المسيحي والسياسة

أكثر من سؤال بحاجة لأن يُطرَح على هذا الصعيد:
 هل هناك مجتمع مسيحي بالمعنى السياسي للكلمة ؟
أتكلّم إنجيلياً!
 هل يمكن للإنسان المسيحي، بالمعنى الصارم للكلمة، أن يحفظ نفسه في الأمانة ليسوع إذا ما تعاطى السياسة كاحتراف؟
ما مغزى وجود المسيحيِّين في مجتمع تعدّدي يشمل مسيحيِّين وغير مسيحيِّين؟ 
أولاً نحن لسنا طائفة دينية ولو حُسبنا كذلك.
الطائفة، في هذا البلد، حالة اجتماعية سياسية ذات شعارات دينية. 
نحن كنيسة المسيح. الكنيسة شيء آخر تماماً.
 الكنيسة كيان إلهي إنساني انتماؤنا فيه هو إلى حقيقة تُعرَف بـ "ملكوت السموات". في هذا الكيان، نحن مشدودون، أبداً، إلى الأخيريات، أي إلى ما يتخطّى هذا الزمان، إلى الحياة الأبدية.
هذا ما عبّر عنه الرسول المصطفى بولس بالقول: "ليست لنا ههنا مدينة باقية بل نطلب الآتية" (عب 13: 14).
 ما نعمله هنا محكوم بما نلتمسه، من خلاله، هناك. هذا ما يُفترَض به أن يكون. على هذا نحن أشبه بشركة لا بطائفة، لا بشركة تجارية طبعاً، بل بشركة حياة. في هذه الشركة نحن أعضاء بعضنا البعض (أف 4: 25)، أي أعضاء في جسد إلهي إنساني هو جسد المسيح. لذا نحن لسنا تجمّعاً بشرياً ذا هوية اجتماعية سياسية
العلاقة، فيما بيننا، علاقة روحية أولاً، أي أنّ روح المسيح هو الذي يجمعنا. طبعاً هذا له تعابيره ههنا، في هذا العالم، على صعيد علاقتنا بعضنا بالبعض الآخر، نحن المسيحيّين، وعلى صعيد علاقتنا بمَن ليسوا مسيحيِّين. 
 لذا لا يمكننا أن نكون إلاّ كنيسة، بهذا المعنى، وإلاّ، بكل بساطة، لا نعود مسيحيِّين. نفقد هويّتنا.
 انتماؤنا، أولاً وأخيراً، هو إلى يسوع. نحن أعضاء جسده من لحمه ومن عظامه (أف 5: 30). همّنا الأساسي إلهي. إلاّ أننا، كبشر، نتدبّر أمورنا، ههنا، بالتي هي أحسن، بما ينسجم وإيماننا.
 نحن هنا لكننا لسنا من هنا. نحن في عبور. نحن من هناك وإلى هناك ننتمي ونسير. لذا لا يسعنا أن نتكلّم على مجتمع مسيحي لأنّنا لسنا تكتّلاً اجتماعياً سياسياً ذا شعارات مسيحية طالما انتماؤنا الأساس هو إلى ما فوق هذا العالم، إلى ما يتخطّى هذا العالم. 
على هذا، الهمّ الأول والأخير للإنسان المؤمن بيسوع هو أن يحفظ حقّ الإنجيل، أن يحيا وفق الإنجيل، أن يجسّد ما هو في الإنجيل، أن يصير إنجيلاً حيّاً مكتوباً لا بحبر بل بروح الله.
 كل ما يشدّنا، في هذا الدهر، عن الإنجيل يخرجنا من الكنيسة، يغرِّبنا عنها، لا شكلياً بل كيانياً، عضوياً.
بإمكان الإنسان أن يحافظ، شكلاً، على شعاراته الإيمانية طالما همّ قلبه في هذا الدهر، لكن هذا يغرّبه عن الحياة الجديدة، عن الحياة في المسيح، عن الحياة الإلهية الإنسانية. الإيمان ليس شعارات
الإيمان حياة جديدة. الاحتراف السياسي، بالمعنى الذي تُتعاطى فيه السياسة، لا يمكن أن يكون إلاّ على حساب حقّ الإنجيل. لماذا؟ صحيح أنّ السياسة، في المبدأ، هي تدبير شؤون الناس، هي خدمة إنسانية. هذا في الأساس.
 لكن الواقع شيء آخر. السياسة، في الواقع، هي لعبة تتعاطى النفوذ والسلطة. طبعاً، فيها خدمات، لكن هذه الخدمات مشوبة بالمحسوبية إلى حدّ بعيد.
 السياسيون قد يؤدّون للناس خدمات، لكنْ مصالحُهم، في الحقيقة، تأتي أولاً. الخدمات التي يؤدّونها هي لأفراد محدّدين، لفئات مختارة، لا للمحتاجين إليها بالضرورة.
طالما المصالح هي الدوافع والمحسوبية هي الأسلوب فهناك كذب وظلم وتمويه وإعراض عن شرائح من المحتاجين. هناك شعارات خاوية. السياسي المحترف، والحال هذه، لا يمكنه أن يحافظ على حقّ الإنجيل. لا بدّ له من أن يتنازل عن الأمانة الكاملة ليسوع، عن الاستقامة الداخلية، عن شفافية الضمير في المسيح. لا يمكنه، بكل بساطة، أن يحبّ مسيحياً طالما حبّه انتقائي.
 طالما السياسة لعبة السلطة والنفوذ فلا بدّ من التضحية بالناس، بفئات من الناس... لا بد من استغلال أفرقاء منهم. الإنسان، والحال هذه، يكون، في الوجدان، أدنى إلى الشعار، إلى الرقم.
 لا يعود كياناً فريداً مستأهلاً كل الاحترام والتوقير. السياسي لاعب يضحّي بالآخرين وبما لهم دون أن يكون مستعداً لأن يبذل نفسه.
 ثمّ طالما اللعبة لعبة نفوذ فهناك، لا محالة، نفور وكراهية وعداء وصراعات وحروب مع ناس من لحم ودم. مَن تراه يستطيع، في  لعبة هكذا ، أن يكون منزَّهاً عن العيب؟
 لذلك طبيعي أن يكون الإنخراط في السياسة على حساب حقّ الإنجيل. فقط مَن يكون مستعداً لأن يبذل نفسه لا لفئة بل للجميع، مَن يكون مستعداً لأن يحفظ استقامة نفسه حتى الشهادة، يمكنه أن يتعاطى السياسة الحقّ والإنجيل معاً.
 وحتى يكون أحدٌ مستعداً لأن يموت من أجل الآخرين، فهذا معناه أن يكون ممتلئاً محبّةً، إذ ذاك، لا يمكنه أن يخوض لعبة النفوذ والسلطة. مَن كانت هذه حاله بات قدّيساً. فلا عَجَب إن قلنا إنّ السياسي الحقّ هو القدّيس.
 بهذا المعنى يسوع هو أب السياسة الأصيلة كخدمة لأنّه جاء ليَخدم، والقدّيسون هم السياسيون بمعنى الكلمة. هؤلاء يتعاطون السياسة دائماً ولكن لا سياسة السلطة والنفوذ، بل سياسة تدبير الناس وخدمتهم ومحبّتهم. سياسة السلطة والنفوذ، بطبيعتها، غير نقيّة. والسياسة، كخدمة، وحدهم المسيحيون، إن صدَقوا، يتعاطونها لأنّ الوصيّة عندهم هي أحبّ قريبك كنفسك، ولأنّ منتهى هذه المحبّة لديهم أن يبذلوا أنفسهم عن أحبّائهم كما فعل يسوع. 
إذاً لا يمكن أن ينتمي المسيحيون، في العمق، إلى الأفق الذي يتمّ تعاطي السياسة فيه على أساس لعبة السلطة والنفوذ. 
أما مغزى وجود المسيحيّين في المجتمعات التعدّدية التي تشمل المسيحيّين وغير المسيحيّين فليس سياسياً ولا اجتماعياً.
هُم، بكل بساطة، شهود للمسيح معلّمهم. همّهم، إنسانياً، تجسيد كلمة المسيح وإلهياً بثّ روح المسيح. غرضهم الملكوت. مبتغاهم الحياة الأبدية. لذا يطلبون أن يَخدموا لا أن يُخدَموا. يسلكون في الأمانة، في الصدق، في اللطف، في الودّ... ولا يطلبون شيئاً لأنفسهم. لا يطلبون امتيازات ولا يحسبون أنّ لهم حقوقاً.
 يعيشون في المسيح، أي بروح المسيح، وفق ما يعلّمهم مسيحهم، ويشهدون بالكلمة، في آن، متى تيسّر لهم الظرف.
قد تكون النتيجة أنّهم يُستغلّون أو يُضطهدون. لا بأس! ليس تلميذ أفضل من معلّمه. "إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم أنتم أيضاً".
 علينا أن نقبل أن نكون خرافاً تُذبَح لا ذئاباً تَفترس الآخرين لنستمر لا بقوّة البشر بل بنعمة الله. الناس يظنّون أنّ بإمكانهم أن يتسلّطوا على الناس بالقوّة. نحن، متى صدقنا، لا نتسلّط على أحد بالقوّة. نأتي إلى الناس كضعفاء لا كأقوياء.
يأتوننا بقوّة السلاح نأتيهم بقوّة المحبّة. للمحبّة دائماً مظهر الجهالة والضعف لكنّها الأقوى لأنّها تغزو القلوب وتغلب.
فلا غرو إن قال الرسول المصطفى بولس هذا القول الجميل والغريب في آن: "إن جهالة الله أحكم من الناس وضعف الله أقوى من الناس" (1 كو 1: 25)
يوم نستعيد هذا الموقف، يوم نتبنّى مثل هذه المجازفة المبارَكة نُعين أنفسنا والآخرين على معرفة يسوع كما هو. ثمّ من معرفة يسوع تأتي الحياة الأبدية، "لأن هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وابنك يسوع المسيح الذي أرسلته". 
المسيحي إنسان مبذول، يتعاطى السياسة كخدمة، كتنفّس، بصورة تلقائية. همّه أن يشهد للمسيح حتى، بروح المسيح، يأتي بالناس إلى المسيح! على هذا قيل "اذهبوا وتلمذوا كل الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به". 
لمَن يسألون ماذا سيحلّ بالمسيحيّين غداً، في المناخ السياسي الضاغط عندنا اليوم، الحقُّ، لا بل الواجب، هو في أن يعرفوا أنّ شهادتهم للمسيح، اليوم وغداً، هي نصيبهم الأوحد. فإما ملكوت السموات وإما بابل. لا نصيب لنا بما ليس من المسيح في هذا الدهر! نحن في عبور!
 هذا كلام صعب لكنّه الكلام الحقّ! لمَن له أذنان للسمع

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما 

holytrinityfamily.org
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجدير بالذكر ان ليتورجية القديس غريغوريوس الناطق بالالهيات والمستخدمة فى الكنيسة القبطية تصلى  فى اوشية الملوك  فتقول ( اذكر يارب اللذين تملكوا فى التقوى والذين هم الان ملوك )