المسيحى أخو المسيح إبن الله المتجسد بالتدبير
علاقات المبادلة :-
وما التجسد سوى عملية مبادلة . ولذلك نرى أن الموضوع المحبب عند القديس كيرلس هو كلمة بولس الرسول للكورنثيين " أن يسوع المسيح أفتقر ليغنيهم بفقره " . ففى كتابه " الجلافير " على سفر التكوين وفى تفسيره على نبوة إشعياء وعلى إنجيل لوقا وعلى سفر الأعمال وفى عظاته الفصيحة ، يذكر هذا الموضوع بالذات ويفسره .
- فالإبن أخذ الذى لنا وأعطانا الذى له .
- أخذ شكل العبد لكى ينعم علينا بخيراته الخصوصية .
- لقد إشترك فى وضعنا ، لكى يسمح لنا أن نشاركه فى أفضاله .
علاقات التضامن مع المسيح
- فى المسيح إسترجع الآب كل الطبيعة إلى وضعها الأول .
- كل ما هو فى المسيح ، صار نصيباً لنا .
فالصلوات والمحبة والأعمال وكل الأسرار صار لها مغزى وأهمية من أجل الجنس البشرى بأكمله .
المساواة الجوهرية للمسيح مع الآب
التجسد هو مبادلة بها تنتقل إلينا المواهب الإلهية ، فلكون المسيح هو الله ، فهو مساوٍ ومن كنفس الجوهر الذى للآب ، إذ يقتنى حقاً مع الآب مجداً هو فى نفس الوقت مجد الآب ومجده الخاص . ومعروف أن الثالوث الأقدس مساوى ومن نفس الجوهر الواحد ، وليس فى الثالوث سوى لاهوت واحد .
المسيح مساوٍ فى الجوهر مع البشر
وكما أن المسيح مساوٍ للآب فى الجوهر من جهة لاهوته . كذلك فهو مساوٍ مع البشر فى الجوهر بميلاده البشرى .
[ جسد المسيح من نفس الجنس مع أجسادنا ، أو بالحرى من نفس الجوهر ،( لأنه مولود من إمرأة ) مع أجسادنا ، يعقل ويتكلم ] . [ عمانوئيل هو الله معنا ، أى واحد منا ] .
وإذ دخل فى إتحاد طبيعى معنا بالجسد ، صار هناك بيننا وبينه تلاحم وتضامن حقيقى وفعال :
[ لذلك بالضرورة ، فإن الكائن الموجود قد وُلد بحسب الجسد ، آخذاً لنفسه ما هو لنا ، لكى نحن أولاد الجسد ، أى الفاسدون الهالكون ، نثبت فيه ، حتى بإقتنائه ما هو خاص بنا ، نقتنى نحن ما هو خاص به ] .
كان يجب أن الكلمة يأخذ جسدنا لكى نصير نحن فيه ، لقد سكن الكلمة فى الكل من خلال الواحد ، لأن الجسد الذى إتحد هو به إقتنانا كلنا فيه : [ لأن الكلمة إقتنانا فيه ، فمن حيث أنه حمل طبيعتنا صار جسده يُدعى أيضاً جسدنا ] .
فمن حيث أن المسيح غلب الخطية فى جسده الخاص ، فقد إستطاع أن ينقل إلينا هذه النعمة ، ذلك [ لأننا أصبحنا من نفس الجنس بحسب طبيعة الجسد ] .
[ لأن كلمة الله حل بيننا وصنع ( خلق ) لنفسه جسداً بشرياً خاصاً له ، لكى يبيد بنفسه ناموس الخطية الذى ساد على الجسد ، مميتاً إياه فى جسده الخاص أولاً ، ثم يحول بعد ذلك عطية النعمة لنا ، من حيث أنه حقاً من نفس الجنس معنا من جهة طبيعة الجسد ] .
المسيح أخونا بالتدبير
إذ تجسد المسيح ، وبإتحدانا به طبيعياً بالجسد ، ( بموجب صلة قرابتنا من جهة الجسد ) ، فقد أنعم علينا بكرامة الأخوة . وكثيراً ما يؤكد القديس كيرلس على المطابقة المزدوجة للمؤمنين مع المسيح، أى المطابقة الطبيعية والروحية . فهو يتكلم بإصرار على صلة القرابة الوثيقة هذه مع الكلمة ، وعلى أخوتنا مع الإبن الوحيد الحقيقى لله ( أخوة بحسب النعمة ، أقرباء بالروح ، أقرباء وأخوة بواسطة شركة الروح القدس ) .
فمن جهة ، نحن نشترك مثله فى الطبيعة البشرية ، ومن جهة أخرى نحن نشترك بواسطته فى الطبيعة الإلهية ونصير متشابهين للإبن بشركة وحضور الروح القدس .
وفى دفاعه ضد نسطور ، ينتهز القديس كيرلس الفرصة للتعمق فى هذه النقطة الخاصة بأخوتنا للمسيح ، فهو يجيب على سؤال وضعه على الشفاه الساخره لخصمه : " هل الكلمة بإعتباره إلها له أخوة مشابهون له ؟ " ويجيب القديس كيرلس : إننا نحن أخوة الكلمة لسببين :
أولاً ، فنحن كذلك بسبب التجسد ،
وثانياً بسبب مشابهتنحا وتمثلنا بلاهوته .
وتأييداً لهذه الفكرة أشار وفسر بعض الآيات المختارة للقديس بولس : ( عب 2 : 11 ، 12 ، 14 ، غلاطية 4 : 6 ، 19 ، 1 كورنثوس 15 : 49 ) " يا أولادى الذين أتمخض بكم إلى أن يتصور المسيح فيكم " ، " كما لبسنا صورة الأرضى هكذا نلبس أيضاً صورة السمائى " ( كما فى النص ) .
فما هى ، إذن ، " صورة الأرضى " ؟ إنها صورة أبينا الأول ، أى هى صورة سهولة الخطية أى كل ما من شأنه أن يجعلنا تحت الفساد والموت .
وما هى " صورة السمائى " ؟ هذه هى صورة المسيح ، أى النصرة على الشهوات ، والترفع عن الخطية ، والتحرر من الموت والفساد ، التقديس ، البر ، بإختصار كل ما يخص الطبيعة الإلهية غير المائتة . فكلمة الله رفعنا إلى كل هذه الإمتيازات يجعلنا شركاء الطبيعة الإلهية بالروح القدس :
[ كما أن كلمة الله يسكن فينا بالروح ، هكذا نحن ترقبنا إلى كرامة البنوة ، إذ صار فينا الإبن نفسه ، الذى إليه عُنا مشابهين له – بالشركة فى روحه . وكنتيجة لهذا نقول بثقة متكافئة مع ثقة الإبن : " أبا " - أيها الآب ] .
وهكذا أصبح لكلمة الله أخوة مشابهون له ويحملون صورة الطبيعة الإلهية . إذن ، " فالمسيح تصور فينا " – من حيث أن الروح هو الذى رفعنا من حالتنا البشرية إلى تلك الحالة التى للإبن . ولكن من المستحيل طبعاً أن الكلمة يحول الخليقة إلى طبيعة لاهوته الخاص . ولكن المشابهة معه تنطبع فى الذين صاروا شركاء طبيعته الإلهية بالشركة فى الروح القدس ، وجمال لاهوته غير المُدرك صار يسطع فى نفوس القديسين .
ولكن لا يجب بأى حال أن نهمل أن نغض الطرف عن تلك الصورة الإلهية والروحية التى فينا ، وعلى الأخص أن سيد الكل قد وضع نفسه وأخلى ذاته من أجلنا ليشرفنا وينعم علينا بكرامة هذه الأخوة الإلهية .
الحالة الأصلية لآدم
وإذ نحن أخوة للإبن ، بفضل التجسد ، فنحن فى نفس الوقت أبناء للآب . فهل معنى ذلك – كما يبدو فى ظاهر الأمر – وكأن آدم قد حُرم من كل صلات القُربى مع الله ، خارجاً عن التجسد ؟
لقد رأينا من قبل أنه لم يكن شئ من ذلك ، إلا أنه يتحتم علينا أن نتعمق فى دراسة هذه المشكلة بعدما طرحها القديس كيرلس ، وأن نبحث هذا الجديد حقاً الذى أعطاه إيانا المسيح بمجيئه بنفسه إلينا ، حتى ندرك بشكل أفضل المكانة التى يحتلها المسيح فى التدبير الجديد وأيضاً المكانة التى يجب أن يحتلها فى الحياة المسيحية .
إن القديس كيرلس أبعد ما يكون عن التقليل من شأن النصوص الكتابية التى تذكر الحالة الأصلية لآدم . لقد وُهب الإنسان الأول مجموعة من الإمتيازات الفائقة للطبيعة ، والتى رفعته إلى كرامة عالية . فبنفخة نسمة الحياة فى فيه – كما ذكر سفر التكوين – فإن الله أعطى الروح القدس نفسه لآدم . ففى آدم كان يوجد مبدأ عدم الفساد ونوع من الثبات فى النعمة التى كان يمكن لها فى يوم من الأيام أن تهبه ملكوت السماء .
إلا أنه يمكن أن نُلقى سؤالاً لمعرفة ما إذا كان آدم – فى رأى القديس كيرلس – إبناً لله بنفس معنى البنوة التى نتمتع بها نحن فى العهد الجديد ؟ فهل النعمة القديمة هى تبنى إلهى حقيقى مثل النعمة الجديدة ؟
بنوة آدم الإلهية
كثيراً ما نُوقش هذا الموضوع ، وهو يستحق أن نناقشه . وقد رأينا أنه من المفيد أن نذكر هنا النصوص التى كتبها القديس كيرلس والخاصة بهذا الموضوع . ألا نرى فى فكر القديس كيرلس أن مكانة المسيح الأساسية فى العقيدة والحياة المسيحية قد ظهرت بوضوح وجلاء عندما نتبين إرتقاء ورفعة التدبير كما هو منصوص عليه فى الكتاب المقدس ، عن التدبير الأصلى لآدم ؟
لقد أتى المسيح لكى ينقلنا إلى ما هو أعلى من حالتنا الأصلية . والتبنى الإلهى فى العهد الجديد يفوق الحالة الأصلية لآدم . فالتدبير الجديد يفوق التدبير الأول بسبب ألتحامنا بالمسيح . فالكلمة المتجسد المرسل من الآب ، الرأس الثانى للجنس البشرى ، قد أتى لكى يهبنا تتجديداً روحياً كاملاً ، وكل الطبيعة البشرية التى أتخذها المسيح قد أرتبطت مع الآب والإبن والروح القدس بصلات قُربى جذرية ، هى علاقتنا الفائقة الطبيعة مع الله ، تلك التى يعطيها القديس كيرلس الكبير إسم " التبنى " .
ويعترف القديس كيرلس بلا شك ، أنه يمكن تسمية كل الناس أولاداً لله من حيث أن الله قد خلقهم بإعتباره أباً لكل الخليقة . فإذا أخذنا فى إعتبارنا التدبير الأصلى للبشر كمخلوقين على صورة الله ، وملوكاً للخليقة ، وميالين إلى الفضيلة ، حينئذ نستطيع أن نقول بمعنى أصح أن البشر هم أبناء الله .
سمو التدبير الجديد
إلا أننا لا نستطيع أن نستخدم هذا التعبير معناه الدقيق ونعطيه معناه الشامل الكامل إلا فى التدبير الجديد .
ففى تفسيره لإشعياء ، يعلن القديس كيرلس سمو التبنى الإلهى للمسيحيين على التبنى الإلهى لآدم بإعتبار الأول تبنياً كاملاً . لقد تأسس بوساطة المسيح وكان هو الهدف من مجيئه . وقد أُعطى للبشر عندما تجسد الكلمة .
وهناك ثلاثة نصوص جديرة بالذكر : الأولى من عظة فصيحة ، والثانية من كتاب " العبادة بالروح والحق " ، والثالثة موجودة فى شرح سفر يؤئيل .
1- ففى العظة الفصحية السادسة ، وبعد أن أكد القديس كيرلس على سيادة إبليس على البشرية بعد السقوط ، يلاحظ القديس كيرلس عدم كفاية موسى ولا الأنبياء ولا كل الخليقة لتجديد وإصلاح البشرية الساقطة . وثم هو يؤكد على أن الكلمة بإتحاده بجسدنا ، قد غير حالتنا إلى الأفضل من الحالة القديمة .
2- وفى نص مقتبس من " العبادة بالروح والحق " يعقد مقارنة بين عنصرين للبشرية ، ففى البدء ، كان زمان الحياة البشرية مقدساً فى آدم ، لأنه لم يكن قد تعدى على وصايا الله ولم يكن قد أزدرى بالتدابير الإلهية . إلا أن الزمن الثانى كان أكثر قداسة ، وهو الزمن الذى فى المسيح " آدم الثانى " . لأن البشرية قد تحررت الآن من الخطية وجُددت لكى تسلك فى الحياة الجديدة فى الروح القدس .
3- أما النص الثالث وهو مأخوذ من " شرح سفر يوئيل " ، فهو يوسع مجال المقارنة بين آدم الأول وآدم الثانى ويزيدها تحديداً ووضوحاً . فالروح المعطى لآدم لم " يثبت " فى الطبيعة البشرية بسبب سقوط آدم فى الخطية . ولكن حينما تجسد الإبن الوحيد ، أخذ – بإعتباره إنساناً – نفس روحه القدوس وهو الذى " أستقر " عليه بإعتباره الرأس الثانى للجنس البشرى.
إذن ، فقد أُعيدت لنا حالة أفضل بشكل كبير جداً ، كما أننا نحصل على تجديد حياتنا بالروح القدس وذلك بطريقة كاملة للغاية , ويؤكد القديس كيرلس على حالة إستمرار وجود الروح القدس فى المسيح وإستمرار وجوده فى البشرية بالمسيح .
وكان لابد بعد سقوط آدم أن يصير الكلمة غير المتغير إنساناً لينال الروح وينقله إلينا بطريقة ثابتة ومستقرة .
وفى التدبير الجديد يتخذ نقل الروح إلينا طابع الإستقرار الأمر الذى لم يكن موجوداً فى حالة آدم من قبل . وذلك لأن الطبيعة البشرية فى التدبير الجديد أصبحت مرتبطة باللاهوت بطريقة أكثر متانة بفضل سر التجسد عنه فى عملية خلقة الإنسان .
من هذه النصوص يظن العالم الآبائى جانسن ( L . Janssenes ) أنه يستطيع الوصول إلى حقيقة أن " صلة القُربى " الأساسية للبشرية مع الله ، وهى نتيجة مباشرة لإشتراكنا فى نفس الجوهر مع المسيح ، قد نجمت عن تدبير التجسد – وذلك على وجه الحصر .
بنوتنا لله
وبالإضافة إلى صلة القُربى الجذرية مع الله وهى التى تتحقق لكل البشرية فى المسيح لحظة التجسد ، هناك صلة قُربى تفوق الطبيعة بشكل قاطع هى بنوتنا لله بالتبنى ، مؤسسة على " صلة القربى الجذرية " تلك . فالمسيح بإعتباره وسيطاً وأصلاً جديداً للبشرية ، ينقل إلى المؤمنين بطريقة شخصية روح التبنى ، حيث نقل هذا الروح للرسل قبل يوم الخمسين ، ثم بعد قيامته من الأموات ينقله إليهم فى سر المعمودية .
[ إن المسيح لم يُعط روح التبنى إلا بعد قيامته ، ولكن المغبوط يوحنا المعمدان كان قد إنطلق قبل عطية الروح هذه . لذلك ، فبالرغم من أننا أقل فضيلة من الذين كانوا يمارسون البر تحت الناموس ، إلا أننا – بالمسيح – نتمتع بمكانة أرفع منهم ] .
[ الرسل هم أول من نال روح التبنى ] .
[ الروح القدس لم يكن قد أُعطى قبل تمجيد المسيح ] .
[ لكنه ( أى الروح القدس ) أُعطى للرسل قبل يوم الخمسين بالنفخة الجسدية للمسيح ] .
وللمسيح وساطة شفاعية تفوق وساطة موسى . ولهذه الوساطة كفاءة لما تتمتع به من إستحقاق ولما تناهل من رضا الآب . وبها أُبيدت الخطية التى كانت حائلاً بيننا وبين الله . وبها أُدرك جميع البشر منذ زلة آدم ، إذ هى ( أى هذه الوساطة ) تعمل فيهم بأثر رجعى . فهذه الوساطة تمتد كفاءتها للأجيال الماضية كما للأجيال اللاحقة .
كما أن هناك سبباً آخر يجعلنا نُسمى المسيح " الوسيط " ، فهو قرب ووحد فى نفسه الناسوت واللاهوت اللذين كانا متباعدين تماماً الواحد عن الآخر .
ويتكلم القديس كيرلس هنا عن الوساطة الطبيعية للمسيح التى لم تبدأ إلا حين تصور كيان الإنسان – الإله المتجسد والذى حدد الأمتياز الذى يتطلبه الإتحاد . فنحن أبناء فى المسيح وبه ، لأنه بموجب هذه الوساطة الطبيعية ينقل لنا المسيح روح التبنى .
موسى والمسيح
إذا ما قارنا بين موسى والمسيح ، فسيتضح لنا عظمة وسيط العهد الجديد . ويقول القديس يوحنا : " لأن الناموس بموسى أُعطى ، وأما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا " . ويعلق القديس كيرلس بإسهاب على هذه الآية فى " تفسير الإنجيل حسب يوحنا " :
[ أما من جهة الوساطة ، فقد كان موسى فى القديم صورة للمسيح ، من حيث أنه إستخدم بشكل كامل العطايا الإلهية التى مُنحت لشعب إسرائيل . ومع ذلك فإن وساطة موسى لم تكن سوى وساطة خادم ، أما وساطة المسيح فقد كانت على العكس تتسم بالحرية وبعمق أكبر ، من حيث أن المخلص أمسك – بحكم طبيعته – الطرفين ، اللذين صار هو الوسيط بينهما ، أى البشرية من جهة والله الآب من جهة أخرى . والمسيح هو – من جهة – إله بالطبيعة من حيث هو إبن الله الوحيد الذى لم ينفصل عن جوهر الآب لكنه موجود فيه من حيث أنه إبن الله الوحيد كما أنه مولود منه ؛ ومن جهة أخرى ، فهو إنسان من حيث أنه بتجسده شابهنا من أجل أن يوحد – فى ذاته – بالله ما كان بعيداً عنه جداً بالطبيعة ] .
لم يكن موسى إلا وسيطاً بحكم الوظيفة ، لم يكن سوى إنسان ، ولم يفعل سوى أنه نقل بالأمانة إلى شعبه ما سبق أن أعطاه الله لهذا الشعب . أما المسيح فعلى عكس ذلك ، فهو الإنسان – الإله ، ووساطته هى طبيعية ، ففى وحدانية شخصه جمع الطبيعة البشرية بالطبيعة الإلهية ، وأصبح بذلك وصلة الإتحاد بين البشرية واللاهوت المتباعدتين الواحدة عن الأخرى بُعداً لا نهائياً ، بُعد المخلوق عن غير المخلوق .
العالم الآبائى ل . جانسن ، وبعد دراسة عميقة لفكر القديس كيرلس ، لخص الخطوط المميزة لشفاعة موسى وتلك التى لشفاعة المسيح فى مقارنة قوية قائلاً :
"إن موسى لم يتجاوز الصور والرموز ، أما المسيح فهو الحق . كان موسى وسيط القدماء عبداً مع عبيد شركاء له ، أما المسيح فهو إبن الله بالطبيعة ، وهو بين خاصته إبن بين الأبناء وكأخ بين إخوته ، بحكم تجسده .
موسى حقق لليهود صلة القُربى مع الله بمقتضى الناموس ، أما المسيح فقد صنع إتحاداً روحياً مع الآب . إذن ، فمهمة موسى متساوية مع مهمة الناموس ، أما المسيح فقد وهب نعمة جديدة . فالخيرات المعطاة بواسطة موسى مادية وحسية ، أما تلك التى وهبها المسيح فهى روحية . موسى لم يكن قادراً على قيادة شعبه وتوصيلهم إلى الله ، أما المسيح فقد أحدث هذا التقارب بواسطة التقديس .
موسى لم يكن سوى ناطق بالنواميس الإلهية ، أما المسيح فقد أعطى بنفسه القوانين . موسى نودى عليه ليمثُل أمام الله ، أما المسيح فلا يحتاح لنداء لأنه دائماً مع أبيه . موسى لم يكن على الإطلاق قادراً على الدنو من الله بدون وساطة المسيح ، أما المسيح فهو الوسيط الوحيد الذى به يمكن أن نتحد بالآب .
وفى نص آخر من تفسير إنجيل يوحنا ، يؤكد القديس كيرلس ، أخيراً ، على أن الوساطة الطبيعية للكلمة المتجسد هى التى تعطينا التبنى :
[ دعوة اليهود للتبنى لم تتم بوساطة موسى إلا بطريقة رمزية ، ولذلك فإنهم لم يتعمدوا إلا به فى البحر وقت السحابة ، بينما على العكس فإن الذين أرتقوا إلى التبنى لله بالإيمان بالمسيح لم يتعمدوا فى شخص مخلوق بل إعتمدوا فى الثالوث الأقدس نفسه بتوسط الكلمة ، الذى أتحد بالطبيعة البشرية بواسطة الجسد الذى أخذه ، بينما هو فى نفس الوقت متحد جوهرياً مع أبيه ، من حيث أنه إله بالطبيعة . وهكذا بالحقيقة ، فإن الذى هو عبد ، أقتنى التبنى ، بمقتضى المشاركة فى " الإبن بالطبيعة " ودُعى ورُقى إلى الكرامة الخاصة بالإبن . وهذا هو السبب الذى لأجله دُعينا أبناء الله ، وقد صرنا هكذا بالحقيقة ، لأننا بالإيمان نلنا تجديد الحياة بالروح القدس ] .
كفاءة بشرية المسيح
يمكننا – وفقاً لفكر القديس كيرلس – أن نتساءل : ما إذا كان لبشرية المسيح الكفاءة لتوصيل النعمة إليها بمقتضى إتحادها الأقنومى أم بمقتضى نعمة عرضية . وقد طرح القديس كيرلس المشكلة وهاك إجابته :
[ بما أن طبيعة الجسد فى ذاتها غير محيية ، فما الذى زاد على هذه الطبيعة فى شخص ذاك الذى هو بالحقيقة إله ؟ إنها هى الطبيعة التى إتحدت بالكلمة الذى هو الحياة بمقتضى طبيعته . والكلمة ملأ جسده الخاص بقوة الروح المحيية ، ولان هذا الجسد هو أتحده بنفسه ، فإن هذا الجسد يمكن تسميته روحاً . إذن ، فالكلمة هو الذى جعل جسده الخاص محيياً ، من حيث أنه حوله بسلطانه الخاص . وكيف تم ذلك ؟ إن عقولنا لا يمكنها إدراك كيف تم ذلك ، كما أن لغتنا لا تستطيع أن تعبر عنه . وما علينا إلا أن نمجد ذلك بالصمت وبالإيمان الذى يتجاوز العقل والإدراك ] .
إن هذه الصيغة المستخدمة للتعبير عن السمة التى لا يمكن التعبير عنها لكفاءة بشرية المسيح تذكرنا بالمصطلحات التى يشدد عليها القديس كيرلس ليفرض نفس الصمت المقدس ونفس الإيمان فى مواجهة سر التجسد الذى لا يمكن التعبير عنه . وأخيراً ، فإن أسقف الإسكندرية يذكرنا بالإتحاد الأقنومى فى كل مرة يدعو جسد المسيح أنه أداة الكلمة فى صنع المعجزات وفى منح الروح وفى الإفخارستيا .
عقيدة الإفخارستيا
( يطلق القديس كيرلس " أولوجية " على سر الإفخارستيا )
فبالأولوجية السرية نحن نشترك – بطريقة ما – بطريقة طبيعية فى جسد ودم المسيح . والكلام عن الإتحاد الفعال بين المسيح والمتناول لا يكفى لشرح النصوص من الكتاب المقدس ، والمقارنات التى يستخدمها القديس كيرلس ، مثل إتحاد قطعتين من الشمع المنصهر معاً أو إختلاط العجين بالخمير ، والتى يوضح بها أن الإتحاد الحاصل بين جسد المؤمن والجسد الإفخارستى للمسيح ، هو بهذا الشكل حقيقى ، بحيث أنه يمكن مقارنتها بالإمتزاج وبالتداخل بين الأجدسام المادية . وعلى هذا الإتصال الحقيقى تتأسس حقيقة مطلقة مهمة جداً عن تحقيق إتحادنا الفائق للطبيعة مع الله ، ومعرفتنا بالمشاركة العرضية مع لاهوت الإبن . والإبن الكلمة فى أعماله وتعاليمه كان يستخدم جسده كأداة . وقد أصبح جسد المسيح محيياً ومقدساً بفضل إتحاده الأقنومى بالكلمة . ( ويرجع القديس كيرلس فى هذه النقطة إلى الآباء وعلى الأخص القديس أثناسيوس ) .
وبالإتصال المادى مع جسد المسيح ، فإن المسيح ينقل التقديس ويعمل معجزاته . وبهذا المبدأ العام الذى يحدد دور بشرية الكلمة المتجسد ، تتضح كفاءة الجسد الإفخارستى للكلمة المتجسد .
المشاركة فى المسيح والإقتداء بالمسيح
هناك لفظان يستخدمهما القديس كيرلس يلخص فيهما الروابط التى تربطنا بإبن الله : المشاركة والإقتداء . فنحن لسنا نتطابق مع إبن الله . فالكلمة هو الإبن بالطبيعة ، أما نحن فأبناء بالمشاركة وبالإقتداء أو بالتبنى .
والكلمة لم ينل من الخارج كرامته كإبن ، بل هو الثمرة الأزلية لجوهر الإبن ، ويمكن أن نقول عنه هو فقط إنه حقاً وبمعنى خاص إله مثل الآب ، وأنه جوهرياً فيه .
أما كرامتنا نحن فهى عارضة ومضافة من الخارج وقد مُنحت لنا بواسطة الكلمة ، وهى تتوقف على الحرية الإلهية وعلى سخاء لله ، فنحن لسنا أبناء إلا بالنعمة ، ويمكننا أن نفقد هذا الإمتياز .
وإن مثل الحديد المحمى بالنار يساعدنا أن نفهم هذا الإتحاد مع الكلمة المتجسد الذى ليس سوى إتحاد نسبى أو عارض ، ولا يلغى الإختلاف بين الطبائع . فنحن نشترك فى الطبيعة الإلهية التى للإبن كما يشترك الحديد فى حرارة النار ، وجمال اللاهوت غير المعبر عنه يسطع فى نفوسنا . والآب إذ يرى فينا المشابهة الروحية مع إبنه ، يحبنا منذ الآن فصاعداً كأننا أبناؤه . وإذ هو إبن الله ، فنحن نصير أيضاً هكذا أبناءً إما بالتبنى أو بالإقتداء .
وفى شرحه لإنجيل يوحنا وفى رسالته الفصيحة الثانية ، وفى كتاب الكنوز ، يذكر القديس كيرلس بأن الذى هو إبن بالتبنى يخضع لمن هو إبن بالطبيعة ، والذى هو إبن بالإقتداء وبالمشابهة هو لاحق لمن هو إبن بالحقيقة ، والذى هو إبن بالتبنى هو دائماً يمارس الإقتداء بمن هو إبن بالطبيعة ؛ من حيث أن الصور تصير دائماً متوافقة مع أصولها الأولى .
وكما أن كل أُبوة فى السموات وعلى الأرض تستمد إسمها من الآب لأنه هو الآب بالحقيقة ، هكذا تماماً كل بنوة تستمد إسمها من الابن لأنه هو الإبن الوحيد بالطبيعة وبالحقيقة الذى خرج من جوهر الآب . ومن حيث أننا وُسما للابن بالطبيعة ، بمشابهتنا معه ، فنحن أبناء بالتبنى . وسبب هذه المشابهة معه هو أننا نشترك فى الإبن بواسطة الروح القدس . ونحن محبوبون مثل الإبن ، سبب مشابهتنا للإبن الحقيقى والطبيعى . وإن كانت كرامتنا ليست بنفس الطبيعة التى لكرامة الإبن ، إلا أنه إقتداء مطابق تماماً .
ويضع القديس كيرلس الكلمات التالية على فم المسيح :
[ أنا وحدى وُلدتُ كإبن بالحقيقة وبالطبيعة . وكل الآخرين هو أبناء بالتبنى من حيث أنهم يشابهوننى ويقتربون من مجدى : لأن الصور تُشابه دائماً أصولها الأولى ] .
هذه الكلمات تلخص التأكيدات السابقة ، ويمكن أن تؤدى إلى النتائج التى وصل إليها القديس كيرلس . فمشاركتنا فى الطبيعة الإلهية بالروح تطبع فى نفوسنا القسمات الإلهية التى فى الإبن ، وتصنع فى بنوتنا بالتبنى إقتداء ببنوته الطبيعية ، وتضعنا جنباً إلى جنب معه فى محبة الآب : إن كرامتنا البنوية بالتبنى ، الفائقة للطبيعة ، تجد صورتها الأولى فى العلاقة بين الإبن بالطبيعه مع أبيه.
مترجم عن الفرنسية
Dogme et Spiritualite chez Saint Cyrille , par Hubert Du Manoire , s.j.,sect.:La place du Chirst dans la vie chretienne , pp. 163-184, paris, 1944
ورد كملحق بكتاب
دراسات فى اباء الكنيسة
اعداد احد رهبان برية القديس مقاريوس