الإفخارستيا وحياة الشركة

إن الإفخارستيا هي معايشة عمل الله السرائري، فهي تمثل تجميعًا لسر التدبير الإلهي وحضوره المستمر في الكنيسة [1]،
 فهي ليست فقط سر ذبيحة الصليب بل كل تاريخ الخلاص : [ إذن يا سيدنا، فيما نحن نصنع ذكرى نزولك على الأرض وموتك المُحيى وقبرك ثلاث أيام وقيامتك من الأموات. وصعودك إلى السموات وجلوسك عن يمين أبيك. وظهورك الثانى الآتى من السموات. المخوف المملوء مجدًا. نقرّب لك قرابينك.. ] (القداس الغريغوريوى).
فأهمية السر هي لكل التدبير الإلهي . في ذبيحة الجلجثة وفي لقائنا مع الرب الحي القائم من الموت. الإفخارستيا هي سر الحياة الجديدة، وبرهان العهد الجديد الذي صار باتحاد الطبيعة البشرية بالطبيعة الإلهية في شخص المسيح، ودخول الطبيعة البشرية التي تطهرت بدمه في نطاق حياة الثالوث. 
إن عطية الإفخارستيا وثمرتها هي اتحاد الإنسان بالمسيح واشتراكه في ملكوته، لذا فالإفخارستيا هي امتلاء المؤمنين من الرأس (المسيح)، فهي اتحاد المخلوق بالخالق [2].
هي نعمة ارتفاع وصعود الإنسان والعالم إلى الله، هي تقديس وتجلي كل الخليقة والحياة، إذ بواسطتها يتجدد الكون المخلوق وتُعاد خلقته وتُعطى له نعمة الوجود الدائم بحضور الروح القدس الذي يوّحد الكل بالله. إن كل صعيدة تقدم إلى الآب والابن لا تكون تقدمة حقًا بدون قوة الروح القدس، فالروح القدس يعمل فى العبادة كالسحابة المنيرة فى التجلى (مت15:17) التى خيمت على التلاميذ وكل الجبل:
[ وأرسل إلى أسفل من علوك المقدس ومن مسكنك المستعد ومن حضنك غير المحصور ومن عرش مملكة مجدك البارقليط روحك القدوس الأقنوم، غير المستحيل ولا متغير. الرب المحيى الناطق فى الناموس والأنبياء والرسل، الحال فى كل مكان، المالئ كل مكان ولا يحويه مكان، واهب القداسة بسلطة بمسرتك للذين أحبهم وليس كالخادم، البسيط فى طبيعته الكثير الأنواع فى فعله. ينبوع النعم الإلهية، المساوى لك. المنبثق منك، شريك عرش مملكة مجدك، وابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا وملكنا كلنا يسوع المسيح. أرسله علينا نحن عبيدك وعلى هذه القرابين التى لك... ] (صلاة استدعاء الروح القدس فى القداس الكيرلسى). 
هكذا بواسطة سر الإفخارستيا يتغير العالم المخلوق ويتحول إلى مسكن للمجد الإلهي. فالإفخارستيا هي ظهور ثالوثي لأن "تتميم الإفخارستيا يمثل ظهورًا للتدبير الثالوثي: الآب يُسرّ بذبيحة الابن ويقبلها، والابن يقدِّم الذبيحة ويُقدَّم كذبيح، والروح القدس يتمم ويكمل" [3].
إنه السر الذي يُغير الكون إلي شركة الحياة الثالوثية والمحبة، إلى تمجيد الآب والابن والروح القدس.
إن الإفخارستيا ليست فقط شركة المؤمنين مع الله لكن هي شركة ووحدة المؤمنين فيما بينهم، إنها علامة المُصالحة والسلام. المؤمنون يصيرون، باشتراكهم في أسرار المسيح الخالدة والأبدية، غير فاسدين وغير مائتين ومتحدين سريًا بالرب ويصيرون أحياء حاملين عطية الله والمسيح والروح[4] هذا التجلي والملء الإلهي يُعبّر عنه بوضوح في هذا السر بالسمو فوق التمييزات والانقسامات والمتناقضات، وفي ربط البشر بالمسيح الذي به يُبنى مجتمع القديسين.
إن سر الإفخارستيا هو السر الذي يخلصنا من الفردية والعُزلة. إذ يبطل القوات الشيطانية وعملها التقسيمي، الذي يفصل البشر عن أنفسهم، إنه السر المهيب لحضور القداسة في المسيح التي تُعري الشيطان من سلطانه على العالم وانجماع الكل في الكنيسة: " حاولوا أن تكثفوا اجتماعاتكم لتقدموا شكركم وتمجيدكم لله لأن قوى الشيطان تضمحل وقدرته تنحل أمام اتفاق إيمانكم. لا شئ أفضل من السلام لأنه يجرد أعداءنا المنظورين وغير المنظورين من كل أسلحتهم" [5].
بالرغم من أن الإفخارستيا متجهة بثبات نحو الله، لكنها في نفس الوقت تعبّر عن الاخوة البشرية والشركة وتحقيق التواصل بين البشر. بالإفخارستيا نصير قلبًا واحدًا ونفسًا واحدةً، وأُناسًا يعرفون أن يحيوا بالمحبة، وكل شئ بينهم يكون مشتركًا (أع42:2ـ43، 32:4، رو16،15:12).
إن ليتورجية الإفخارستيا ليست هي تزاحم جمع من الناس ، لكن هي شركة أشخاص محبين، فالكل يوجد داخل الكل، فشركة الحياة في المسيح تجمعنا وتوّحدنا، إنها شركة الحياة الإفخارستية بالمسيح، كما يقول لنا بول أفدوكيموف:
 " إنها تحدد الملمح الإفخارستي للحياة الروحية لأن هذه الحياة تتغذى وتنمو بنعمة الإفخارستيا، بالشركة المتصلة بالمسيح وجسده" [6].
لذا يصلي الكاهن ، قائلاً : [ بمسرتك يا الله، إملأ قلوبنا من سلامك. وطهرنا من كل دنس، ومن كل غش، ومن كل رياء، ومن كل فعل خبيث، ومن تذكـار الشر الملبس الموت. واجعلنا مستحقين كلنا يا سيدنا، أن نقّبل بعضنا بعضا بقبلة مقدسة. لكي ننال بغير انطراح في دينونة، من موهبتك الغير المائته السمائية، بالمسيح يسوع ربنا.] 
الإفخارستيا هي إذن مائدة الحياة الفُضلى، هي تحقيق الشركة الإنسانية، أي الكنيسة في علاقة وشركة البشر بالمسيح. عندما يُرفض عنصر الشركة في الإفخارستيا، أو يتم تجاهله عندئذٍ نهين ونحتقر الأهمية الخلاصية لتجسد المسيح.
 الإفخارستيا كإمكانية تحقيق الاخوة الإنسانية والوحدة تمثل نموذجًا ومثالاً لأي شركة إنسانية، فهي تمثل إجابة حاسمة على علم الاجتماع الكاذب في عصرنا، ردًا شافيًا على القهر الاجتماعي وعلى المأزق الاجتماعي المأسوي والعبث الذي يشهده عصرنا.



د. جورج عوض إبراهيم
دكتوراة فى العلوم اللاهوتية
وباحث بالمركز الارثوذكسى للدراسات الابائية بالقاهرة  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أ. غريغوريوس، ليتورجية الإفخارستيا، أثينا 1971، ص 71 (باللغة اليونانية). 
[2] راجع ايسيذوروس الفرمي، الرسالة228:1. 
[3] أ. غريغوريوس، المرجع السابق، ص85. 
[4] كيرلس الأورشليمي، SC126, 136. 
[5] القديس أغناطيوس الإنطاكي، الرسالة إلى أفسس 13. 
[6] بول افدوكيموف، الجهاد الروحي، ص 97 (الترجمة اليونانية).