النور الإلهي

ظلمة عدم الإيمان
هناك تضاد بين النور والظلمة كما بين الإيمان وعدم الإيمان [1]، وبين المعرفة والجهل وبين المحبة والكراهية. عندما قال الرب في البداية "ليكن نور" [2]، تكوّن النور بلحظة، وتبددت الظلمة. ولكن عندما رحل النهار حلّ الليل مكانه.
كان آدم في الفردوس في مجد لا ينتهي إذ كان مصاناً بإيمانه بالله. ولكن عندما تحوّل عن الله، بفعل العدو، حُكم عليه بالموت وطُرد من الفردوس [3]. تعرّف إلى الجسديات بدل الروحيات والإلهيات. وإذ كانت عينا روحه مغمضتين، سقط من الحياة التي لا تفنى وصار يرى بعيني جسده. لقد حوّل رؤية عينيه للأمور المنظورة إلى شعور بالشهوة "وعرف امرأته حواء فحبلت وولدت قايين" [4]. هذه المعرفة هي بالحقيقة جهل كل خير، لأنه لو لم يخسر أصلاً معرفة الله ومعاينته لما كان توصل إلى هذه المعرفة. وقايين ما كان قتل هابيل أخاه لو لم يكن معمى ومهيجاً بالحقد والحسد ضده. هناك أناس منذ ولادتهم تحت سيطرة العتمة ولا يريدون معاينة النور الروحي الذي خسره جدهم الأول، لذا هم ينظرون إلى المستنيرين بهذا الضوء ويتكلمون كالأعداء لأن كلماتهم تجرحهم. عندما يدخل شعاع النور بيتاً مظلماً يخترق ويعبر كالسهم. هكذا هي الكلمة الموحى بها من النور للأشخاص المقدَسين، إنها كسيف ذي حدين [5] في قلب الدنيويين تسبب لهم الألم وتدفعهم إلى المعارضة والحقد بسبب جهلهم وعدم إيمانهم. 
كيف يظلم الجهل حس المسيح
أما مَن يظن أنه يعرف وهو جاهل، حتى لو رأى ملاكاً نازلاً إليه من السماء [6] فهو سوف يدفعه بعيداً كشيطان. حتى لو أتى إليه رسول أو نبي من الله فهو سوف يرسله بعيداً كسمعان الساحر. أية بلاهة هي أن يعتبر الأعمى الأصحاء عمياناً، أو يعتبر المهذار كلام الحكماء بلا معنى؟ فالأعمى لا يصدق من يخبره أن الشمس لا تسطع في الليل. وهو يتهم أن من يخبره عن الظلام في الليل والنور في النهار بالخداع، وفي شكه هذا يصرف مخبّريه بجفاء.
 الجهل يعمي عقول الذين يحيون في ظلام الشهوات، والذين لم يكتسبوا "فكر المسيح" [7]. إنهم يعتبرون من له فكر المسيح مجنوناً وعنهم قال النبي داود: "الجاهل والبليد يهلكان معاً" [8]. إذاً هؤلاء الناس يحرّفون الكتب بحسب شهوات أنفسهم [9] ويهلكون أنفسهم. ليس الكتاب المقدس من يتعذب من هذا التحريف، بل الذين يشوهونه. أنتم يا مَن تملكون الحكم الصحيح على الأشياء، أخبروني كيف للأعمى أن يميّز أفكار الضوء بنفسه وهو أصلاً يرفض الإرشاد.
 كيف لأعمى العينين أن يقرأ الأحرف في كتب النور وهو لا يرى النور؟ أعمى الفكر لا يملك فكر المسيح في داخله، فكيف له أن يميّز الأفكار المخبأة في نور المسيح؟ قد يقرؤها آلاف المرات بعينيه الجسديتين ولا أظنه قادراً في يوم من الأيام على معاينة الروحيات غير المائتة، الحاملة النور في مكان مادي معتم.
الله نور النفس
لا يخدعنّكم أحد؛ الله نور [10]. بقدر ما يتنقى المتحدون به، ينقل لهم من بهاء لمعانه. عندما يضاء قنديل النفس الذي هو العقل، نعلم أن ناراً إلهية أشعلته، وهي تؤججه وتذكّيه. إنها لأعجوبة عظيمة! الإنسان يتّحد بالروح روحياً وجسدياً (مادياً) لأن الروح غير منفصل عن الفكر ولا الجسد عن الروح . بالاتحاد في الجوهر يمتلك الإنسان أقانيم ثلاثة بالنعمة. هو إله وحيد بالتبني وله جسد ونفس وروح الهي ومنه أصبح شريكاً. وبهذا تحقق قول داود: "أنا قلت أنكم آلهة وبنو العلي كلكم" [11]. إذاً أبناء العلي وعلى صورته ومثاله [12]. هكذا يصبح الإنسان الذرية المقدسة للروح الإلهي [13]، وله قال الرب ويقول "إن كان أحد لا يثبت فيّ يطرح خارجاً كالغصن فيجف ويطرحونه في النار فيحترق…اثبتوا في وأنا فيكم"[14].
 كيف يثبت فينا ونحن فيه؟ هو علّمنا بقوله "ليكون الجميع واحداً كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضا واحداً فينا" [15]. وليثبّت سامعيه يكمل "ليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني" [16] "وعرفوا أنك أرسلتني" [17].
 واضح أن المولودين مجدداً من خلال الروح القدس [18] يصبحون بعطيته أخوة المسيح وأولاد الله وآلهة بالتبني، وبالنعمة يثبتون بالله وهو فيهم كما يثبت الآب في ابنه [19] والابن في حضن أبيه [20] بالطبيعة.
أعمى الروح
أما الذين لم يصبحوا هكذا ولم يتغيروا بالفعل والمعرفة والمعاينة، ألا يستحون أن يدعوا أنفسهم مسيحيين؟ كيف يجرأون على فتح أفواههم والتكلم عن سر الله المكتوم [21] بخفة وكأنهم مستلقون على سرير؟ ألا يستحون من تعداد أنفسهم بين المسيحيين والروميين؟ كيف لا يرتجفون من مجالستهم الكهنة وممارستهم الطقوس الكهنوتية والليتورجية بجسد ودم السيد؟ أنا أتحيّر من هذا.
وكما قلت هذا هو العمى العقلي، وانعدام الحس والجهل المرافقان له، والوقاحة الناتجة عنه وهي التي تجعلهم يدوسون الذهب الحقيقي والحجارة الأغلى، التي هي السيد المسيح نفسه حتى لو كان في الوحل. أي تهور هذا؟ إنه يدفع كلاً منهم ليتسلق سلماً عالية ويجلس عليها فيظهر أعلى من الكثرة الباقية فيُحترم من قبلها.
من هم المسيحيون الذين سوف يسمّون هكذا رجال باسم المسيح؟ هذا وجهناه إلى المتبجحين بمعرفتهم كل شيء، الذين يحكون عن هذه المعرفة ويظنون أنهم شيء وهم ليسوا شيئاً [22]. في حديثنا هذا أبرزنا كما على عمود، من هم المسيحيون وما هي طبيعتهم حتى يقارنوا أنفسهم إلى المثال ويعرفوا بعدها أن يكونوا مسيحيين حقاً.
طلب نور المسيح بدموع التوبة
أما أنتم خدام المسيح المتشوقون للفهم وقد هيأتم آذانكم للسمع، فالسيد يصرخ إليكم من خلال الإنجيل المقدس "سيروا ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام" [23].
 "بالتوبة اجروا في طريق وصاياه"[24] اجروا، اركضوا قبل أن يدرككم ليل الموت[25] وترسَلوا إلى الظلمة الأبدية. اجروا، ابحثوا، اقرعوا لعل باب مملكة الفردوس يفتح لكم [26] وتدخلوا إلى الفردوس ويكون في داخلكم. أما أولئك الذين سينتقلون من هذه الحياة الحاضرة من دون الوصول إلى النور فكيف لهم أن يجدوه بعد رحيلهم؟
 نحن أُوصِينا أن نطلب هنا ونسعى هنا ونطرق الباب بالتوبة والدموع، والسيد وعد بالعطاء إن نحن فعلنا هذا.
إن رفضنا أن نفعل هذا ولم نُطِع سيدنا المسيح ولم نسعَ إلى الحصول على هذه المملكة فينا ونحن في هذه الحياة، فسنستحق سماعه قائلاً لنا عند انتقالنا "لماذا تبحثون الآن عن المملكة التي رفضتم عندما أعطيتها لكم؟ ألم ترفضوا عندما توسلت إليكم بجدية أن تجهدوا أنفسكم بأخذها مني؟ ألم تحتقروها وتفضلوا الاستمتاع بالأشياء الأرضية الفانية؟ بأية وسيلة أو كلمات سوف تكونون قادرين على إيجادها؟ 
إذاً أيها الإخوة والآباء، أنا أحضّكم على حفظ وصايا الله بشوق لنحصل على الحياة والمملكة الأبدية. رجائي أن لا نسمع في هذه الحياة القول بأن "الذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله" [27] ولا في العالم الآتي “اذهبوا عني" [28]"لا أعرفكم من أين أتيتم" [29] بل يا أخوة لنستمع لذلك الصوت المبارك "تعالوا إلي يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم" [30] "لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، غريباً فآويتموني، عرياناً فكسوتموني، مريضاً فزرتموني، محبوساً فأتيتم إلي… الآن تمتعوا ببركاتي التي لا توصف التي هي الحياة الأبدية".
ليمنحنا الله هذه الحياة بنعمة ربنا يسوع المسيح له المجد إلى الأبد آمين..



القديس سمعان اللاهوتي الجديد
ترجمة الأب أنطوان ملكي
orthodoxlegacy.org


_____________________________________________
[1] 2 كو 6 : 14 
[2] تك 1 : 3 
[3] تك 3 : 23 
[4] تك 4 : 1 
[5] عب 4 : 12 
[6] غلا 1 : 8 
[7] كورنثوس الاولى 2 : 16 
[8] مزمور 49 : 10 
[9] بطرس الثانية 3: 16 
[10] يوحنا الاولى 1 : 5 
[11] مزمور 82 : 6 
[12] تكوين 1 : 26 
[13] يو 3 : 8 
[14] يو4:15
[15] يو 17 : 21 
[16] يو23:17
[17] يو25:17
[18] يو3:3
[19] يو 14 : 10 
[20] يو 1 : 18 
[21] أف3:9 وكولوسى26:1
[22] غلا 6: 3 
[23] يو 12 : 35 
[24] مز 119 : 32 
[25] يو 9 : 4 
[26] متى7:7 و لو 11 : 9 
[27] يو36:3
[28] متى23:7
[29] لو 13 : 25
[30] متى34:25