الجزء الثالث، ص47. 
[12] القديس كيرلسالأسكندري، المرجع السابق، ص48.